سمير أيت أرجدال : دلالات المؤتمر الدولي الأول للعدالة
تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة محمد السادس نصره الله وأيده، نظمت وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة المؤتمر الدولي الأول للعدالة حول موضوع “استقلال السلطة القضائية بين ضمان حقوق المتقاضين واحترام قواعد سير العدالة” أيام 2 و3 و4 أبريل 2018 بقصر المؤتمرات بمراكش.
وقد عرف المؤتمر حضور شخصيات سياسية وقضائية وحقوقية وقانونية وأكاديمية وإعلامية وازنة. وكان فرصة سانحة للمتدخلين، على اختلاف انتماءاتهم وأنظمتهم القانونية والقضائية، لتشخيص واقع العدالة وتحدياتها والخروج بحلول وتوصيات لتذليلها ولمواجهتها.
وغني عن البيان أن المؤتمر الدولي الأول للعدالة عرف نجاحا باهرا، سواء على مستوى التنظيم أو على مستوى الإحاطة الكاملة والشاملة بمختلف المواضيع ذات الصلة بتطوير المنظومة القضائية. ومن ثمة، كان لزاما علينا التطرق إلى أهم الدلالات التي واكبت المؤتمر، سواء في جانبه التنظيمي أو في شقه الموضوعاتي.
أولا: على المستوى التنظيمي
1 – إن حرص صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله على إحاطة المؤتمر بالرعاية السامية يعبر بصفة واضحة وصريحة عن المكانة المتميزة التي تحظى بها السلطة القضائية، وعن العطف المولوي الذي يوليه جلالته لمؤسساتها وأعضائها، ويؤكد، من جهة أخرى، أن ورش إصلاح منظومة العدالة يدخل في صلب أولويات واهتمامات أمير المؤمنين ورئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
2 – إن تنظيم المؤتمر بشراكة بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة ووزارة العدل يحمل في جوهره دلالات سياسية ودستورية تهدف في عمقها إلى وجوب التعجيل بوضع الإجراءات التنظيمية اللازمة وتفعيل الآليات الدستورية والقانونية الكفيلة بتنزيل مبدأ التعاون والتوازن بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية بالشكل الذي لا يخل بمبدأ فصل السلط المنصوص على أحكامه في المادة الأولى من دستور المملكة.
3 – إن إسناد تلاوة الرسالة الملكية الموجهة إلى المؤتمرين إلى عبد اللطيف المنوني، بصفته مستشارا لجلالة الملك، ورئيسا للجنة الاستشارية لمراجعة دستور2011، أعطى الرسالة السامية دلالة دستورية قوية تتمثل في كونها تشكل إشارة إلى كل مكونات منظومة العدالة بضرورة مراجعة الأفكار والمنطلقات لمواكبة السياقات والتحديات بهدف التنزيل الحقيقي والفعلي للضمانات الدستورية لاستقلال السلطة القضائية ومن أجل المساهمة في حماية حقوق المتقاضين وضمان حسن سير العدالة وفق مقاربة شمولية غير قطاعية.
4- إن الحضور الوازن لوزراء العدل ولرؤساء المجالس العليا للقضاء ولرؤساء النيابات العامة بمختلف دول المعمور يؤكد البعد الدولي والتشاركي لموضوع العدالة، ويعطي إشارة قوية إلى كون هذه المبادرة تشكل في جوهرها مرحلة حاسمة ذات أبعاد كونية في تجاوز أزمة الثقة التي ظلت تطبع العدالة المغربية عبر السنوات الماضية، في أفق تكريس عدالة قوية مستقلة ونزيهة وذات مؤهلات عالية تجعلها قادرة على مواكبة المستجدات بكل نجاعة وفعالية.
5 – إن تنظيم الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ندوة صحافية على هامش أشغال المؤتمر يعتبر خير دليل على الرغبة الجامحة لكسر جدار الصمت، وفتح الأبواب المغلقة لإشراك المجتمع والرأي العام في تتبع واقع الممارسة القضائية وأداء المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
ثانيا: على المستوى الموضوعاتي
إن التأكيد الملكي على أن الغاية المثلى من التكريس الدستوري لاستقلال القضاء هي خدمة المواطن وخدمة التنمية، يجعل السلطة القضائية، وهي تمارس اختصاصاتها، مطالبة بأن تضع المواطن والتنمية في صلب أولوياتها وانشغالاتها،
من خلال اعتماد مجموعة من المداخل الأساسية، لا سيما ما يتعلق منها بتسهيل ولوج المتقاضين إلى القانون والعدالة، وضمان الأمن القضائي، باعتبارها دعامات أساسية لكسب الثقة وتحسين مناخ الأعمال وتشجيع الاستثمار وتحقيق التنمية الشاملة.
إن تأكيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية على كون السلطة القضائية لن تهتم بخلق الصراع مع أي سلطة أخرى، وأن معركتها الحقيقية هي سمو الحق وسيادة القانون وصون المكتسبات ومكافحة الفساد وضمان الحقوق والحريات، هي إشارة قوية ذات أبعاد دستورية وقانونية وحقوقية، وتهدف في عمقها إلى التأكيد على أن تدبير هذه المرحلة يقتضي بالدرجة الأولى التعامل مع استقلال السلطة القضائية بروح الضمانات والمستجدات الدستورية، بعيدا عن منطق الصراعات وخطاب التشكيك في القدرات وتبخيس المجهودات كشرط جوهري وأولي لإقرار عدالة يقظة قادرة على تجويد أدائها وخدماتها بكل سرعة وشفافية صونا للحقوق وضمانا للحريات.
إن تأكيد رئيس النيابة العامة على أن استقلال السلطة القضائية لا يتحقق من خلال الدساتير والقوانين وحدها، بل من خلال الممارسة والأعراف والتراكمات، هو دلالة صلبة على أن إشكالية الاستقلالية ليست في الجوهر إشكالية دستورية أو قانونية أو مؤسساتية، بقدر ما هي إشكالية ترتبط بالدرجة الأولى بالاستعداد النفسي والمهني لاكتساب القيم القضائية والمؤهلات العلمية والمعرفية الكفيلة بتحسس هذه الاستقلالية من خلال الممارسة اليومية لكافة مكونات العدالة، بعيدا عن كل التأثيرات الداخلية والخارجية بمختلف ألوانها، في سبيل التطبيق العادل للقانون لحماية حقوق وحريات المواطنين وعدم المساس بها.
إن إشارة وزير العدل إلى كون الإصلاح القضائي الذي تبنته المملكة المغربية ليس مجرد أفكار وقيم وشعارات، بل هو ممارسة يومية تعمل المملكة جاهدة على بلورته على أرض الواقع في أحسن الظروف، تنفيذا للتوجيهات الملكية السامية، يعتبر تأكيدا واضحا من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل على استعدادها الجدي للانخراط في تنزيل إصلاح منظومة العدالة وفق التوجيهات الملكية السامية، وفي احترام تام للضمانات الدستورية والقانونية.
إن توقيع وزير العدل -على هامش المؤتمر-مع عدد من نظرائه ببلدان عربية وآسيوية وأوربية مجموعة من اتفاقيات التعاون وبرامج عمل تهم المجال القضائي والقانوني، وعقد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئيس النيابة العامة مجموعة من اللقاءات مع نظرائهم في البلدان المشاركة في المؤتمر، أعطى هذا الملتقى الدولي بعده الديبلوماسي والاستراتيجي بالشكل الذي يسمح بتبادل الخبرات والاطلاع على الممارسات القضائية الفضلى خدمة للعدالة الكونية والتنمية الشاملة.
إن إسناد تلاوة إعلان مراكش إلى المدير العام للمعهد العالي للقضاء يتضمن تأكيدا على أن إنماء القدرات المؤسسية لمكونات منظومة العدالة يعد من المداخل الأساسية ذات الأولوية لتوطيد استقلال السلطة القضائية وترسيخ حكامة الإدارة القضائية لمواجهة التحديات المعاصرة، وأن تحقيق مضامين الإعلان رهين باعتماد مقاربة شاملة ذات أبعاد إنسانية متعددة، لا سيما في شقها المتعلق بخلق التوازنات المؤسساتية الكفيلة بضمان استقلال السلطة القضائية كحق من الحقوق المكفولة للمواطنين والمتقاضين في الوثيقة الدستورية.