في الحاجة للحكامة الراشدة في قطاع الشغل في المغرب”نظام تفتيش الشغل نموذجا”
ياسر الطريبق مفتش شغل.
تعتبر وظيفة مفتش شغل من أقدم الوظائف العمومية في المغرب حيث يعود تاريخ تأسيسها بموجب ظهير إلى سنة 1926 وقد عرف الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمغرب منذ ذلك التاريخ إلى اليوم مسلسلا طويلا من التحولات والتطورات الهامة التي يمكن تمييزها في ثلاث مراحل رئيسية هي:
- مرحلة إشراف المستعمر الفرنسي والاسباني على الإدارة المغربية ما بين 1926 و1956 حيث كان التشريع الاجتماعي خلالها يتسم بالتمييز لصالح الأجراء والمشغلين المستوطنين القادمين من فرنسا خصوصا على حساب نظرائهم المغاربة الأصليين.
- مرحلة ملاءمة قانون الشغل والضمان الاجتماعي مع واقع الاستقلال وإلغاء التمييز وتوسيع الترسانة القانونية في المجالين، وهي المرحلة التي امتدت منذ السنوات الأولى للاستقلال إلى سنة 2004 أي سنة إصدار مدونة الشغل، وللإشارة فإن الترسانة القانونية لتلك المرحلة كانت غزيرة جدا بالنصوص كما كانت تتميز بالتخصص في بعض المقتضيات القانونية حسب القطاعات المنتجة المقصودة بالتقنين إلا أن اتساع رقعة تلك النصوص وتفرقها جعل المشرع المغربي يفكر في توجه جديد ألا وهو تجميع النصوص القانونية في مدونة واحدة شاملة.
- مرحلة إصدار مدونة الشغل والعمل بها بدءا من سنة 2004 إلى اليوم وهي المرحلة التي عرفت تجميع النصوص القانونية المؤطرة لقطاع الشغل في مدونة واحدة مما ساهم في الرفع من قيمة العديد منها وتحسين ظروف العمل نسبيا ناهيك عن مساهمتها الكبيرة في تحقيق السلم الاجتماعي وتشجيع الاستثمار وما إلى ذلك، إلا الواقع المعاش المرتبط بتطبيق المدونة وتنفيذ مقتضياتها يفرز دائما الحاجة إلى تجويد بعض بنودها بل وحتى إعادة النظر في بعضها الآخر التي أظهر الواقع المعاش عيوبها وعدم صلاحيتها.
ويضطلع مفتشوا الشغل في المغرب طبقا لمقتضيات المادة 532 من مدونة الشغل بمجموعة من المهام الجسيمة المتمثلة في السهر على تطبيق المقتضيات التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالشغل (أي مراقبة المؤسسات الخاضعة لنفوذهم وضبط المخالفات والجنح المرتكبة)، وإجراء محاولات التصالح في مجال نزاعات الشغل، وإسداء النصح والإرشاد لصالح الفرقاء الاجتماعيين، وأخيرا إحاطة السلطة الحكومية المكلفة بالشغل علما بكل نقص أو تجاوز في القانون المعمول به في هذا المجال، مما يعني أنهم يقومون بمهام متعددة وبالغة الأهمية وضرورية لتحقيق السلم الاجتماعي وسيادة العدالة الاجتماعية ودعم الاستثمار ومصاحبة المقاولات وتوعية الفرقاء الاجتماعية أو بالأحرى تربيتهم على ثقافة القانون وتعريفهم بالحقوق والواجبات وغير ذلك، بيد أن تعدد الاختصاصات المنصوص عليها في المادة 532 وغيرها من مواد مدونة الشغل لا يجب أن يقع على كاهل موظف واحد لوحده ألا وهو مفتش الشغل، بل إن ذلك يجب أن يقع على كاهل الإدارة المكلفة بالتفتيش التي يجب عليها تطوير بنيتها وتجويدها بما يسمح بتنفيذ ما هو مناط بها بأفضل الطرق الممكنة في إطار من التخصص والتكامل داخل نفس المنظومة أو الجهاز الإداري خلافا لما سارت عليه السياسات العامة التي كانت تتكلف بتدبير هذا القطاع منذ السنوات الأولى للاستقلال إلى اليوم والتي ظلت تتعامل مع تفتيش الشغل بشكل تقليدي غير فعال يقتصر فقط على نقل التقارير الدورية التي ينجزها المفتشون في الميدان وعرضها وحتى التباهي بها أحيانا في مواجهة المعارضة والإعلام كأننا نتحدث عن إدارة تقريرية ليس إلا.
و الحال أن الإدارة المغربية تبقى دائمة الاحتياج إلى تجديد برامجها ومخططاتها بالشكل الناجع والفعال لعقلنة تنفيذ الاختصاصات والمهام الموكولة إليها، فما أحراك بجهاز تفتيش الشغل الذي يرتبط مباشرة مع التحولات الاقتصادية والديمغرافية وحتى السياسية التي تعرفها البلاد.
نعم، لقد ظل نظام تفتيش الشغل في المغرب على رتابته وجموده مدة عقود، وبالموازاة مع كل التحولات التي عرفتها بلادنا خلال تلك العقود كانت تزداد الحاجة إلى دعم الهيأة المكلفة بالتفتيش إداريا وماديا ولوجيستسكيا، فكانت المبادرة الوحيدة والمتواضعة التي تذهب في هذا الاتجاه هي المصادقة على أول نظام أساسي خاص بمفتشي في المغرب سنة 2008 (أي بعد 82 سنة تقريبا بعد تأسيس وظيفتهم) في سياق الاستجابة لواحدة من التوصيات المتضمنة في الاتفاقيتين الدوليتين للشغل رقم 81 و129، والتي تحث على ضرورة تكفل الدولة ماديا بالمصاريف والأعباء التي يواجهها المفتشون في إطار ممارستهم لمهمة المراقبة، غير أن الصيغة الكاملة التي خرج فيها النظام الأساسي تبقى في نظرنا وفي نظر جل المتتبعين صيغة ناقصة كما وكيفا بالنظر إلى كونها نصت على جل المهام التي يزاولها مفتشوا الشغل في وظيفتهم بما في ذلك خصوصا مجال المصالحة وتسوية نزاعات الشغل ومجال التوجيه والإرشاد وغيرهما دون أن يكون لتلك المهام المضافة على المراقبة أثر مادي أو تعويض على إنجازها، كما أن النظام الأساسي بصيغته الحالية أغفل جزءا أساسيا من أطر جهاز التفتيش وحرمهم من الحصول على التعويضات المخصصة لمجال المراقبة إسوة بزملائهم المفتشين، والمقصود هنا: المهندسون والأطباء المكلفين بتفتيش الشغل الذين مازالوا مستثنين من التعويضات لحد اليوم لأسباب غير طبيعية، وبالتالي فإن الحاجة أضحت ملحة اليوم لإعادة النظر في مضامين النظام الأساسي الحالي وتوسيعه ليشمل كل الأطر المكلفة بالتفتيش مع تنظيم المهام التي يزاولها المفتشون في إطار عقلاني وقابل للتطبيق دون أن يكون هنالك تضارب أو تضاد بين مهمة وأخرى رغم اختلافهما أو تناقضهما أحيانا كما هو الحال في الجمع والخلط بين الدور الرقابي الزجري والدور الاجتماعي التصالحي.
إن الأدوار التي تنجزها هيئة تفتيش الشغل في المغرب _كما هي في واقعنا الراهن وكما وردت في المادة 532 من المدونة_ تتطلب أشكالا وطرقا مختلفة لإنجازها بحيث لم يعد من الممكن في نظرنا مزاولتها من طرف موظف واحد لوحده لأن ذلك من شأنه أن يفقده تركيزه في العمل ويشتت مجهوده، فالأمر لا يتعلق بوظيفة عادية وبسيطة وإنما بمؤسسة متعددة الوظائف ومتعددة الأهداف كذلك، وبالتالي فإن التوجه الذي يجب أن نسير عليه في نظرنا لتأطير الهيأة قانونيا وإداريا هو إعداد نظام أساسي أوسع وأشمل من النظام الأساسي الحالي على علاته، مع العمل، موازاة مع ذلك، على إصلاح القطاع الإداري المكلف بتدبيرها وإعادة النظر في هيكلته الحالية التي أصبحت في نظرنا متقادمة وغير قادرة على مواكبة التطورات التي يعرفها النسيج الاقتصادية والاجتماعي المغربي، ولتحقيق هذا الأمر يمكننا الاقتداء بعديد من التجارب العالمية المتقدمة في هذا المجال من قبيل الجارة الإسبانية مثلا أو غيرها من الدول التي نجحت في تطبيق مبدأ الحكامة الرشيدة في نظام تفتيش الشغل. والمعلوم أن مبدأ الحكامة الرشيدة أو الراشدة _على الأقل_ هو واحد من أهم المبادئ أو الروافد التي يعتمد عليها راهنا لتطبيق النموذج التنموي الجديد في بلادنا بإرادة جماعية ينخرط فيها الجميع من أعلى سلطة ممثلة في الملك محمد السادس الموقر ومتجسدة في خطاباته السامية الأخيرة إلى أسفلها وأوسع قاعدتها. لكن كيف يمكننا تحقيق تلك الحكامة في نظام تفتيش الشغل على وجه الخصوص وفي الجهاز الإداري المكلف بتدبير قطاع الشغل والتشغيل والضمان الاجتماعي والحماية الاجتماعية عموما؟
إن الملاحظ في بنية الوزارة المشرفة إداريا على نظام التفتيش هو أنها تعرف تضخما كبيرا في الموارد البشرية على مستوى مصالحها المركزية مقارنة بالمصالح الخارجية رغم أن الأدوار التي تقوم بها هيئة تفتيش الشغل _وهي بالمناسبة النواة الأساسية للوزارة_ هي أدوار لامركزية وميدانية بامتياز.
بل إنها تتطلب الاحتكاك المباشر مع المواطن وإقناعه سواء كان أجيرا أو رب عمل أو ممثلا لإحدى المنظمات الاجتماعية والاقتصادية، فالوزارة تتشكل على مستوى مصالحها المركزية من ست مديريات مركزية بالإضافة إلى مصالح المفتشية العامة والكتابة العامة وديوان السيد الوزير، وهي تضم عددا كبيرا من الموظفين يتجاوز عدد مفتشي الشغل الممارسين لمهام التفتيش بالمديريات الاقليمية و”الجهوية” إن صح تسميتها بالجهوية والذي يقارب 400 مفتش في مجمل النفوذ الترابي المغربي وهو عدد قليل جدا بالنظر إلى حجم النمو الديمغرافي والبنية الاقتصادية لبلادنا، كما أن بعض تلك المديريات القديمة والمحدثة لا تقوم بأدوار مهمة في تلبية الحاجات التي يتطلبها عمل الوزارة وفي قلبها مهام نظام تفتيش الشغل حاليا. وبالتالي نعتقد أنهلا مناص من إعادة النظر في هيكلة الوزارة بشكل جذري يتلاءم مع الأدوار المناطة بها ومن ضمنها على وجه الخصوص المهام المنصوص عليها في المادة 532 من مدونة الشغل كما يجب _وبإلحاح_ تعزيز هيئة تفتيش الشغل بموارد بشرية كافية لتغطية الحاجيات النابعة من تنفيذ تلك المهام الأساسية والنبيلة مع تقسيمها إلى ثلاث هيآت متخصصة كل في مجال من مجالات تفتيش الشغل الخاضعة لإشراف الإدارة المركزية، ويتعلق الأمر بكل من جهاز المراقبة والضبط، وجهاز المصالحة والتوعية ومصاحبة المقاولات، وأخيرا جهاز حفظ الصحة والسلامة المهنيين. وهو نفس التقسيم الذي نجده مطبقا في العديد من الدول العالمية المتقدمة في هذا الميدان فيكون ذلك هو المدخل لوضع “نظام أساسي جديد لتفتيش الشغل في المغرب” من جهة ولإصلاح وزارة الشغل من جهة أخرى الأمر الذي يحتاج إلى وجود قناعة وإرادة حكومية شاملة لتطبيقه حتى لا نقول إرادة دولة مادام الأمر يتطلب تغييرا جذريا قد يكلف مصاريف إضافية في البداية لكن مردوده المادي وغير المادي سيكون أكبر وأسمى من تلك المصاريف بكثير.
وفي انتظار ذلك نرجو من المجتمع والحكومة بكل مكوناتها التفكير في هذا الموضوع وفتح نقاش جدي للخروج بهذا القطاع الحيوي من جموده وعزلته.