مستحقات الزوجة في دعوى التطليق للشقاق بين الإسقاط و الوجوب.
- بقلم الدكتور عادل حاميدي : رئيس المحكمة الابتدائية بالصويرة.
- عنوان المقال : مستحقات الزوجة في دعوى التطليق للشقاق بين الإسقاط و الوجوب، من خلال التعليق على قرار المجلس الأعلى عدد 433 بتاريخ21/09/2010 .
شُرع الطلاق باعتباره أبغض الحلال إلى الله، لا يلجأ إليه إلا على سبيل الاستثناء وللضرورات القصوى التي يفترض أن تقدر بقدرها، لكونه شرع على خلاف الأصل الذي هو دوام العشرة الزوجية بما فيها من مودة ورحمة ([1])، فإذا انعدم أحدهما كان الآخر كفيلا بإبقاء العلاقة الزوجية، ومتى انتفيا شفعا كان مآل العلاقة الزوجية إلى زوال، فتغدو المستحقات المحكوم بها لفائدة الزوجة السبيل الفريد لجبر الضرر المادي والمعنوي الناتج عن فك عرى الزوجية، وعن عطاء موصول مبذول خدمة للأسرة واحتباس واستمتاع ([2]) وتربية وإرضاع وإشراف وتوجيه وإفناء لزهرة العمر ولربيع الشباب تلبية لحاجيات الزوج والأبناء، فيكفي الزوجة والحالة ما ذكر أن تبتلى بالفراق، أما أن تبتلى برزيتي الفراق والحرمان من المستحقات، فذاك ما يأباه الشرع والطبع والوضع، وهذا الفهم إن صدر عن قضاء الموضوع فيمكن أن نلتمس له الأعذار ([3])، أما أن يصدر عن قضاء محكمة النقض فذاك ينبئ عن وجود اختلال بنيوي في فهم محكمة القانون لبنود وتنصيصات المدونة ولغاية المشرع من إقرارها بعد نسخ القانون الأسري السابق. وكنا نأمل من المجلس الأعلى بحكم مكانته الاعتبارية السامقة في نفوس القضاة ودوره في تشكيل العقل الجمعي في القضاء المغربي وقيادته، وكونه محكمة قانون، والجهة التي تنتهي إليها الأحكام، لتغدو حائزة لقوة الشيء المقضي به، أن يتدخل لرفع التخبط الذي يعتري أحكام محاكم الموضوع بخصوص مواضيع أسرية كثيرة سيئ فهمها، واختلف في إنفاذ نصوصها، فأضحت كثير من المكتسبات حبيسة متون النصوص لا تفي بالغرض ولا تحقق غايات صياغتها، فيكون من صميم اختصاص المجلس الأعلى الموقر ومبنى رسالته السامية، إعطاء التفسير الصحيح للنص القانوني المجسد لإرادة الشارع الأعظم والمشرع لنصوص القانون.
فمحكمة النقض وهي المقام القضائي السامي الذي يحوي شيوخ وأساطين القضاة ونخبتهم ([4])، مدعوة لأن تمارس دورها كاملا غير منقوص في قيادة القضاء المغربي بثبات نحو إصدار أحكام معيارية رصينة، بهمة قضاتها وشموخ قضائها، دون أن يغطي على دورها تدخل وزارة العدل عبر توجيه مناشير أو دوريات لقضاء الموضوع ظاهرها الإعلام وباطنها الإلزام، فتصدر محكمة النقض اجتهادات سديدة منسجمة مع إرادة المشرع العامة والخاصة، الشاخصة من خلال استقراء نصوص مدونة الأسرة جمعا وإفرادا، فالشيء من مأتاه لا يستغرب، والتي بمقتضاها يتعين المحافظة ابتداء على لحمة الأسرة مع رفع الظلم على من وقع عليه، ثم المحافظة على حقوق جميع أفرادها حال استحكام الخلاف، وكون فك عرى العلاقة الزوجية آخر الدواء وآخره الكي، وهو ما يستلزم التيسير الموضوعي والإجرائي لاقتضاء تلك الحقوق بسرعة ويسر دون تغليب لكفة طرف على آخر بغير وجه حق، مع تحكيم المصلحة الفضلى للأسرة بقاءً أو طلاقا.
ولا ريب أن موضوع التطليق للشقاق يعد في طليعة المواضيع الأسرية التي أسيل المداد الغزير من أجلها مراجع ومقالات ورسائل وأطاريح، باعتباره مستجدا تشريعيا ومكتسبا أقرته مدونة الأسرة، عندما خولت للزوجين أو أحدهما إنهاء العلاقة الزوجية دون سوق أسباب مؤيدة بأدلة ظاهرة، والاكتفاء بادعاء وجود خلاف مستحكم ليس إلا. بيد إنه وباعتبار الاختصار المخل في المقتضيات القانونية المنظم لهذه المسطرة، والتي لا تنيف عن أربعة مواد، ولا تجسد بحال أهميتها وكم التوسل بها ([5])، فإن هذا الأمر أفضى إلى اختلاف في التطبيق القضائي، للاختلاف في الفهم الناتج عن الغموض والإرسال والاختصار المخل في النصوص الأربعة المسنونة. وهكذا اختُلف في كثير من كليات وجزئيات هذه المسطرة، من قبيل مدى جواز الحكم برفض طلب التطليق للشقاق لعدم الإثبات، ومدى قانونية إصدار حكم تمهيدي بوجوب الإيداع القبلي للمستحقات الناتجة عن التطليق للشقاق حال تقديم الطلب من لدن الزوج؟.
والحق يقال أن موضوع مدى جواز حصول طالبة التطليق للشقاق على كافة مستحقاتها المترتبة عن التطليق للشقاق، لم يكن يطرح كبير إشكال، وكان محل اتفاق بين مختلف محاكم الموضوع من غير شذوذ، حسب المستفاد من استقراء الأحكام والقرارات الصادرة في مادة الشقاق، إلى أن صدر قرار المجلس الأعلى عدد 433 وتاريخ 21/9/2010 ملف عدد 623/2/1/2009 ([6]) لينص في اجتهاد غريب على أن الزوجة لا تستحق المتعة حال سلوكها مسطرة التطليق للشقاق، مؤسسا قضاءه ذاك على طائفة من المسوغات القانونية والفقهية بعضها سيق باحتشام في ثنايا القرار، وإبان التعليق عليه من لدن رئيس الغرفة مصدرة القرار[7]، والبعض الآخر نسوقه بيانا لتنكبه الصواب وافتقاره إلى ما يعضده من الأسانيد والمؤيدات، وهكذا سنعرض ابتداءً لأدلة المانعين ثم لأدلة المجيزين.
المطلـب الأول: أدلـة المانعيــن و مناقشتــها.
استدل المانعون على صحة مذهبهم القائل بعدم استحقاق الزوجة للمتعة حال طلبها التطليق للشقاق بعدة مؤيدات قانونية وفقهية، أهمها:
وهو فهم يطبق أيضا في ظل مدونة الأسرة حال تطبيق مسطرة الشقاق، لأن المشرع أحال بمقتضى المادة 94 من المدونة عند تحديد المستحقات المترتبة على التطليق للشقاق على المادة 79 منها، وهذه المادة تحدد المستحقات حال طلب الطلاق من لدن الزوج ([8])، فيسري الأمر ذاته على مسطرة الشقاق والتي لا يقضى فيها بالمستحقات خاصة المتعة إلا حال تقديم الطلب من لدن الزوج، وإلا انتفت غاية المشرع من تلك الإحالة ففي تمكين الزوجة من المستحقات قول بما لم يقله المشرع.
أولهما مواساة الزوجة وتطييب خاطرها بعد حملها على ترك بيت الزوجية، ففك عرى الزوجية لا يعني نبذ المرأة وقطع كل صلة بها وحرمانها من حقوقها المالية والشخصية.
وثانيهما التخفيف من حدة الأسى والحزن والكراهية التي يحدثها الفراق الناتج عن طبيعة المرأة وخصوصيتها الفيزيولوجية، متمثلة في عاطفتها الجياشة وقابليتها للتأثر بكل قرار يمس الاستقرار الأسري الذي تعيش في كنفه، وذلك وفق مسلمات علمية ثابتة ([9]) وعن الطبيعة البشرية بصفة عامة ولا غرابة، فالنفس البشرية أمارة بالسوء، والإنسان يقدم عند الطمع ويحجم عند الفزع، وإذا مسه الخير منوعا، وإذا مسه الشر جزوعا، ولا ريب أن التعويض يمكن أن يقوم مقام المتعة في تحقيق كل تلك غايات الجبر النفسي.
المطلـب الثانـي: أدلـة المجيزيـن و مناقشتهـــا.
لما كان من القيود المنهجية المعروفة أن الفكرة تحترم والرأي يناقش، أقول دون تزيد، إن ما ساقه المجلس الأعلى من مؤيدات قانونية وفقهية يعتوره اعتلال ويغشاه فساد في الاستدلال وعسف في الاستنتاج، ذلك أن مسايرة اجتهاده المذكور من شأنه مناقضة إرادة المشرع والقول بما لم يقله بناء على تأويلات متعسفة وفهم فيه تكلف ظاهر وارتداد عن إنفاذ مكتسب قانوني وإعراض عن تطبيقه، وتنكب لإرادة الشارع الأعظم ومصادرة لحق أصيل من حقوق المرأة في الحصول على كافة مستحقاتها كاملة غير منقوصة لمجرد استعمالها لمكنة تشريعية واضحة غير محتملة، وهو اجتهاد مناكب للصواب ولحقيقة مقتضيات المواد. عمدتنا في ذلك أسانيد قانونية وفقهية وواقعية تظافرت كلها لتدل على عدم توفق الاجتهاد القضائي محل التعقيب، وهو فهم ما كان ليغفل عن أنظار قضاة المجلس الأعلى وفهمهم السديد ولا يجوز لمثلهم ذلك، لكن الكلام حمال أوجه وكلّ يؤخذ من كلامه ويرد، والاجتهاد البشري مشوب بالقصور، آية ذلك أن المجلس الأعلى نفسه كثيرا ما يعدل عن بعض قراراته، عمدته في ذلك أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، فقرينة الصحة المفترضة في قرارات المجلس الأعلى قرينة بسيطة قابلة لإثبات العكس، بدليل وحجة ومراعاة لأدب الكلام في حضرة العلم ولفضيلة الاختلاف لا الخلاف، والابتعاد عن التعصب للرأي مكابرةً و توهماً بأنه الصواب.
وإذا كان الإفحام يكون بسوق الأدلة ونحن في حضرة ومقام القضاء، وهو ميدان تمحيص الأدلة وغربلة البراهين، فإن تعويلنا لتعضيد صحة مذهبنا سيكون بجلب الأدلة وضعا وشرعا وطبعا، فالزوجة تستحق كافة المستحقات حال تقديمها طلب التطليق للشقاق قولا واحدا، دليلنا في ذلك طائفة من المسوغات القانونية والفقهية، كلها تدل على سداد توجهنا ومطابقته لإرادة الشارع الأعظم والمشرع انطباقا مكينا، أبرزها:
أن من شأن عدم تمتيع الزوجة حال كونها طالبة التطليق حمل الأزواج على إجبار زوجاتهم على طلب التطليق كرها تهربا من دفع المستحقات، رغم عدم رغبتهن في ذلك، بل يفعلن ذلك تحت وطأة الإكراه المادي أو المعنوي([14]) المباشر من لدن الأزواج استغلالا لمكنة تشريعية أو لفهم قضائي متعسف لها.
تنظيم المشرع لمسطرة الطلاق الخلعي الذي تتنازل فيه المرأة بإرادة طائعة مختارة عن مستحقاتها نظير فك عصمتها، يدل إعمالا للمفهوم المخالف على إمكان حصولها على كافة المستحقات في باقي أنواع الطلاق والتطليق الأخرى، ومنها حتما التطليق للشقاق.
ولعل النزوع نحو حرمان الزوجة من مستحقات شرعية، يعد سمة بارزة تظهر من خلال استقراء عمل القضاء في المادة الأسرية، ومن ذلك عدم تمتيع الزوجة في حالة الطلاق أو التطليق قبل البناء، تمسكا بمقتضيات المادة 32 من المدونة، والتي لم توجب لها سوى نصف الصداق حال عدم المسيس إذا ما أمهرت، ولا تستحقه كله إلا حال الاستمتاع[16].
علما بأن المقتضى المذكور إنما يتعلق بمقدار الصداق الذي تستحقه المطلقة بقطع النظر عن المتعة التي تستحق إثر كل طلاق، سواء وقع عقب دخول أو بعد خلوة، لأن العقد قد حصل وستغدو مطلقة عقب إنهائه، فتستحق المتعة والحالة ما ذكر في مطلق الحالات. وهذا الأمر ينسجم مع مقتضيات الوضع وأحكام الشرع، فمظنة استحقاق المتعة ليست التمتع دائما، بل تجب لمجرد العقد وهو مذهب الظاهرية الذي تبناه مشرع المدونة.
فليس هناك مقتضى قانوني يحظر تمتيع المفارقة متى طلقت قبل الفرض والبناء والمادة 32 إنما تتعلق بقدر الصداق المستحق حال الطلاق قبل البناء، وذلك لا ينفي استحقاق المتعة في سائر أحوال الطلاق.
ثم إن أدلة الشرع قرآنا وسنة أوجبت تمتيع كل مفارقة، قال الحق سبحانه: (يأيها الذين آمنوا إذا أنكحتم المومنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا.)([17]).
وفي ذلك تحقيق لحكمة تشريع المتعة وهي تكريم الزوجة وجبر الضرر الحال الواقع لها في العاجل والآجل، إذ يلحقها بالطلاق ابتذال وصدود عنها، وقلة الرغبة فيها فلزم أن تمتع بما يخفف مصابها ويقلل فجيعتها ([18]).
ومعلوم أنه قد اختلف في التأصيل الفقهي للمتعة، هل هي تعبدية استأثر الحق سبحانه بمعرفة علل وضعها، أم أنها معقولة الغايات والعلل؟.
والقول بالأولى يقتضي وجوب التمتيع في كافة الأطلقة والتطليقات أخذا بعموم السند الشرعي متمثلة في الآية القرآنية المجيزة، أما القول بالثانية فيقتضي التمييز بين الحالات وارتباط المتعة ارتباطا شرطيا مع تقديم طلب الطلاق أو التطليق من لدن الزوج ليس إلا.
مع أني أجنح إلى القول بأن المتعة تجب للزوجة في كلا القولين، وحتى مع القول بأن المتعة معقولة العلل فإن الزوجة تستحق المتعة حال كونها طالبة التطليق متى كانت محقة في طلبها بشكل كلي أو جزئي.
ولا مراء في أن القرار محل الشرح لم يوضح المعنى الذي عناه الفقهاء عند قولهم بحرمان طالبة التطليق من المتعة إذا كان الطلاق بسببها، وهو ما يقتضي منا شرح مغلقات المعنى المذكور، من خلال بيان الحكم الشرعي للمتعة، وتحديد محلها.
فمذهب جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية والحنابلة استحباب المتعة، دليلهم في ذلك حصر السند المجيز لها على المتقين والمحسنين، قال الحق سبحانه:(متاعا بالمعروف حقا على المحسنين) ([21])، وقال تعالى: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين)([22]) وأيضا لعدم تقدير المتعة، فلو كانت واجبة لبيّنها الشارع مقدارا وأنصبة، ومذهب الشافعية الوجوب لا الاستحباب ([23]).
وفي مخالفة للمذهب المالكي المنتسب إليه، قال ابن العربي في أحكامه ([24]) والإمام القرطبي في جامعه([25])، وآخرون من كبار فقهاء المذهب، هي واجبة لعدم التسليم بالاستدلال المساق من لدن جمهور الفقهاء، لعموم الأمر بالامتاع في قول ربّنا: (متعوهن)([26])، وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله تعالى: (وللمطلقات متاع) ([27]) أظهر في الوجوب من الندب، ويؤكد ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: (حقا على المتقين)([28]). وحكم الوجوب هذا يستدل عليه من تعريف ابن عرفة صاحب الحدود والتعريفات للمتعة بأنها:”ما يؤمر الزوج بإعطائه الزوجة لطلاقه إياها” ([29])، وهو حكم يدل على صحة وسداد مذهبنا القائل بوجوب تمكين الزوجة من مستحقاتها طالبة كانت أو مطلوبة في دعوى التطليق.
أما محل المتعة فهو عند جمهور الفقهاء كل مطلقة إلا المختلعة والمطلقة قبل البناء المفروض لها الصداق، ومذهب الأحناف عدم وجوبها إلا للمطلقة قبل الدخول وبعد الفرض، وذلك تبعا لتفسيرهم للآيات المجيزة ([30]).
ومذهب الظاهرية وجوب المتعة لكل مطلقة لعموم قول الحق سبحانه: (وللمطلقات متاع بالمعروف)، فلم يخص مطلقة دون أخرى ([31])، وبه قال الإمام ابن تيمية ([32])، ولم يستثن الشافعية من ذلك إلا المطلقة بعد الفرض وقبل الدخول ([33])، ودونها تجب لكل مطلقة، وهو القول الذي يحقق المصلحة والعدل في زمننا ويتعين من ثمة الحكم وفقه وبمقتضاه وفق شواهد عددناها في ثنايا التعقيب، دون غلو أو اقتصاد.
فإذا كان مبنى قرار المجلس الأعلى استناده إلى انعقاد إجماع أكثر المذاهب على أنه لا متعة إذا كانت الفرقة من الزوجة وبسببها، كردتها أو فسخ الزواج بعيبها أو لعانها. فإن الباحث بالمعنى المعياري هو الذي يحرر محل النزاع، وتحريره يقتضي منا تبيان المعنى الذي أراده الفقهاء، فلا حرمان من المتعة إلا عندما تكون المرأة المتسببة الوحيدة في الطلاق أو التطليق، وقد لا تكون كذلك ولو سعت إليه، وكانت الطرف المبادر إليه والمعنى أن السعي إلى الطلاق أو التطليق لا يعني التسبب فيه، فقد يكون السعي بغير ذنب جنته و قد يكون الزوجان مسؤولين عنه بنسب متساوية أو متفاوتة، والتطليق السبيل الفريد إلى الخلاص ورفع الظلم الجزئي أو الكلي الواقع عليها، خاصة إذ أبى الزوج استعمال حقه في الطلاق تعنتا ونكاية في الزوجة، فكيف لا تمتع؟!، بل تُمَكَّنُ منها ويجزى لها العطاء معاقبة للزوج بنقيض قصده، وسوء سعيه وذلك عين العدل.
– أن ما يعضد ما سقناه حديث البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنما كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقين ([34])، والشاهد في الحديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم مولاه تمكين مفارقته من جهاز وكسوة وهي بلا خلاف ضَرْبٌ من المتعة، رغم أن الطلاق كان من جانبها وبسعي منها، والحديث صحيح صريح في إيجابه ذلك، وهو حجة من خلال جمعه بين السنة القولية والفعلية وقد ثبت أيضا أن النبي طلق وكان المبادر إليه ومتع مفارقته رغم كونه منزه عن الخطأ في استعمال هذه السبيل، فدل ذلك على وجوب المتعة للزوجة في سائر الحالات، بقطع النظر عن المراكز القانونية للزوجين في الدعوى، بل وبقطع النظر عن مسؤوليتها عن وقوع الفراق.
– أن المشرع المغربي أوجب بمقتضى المادة 84 من المدونة تمتيع كل مطلقة ولم يستثن من ذلك الزوجة طالبة التطليق للشقاق، فيتعين بذلك التمسك بعموم مقتضيات المادة المذكورة أخذا بقاعدة أن العام يبقى على عمومه إلى أن يرد دليل يخصصه ([35]). ولا اعتداد بما كانت تنص عليه مدونة الأحوال الشخصية المنسوخة لفهم إرادة المشرع بل العبرة بمقتضيات مدونة الأسرة وبما تحويه من مكتسبات واجبة النفاذ دون ارتداد أو رجوع إلى قانون ملغى للشرح والتفسير، وإلا انتفت الغاية من صياغة قوانين جديدة.
أن الاجتهاد المذكور سبب انقساما وشرخا على مستوى قضاء الموضوع، بين اتجاه متبني له وآخر معرض عنه، بعد أن كان القضاء يسير على نسق واحد موجب لمستحقات الزوجة حال تقديمها لطلب التطليق، فتنقض بذلك غاية المجلس الأعلى في توحيد اجتهاد محاكم الموضوع، فيصدر اجتهاده عقب تضاد وتخبط فيزيله، لا أن يتسبب فيه، فيهدم مبدأ الاستقرار أو الأمن القضائي الذي يعد القضاء حارسه الأمين.
أن الاجتهاد المذكور قد يكرس فكرة وجود عقلية ذكورية وخلفية محافظة سائدة في القضاء، تقف أمام نفاذ مكتسبات المدونة وتجعلها حبيسة متون النص الأسري، وهي معاذير من يتربص بالقضاء ويرميه بالريبة وينعته بالتخلف وضيق الأفق، فالحكم القضائي باعتباره منتوجا قضائيا وعنوانا للحقيقة، يجب أن يكون بعيدا عن كل تجاذب عقدي أو سياسوي أو تقاطب فصيلي أو فئوي حتى يذعن له الجميع وضيعا ورفيعا.
أن من شأن ذلك حمل الأزواج على الطعن في جميع الأحكام و القرارات التي لم تذعن لقرار المجلس الأعلى، أو حتى تلك التي صدرت قبل إقرار التوجه المذكور متى كانت آجال الطعن سارية سواء تعلق الأمر بالطعن بالاستئناف أو الطعن بالنقض.
ومثل ذلك سيمس لا محالة بالاستقرار القانوني لوجود اتجاهات قضائية متضاربة الأمر الذي يزعزع الثقة بالقضاء والقيمين عليه، فجهة قضائية تمنح المستحقات للزوجة وجهة أخرى تنزعها منها، وقد يفضي الأمر إلى وقوع صعوبات في التنفيذ عند إرادة استرجاع المبالغ المحكوم بها لفائدة الزوجة، والتي قد تكون صرفت إيفاءً لمتطلبات الحياة ولا سبيل لإرجاعها، كما أن ذلك يؤدي إلى تطويل الإجراءات ومساطر التقاضي بوجوب عرض النزاع على أكثر من جهة قضائية، خاصة أمام محكمة النقض، ومن ثمة استيفاء مراحل التقاضي كاملة، مع ما يعنيه ذلك من تكبد لمصاريف التقاضي وأتعاب الدفاع، وانتفاء الغاية من جعل التطليق للشقاق انتهائيا في الشق المنهي للعلاقة الزوجية فضلا عن الزيادة في عدد الملفات المعروضة على أنظار محكمة النقض وإشغالها عن رسالتها الكبرى بتفاريع و سفاسف هي في حلّ عن الانشغال بمثلها.
أن مشاركة قضاة محكمة النقض في صياغة بنود مدونة الأسرة بأكثر من إسم وقامة باعتبارهم صفوة القضاة ونخبتهم، ممن خبروا نصوص القانون ودلالتها منطوقا ومفهوما، ظاهرا وباطنا، وكونهم الأعرف بأثر القاعدة القانونية على الواقع، يجعلهم الأقرب إلى تحديد إرادة المشرع العامة والخاصة، ولا عذر لهم في تنكب الإرادة المذكورة أو التأخر في فهمها كما حدث بالنسبة للإشكال محل التعقيب، وكان حريا بهم أن يصدعوا برأيهم عند مناقشة بنود المدونة لا بعد غدوها قانونا واجب النفاذ، فيتأولوا معاني غير مرادة، لا تجهر بها النصوص الأسرية المصاغة، فيغدو القاضي مشرعا ويُنتهك مبدأ فصل السلطات المكرس دستوريا ويُخرق جهارا نهارا.
أن اتجاه محكمة النقض يعتريه تناقض، فالغرفة الجنائية رامت حماية الحقوق المالية للمطلقة، من خلال التوسع في مفهوم النفقة التي يترتب على الامتناع عن أدائها اقتراف جرم إهمال الأسرة، عبر اعتبار امتناع الزوج عن أداء مستحقاتها المترتبة عن الطلاق يشكل جريمة إهمال الأسرة ([36])، والغرفة الشرعية تحرم الزوجة من مستحقاتها المترتبة عن التطليق متى كانت مدعية، وكلاهما تأول وتكلف للوصول إلى اجتهاد يعتبره يحقق المصلحة والعدل رغم أن الحق واحد، ونهج محكمة النقض يجب أن يكون واحدا واجب الإذعان من لدن مختلف غرفها، لأنه مؤسس على فهم معين لصحيح القانون وإدراك لإرادة المشرع وغايات التشريع التي هي واحدة لا يعتريها تعارض.
أن اجتهاد المجلس الأعلى يبين بأن الاجتهاد القضائي لم يستقر بعد بخصوص بعض إشكالات مدونة الأسرة، رغم مرور ما يقارب تسع سنوات على صدورها، وهي في العرف الفقهي والقضائي مدة كافية لاستقرار الاجتهاد القضائي وتوحيده عبر إعطائه التفسير السديد للنص القانوني الأسري، القابل للتنفيذ واقعا، المتلقى من زمرة الخاصة والعامة بقبول حسن، لا ترميه العين بالريبة أو تكتنفه بالاستغراب.
فبعض الإشكالات الأسرية لا تزال تتجاذبها اتجاهات قضائية مختلفة، وهو أمر غير مستساغ، إذ إن إرادة المشرع واحدة والحق واحد وهو أحق أن يتبع ويلزم، فاستحكام التخالف يورث الريبة والتشكك في ذهن أرباب الدعاوى، والذين قد يتوهمون الأمر على أنه فساد وبيع وشراء للذمم بغير وجه حق، فتهتز الثقة في محراب العدالة وترتج.
وخير منه النقاش الذي ينفذ إلى مباني الإشكال، بأناة دون تعالم أو مناقشة بمعايير الصواب والخطأ وبعقلية استعلائية أو متعصبة حاجبة للحقائق، أو حجر على العقول والوصاية عليها، واحتكار المعرفة أو ادعاء الوكالة الحصرية لتمثيل إرادة المشرع واستغلال فارق الامتياز العمري في الاستقراء والخبرة الميدانية، لتسفيه الآراء المخالفة والتوجس من إجراء مراجعات فكرية، فمن استبد برأيه ضل وأضل، فقرينة السداد مفترضة في قرارات محكمة النقض، لكنها قرينة قابلة للأخذ والرد بحجة وسكينة تعقل كل اندفاع، ونقاش علمي رصين هادئ يتولاه أهله، فالمعرفة تتطور بالخطأ، ثم إن القاضي يتسع صدره لما تضيق به صدور الناس، وتضيق ذمته لما تتسع به ذمم الناس.
ولا شك في أن المتعة ذات أصل فقهي خالص، وأما التعويض فاصطلاح مدني مستقى من القانون الوضعي، ففي إفراد المتعة وتمكين الزوجة منها بقطع النظر عن مقدارها مواساة نفسية لها وجبر معنوي لما لحق بها من ضرر جراء الفراق سواء سعت إليه طوعا، أو حُمِلَت عليه كرها، وفي منحها إياها رفع من شأنها ومن ميثاق الزواج الذي أنشأته بمعية الزوج.
والتعويض لا يمكن أن يقوم مقامه بحال، لأن عقد الزواج أشرف وأسمى من أن يكون عقدا عاديا ([42])، يترتب على إنهائه تعويض الزوجة عن عملها السابق ببيت الزوجية أو عن ما أسدته من خدمات إبان قيام العلاقة الزوجية، وكأنه عمل نظير مقابل مادي قائم بين أجير ومأجور.
ثم إن التعويض أيا كانت قيمته لا يمكن أن يجبر الضرر اللاحق بالزوجة عن إنهاء العلاقة الزوجية، وعن الرزء الفادح والمصاب الجلل الذي منيت به وتكبدته جراء ذلك، وعن المساس بحقوقها المادية والمعنوية حاضرا ومستقبلا، وبالاستقرار الذي كانت تنعم به، وقد لا تستطيع الزواج بعد ذلك مطلقا توجسا منها بعد طلاقها، فترمى كمطلقة بالريبة وتلصق بها قرينة السوء، وهو حكم قيمي مرتبط في مجتمعنا و مخيالنا بعادات مستحكمة يصعب تجاوزها، بخلاف الزوج الذي يكون له الزواج عقب الطلاق بسهولة ويسر ومثنى وثلاث ورباع دون التزام بعدة أو اعتداد بقيود مجتمعية أو محاذير عرفية([43]).
وهو ضابط مرن يمكن قاضي الموضوع من إلباس كل حالة لبوسها، إنصافا للمظلوم وردعا للظالم، منحا للمتعة حال ثبوت الموجبات كثرة وقلة، ومنعا لها حال ثبوت الموانع، كإدانتها بمقتضى مقرر قضائي نهائي بجرم الخيانة الزوجية وعداه.
أما حرمان الزوجة من المتعة قولا واحدا، فإنه لا يترك للقاضي سبيلا وهامشا معتبرا لتقدير كل حالة بقدرها، وكثير من الحالات تستحق فيها الزوجة المتعة كونها محقة في طلبها، فكيف السبيل إلى تمتيعها وتخفيف الأسى الواقع عليها؟!. معلوم أن ركنا الاجتهاد، العلم بالنصوص وإدراك الواقع.
وأنّى لنا أن نسلب من القاضي وهو محط الأمل ومعقد الرجاء أهم ما أعطاه المشرع؟، ونجرده من أبرز أدوات ومباني عمله متمثلة في السلطة التقديرية لإعمال مقتضى الحال، فيغدو القضاء بريدا لرسائل محافظة أو حداثية. وبعد ذلك يطلب القضاء تقوية سلطاته وإطلاق يده لحسن أداء رسالته وهو الذي يتنازل عنها طوعا ([46]).
وقد كان حريا بالمشرع رفعا لكل التباس، التنصيص تصريحا على أحقية المرأة في الحصول على المتعة متى وقع عليها ضرر بقطع النظر عن مركزها القانوني، مدعية أو مدعى عليه في دعوى الشقاق، فالمبادرة إلى رفع الدعوى للإيهام بوجود ضرر واقع على الزوج المدعي والاستفادة من هذا المركز القانوني لا تعد قرينة قاطعة على ذلك وتحديد المسؤول عن الفراق غير مرتبط ارتباطا شرطيا بالمدعي أو المدعى عليه، فلا يضير الزوجة المدعية أن تحصل على المتعة والزوج على تعويض أقل أو أكثر منها بحسب الحالات، ولا يعد ذلك جمعا بين الدائنية والمدينية في الآن عينه، لاختلاف موجبات وأسباب كل واحد منهما، ولأن إنفاذ ذلك يحقق نوعا من التوازن بين حقوق كل واحد من طرفي العقد ([47]). ثم إن المتعة واجبة في مطلق الأحوال نزوعا لما ذهب إليه المشرع، وإنما تقل أو تكثر بحسب مسؤولية الزوجة عن الفراق ومدة الزواج ودخل الزوج، وأما التعويض فيحكم به لجبر الضرر اللاحق بالزوج الآخر، دون تمييز تكريسا لمبدأ المساواة الذي حرصت المدونة على جعله أبرز مكتسباتها.
وقد أثبتت التجارب العملية أن الزوجة لا تطلب التطليق في أغلب الأحيان إلا كرها باعتباره أخف الأضرار، لإدراكها لآثاره الرهيبة، كونها الخاسر الأكبر من انفصام العلاقة الزوجية ماديا ومعنويا، حتى أضحى لفظ المطلقة في العقل الجمعي المغربي قرينا للانحراف الأخلاقي ووصمة عار للعائلة كلها، فتهجر المطلقة اجتماعيا حتى من أخص قرابتها فتصاب بأدواء نفسية، اكتئابا وإحساسا بالمظلمة والنبذ والإقصاء.
لذلك ولغيره أقول إن التواري وراء بعض مقتضيات الفقه الإسلامي التي لا تُمكِّن الزوجة من المستحقات حال كونها طالبة التطليق، والركون إلى أعراف مُحَكَّمة عفا عنها الزمان، ومحاولة القضاء الحدّ من الإفراط في طرق هذه المسطرة من لدن الزوجات هو ارتداد وإعراض عن تطبيق نص قانوني واضح صريح وقول بما لم يقله المشرع، وتيه مع فقه لم يكن كله متفقا على حرمان الزوجة من مستحقاتها حال طلبها فك عرى الزوجية، فلكل فقه زمانه وفتواه ورجاله، وفقه القرن الثالث أو الرابع الهجري قد لا يصلح لزمننا هذا، فلا غرابة أن يوسم بعض فقهاؤنا بالجمود والتخلف وضيق الأفق وبعض قضاتنا بكونهم المانع من إقرار مكتسبات المدونة وإنفاذها واقعا، من خلال القضاء بعقلية ذكورية وفكر محافظ لا يُحكّم المآلات والمقاصد، بل يقف عند حدود وعتبات نقول فقهية منثورة ومنظومة وضعت لزمن قضى ومضى، فكل ذلك تعب كبير في نفع صغير.
وخير منه أن تجعل المصلحة والعدل مناطا للاجتهاد الراشد، ولأجله عدّ علماء الأصول المصلحة قاعدة الفقه، واعتبروا عن صواب أنه حيثما عنّت المصلحة وظهرت حالا أو مآلا فتم شرع الله، فيدور النص الشرعي والتشريعي مع المصلحة حيثما دارت ولا غرابة فالشريعة الغراء تروم مصالح المكلفين في العاجل والآجل، وهذه المصلحة ليست حبيسة نص فقهي أو قول مأثور موضوع لزمان ومكان كما يدّعي أصحاب الصدور الضيّقة والعقول المتزمتة.
فلا ضير إذن من الركون إلى الفقه الظاهري الذي يوجب المتعة لكل مطلقة أخذا بعموم قول الحق سبحانه و تعالى: “ومتعوهن على الموسع قدره و على المقتر قدره” ([48]). بل والركون إلى أي فقه يحقق المصلحة في زمننا، وليس في ذلك تتبع لرخص المذاهب ([49]) أو تلفيق بينها ([50])، بل إنه إعمال لمكنة الاجتهاد وتوسيع لمحله من خلال التوسل بأي نص فقهي يحقق غاية المصلحة والعدل، والمشرع ذاته نهل من مذاهب مختلفة عند صياغته لنصوص مدونة الأسرة، وخوَّل ذات الحق لقاضي الموضوع بمقتضى المادة 400 منها دون اقتصار على المذهب المالكي والتزام حصري بمقتضياته التي قد تغدو بعضها مهدرة ومتجاوزة بفعل تغير علة الحكم الزمانية أو المكانية.
فلا أسهل من التمسك بالأصل والركون إلى راحة الأخذ بالاستصحاب، والقول من ثمة بالمنع والحظر، دون إجالة للفكر وتقليب للنظر وبحث في أسس الحكم المذكور وغاياته ومقاصده، ورصد تأثيره على الواقع ومدى توفقه في تنظيم الوقائع، إذ لا غرابة أن يؤثر الواقع على كثير من الأحكام الفقهية تعديلا أو إلغاءً كما هو معروف عند علماء الأصول.
إن الاختلاف بين ما رأيناه صوابا وسدادا وما نزع إليه المجلس الأعلى ليس اختلافا في المصطلحات والتسميات بين المتعة أو التعويض وغيرهما من اصطلاحات التشريع وتسميات الفقه، إنه اختلاف في توجهات قضائية معيارية هامة، وفي محدّدات الاجتهاد وغاياته ومحاذيره، وفي فهم إرادة المشرع التي تدل عليها النصوص المصاغة والمعنى أن في إقرار مثل اجتهاد المجلس الأعلى تكريسا لمبدأ أن العبرة والاعتداد بالتطبيقات القضائية وبفهم القضاة للنصوص المسنونة، ولمقتضيات الفقه الإسلامي المرجوع إليه كمصدر تكميلي أو مصدر شارح، وليست العبرة بما تحويه تلك النصوص القانونية من مكتسبات ومعاني ظاهرة. إن اجتهاد المجلس الأعلى ينبئ عن وجود عقيدة قضائية لها فهم خاص سنده النصوص الفقهية لا النصوص القانونية، أو على الأقل تأويل النصوص القانونية بمرجعية فقهية وبعقلية القاضي ومرجعيته هو، لا بفلسفة المشرع ومنطق التشريع، باعتبار أن النص القانوني لا ينطق وإنما ينطق به القضاة ([51])، وهو ما يكرس فكرة استحكام ثقافة الاعتداد بشخصية القاضي وليس موضوعية القانون، والمراد بشخصية القاضي قناعته الفقهية والفلسفية والدينية ومرجعيته المحافظة أو الحداثية، دون اعتداد بالمكتسبات التشريعية وبفحوى النص محل النظر والاجتهاد فكما ينشئ المجتمع قواعد عرفية يستطيع أن يناهض بها أي قاعدة قانونية فيفرغها من محتواها، يستطيع القضاء إنشاء قواعد قانونية بديلة تعويلا على مكنة الاجتهاد فيجعل أي مكتسب قانوني بلا جدوى أو طائل وهذا الأمر يحتاج إلى أبحاث خاصة على الصعيد الأكاديمي رسائل وأطاريح ترصد مظاهره وتجلياته وفق شواهد عملية وبنسب إحصائية.
وإن كان هذا الأمر قد يعزى في أغلبه لاستحكام تقاليد قضائية محافظة وأعراف مرعية على صعيد المجلس الأعلى خاصة على صعيد غرفته الشرعية، وللأمر شواهده المنظورة في القرارات الصادرة عنه، ليس فقط من خلال الإذعان لصيغ وأساليب فقهية خاصة للرد والتعقيب على وسائل الطعن رفضا أو نقضا، أي المحافظة على نسق شكلي وصياغي موحد عند تطريز القرارات وتدبيجها ([52])، بل أيضا من خلال الحفاظ على اتجاهات موضوعية بزعم تعلقها بالنظام العام وبزمرة الأمور التوقيفية التي لا تنتهك بالاجتهاد، دون اعتداد أحيانا بالمكتسبات التشريعية وبالجهود الفقهية والنقاشات القانونية والنضالات الحقوقية والسياسية والسجالات الفكرية المبذولة قبل انتزاع المكتسبات وصياغتها في نص تشريعي يجمع شتاتها، ويفضي إلى إعمالها واقعا، طالما أن الحقوق تنتزع ولا تعطى، لكن العبرة دائما بالمآلات والخواتم الشاخصة في متون الأحكام القضائية، لا بالمكتسبات التي قد تبقى حبيسة النصوص لا تبرحها إلا بإذن من يجب، وهم السادة القضاة أصحاب المقام الرفيع، نواب الإمام في إنفاذ الأحكام.
كل ذلك لا يمنعنا من أن نصدع بأن ابتداع مسطرة الشقاق كان وبالا على المجتمع وصياغتُها باختصار وتلبيس زاد في تخبط اجتهاد المحاكم وتسهيل تقويض صرح الأسرة، ذلك أن هناك خللا تشريعيا بيّنا اعترى صياغة النصوص المنظمة للشقاق. فلم يكن هذا الإرسال الحل الأفضل، وكان حريا وضع ضوابط وقيود تمنع التعسف في استعمال هذه السبيل التي يكتنفها عوار ظاهر موضوعا وإجراءات، فجمع المشرع في تفرد تميّز به بين تقنينات الدنيا ([53]) بين بليتين، الخطأ في التشريع وفي الصياغة، أي الخطأ في الفكرة وفي التعبير عنها، وتم النزوع بغرابة نحو الحل السهل، متمثلا في التفريق، بدل الاستماتة في المحافظة على لحمة الأسرة، ليتم التساؤل عن الغايات التشريعية، هل الجمع أم التفريق؟.
فلكل حق مشترك قيود ترد عليه، ولن يكون بوسعنا ابتداع قواعد جديدة للمسؤولية المدنية تبقي على الغنم دون الغرم، وتجازي على التعسف في استعمال الحق ولا تقيم قيودا على إعمال الحقوق المشتركة وذات الآثار العامة، نظير التطليق بحفظها من الافتيات والشطط.
فحيد والحالة ما ذكر بمسطرة الشقاق عن غاياتها الوقائية وأهدافها الإصلاحية التي تمنع حدوث المآلات، ووقع استعجال ترتيب الآثار والنتائج في موضوع لا يسوغ فيه مثل ذلك، فانتقل بها من آلية جوهرية للصلح والجمع وحل الخلافات الأسرية، إلى سبيل ميسر ومرفه للتطليق والتفريق وإلى وبال على الأسرة والمجتمع، كونها تفضي إلى هدم سهل لصرح متين، بتأسيسها على نتيجة لا على سبب معلوم كما غدت دعوى للاغتناء ومطية للاثراء بغير سبب، والاستثمار في الزواج ([54]) وهاجسا يقض مضجع الأزواج ووسيلة ضغط فعالة بيد الزوجات، فأعرض العزاب عن الزواج توجسا من كل ذلك ([55]) وغدا الأزواج والحالة ما ذكر يُدبرون إكراهات الواقع ومحن القانون بأقل الخسائر الممكنة، فإن الزواج أصبح واجبات بلا حقوق ونقمة بغير نعمة.
فرغبة المشرع في تجاوز صعوبات ومحن إثبات الخطأ الأسري لوقوعه في غرف مُسَوّرة، ومراعاة خصوصية عقد الزواج الذي لا يسوغ أن يستمر إلا برضى طرفيه معا تماما كما بدأ، أفضى إلى محن أخرى أكثر وبالا، من خلال جعل الشقاق سببا عاما أو سبب من لا سبب له، فتوارت بالبداهة والتبع الأسباب الخاصة المتطلبة إثباتا خاصا والإنسان بطبعه ميال إلى تتبع الأيسر، وَأُوجِدَ مفهوم جديد لإنهاء العلاقة الزوجية مبني على التمكين لأي من الزوجين من ممارسة هذا الحق، دون تثريب أو قيود إجرائية أو احترازات موضوعية تقتضي إثبات السبب الذي يبرر فصم عرى العلاقة الزوجية أو حتى سوقه من أساسه، وغدت مسطرة الشقاق بديلا لكل من عسر عليه إثبات سبب خاص للتطليق، فغدت قرينة الشقاق قرينة قضائية مفترضة تتحقق بمجرد اللجوء إلى مجلس القضاء وهي قرينة قاطعة لا تقبل إثبات العكس، والنتيجة المترتبة في سائر الأحوال هي إنهاء العلاقة الزوجية، بسبب أو بغير سبب، آية ذلك أيضا جعله سبيلا احتياطيا متى تعذر الإثبات أو احتدم الخلاف في أحوال أخرى لا يكون الموضوع فيها التطليق، كالتعدد والرجعة والطلاق الخلعي والتطليق للضرر وعدم تنفيذ الالتزامات المتبادلة بين الزوجين. وكأن المشرع أحرص من الزوجين على إنهاء العلاقة الزوجية بموجب أو بدونه بتذكيرهما بمناسبة وبغير مناسبة بوجود هذه المسطرة، عوض التذكير بالصلح وتنويع مصادره وتيسير سبله ([56])، بل وَحَمْلُ القاضي على تطبيقها تلقائيا ولو بغير طلب من الخصوم في خرق سافر لمقتضيات الفصل الثالث من قانون المسطرة المدنية، وللقاعدة الجوهرية المعتبرة أن الدعوى ملك الخصوم، وكذا باستعجال ترتيب النتائج وفك عرى العلاقة الزوجية من خلال ضرب أجل معين للبت في دعوى التطليق، رغم أن هذه الزمرة من الدعاوى مبنية على التراخي الذي يتيح إنجاح مسعى الصلح لا الفور الذي قد يستعجل إيقاع الفرقة، فهل رَفْعُ الحيف عن النساء ومراعاة النظام العام الدولي، والتباهي بهذا المستجد في المحافل الدولية، ينهض سببا لاستسهال هدم صرح الأسرة؟. فيقع الانتقال الفجائي من تصعيب كلي للتطليق بالنسبة للنساء إلى استسهال كلي له، دون تدرج مرشد ودون مراعاة طبيعته الاستثنائية وعظم آثاره الفردية والجماعية.
فَجُرِّد القضاء والحالة ما ذكر من سلطة مراقبة المشروعية وأجبر على معاينة إنهاء العلاقة الزوجية أمام ناظريه بإرادة أحادية لأحد الزوجين، والإشهاد على ذلك في حكمه وإقراره دون نكير أو تدخل منصف لمن وقعت عليه المظلمة، طالما أن هذه الدعوى تكون حليفة القبول دائما.
لكن رغم كل هذا العوار البيّن الذي جعل هذه المسطرة لا تبقي ولا تدر، فإنه ليس على القضاء أن يتدخل إرجاعا للأمور إلى نصابها من خلال اجتهاد مفتقر إلى المؤيد القانوني ومتجاوز لمقتضى قانوني واضح، سالب لكل حقوق الزوجة، مُصادر على المطلوب، واقع في ذات المثلب الذي وقع فيه المشرع وهو الحِدّية، لكن هذه المرة بأخذه كل شيء أعطي للمرأة، فما هكذا تورد الأمور، فإن الزيادة في كل شيء نقصان، والتعميم خطيئة منهجية، فلكل مقام مقال، فالعسف لا جنس له، فهو يمكن أن يأتي من الزوج أو الزوجة، وليست كل مدعية ترغب في إنهاء العلاقة الزوجية بصلف وشطط، فلابد أن يُمَكَّن القضاء من هامش معتبر يلبس بمقتضاه كل حالة لبوسها تحقيقا للمصلحة والعدل فما أتته محكمة النقض تحت مسمى الاجتهاد هو افتيات وتعد على اختصاص أصيل موكول حصرا للمشرع والذي له وحده أن يمنح أو يمنع، يعطي أو يدع، وهو قد مَكَّن الزوجة من كافة مستحقاتها حال طلبها الشقاق، فلا يسوغ حرمانها من ذلك ([57]).
الهوامش:
وهو معنى لحظه ابن العربي عندما اعتبر الرضا ركنا ركينا في انعقاده وفي بقائه أسوة بسائر عقود الأبدان حيث قال ما نصه: “فإن قيل ظهر الظلم من الزوج أو الزوجة فظهور الظلم لا ينافي النكاح بل يؤخذ من الظالم حق المظلوم ويبقى العقد، قلنا: هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال فأما عقود الأبدان فلا تتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه، وكانت المصلحة في الفرقة.” “أحكام القرآن” . ط دار الفكر د.ت 1/425.
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لهذا المقتضى بيانا لأسباب النزول: “ولما كان الأصل في تشريع المتعة هو جبر خاطر المطلقة وكانت مواساتها من المروءة التي تطلبتها الشريعة. وكان من أسس تقديرها قوله تعالى في سورة البقرة :”ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره….” وعلى هذا وضع نص المادة 18 مكررا بمراعاة ضوابط أقوال هؤلاء الأئمة وللقاضي أن ينظر في تقديرها عدا ما سبق إلى ظروف الطلاق وإلى إساءة استعمال هذا الحق ووضعه وألا تقل في تقديرها عن نفقة سنتين وتخفيفا على المطلق أجاز النص له سداد المقرر للمتعة على أقساط”. أحمد نصر الجندي: “الطلاق والتطليق وآثارهما”. مطابع شتات مصر، 2004، ص: 716.
علما بأن اتساع دائرة الاجتهاد تعتبر أحد أبرز سمات القوانين الشخصية حيث يكون فيها للقاضي هامشا متسعا للتفسير والتأويل والتقدير، بخلاف القوانين الأخرى حيث يضيق الهامش المذكور لفائدة قيود إجرائية وموضوعية أكثر صرامة.
وبالنسبة للقوانين المقارنة فإن القانون الأسري التونسي والمصري والجزائري أوجبوا المتعة للمطلقة المدخول بها متى طلقت بدون رضاها ودون اقترافها لسبب.
وأما المشرع الأردني فقد خوّل تمتيع المطلقة التي لم يسم لها صداق وطلقت قبل الدخول، والمشرع السوري قصر ذلك على المطلقة قبل الدخول والخلوة، والمشرع المغربي لم يبسط كغيره من التقنينات المقارنة القول في موضوع المتعة، إذ لم يفرد للمتعة سوى مقتضى فريد وهي المادة 84 من مدونة الأسرة، وهو حيز قانوني لا يعكس أهمية المتعة الرمزية والقيمية، ولا يحيط بسائر متعلقاتها الفقهية الأمر الذي يفضي إلى إشكالات قضائية حقيقية.
ولا ريب أن التنازع حول موضوع التعليق، أي مدى وجوب المتعة لطالبة التطليق الشقاق من آثار الإرسال والغموض الوارد في صياغة المادة 84 المومأ إليها، وعدم الإحاطة بكليات وجزئيات موضوع المتعة الذي يعد من كبريات المواضيع الأسرية لملامسته الجانب المادي والمعنوي عند المطلقات والمطلقين.
فمخالفة النص التشريعي للنصوص الفقهية المعتبرة، واستفحال بعض الظواهر الاجتماعية، واستعمال بعض المساطر بعسف وشطط لا تبرر تعطيل العمل بنص قانوني واضح آمر واجب النفاذ ولو كان لا يحقق المصلحة المؤملة.
ثم إن في تخويل القضاء سلطة الإنشاء شبهة اختلاط السلطة التشريعية بالقضائية، وجمعا بين ما لا يجمع.
فلابد والحالة ما ذكر أن تكون القاعدة القانونية معبرة عن الإرادة الشعبية التي تعهد بها الأمة إلى ممثليها في البرلمان وليس إلى القضاة مهما أوتوا علما وتجردا وفقها ووقارا. فالمجتمع يختار ممثليه في البرلمان للتعبير عن إرادته في القوانين، فلا يسوغ أن تحرف بتأويل من أي جهة وتحت أي معاذير، فتأسيس الحكم القضائي على غير نص قانوني، كقواعد العدالة والإنصاف والأخلاق والمنطق يجعل الحكم مؤسسا على شرعية خارجية عامة تتنافى وحسم ووضوح نصوص القانون فيصبح لكل قاض قانونه و مبادؤه،