التقادم في مخالفات قانون التعمير والبناء -تعليق على قرار لمحكمة النقض-
سعيد الوردي أستاذ باحث بكلية الحقوق بفاس، عضو مختبر القانون الخاص ورهانات التنمية
إطار سابق بوزارة الداخلية
تقديم:
تقوم فكرة التقادم على سقوط الحق في المتابعة بسبب مرور الفترة الزمنية التي يحددها القانون بالنسبة لكل جريمة على حدة. والعلة في ذلك تكمن في كون المجتمع يكون قد تناسى الفعل الجرمي ولم يعد بحاجة لفتح جرح قد تعافى وتحريك الدعوى العمومية على فعل نسيه الضحايا والمجتمع ولم تعد لديهما مصلحة في إعادته للواجهة من جديد.[1] ويصبح التقادم أكثر إلحاحا بالنسبة لجرائم التعمير التي لا يتم التصدي لها وزجرها في الوقت المناسب ، حتى يتم استغلال المباني موضوع المخالفات في السكن أو غيره ، أو يتم بيعها وتنشأ عليها حقوقا للأغيار قد يكونوا حسني النية.
وقد أثيرت مسألة التقادم في مجال التعمير والبناء في نازلة عرضت على المحكمة الإدارية بأكادير ، تم تدرجت عبر مراحل التقاضي إلى أن وصلت مرحلة النقض ، حيث أصدرت الغرفة الإدارية بمحكمة النقض قرارها تحت عدد 566/1 بتاريخ 31/03/2016 في الملف الإداري رقم 2680/4/1/2014 منشور بنشرة قانونية موضوعاتية صادرة عن وزارة الداخلية عدد 2 بتاريخ 25 غشت 2020 ، ص 87 ، وهذا القرار هو الذي سيكون موضوع التعليق.
وتتلخص وقائع النازلة موضوع القرار في أنه بتاريخ 19/09/2013 تقدم الطالب بمقال أمام المحكمة الإدارية بأكادير عرض فيه أنه فوجئ بتاريخ 07/06/2013 بإعذار موجه إليه من طرف الجماعة الحضرية لأكادير قصد اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لإنهاء المخالفات المتعلقة بالتعمير والتي رصدتها على مستوى القبو والطابق الثاني والطابق العلوي إلى الطابق السابع ، وهو القرار الذي يعيبه بالتجاوز في استعمال السلطة. ذلك أن لجنة المراقبة لم تشعره ولم تقم باستدعائه ولم تبلغه بالمخالفة المنسوبة إليه طبقا للقانون ، سيما وأن التقادم طال المخالفة المعنية ، وأن الإجراءات الأولية السابقة عن ضبطها والتثبت منها لم تحترم كما هو منصوص عليها في المواد من 65 إلى 69 من قانون التعمير ، والتمس الحكم بإلغاء القرار المذكور مع ما يترتب على ذلك من آثار قانونية ، ثم تقدم بمقال إصلاحي ملتمسا الحكم بإلغاء القرار الإداري الصادر بتاريخ 07/09/2013 عن والي ولاية جهة سوس ماسة درعة لخرقه القانون وعدم احترام حقوق الدفاع. أجابت الجماعة الحضرية لأكادير ملتمسة رفض الطعن لأنها حررت محضر معاينة المخالفات في تاريخها ووجهت إلى الطالب الإعذار القانوني وأخبرت السلطة المحلية ووجهت الشكاية إلى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بأكادير ووالي جهة اكادير سوس ماسة درعة. فقضت المحكمة الإدارية بإلغاء القرار المطعون فيه مع ما يترتب من آثار قانونية عن ذلك ، استأنفه الوالي أمام محكمة الاستئناف الإدارية بمراكش التي بعد استيفائها للإجراءات قضت في قرارها المشار إلى مراجعه أعلاه بإلغاء الحكم المستأنف وتصديا برفض الطعن ، وهو القرار التي تم الطعن فيه بالنقض.
وقد استند طالب النقض في عريضة النقض على مجموعة من الوسائل أهمها :
- نقصان التعليل لكون القرار المطعون فيه لم يرتب أي جزاء على عدم احترام إجراءات تبليغ المخالفة وخرق مقتضيات المواد من 64 إلى 69 والمادة 55 من قانون التعمير ، وأن عدم توصله بالأمر الفوري بإيقاف الأشغال فوت عليه الطعن بالزور في محاضر معاينة المخالفات سيما وأنها تعود إلى سنة 2006 والجماعة استندت إليها خلال سنة 2013 على الرغم من حصوله على شهادة المطابقة وشهادة السكن خلال سنة 2007 ؛
- خرق المقتضيات القانونية المتعلقة بتقادم المخالفات ، ذلك أن المخالفات موضوع المتابعة يعود تاريخ ارتكابها إلى سنة 2006 ، وأن الجماعة الحضرية أعادت ترتيب الأثر القانوني عليها على الرغم من مرور أكثر من ثماني سنوات على تحرير المحاضر المتعلقة بها والقرار المطعون فيه لم يجب على ذلك ، مما يعرضه للنقض.
- أن محاضر المخالفات التي أنجزت في حق طالب النقض استندت إلى كونه هو من قام بالبناء خلال شهري ماي ويونيو من سنة 2013 ، في حين أنه لم يقم بأي بناء بعد حصوله على رخصة السكن سنة 2007 ، وبذلك فهي مزورة وقد طعن فيها بالزور أمام المحاكم.
وبعد دراسة أسباب النقض هاته والإجابة عنها من طرف محكمة النقض، قررت هذه الأخيرة رفض الطلب وتحميل رافعه الصائر.
ونلاحظ من خلال تحليلنا للقرار موضوع التعليق أنه قد أثار إشكالا قانونيا غاية في الأهمية ، يتعلق بتقادم المخالفات في قانون التعمير والبناء ، حيث اعتبر القرار أن مخالفات التعمير لا تخضع للتقادم ، وهو ما يجعلنا نطرح التساؤل عن موقف المشرع المغربي من مسألة تقادم مخالفات قانون التعمير ؟ وعن مدى مطابقة ما جاء في قرار محكمة النقض لما قرره المشرع المغربي بهذا الخصوص ؟
ولأجل ذلك سوف نعتمد التصميم التالي:
- المحور الأول: موقف المشرع المغربي من التقادم في مخالفات قانون التعمير والبناء
- المحور الثاني : مدى موافقة قرار محكمة النقض للتشريع المغربي في مجال تقادم مخالفات قانون التعمير
المحور الأول: موقف المشرع المغربي من التقادم في مخالفات قانون التعمير والبناء
التقادم هو إجراء يعرفه القانون المدني والقانون الجنائي وأغلب القوانين الأخرى، وهو يعني في الميدان الجنائي أن المدعي إذا لم يحرك الدعوى العمومية أمام المحكمة المختصة داخل المدة التي يحددها المشرع، فإنه يفقد الحق في إثارتها لاحقا. والتقادم هو من النظام العام فلا يمكن التنازل عنه ولا الاتفاق على خلافه ويجب إثارته تلقائيا من طرف المحكمة، كما يجوز التمسك به في أية مرحلة من مراحل الدعوى ولو لأول مرة أمام محكمة النقض.[2]
والتقادم الجنائي تحدده المادة 5 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على أنه تتقادم الدعوى العمومية، ما لم تنص قوانين خاصة على خلاف ذلك بمرور:
– خمس عشرة سنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجناية؛
– أربع سنوات ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجنحة؛
– سنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب المخالفة.
لا تتقادم الدعوى العمومية الناشئة عن الجرائم التي ينص على عدم تقادمها القانون أو اتفاقية دولية صادقت عليها المملكة المغربية وتم نشرها بالجريدة الرسمية.
وانطلاقا من ذلك فإن التقادم الذي يحكم مختلف أنواع الجرائم تنظمه المادة 5 أعلاه، ما لم ينص قانون خاص على خلاف ذلك. ومن القوانين الخاصة التي نصت على آجال أخرى للتقادم غير ما ذكر في هذه المادة ، نذكر مثلا قانون العدل العسكري الذي ينص في الفصل 150 منه على أن احتساب التقادم لا يبدأ في جرائم العصيان والفرار وقت الحرب والفرار إلى بلاد العدو، إلا ابتداء من بلوغ الجاني 50 سنة. نذكر كذلك جرائم الصحافة التي لا تتقادم إلا بمرور ستة اشهر من تاريخ ارتكاب الفعل [3]، وكذلك الأمر بالنسبة للجرائم الغابوية التي تتقادم بمرور ستة أشهر من تاريخ تحرير المحضر أو ثلاث سنوات من تاريخ ارتكاب المخالفة حسب الفصل 75 من ظهير 10/10/1917.
أما القانون رقم 12.90 كما تم تعديله وتغييره بالقانون رقم 66.12 باعتباره النص الخاص الذي يحكم الموضوع الذي نحن بصدد دراسته ، فإننا لا نجده يتحدث في أي مقتضى منه على التقادم، مما يعني أن التقادم في مجال التعمير يبقى محكوما بالمادة 5 من قانون المسطرة الجنائية.
وبناء على ذلك يمكن الحسم بأن كل المخالفات الواردة في قوانين التعمير والبناء تخضع للتقادم ، مثلها مثل باقي الجرائم الأخرى ، حيث لا يعقل أن تتقادم الجنايات بمختلف أشكالها ، ولا تتقادم مخالفة لقانون التعمير والبناء. لكن حيث إن محكمة النقض قد قالت بعكس ذلك وأكدت أن مخالفات قانون التعمير لا تخضع لمبدأ التقادم ، فإننا نتساءل عن الأساس القانوني الذي اعتمدته لذلك ؟.
المحور الثاني : مدى موافقة قرار محكمة النقض للتشريع المغربي بخصوص القول بعدم تقادم المخالفات في ميدان التعمير والبناء
من بين أهم الوسائل التي استدل بها طالب النقض في العريضة التي تقدم بها من أجل طلب نقض القرار الاستئنافي ، نجد رفض هذا القرار الاستجابة للدفع المتعلق بالتقادم وعدم الإجابة عليه ، حيث اعتبر الطالب أن المخالفات موضوع المتابعة تعود إلى سنة 2006 ، وأن الجماعة الحضرية أعادت ترتيب الأثر القانوني عليها على الرغم من مرور أكثر من ثماني سنوات على تحرير المحاضر المتعلقة بها . هذا الدفع ردته محكمة النقض في القرار موضوع التعليق معتبرة أنه ” ولئن كان اختصاص الإدارة في اتخاذ القرار الإداري مرتبط بعنصر الزمن من خلال تحديد المدة التي يحق لها خلالها اتخاذه وإلا اصطدم قرارها بمبدأ تقادم المخالفة المعتمدة كأساس له ، وتقادم المخالفات في ميدان البناء والتعمير يتحقق بمضي سنتين [4] من تاريخ معاينتها ممن خوله المشرع ذلك. فإن هذا المبدأ القانوني لا ينطبق على المخالفات المستمرة ، وبما أن الأمر في نازلة الحال يتعلق بمخالفات مستمرة ، فإن التقادم المتمسك به يكون غير متحقق ، ومحكمة الاستئناف لما استندت في قرارها إلى سلامة الإجراءات ومشروعية قرار الهدم لتقضي بإلغاء الحكم المستأنف وبرفض طلب إلغاء قرار الهدم لم تخرق المقتضيات القانونية المحتج بها وما بالوسيلة على غير أساس”.
ويتضح لنا من خلال منطوق هذا القرار أن هناك إشكاليتين قانونيتين وجب إبرازهما وتحديد موقف المشرع المغربي منهما، وتتعلق الأولى بتصنيف جرائم التعمير هل هي مخالفة أم جنحة – أولا – ثم هل هذه المخالفة أو هذه الجنحة تخضع للتقادم أم لا – ثانيا –
أولا : تصنيف جرائم التعمير بين المخالفة والجنحة
ورد في قرار محكمة النقض أعلاه أن جرائم التعمير هي مخالفات ، وأن المخالفات تتقادم بمرور سنتين ، ومن أجل الوقوف على مدى انسجام هذا الرأي مع التشريع المغربي ارتأينا أنه من الضروري التطرق للحديث عن نوعية التصنيف الذي يجب أن تخضع له جرائم التعمير، هل تعتبر مخالفات أو جنح ؟
لقد جرت العادة بين مختلف المتدخلين في قطاع التعمير على أن يتم النظر إلى الجرائم التي ترتكب في هذا القطاع على أنها تندرج في إطار المخالفات ، بينما يرى جانب آخر من المتخصصين في هذا المجال أنها تدخل في نطاق الجنح. ولإبراز الرأي الصائب لا بد من الرجوع إلى القواعد العامة الواردة في القانون الجنائي المغربي.
فالفصل 111 من هذا القانون ينص على ما يلي: “الجرائم إما جنايات أو جنح تأديبية أو جنح ضبطية أو مخالفات …”. ثم ينطلق نفس الفصل من العقوبات المخصصة لكل نوع من هذه الجرائم ليحدد المقصود منها، فينص على أن:
“الجريمة التي تدخل عقوبتها ضمن العقوبات المنصوص عليها في الفصل 16 تعد جناية؛
الجريمة التي يعاقب عليها القانون بالحبس الذي يزيد حده الأقصى عن سنتين تعد جنحة تأديبية؛
الجريمة التي يعاقب عليها القانون بالحبس حده الأقصى سنتان أو أقل أو غرامة تزيد عن 200 درهما تعد جنحة ضبطية؛
الجريمة التي يعاقب عليها القانون بإحدى العقوبات المنصوص عليها في الفصل 18 تعد مخالفة.
وقد يوحي الفصل 111 بأن القانون الجنائي المغربي يأخذ بتقسيم رباعي للجرائم (جنايات، جنح تأديبية، جنح ضبطية، مخالفات) لكن في الواقع وحسب ما دأب عليه الفقهاء فالتقسيم المعتمد في المغرب للجرائم هو تقسيم ثلاثي (جنايات، جنح، مخالفات). وهو ما تؤكده أيضا الفصول 16، 17، 18، من القانون الجنائي ذاته.[5]
وينص الفصل 17 من القانون الجنائي على أن العقوبات الجنحية الأصلية هي:
- الحبس
- الغرامة التي تتجاوز 1200 درهم
وأقل مدة الحبس شهر وأقصاها خمس سنوات، باستثناء حالات العود أو غيرها التي يحدد فيها القانون مددا أخرى.
وحسب مقتضيات المادة 18 فالمخالفات هي التي يعاقب عليها بغرامة لا تتجاوز 1200 درهم.
ومن خلال استقراء المعايير المذكورة أعلاه يمكن الحسم بشكل قطعي بأن جرائم التعمير هي جنح وليست مخالفات لأن العقوبات المقررة لها تتضمن غرامات تتجاوز 1200 درهم وعقوبات حبسية تصل إلى ثلاثة أشهر ولا تقل عن شهر واحد. وليس هناك مخالفة في التشريع المغربي يعاقب عليها بالحبس بالمدد السالفة الذكر.
لكن مع ذلك نجد المشرع في القانون رقم 66.12 يتحدث عن المخالفات في مجال البناء ويصف الجرائم المرتكبة في حق قانون التعمير بأنها مخالفات، فالمادة 65 تنص على أنه “يقوم بمعاينة المخالفات…”، وتنص المادة 64 على أنه “يقوم المراقب الذي عاين مخالفة من المخالفات المشار إليها…”، ونفس الأمر في المادة 67 وغيرها من مواد هذا القانون التي تواتر فيها وصف جرائم التعمير بالمخالفات ولم يتم قط وصفها بالجريمة أو الجنحة، بل أكثر من ذلك ورد مصطلح المخالفات في عنوان النص القانوني المذكور. ولعل هذا ما جعل محكمة النقض تسير في هذا الاتجاه وتعتبر جرائم التعمير مخالفات ، والحال أنها جنح كما بينا سابقا ، وبذلك تكون هذه المحكمة قد جانبت الصواب في هذه النقطة.
واستنادا لما سبق ذكره أعلاه يمكن التأكيد على أن جميع الجرائم التي ترتكب في مجال التعمير والبناء تعتبر جنحا وليست مخالفات بناء على الحجج والمبررات التي تقدمنا بها سلفا، وبالتالي فهي تخضع للتقادم الرباعي، أي أربع سنوات ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجنحة، وليس سنتين كما ورد خطأ في قرار محكمة النقض. لكن هل فعلا جرائم التعمير لا تخضع للتقادم ؟
ثانيا : مدى إمكانية القول بعدم خضوع جنح التعمير للتقادم
ورد في قرار محكمة النقض موضوع التعليق أن المبدأ القانوني المتعلق بتقادم الجرائم لا ينطبق على المخالفات المستمرة ، وبما أن الأمر في نازلة الحال يتعلق بمخالفات مستمرة ، فإن التقادم المتمسك به يكون غير متحقق. وهذا يدفعنا لتمحيص هذا الرأي والوقوف على مدى صحته وانسجامه مع المقتضيات القانونية الجاري بها العمل.
وأول ما يمكن ملاحظته هو أن محكمة النقض لم تدلي بأي نص قانوني تبرر به هذا التوجه ، بل اكتفت بالقول بأن الجرائم المستمرة لا تخضع للتقادم ، واستنتجت بأن جرائم التعمير باعتبارها جرائم مستمرة فهي لا تخضع للتقادم. وهذا يدفعنا إلى إبراز ماهية الجرائم المستمرة.
تصنف الجرائم بالنظر إليها من زاوية الركن المعنوي إلى جرائم فورية وجرائم مستمرة ، وقد عرف ذ الخمليشي الجريمة الفورية بكونها تلك الجريمة التي يتم تنفيذها في وقت محدد غير قابل للامتداد والتجديد بإرادة الجاني ، فالسرقة مثلا تتم بالاستيلاء على المسروق وتنتهي بذلك ولا يمكن للسارق أن يمدد تنفيذ السرقة لما بعد ذلك. أما الجريمة المستمرة فهي التي يكون ركنها المادي قابلا بحسب طبيعته للتجدد بإرادة الجاني.[6]
وتكون الجريمة وقتية أو فورية عندما يتم تنفيذ ركنها المادي خلال وقت محدد ينتهي بانتهاء الفعل المادي كما هو الحال في جريمة القتل مثلا حيث تنتهي الجريمة بإزهاق روح المجني عليه. وتكون الجريمة مستمرة عندما يتكون ركنها المادي من حالة يعاقب عليها القانون وتحتمل بطبيعتها الاستمرار فترة زمنية قد تطول وقد تقصر مثل جريمة حيازة السلاح بدون رخصة حيث تتحقق الجريمة بمجرد الحيازة وتبقى مستمرة طالما بقي فعل الحيازة قائما.[7]
ومخالفات التعمير قد تكون جرائم فورية كما هو الحال مثلا في الجريمة التي تتكون من تسقيف غرفة أو بناء بيت بالسطح بدون رخصة، فالركن المادي للجريمة هنا يبتدأ وينتهي في وقت محدد غالبا ما يكون قصيرا، لذلك فهي تعتبر في هذه الحالة جريمة وقتية تنتهي بانتهاء تنفيذ ركنها المادي.
وهناك حالات قد تستمر فيها المخالفة لمدة طويلة، كحالة من يشرع في بناء طابق سفلي ثم يستمر في البناء لمدة طويلة ومتقطعة إلى غاية إتمام بناء عدة طوابق، ففي هذه الحالة هناك من يعتبر جريمة التعمير جريمة مستمرة، وهي لا تنتهي إلا من تاريخ انتهاء آخر عملية للبناء، فلو انطلق البناء مثلا شهر يناير 2019 وانتهى في 31 دجنبر 2020، فإن تاريخ احتساب أجل التقادم سيكون هو 31 دجنبر 2020 وليس تاريخ الشروع في ارتكاب الفعل. فالبناء بدون رخصة في هذه الحالة يعتبر استمرار متجدد ، وهو حسب ذ عبد الواحد العلمي لا بد فيه من تدخل إرادي جديد من جانب المجرم ، وهذا النوع من الاستمرار هو المقصود في الجرائم المستمرة ، حيث تظهر فيه حالة الاستمرار متجددة بإرادة الفاعل ، ويترتب على ذلك أن النيابة العامة يكون من حقها متابعة المجرم في كل مرة يجدد فيها فعله المخالف للقانون.[8]
وهذا ما نجده مكرسا أيضا في الواقع العملي حيث إن ضباط الشرطة القضائية غالبا ما يتصدون للمخالفة فور الشروع فيها ، فيتم تحرير محضر المعاينة في شأنها وتوجيه الأمر بإيقاف الأشغال وغيره للمخالف. غير أنه إذا عاد هذا المخالف مرة أخرى لاستئناف الأشغال فإنه يتم تحرير محضر آخر في حقه. فيكون المحضر الأول مثلا يتعلق بالشروع في بناء أساس طابق سفلي، والمحضر الثاني يتعلق بتسقيف الطابق السفلي ، وقد يكون هناك أيضا محضر ثالث يتعلق بالشروع في بناء الطابق الأول… إلخ، ففي مثل هذه الحالات لا نتحدث عن جريمة مستمرة، لأن كل حالة بناء جديدة يتم ضبطها تعتبر كجريمة مستقلة عما سيتلوها من جرائم تشكل تمادي في ارتكاب الجرائم وكل محضر تم إنجازه تكون له متابعة مستقلة من طرف النيابة العامة.
أما بخصوص النتائج التي تترتب على التمييز بين الجريمة المستمرة والجريمة الفورية فهي تكمن بصفة أساسية في تاريخ بدأ احتساب مدة انقضاء الدعوى بمضي المدة،[9] أي احتساب أجل التقادم. ولا يمكن بأي حال من الأحوال القول بعدم تقادم جرائم التعمير سواء اعتبرت جرائم فورية أو جرائم مستمرة.
وتبعا لما سبق ذكره بخصوص توجه محكمة النقض القائل بأن مخالفات قانون التعمير لا تخضع للتقادم – وهو توجه أثر بشكل كبير على توجهات بعض المسؤولين بالإدارة الترابية وتم تبنيه من طرفهم – يمكن القول بأنه فهم مجانب للصواب ولا يجد له أي سند في القانون. لأن جميع الجرائم تخضع بخصوص التقادم لقانون المسطرة الجنائية ما لم ينص صراحة على خلاف ذلك، سواء بإقرار آجال أخرى للتقادم، أو بالقول بكون الجريمة لا تخضع للتقادم وهو الأمر الذي لا نجد له أثر في قوانين التعمير.
ونعتقد بأن السبب في رواج هذا الفهم غير السليم للقانون لدى البعض يرجع إلى وقوع لبس لديهم في ضبط مفهوم الجريمة المستمرة، معتبرين أن انتماء مخالفات التعمير لهذا النوع من الجرائم يجعلها غير خاضعة للتقادم. والصواب هو أن الجرائم بنوعيها سواء كانت وقتية أو مستمرة فهي تخضع للتقادم، ولم نصادف أي رأي فقهي يقول بخلاف ذلك.
وبناء على ما سبق فإنه يجب على ضابط الشرطة القضائية أو المراقب أن يمتنع عن تحرير محضر معاينة مخالفة لقانون التعمير يجهل تاريخ ارتكابها [10]، لأن هذا المحضر هو الذي سيكون سندا للنيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية، وكذا وسيلة الإثبات أمام المحكمة، فضلا عن كون المحكمة ملزمة عند صياغتها للحكم بتضمينه بيان الوقائع موضوع المتابعة وتاريخها ومكان اقترافها طبقا لمقتضيات الفصل 365 من قانون المسطرة الجنائية. ولأن هذا التاريخ هو المعتمد للتأكد من عدم تقادم الدعوى العمومية، والذي إذا أثير نزاع حوله فإن المحكمة تكون ملزمة بالفصل فيه لأنه يشكل وسيلة دفاع موضوعية تلزم المحكمة بالرد عليها.[11]
نخلص من خلال ما سبق إلى القول بأن القرار موضوع التعليق بتأييده لقرار محكمة الاستئناف الإدارية الذي ألغى الحكم الابتدائي الصادر لصالح الطاعن ، وهو لم يستند في ذلك لأي نص قانوني صريح أو ضمني يفيد بعدم خضوع جرائم التعمير للتقادم ، ولا لأي توجه فقهي متوافق عليه ، يشكل في نظرنا اجتهادا غير صائب ، ونعتقد أنه سيظل قرارا عاديا تفنى قيمته بفناء النزاع الذي صدر فيه ، ولا يمكنه أن يرقى إلى مصاف القرارات المبدئية المكرسة للمبادئ القانونية والتوجهات القضائية.
الهوامش:
[1] – محمد عبد النباوي : ” تقادم الدعوى العمومية وتقادم العقوبة ” ، مقال منشور بالموقع الإلكتروني :www.maroclaw.com
[2] – محمد عياط: دراسة في المسطرة الجنائية المغربية، الجزء الأول، 1991 ، ص 111.
[3] – وذلك حسب المادة 101 من القانون رقم 88/13 المتعلق بالصحافة والنشر. وللمزيد من المعلومات حول تقادم جرائم الصحافة والنشر يرجى الرجوع إلى مؤلفنا المتعلق بجرائم السب والقذف عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية ، مطبعة الأمنية ، الرباط ، الطبعة الأولى 2020 ، ص 20 وما بعدها.
[4] – هكذا وردت في القرار سنتين والصواب هو سنة واحدة طبقا للمادة 5 من قانون المسطرة الجنائية.
[5] – انظر سعيد الوردي: “شرح القانون الجنائي العام المغربي: دراسة فقهية وقضائية”، مطبعة المنية الرباط، الطبعة الولى 2020، ص 34 وما بعدها.
[6] – أحمد الخمليشي : ” شرح القانون الجنائي ” ، القسم العام ، دار نشر المعرفة للتوزيع والنشر ، الرباط ، ص 126 وما بعدها.
[7] – سعيد الوردي: “شرح القانون الجنائي العام المغربي: دراسة فقهية وقضائية”، مطبعة الأمنية الرباط، الطبعة الأولى، 2020، ص 45 وما بعدها.
[8] – عبد الواحد العلمي: ” شرح القانون الجنائي المغربي : القسم العام ” ، دراسة في المبادئ العامة التي تحكم الجريمة والمجرم والعقوبة والتدبير الوقائي ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ، الطبعة التاسعة 2019 ، ص 301.
[9] – أحمد كامل أبو السعود: “التشريعات الجنائية في ضوء أحكام النقض”، دار الفكر الجامعي، الاسكندرية، 1990، ص 101.
[10] – ونقصد بذلك الحالة التي يكون فيها تاريخ ارتكاب المخالفة غير واضح ولو على سبيل التقريب، كحالة وجود غرفة في سطح البيت مجهزة مزودة بالماء والكهرباء،مفروشة و تستغل في السكن، ولا تبدو عليها أية علامة حديثة للبناء. أما إذا أمكن تحديد تاريخ ارتكاب المخالفة ولو على سبيل التقريب كحالة ضبط بناية مكتملة لكنها لا زال ينقصها الطلاء مثلا ولا زالت مواد البناء المستعملة تظهر حداتثها، أو توجد قرائن أخرى تدل على ارتكاب المخالفة كبقايا مواد البناء أو آثار تدل على ذلك فإنه يجب تحرير محضر المعاينة في مثل هذه الحالات.
[11] – أحمد الخمليشي: مرجع سابق، ص 94.
قراءة معمقة و اجتهاد موفق للأستاذ الجليل. بشأن التفرقة بين الجريمة الفورية و الجريمة المستمرة. مع مزيد من التوفيق. د.شريف محمد.
قراءة معمقة و اجتهاد موفق للأستاذ الجليل. بشأن التفرقة بين الجريمة الفورية و الجريمة المستمرة. مع مزيد من التوفيق. د.شريف محمد. ( ملاحظة . لم يسبق لي الإطلاع على هذا الإجتهاد)