مجلة مغرب القانونالمنبر القانونينظام التصدي في قانون المسطرة المدنية -دراسة في ضوء مشروع ق.م.م 02.23

نظام التصدي في قانون المسطرة المدنية -دراسة في ضوء مشروع ق.م.م 02.23

عبدالعالي ناصري باحث في سلك الماستر-المدني والتجاري- كلية الحقوق – عين الشق جامعة الحسن الثاني- الدارالبيضاء

الأصل أن صدور الحكم في موضوع الدعوى، يمنع إعادة طرحه من جديد أمام القضاء، لأن من شأن السماح بإعادة طرح موضوع الخصومة القضائية أمام المحكمة عدة مرات؛ يُفقد الأحكام قيمتها القضائية، وقوتها فيما تثبته من وقائع مادية وقانونية، ويجعل التقاضي أمرا عبثاً، لذلك كان لابُد من ضَمان قيمة قانونية للحكم القضائي، من شأنها -أي القيمة المعطاة- أن تُحصنه، وتُقر له بالحجية، لأسبابه، ولما أعلنه في منطوقه باعتبار ذلك هو الحقيقة.

غير أن القضاة هم بشر يجوز في حقهم الخطأ والنسيان والسهو وهم يتفاوتون من حيث درجة الذكاء وقوة الفهم والضبط والاستيعاب، تماما كما هو الأمر بالنسبة لسائر البشر، ناهيك عن  أن المتقاضي مُرتاب بطبعه من كل الأحكام والقرارات القضائية التي تصدر ضداً عن مصلحته(1).

هذا فضلا، عن أن هذا الحكم القضائي قد تشوبه عيوب وأخطاء، تصدر عن المحكمة إما في تقدير الوقائع، أو في تطبيق القانون؛ كما أن الخصوم -حين مناقشة الدعوى- قد يفوتهم إثارة دفع، أو الاستدلال بمستند يفيدهم في الدعوى، فكان لابد من فتح منافذ أمامهم لإصلاح الخطأ وتدارك الهفوات، وذلك بإعادة طرح نزاعهم أمام القضاء من خلال الطعن في الحكم ذاته2)).

ونظام الطعن في الأحكام وتنوع درجات التقاضي ليس وليد الأنظمة المعاصرة، فقد جاء في رسالة عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- إلى أبي موسى الأشعري قاضيه على البصرة  ما يلي: ولا يمنعنَّك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل...“؛ وهكذا، يتضح أن عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- يحث قاضيه على وجوب الرجوع إلى الحق من تلقاء نفسه وإلغاء الحكم كلما تبين له خطأه؛ وهو ما يدل بمفهوم الموافقة على وجوب قبول الطعن في الحكم من المتضرر منه.

ويمكن تعريف طرق الطعن بكونها تلك الوسائل التي وضعها القانون رهن إشارة المتقاضين، والتي تمكنهم من عرض النزاع الذي صدر فيه مقرر قضائي سواء على نفس الجهة القضائية التي سبق لها البت فيه أو محكمة أخرى بغية تعديله.(3)

وقد استقر فقه الإجراءات -ومعه المشرعون في أغلب الدول المتمدنة- إلى تقسيم طرق الطعن في الأحكام إلى طرق عادية وتشمل التعرض والاستئناف، وإلى أخرى غير عادية، وتشمل التماس إعادة النظر وتعرض الغير الخارج عن الخصومة والطعن بطريق النقض.

ومن المسلم به أن وظيفة الطعون تكمن في إعادة طرح النزاع أمام محكمة أعلى درجة للبت فيه من جديد، وذلك قصد إصلاح العيوب والأخطاء التي تكون قد شابت قضاء الدرجة الأدنى؛ وفي حالة  قبول الطعون وإلغاء الحكم، كان على المحكمة أن تحيله الملف إلى نفس المحكمة التي سبق لها البت فيه وهي مشكلة من هيئة جديدة أو محكمة أخرى من نفس الدرجة.

غير أن الأصوات تعالت ونادت بضرورة إدخال تعديل على هذا الهدف -أو الوظيفة-، قصد إعطاء الطعن بالاستئناف والنقض وظيفة جديدة تقوم إلى جانب الوظيفة التقليدية، وترمى إلى جعلهما وسيلتان لإنهاء النزاع دون الحاجة للعودة مرة ثانية إلى محاكم الأدنى درجة، وهو ما استجابت له التشريعات المسطرية من خلال ابتداعها لنظام التصدي.(4)

و يقصد بنظام التصدي تعرض محكمة الطعن لجوهر النزاع وبتها فيه بصفة نهائية؛ وقد اثار نظام التصدي جدلا فقهيا وقضائيا على مستوى تطبيقه في غياب ضوابط معينة تحدد كيفية إعماله، ليس فقط في المغرب، وإنما في جل الدول الدولة التي خصته بالتنظيم، إذ تعود جذوره التاريخية إلى الثرات القضائي الفرنسي القديم، وقد كرسه المشرع الفرنسي في قانون المسطرة المدنية الجديد، ومنه انتقل إلى باقي التشريعات الأخرى ومنها التشريع المغربي.

وتناول المشرع نظام التصدي في ظل ق.م.م الحالي في فصل وحــــــ ــــــــــــــــــيد، وهو الفصل 146 من ق.م.م فيما يتعلق بتصدي محاكم الاستئناف.

انطلاقا مما سبق نطرح الاشكال التالي: إلى أي حد ساهم مشروع قانون المسطرة المدنية في تجاوز الاشكالات التي يثيرها نظام التصدي؟

ولمقاربة الموضوع والاجابة عن الاشكال المطروح، ارتأينا تناول الموضوع من زاويتين؛ الأولى تتعلق بحق التصدي أمام محاكم الموضوع (المطلب الأول)، فيما سنخصص (المطلب الثاني) لحق التصدي أمام محكمة النقض.

المطلب الأول: نظام التصدي أمام محاكم الموضوع

كما تدل على تسميته، يدخل حق التصدي ضمن خانة السلطات التي تتوفر عليها محكمة الاستئناف أكثر من دخوله ضمن الآثار الناتجة عن ممارسة هذا الطعن؛ ويجد هذا الحق سنده القانون في مقتضيات الفصل 146 من ق.م.م الحالي (الفقرة الأولى) غير أن الفصل المذكور تعرض لمجموعة من الانتقادات، لذلك عمل المشروع على إدخال بعض التعديلات (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تصدي محاكم الاستئناف في ظل القانون الحالي

أخذ المشرع المغربي بهذا النظام في ظل قانون المسطرة المدنية القديم لسنة 1913 بمقتضى الفصل 236 منه، مجيزًا لمحكمة الاستئناف حق ممارسته كلما ألغت الحكم المطعون فيه وكانت القضية جاهزة للبت فيها، كما أن قانون المسطرة المدنية لسنة 1974 حافظ عليه لكنه جعل منه واجبا وفرضه على محكمة الاستئناف عند توفر شروطه(5)، حيث أفرد له الفصل 146 من نفس القانون الذي ينص على أنه: «إذا أبطلت أو ألغت غرفة الاستئنافات بالمحكمة الابتدائية أو محكمة الاستئناف الحكم المطعون فيه، وجب عليها أن تتصدى للحكم في الجوهر إذا كانت الدعوى جاهزة للبت فيها».

ولقد سلك المشرع المغربي نهج نظيره الفرنسي وذلك بسنه لنظام التصدي بالنسبة لمحاكم الدرجة الثانية، وإن كان قد اختلف عنه في تحديد طبيعة هذا النظام، إذ أن المشرع المغربي جعل منه واجباً(6) والتزاماً، بينما جعله التشريع الفرنسي(7) مجرد حق أو رخصة يمكن لمحكمة ثاني درجة ممارسته أو لا(8)؛  وهو ما يستفاد من مقتضيات الفصل 146 من ق.م.م والذي جاء فيه “إذا أبطلت أو ألغت غرفة الاستئنافات بالمحكمة الابتدائية أو محكمة الاستئناف الحكم المطعون فيه وجب عليها أن تتصدى للحكم في الجوهر إذا كانت الدعوى جاهزة للبت فيه”.

ويتيح هذا النظام لمحكمة الاستئناف إمكانية التصدي والبت في كل المسائل المرتبطة بالنزاع إذا ما اعتبرت أنها تتوفر على علم بكافة العناصر الضرورية لذلك؛ ناهيك على أن هذه الإمكانية تساعد على سرعة في  حسم المنازعات وتستجيب لاعتبارات الاقتصاد في الإجراءات والنفقات؛ وفي الحالة المقابلة فإنه يتعين على محكمة الاستئناف أن تكتفي بعد إلغاء الحكم المطعون فيه، بإرجاع الملف لمحكمة الدرجة الأولى التي سبق لها البت فيه.

ومما سبق نستشف أن ممارسة نظام رهين بتحقق بعض الشروط هي:

أ) إبطال أو إلغاء الحكم المطعون فيه

بالرجوع لمقتضيات الفصل 146 من ق.م.م نجدها تنص على ما يلي: إذا أبطلت أو ألغت محكمة الاستئناف…”، وهو ما يعني بمفهوم الموافقة أن حق تصدي رهين بضرورة قيام محكمة الاستئناف بإلغاء أو إبطال محكمة الاستئناف للحكم المطعون فيه؛ والجدير بالتذكير أن المشرع قد أضاف بمقتضى الفصل 146 من ق.م.م مصطلح إبطال الحكم، بعدما أن كان مقتصر في الفصل 236 -القديم- على حالة الإلغاء فقط.

عموما فقد ورد مصطلح الإلغاء والإبطال الحكم في مواضيع كثيرة ومتفرقة؛ فيما يتعلق بجزاء الإبطال فقد يلحق كل حكم جاء مخالفا لمقتضيات الفصل 50، أو غير محترم لحقوق الدفاع كما هو شأن الفصل 40 من ق.م.م؛ أما فيما يتعلق بالإلغاء فإن قد يترتب عن الخطأ الذي يرتكبه القاضي وهو يقوم بتأويل الوقائع، كما قد يكون سبب الإلغاء راجع إلى خطأ القاضي في تطبيق القاضي النص على القانوني على الوقائع.

ولقد أثارت عبارةالحكم المطعون فيه سالفة الذكر و المتضمنة في صلب الفصل 146 من ق.م.م. نقاشاً فقهياً كبيراً بخصوص معناها، فهل المقصود بها كل حكم ابتدائي مستأنف حتى ولو كان فاصلاً في الموضوع؟ أم أن الأمر قاصر فقط على الحكم البات في شكل الدعوى دون موضوعها، إنسجاماً مع وظيفة نظام التصدي الذي يلزم محاكم ثاني درجة بالبت فيها لم يفصل فيها ابتدائياً، وهو الأمر الذي سيفرض علينا ضرورة طرح التساؤل التالي: ما هي نوعية الأحكام المطعون فيها القابلة للتصدي؟؟

إذ أن هناك حالات يقدر فيها البعض أن تصدي محكمة الاستئناف لموضوع الدعوى يشكل إضرارا بالمستأنف. والمثل على ذلك كون المدعي استأنف الحكم القاضي بعدم قبول دعواه على الحالة أو شكلا …. فرأت محكمة الاستئناف أن الدعوى مستوفية لشروط صحتها وقبولها، فألغت الحكم الابتدائي، وقدرت أن الدعوى في موضوعها أي بالنسبة للحق المطالب به منتهية إلى الرفض(9).

فهل يمكنها أن تتصدى للموضوع وتقضي برفض الدعوى؟ أم عليها أن تحيل الملف على المحكمة الابتدائية، اعتمادا فقط على أن تصديها للموضوع برفضه في جوهره يمثل إضرارا بالمستأنف.

سبق القول أن عبارة الحكم المطعون فيه المضمنة في مقتضيات الفصل 146 من ق.م.م. هي عبارة فضفاضة، تشمل كل الأحكام القضائية المطعون فيها بالاستئناف سواء فصلت في شكل الدعوى فقط أو في موضوعها، غير أنه وباستحضار مجال الفصل المتضمنة فيه وهو الفصل المنظم لنظام التصدي تجعلنا نفسر هذه العبارة تفسيراً ضيقاً مستبعدين الحكم الفاصل في موضوع الدعوى والذي يفصل فيه قاضي ثاني درجة استناداً إلى الأثر الناقل للاستئناف عكس المشرع الفرنسي الذي كان دائماً ميالاً سواء في ظل الفصل 470 من ق.م.م (القديم) أو المادة 568 من ق.م.م (الجديد) إلى تحديد الأحكام القضائية المستأنفة القابلة للتصدي.(10).

ومن هذا المنطلق فإن الأحكام القضائية المطعون فيها بالاستئناف هي الفاصلة في شكل الدعوى فقط، كما هو الشأن بالنسبة للأحكام الفاصلة في الدفع بعدم الاختصاص، أو تلك الصادرة بعدم قبول الدعوى وهو ما أكده قضاء النقض في إحدى القرارات الصادرة عنه، حيث جاء فيه:”…إن مقتضيات الفصل 146 الواردة بصيغة الوجوب تعني أن على محكمة الاستئناف أن تتصدى للحكم في جوهر الدعوى، إذا كانت جاهزة، دون تمييز بين ما إذا كان الحكم الابتدائي بت في الموضوع، أم اقتصر على التصريح بعدم قبوها“(11).

ونخلص إلى أنه وعلى ضوء الاجتهاد القضائي الصادر في القضايا التي تهم هذه المسألة، فإنه يمكن القول بأن محاكم الدرجة الثانية لا تتوفر بخصوص ممارستها لحقها بالتصدي على سلطة تقديرية مطلقة، فالتوجه الذي تتبناه بهذا الشأن يخضع لرقابة محكمة النقض.

مقال قد يهمك :   محكمة الإحالة-إعادة مناقشتها للقضية من جديد والتقيد بالنقطة القانونية

ب) شرط جاهزية الدعوى للبت فيها

لم يوضح الفصل 146 من ق.م.م عناصر -أو ضوابط إن صح التعبير- المعتمدة للقول بجاهزية الأحكام؛ وقد حاول بعض الفقه(12) تعريف شرط الجاهزية بقوله: “بأن الدعوى تكون جاهزة للبت فيها إن قام الطرفان بمناقشة موضوع الدعوى وقدما ما لديهما من أدلة أو حجج سواء حصل ذلك ابتدائيا أو استئنافيا، وفي جميع الأحوال، فإن شرط الجاهزية يخضع للسلطة التقديرية المحكمة الاستئناف، إلا أن هذه السلطة ليست مطلقة لكونها تخضع لرقابة محكمة النقض.

لكن لا مناص من القول أنكون الدعوى جاهزة للبث فيهاهو واقع أو مفهوم لا علاقة له باستيفاء أو عدم استيفاء تحقيق الدعوى، أو إجراءات التحقيق فيها، التي يمكن الأمر بها تمهيدا للفصل في موضوعها، فهذه الإجراءات، وهي ليست حكرا على المحكمة الابتدائية تأمر بها محكمة الدرجة الثانية نفسها، كلما رأت ضرورة لذلك؛ إذن لا يمكن تصور مفهوم جاهزية الدعوى للحكم، في استيفائها للإجراءات المسطرية، أو إجراءات التحقيق، بل هذا الأمر -وهو جاهزية الدعوى للحكم في موضوعها- له بعد آخر، يتعذر حصره في نص قانوني(13).

وفي هذا الصدد جاء في قرار صادر عن محكمة النقض(14)جاء فيه: إن المهم هو حصول مناقشة في الجوهر ووقوع تبادل للمذكرات سواء تم ذلك ابتدائيا أو استئنافيا لأن المهم هو حصول هذه الجاهزية قبل صدور قرار محكمة الدرجة الثانية.

وجاء في قرار آخر صادر عن نفس المحكمة(15) “لكن حيث إن محكمة الاستئناف لما ألغت الحكم المستأنف وتصدت للبت في موضوع الدعوى بعدما ثبت لديها ما عابه المستأنف على الحكم المستأنف، ومما ثبت لديها مما أدلى به الطرفان ابتدائيا، فإنها تكون قد طبقت مقتضيات الفصل 146 من قانون المسطرة المدنية المحتج به تطبيقا سليما لا سيما وأن اعتبار الدعوى جاهزة للبت فيها أم لا يخضع لتقدير محكمة الاستئناف دون تمييز بين ما اذا كان الحكم الابتدائي بت في موضوعها أم اقتصر على التصريح بعدم قبولها شكلا باعتبار أن كون الدعوى جاهزة أمام محكمة الدرجة الثانية ليس هو بت محكمة الدرجة الأولى في موضوعها، وباعتبار أن نظام التقاضي على درجتين لا يعني وجوب الحكم في موضوع الدعوى خلال مرحلتي التقاضي معا، وما بالوسيلة على غير أساس“.

وعلى هذا الأساس نستنتج إن محكمة النقض رغم تأكيدها على ضرورة جاهزية القضية، إلا أنه مع ذلك أشارت إلى أن تقدير تحقق هذه الجاهزية من عدمها الأمر موكول فيه للسلطة التقديرية لمحاكم الاستئناف ولا رقابة عليها في ذلك، وأنه في مقابل ذلك لا يسمح لمحكمة ثاني درجة باللجوء إلى إجراءات التحقيق إلا عند نقل النزاع بناء على الأثر الناقل للاستئناف، أما بخصوص حق التصدي، فإن هذه الأخيرة لا يسمح لها بهذه الإجراءات. على اعتبار أن في ذلك دليل على عدم جاهزية الدعوى.

وعلى حد تعبير أحد الفقه(16)، محكمة النقض اتخذت موقفا متشددا بخصوص ضرورة جاهزية الدعوى للبت فيها، حيث غالبا ما تعبر عن تحقق هذه الجاهزية بالتوفر على كافة العناصر الضرورية التي تسمح لها بالبت في القضية أو على ما ثبت لديها مما أدلى به الطرفان، أو بما تبين لها من أن الدعوى جاهزة للحكم.

الفقرة الثانية: موقف مشروع ق.م.م من نظام التصدي

من المعلوم أن المشرع المغربي عمل في اطار الأوراش الكبرى التي اعلنتها وزارة العدل على تحديث الترسانة القانونية بما يتماشى و تحقيق الأمن القانوني والقضائي للمواطن بصفة عامة والمتقاضي بصفة اخص، ولعلى من ابرز القوانين التي غرفت تعديلا بهذا الخصوص قانون المسطرة المدنية باعتباره القانون الإجرائي أو الشكلي الذي يجعل مختلف القوانين الموضوعية في حركة، و نظرا لتزايد التضاربات الفقهية في مختلف فصول قانون المسطرة المدنية عمل مشرعنا المغربي، الى محاولة ايجاد بعض الحلول التشريعية لهذه التضاربات، ولعلى ابرز المواضيع التي لحقها التعديل في ظل مشروع قانون المسطرة المدنية ما يتعلق بموضوعنا، وهو تصدي محاكم الموضوع -الاستئناف- حيث عمل المشرع على إدخال بعض التعديلات على الفصل 146، وذلك بعد الانتقادات التي تعرض لها الفصل المذكور، وإن كانت التعديلات التي لحقت الفصل 146 بسيطة؛ حيث تم الاحتفاظ بشرط ابطال إلغاء  أو ابطال الحكم فيه الطعون فيه (أولا) مع التخلي على شرط الجاهزية (ثانيا).

أولا: إبقاء مشروع ق.م.م على شرط إبطال الحكم أو إلغائه

خلافا لما عليه ق.م.م الحالي الذي ينص في المادة 146 منه على ما يلي: “إذا أبطلت أو ألغت غرفة الاستئنافات بالمحكمة الابتدائية أو محكمة الاستيناف الحكم المطعون فيه وجب عليها أن تتصدى للحكم في الجوهر إذا كانت الدعوى جاهزة للبت فيها”؛ تنص المادة 221 من مشروع ق.م.م على ما يلي: “إذا أبطلت أو ألغت محكمة الدرجة الثانية الحكم المطعون فيه *وجب عليها أن تتصدى للحكم في الجوهر*”.

إن أول ملاحظة يمكن ابداءها هي أن المشروع احتفظ بشرط بضرورة إبطال محكمة ثاني درجة للحكم الابتدائي المستأنف أو إلغائه هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن صياغة المادة 221 من المشروع تبقى أكثر دقة من الفصل 146 من القانون الحالي، وذلك لاستعمالها المشروع مصطلح “محاكم ثاني درجة” بدل مصطلح “محكمة الاستئناف” التي يمكن أن يفهم منها أن الاستئناف قاصر على محكمة الاستئناف العادية، دون نظريتها محاكم الاستئناف  التجارية ومحاكم الاستئناف الادارية.

غير أنه رغم التعديل مقتضيات الفصل 146 بمقتضيات المادة 221 من مشروع ق.م.م فإن عبارة الحكم المطعون فيه لازال يكتنفها الغموض، وهنا عدنا مجددا إلى إشكالات الفصل 146 من ق.م.م الحالي.

فما المقصود إذن بعبارة الحكم المطعون فيه الواردة في المادة 146 من مسودة المشروع؟ فهل تقتصر على الحكم البات في الاختصاص أو في الشكل أم تشمل حتى الأحكام الباتة في الجوهر؟

وعليه نقترح أن تعاد صياغة هذا الفصل بشكل يصبح وفقه واضح الألفاظ والمعاني على حد سواء، مع أخذ كون محاكم الاستئناف محاكم تتصدى بقوة القانون لأنها درجة ثانية من درجات التقاضي.

ثانيا: إلغاء مشروع ق.م.م لشرط جاهزية الدعوى

يعتبر إلغاء شرط جاهزية الدعوى من أهم ما جاءت به مسودة مشروع ق.م.م بخصوص نظام التصدي، والمقصود بهذا الشرط حسب جانب من الفقه : “أن يكون الطرفان قد ناقشا الجوهر أو قدما ما لديهما في الموضوع سواء حصل ذلك ابتدائيا أو استئنافيا لا فرق بين الحالتين”.

وإلغاء شرط الجاهزية سبق أن عرفه التشريع الفرنسي بموجب مرسوم 1972؛ فشرط الجاهزية في التشريع بدوره قد عرف تطوراً كبيراً فبعد أن كانت المادة 473 من ق.م.م فق تستلزم ضرورة كون القضية جاهزة للبت فيها الممارسة محكمة ثاني درجة لحقها في التصدي جاءت تعديلات قانون سنة 1942 لتلين من صرامة هذا الشرط عندما نصت على أن المحاكم ثاني درجة التصدي عندما يكون النزاع قابلاً في مجموعه لحل نهائي إلى أن استقر موقف المشرع الفرنسي على إلغاء هذا الشرط بمقتضى مرسوم 1972 عندما قضى أن محكمة ثاني درجة لها أن تتصدى إذا رأت أنه من حسن سير العدالة إعطاء حل نهائي للنزاع مع منحها حق اللجوء إلى إجراءات التحقيق عند الحاجة، وهو الأمر الذي تم تقنينه بمقتضى المادة 568 من مسطرة 1974.

وإلغاء شرط الجاهزية يدفعنا لطرح تساؤل مفاده: مدى انعكاس شرط الجاهزية على سلطات محاكم ثاني درجة في تجهيز الملف؟؟

قبل الجواب على هذا التساؤل وفق المشروع، فنتقدم بالقول أن مقتضيات الفصل 146 من ق.م.م لا تسعف محاكم الاستئناف للجوء لإجراءات التحقيق، هو ما يعني بمفهوم المخالفة أن ذلك قدم تم في المرحلة الابتدائية.

وهكذا، وفي اعتقادنا أن مرد حذف شرط جاهزية الدعوى هو إنهاء الخلاف حول هذه النقطة وسداً للذرائع، وهذا حكم إلهام تعرض له المشرع صراحة في مشروع ق.م.م ليمنح لمحاكم الاستئناف سلطات أوسع تخول حق للجوء إلى إجراءات تحقيق الدعوى حتى يتسنى لها تجهيز القضية.

وفي هذا السياق يرى الدكتور محمد صابر(17) أنه  “بقراءة أولية لهذه المادة – ويقصد المادة 221 من مشروع ق.م.م- يظهر أنه تم الاستغناء عن شرط الجاهزية ومن تم فإن محكمة الدرجة الثانية تكون ملزمة بالبت في الجوهر إن كان جاهزا، أما إن كان غير جاهز فيتعين عليها القيام بإجراءات التحقيق اللازمة ليصبح جاهزا للبت فيه .

وحسنا فعل المشرع بإدخاله تعديلات في هذا الجانب، لأن نظام التصدي في جوهره يتعارض مع بعض المبادئ القانونية الراسخة في الفكر القانوني، كما أن تقليص سلطات محكمة الاستئناف لما تبت استنادا إلى تقنية التصدي من شأنه الإضرار بحقوق الأطراف.

المطلب الثاني: التصدي أمام محكمة النقض

إذا تأمل المرء وظيفة محكمة النقض، فإنه يجدها وظيفة قانونية محضة، فهي محكمة قانون لا واقع، أي أن دورها يقتصر على الفصل في قانونية الأحكام المطعون فيها أمامها دون الفصل في المنازعات التي صدرت بمناسبتها هذه الأحكام (18)، وبعبارة أخرى فإن محكمة النقض تفصل في الحكم وليس في الخصومة (19)، وهي لا تفصل في موضوع الدعوى لأنها لا تعتبر درجة ثالثة من درجات التقاضي، فالقاعدة السائدة في هذه الدول هي قاعدة التقاضي على درجتين “La  règle de double degré de juridiction” ولكن وظيفة محكمة النقض في بعض الدول الأخرى قد تتجاوز ذلك، ولا يقتصر دور هذه المحكمة على مجرد مخاصمة الحكم النهائي المطعون فيه أمامها، بل تفصل في خصومة الطعن من حيث الواقع والقانون شأنها في ذلك شأن قاضي الموضوع (20).

ومن حيث وظيفة محكمة النقض، فإنه يمكن رد الأنظمة القضائية بشأن الوضع القانوني المحكمة النقض إلى نظامين أساسيين (21)، النظام الأول بمقتضاه لا تعتبر محكمة النقض درجة ثالثة من درجات التقاضي وينحصر اختصاصها في مراقبة مدى مطابقة الحكم المطعون فيه للقانون دون بحث في مسائل الواقع التي تعتبر من اطلاقات قاضي الموضوع، مثل فرنسا (22) ومصر(23) وبلجيكا(24).

والنظام الثاني وفقاً له تعتبر هذه المحكمة درجة أخيرة من درجات التقاضي ، وهي تفصل في الواقع والقانون، مثل انجلترا (25) وكندا، والولايات المتحدة الأمريكية (26).

مقال قد يهمك :   محكمة النقض: زواج الأم الحاضنة لا يسقط حضانتها عن طفلها المريض

أما عن موقف المشرع المغربي، فسنبحث في (الفقرة الأولى) على ما كان عليه في القانون الحالي والقانون الملغى؛ على أن نبحث (الفقرة الثانية) عن موقف مشروع ق.م.م.

الفقرة الأولى: نظام التصدي أمام محكمة النقض ليس وليد مشروع ق.م.م

إن نظام التصدي أمام محكمة النقض لم يكن وليد مشروع ق.م.م، بل تم النص عليه في قانون المسطرة المدنية الصادر بتاريخ 28 شتنبر 1974  والذي ألغى الفصل 23 من الظهير المؤسس للمجلس الأعلى وأحل محله الفصل 368 و 369 من ق.م.م لسنة 1974.

وهكذا، فقد جاء في الفصل 368 من ق.م.م ما يلي:إذا نقض المجلس الأعلى الحكم المعروض عليه، واعتبر أن يتوفر على جميع العناصر الواقعية التي ثبتت لقضاة الموضوع بحكم سلطتهم تعين عليه اعتبار لهذه العناصر وحدها التي تبقى قائمة في الدعوى، التصدي للقضية والبت فورا في موضوع النزاع أو في النقط التي استوجبت النقض“.

  وفحوى هذا النص يتلخص في أن للمجلس الأعلى حق تصدي، متى توافرت الشروط التالية؛ الأول: أن يتم نقض المقرر المعروض على المجلس الأعلى أنذاك، وهذا ضابط بديهي، ففي حالة قضت محكمة النقض برفض الطلب أو قضت بعدم القبول، فلا مجال للحديث عن حق التصدي.

الشرط الثاني: ويتمثل في ضرورة التوفر على العناصر الواقعية التي تبثت لقضاة الموضوع، وهذا أيضا ضابط بديهي (ومهم) ومرد هذا الشرط إلا أن نظام التصدي، بالكيفية التي يمارس بها من طرف المجلس الأعلى في إطار الفصل 368 من ق.م.م يختلف اختلافا جوهريا عن نظام التصدي الممارس من طرف محاكم الاستئناف في إطار الفصل 146 من ق.م.م؛ (27) فنظام التصدي وفق الفصل 368 من ق.م.م (القديم) يبقى من طبيعة خاصة حيث إن إعماله مرهون بكون القضية جاهزة للحكم، أي لا تتطلب بحثا إضافيا أو تحقيقا جديدا أو استخلاصا جديدا للوقائع، وعليه، فإذا ظهر لقاضي النقض، أن القضية غير جاهزة للحكم، أي لم تستوف كل عناصر الحكم فيها، امتنع قطعا على المجلس الأعلى استعمال السلطة التي خولها له المشرع من خلال مقتضيات الفصل 368 من ق.م.م (القديم) لأن شروطها لم تتحقق (28).

ونلفت الانتباه إلى أن نظام التصدي بالكيفية المنصوص عليها بالفصل 368 من ق.م.م منظم في جل التشريعات، حيث أن التشريعات لم تنأى عن الأخذ به؛ فقد نصت كل من المادة 269 من قانون المرافعات المدنية المصري (29) والفقرة الثانية من المادة 627 من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي الجديد (30) على أن لمحكمة النقض أن تتصدى للنزاع والفصل فيه إذا كانت وقائعه صالحة لذلك، أي لا يحتاج إلى أي تدخل إضافي يرتبط بالوقائع. وفي نظرنا أن مرد أخذ أغلب التشريعات المقارنة بنظام التصدي يتمثل في الاقتصاد في الإجراءات وسرعة البت في المنازعات.

أما فيما يتعلق بالتشريع المغربي، فإن هذا التنصيص لم يلقا نجاحا -وإقبالا كبيراً- وذلك -وحسب وجهة نظر المناهضون له (31)- نظرا للطابع الخاص الذي يميز محكمة النقض لكونها محكمة قانون، على خلاف ما إذا تعلق الأمر بمحكمة الدرجة الثانية التي تنشر الدعوى أمامها من جديد بجوانبها الواقعية والقانونية (32).

وعلى حد تعبير أحد الفقه (33)، فإن نظام التصدي بالكيفية التي نظم بها من طرف المشرع المغربي، لا ينال قطعا من وظيفة المحكمة النقص، باعتبارها محكمة قانون لا محكمة واقع. فعندما يتصدى قضاء النقض المغربي للنزاع، فإنه لا يعيد النظر في القضية، وإنما يقوم فقط بإرساء حكم القانون بكيفية سليمة على وقائع ثابتة، فهو يقتصد الإجراءات فقط لأن نشاطه لا يتعدى نشاط محكمة الإحالة عندما تؤمن بتطبيق قاعدة قانونية عوض أخرى، أو أن تقوم بإعمال التأويل الذي تقوم به محكمة النقض. وبالإضافة إلى ما سبق، فإن الفقه الأجنبي لم يتعرض بشدة على نظام التصدي كما اعترض عليه البعض عندنا.

عموما فقد تم إلغاء الفصل 368 من ق.م.م بالقانون رقم 04.82 الصادر في 24 نونبر 1986 والذي لم يدخل حيز التنفيذ إلا بالظهير رقم 1/87/16 الصادر في 10 شتنبر 1993.

ونشير في الأخير لأنه وخلافا للمادة المدنية، فقد نصت المادة 17 من القانون رقم 03-80 المحدث لمحاكم الاستئناف الإدارية على أنه:

يمكن للمجلس الأعلى عند التصريح بنقض قرار صادر في دعوى الإلغاء بأن تتصدى للبت إذا كانت القضية جاهزة“.

ومن الملاحظ أن التصدي في إطار النص أعلاه، ليس وجوبيا، وهو يقتصر على النقض المرتبط بدعوى إلغاء قرار إداري بسبب الشطط في استعمال السلطة لا غير(34).

الفقرة الثانية: تصدي محكمة النقض وفق مشروع ق.م.م

خلصنا فيما سبق إلى أنه و منذ أن تم إلغاء مقتضيات الفصل 368 من قانون المسطرة المدنية لم يعد بإمكان محكمة النقض أن تتصدى للنزاع، وتبعا لذلك فإن هذه المحكمة يتعين عليها في حالة نقض القرار المطعون فيه وإلغاؤه إحالته على نفس المحكمة التي سبق لها البت أو محكمة أخرى من نفس الدرجة لتقوم بالبت فيه من جديد، وإذا لم تمتثل محكمة الإحالة للمبدأ الذي تم التنصيص عليه في قرار النقض، وفي حالة الطعن من جديد بالنقض في القرار الصادر عن محكمة الإحالة فإن محكمة النقض يمكنها أن تبت بغرفتين أو بكل الغرف مجتمعة، ويهدف هذا الإجراء إلى منح القرار الثاني الصادر عن محكمة النقض سلطة معنوية تفوق القرار الأول (35).

إلا أن الضرورة وحسن سير العدالة يقتضيان الرجوع من جديد إلى هذا النظام، الأمر الذي دفع المشرع إلى تكريس هذا النظام من جديد في ظل مشروع ق.م.م؛ حيث اصبح بإمكان محكمة النقض أن تتصدى للنزاع متى توافرت بعض الشروط الذي نص عليها المشروع؛ وهذه الشروط هي:

1- تحقق شرط الطعن بالنقض للمرة الثانية

ألزم مشروع بمقتضى المادة 391 من المشروع لممارسة التصدي أمام محكمة النقض، أن يكون الطعن بالنقض قد وقع للمرة الثانية، إذ تنص المادة 391 على ما يلي:

يمكن لمحكمة النقض، عند نقضها حكما أو قرار كليا أو جزئيا، أن تتصدى للبت في القضية بالشروط التالية:

أن يكون الطعن بالنقض قد وقع للمرة الثانية؛“.

ومضمون هذا الشرط أن يكون الحكم أو القرار الذي وقع نقضه من قبل محكمة النقض قد سبق وأن عرض على هذه المحكمة وقامت بنقضه؛ وهذا الشرط لم يكن منصوص عليه في الفصل 368 من ق.م.م قبل تعديله، وذلك خلافا لبعض التشريعات التي نصت على الشرط، ومنها قانون المرافعات المصري، الذي نص في الفصل 369 على ما يلي:

ومع ذلك إذا حكمت المحكمة بنقض الحكم المطعون فيه، وكان الموضوع صالحا أو كان الطعن للمرة الثانية ورأت المحكمة الحكم فيه وجب عليها أن تحكم في الموضوع“.

وهكذا، فإذا نقض الحكم وأحيلت القضية إلى المحكمة التي أصدرته ولم تلتزم هذه المحكمة بالمبدأ القانوني الذي قررته محكمة النقض أو وقع في حكمها عيب آخر من العيوب التي تدخل ضمن أسباب النقض، وطعن في الحكم بالنقض مرة أخرى، فإن محكمة النقض تقوم بعد نقض الحكم للمرة الثانية بنظر موضوع القضية، وهي تنظر الموضوع ولو كان غير صالح لنظره، أي ولو كان يحتاج إلى إجراءات أو تأكيدات واقعية لا تقوم بها إلا محكمة الموضوع، وعندئذ تقوم محكمة النقض بوظيفة محكمة الموضوع كاملة، وهي إذ تحكم في الموضوع، تكون لها جميع السلطات التي المحكمة الموضوع التي نقض حكمها، وتلتزم محكمة النقض بالمبدأ القانوني الذي قررته في حكمها السابق، على أن هذا يفترض أن الطعن بالنقض للمرة الثانية على ذات ما طعن فيه في المرة الأولى، ولهذا، فإذا اختلف الطعن الثاني عن الأول، فإن إعمال قاعدة التصدي لا يجوز، اللهم إذا ما كان الحكم صالحا للحكم فيه (36).

ونشير في الأخير إلى أن تصدي محكمة النقض لموضوع النزاع ليس أمراً وجوبيا، وذلك خلافا لما عليه الأمر فيما يتعلق بمحاكم ثاني درجة، سواء في القانون الحالي أو في المشروع.

الشرط الثاني: ضرورة توفر محكمة النقض على العناصر الواقعية للنزاع؛

لا يكفي لممارسة التصدي أمام محكمة النقض أن يطعن في الحكم أو القرار بالنقض للمرة الثانية، وإنما لابد من ضرورة توافرها على العناصر الواقعية للنزاع، وهو ما نصت عليه المادة 391 في فقرتها الثالثة ما يلي:

يمكن لمحكمة النقض عند نقضها حكما أو قرارا كليا أو جزئيا، أن تتصدى للبت في القضية بالشروط التالية:

-…؛

أن تتوفر على الجميع العناصر الواقعية التي ثبتت لقضاة الموضوع.

فهذين الشرطين متلازمين، ولا يغني أحدهما عن الآخر، وهذا يعد طبيعيا على اعتبار أن بت المحكمة في النزاع استنادا إلى تقنية التصدي يلزم أن تكون وقائع النزاع متوفرة في ملف القضية، والعناصر الواقعية المقصودة هي تلك التي سبق أن عرضت على قضاة الموضوع دون زيادة أو نقصان حتى تتمكن محكمة النقض من بسط يدها على القضية والتصدي للحكم فيها لا بصفتها محكمة النقض وإنما بصفتها محكمة تصدي (37).

الشرط الثالث: تحقق شرط جاهزية الدعوى

جاء في المادة 392 من مشروع ق.م.م “يمكن لمحكمة النقض، عند التصريح بنقض قرار صادر في دعوى الإلغاء، أن تتصدى للبت في القضية إذا كانت جاهزة“.

ويتعلق هذا الشرط بدعاوى إلغاء القرارات الإدارية، ومنه فإن شرط الجاهزية قاصر على دعاوى الإلغاء دون غيرها.

وقبل أن نختم هذه الفقرة، فإننا نشير إلى أنه تفاديا للإشكال الذي قد يطرح بخصوص مدى قابلية القرارات الصادرة في التصدي لتعرض الغير الخارج عن الخصومة عمل المشرع على تنظيم المسألة بموجب المادة 405 والتي تنص على ما يلي:

يقبل تعرض الغير الخارج عن الخصومة ضد القرارات الصادرة عند محكمة النقض في:

الطعون المتعلقة بإلغاء المقررات المنصوص عليها في البند 2 من المادة 375 أعلاه؛

القرارات القاضية بالنقض والتصدي.

خاتمة:

ختاما، يُعتبر هذا البحث محاولة من أجل تسليط الضوء على معالم هذا النظام -نظام التصدي- في ضوء المقتضيات الحالية، التي هبت بها رياح مقتضيات ق.م.م (الحالي والتي جاء بها مشروع ق.م.م)؛ وذلك في صياغة لغوية تراعي مختلف الإمكانات.

مقال قد يهمك :   صدور القانون الجديد المتعلق بالتحديد الإداري لأراضي الجماعات السلالية

وإمعاناً في نظام التصدي، ومهما كانت المآخذ التي تأخذ عليه، والذي تعزى إلى نظام التقاضي على درجتين؛ والتي إذا ما تأمل فيها المرء، سيتضح له جليا، أنها ما هي إلا نتاج الارتباك والارتجالية  فـــــــــي إصدار أحكام مسبقة؛ وما يعضد قولنا هذا، هو تبني مشرعنا المغربي من جديد نظام التصدي أمام محكمة النقض، بالرغم من الخصوصية التي تتميز بها هذه المحكمة، وأنها ليست درجة من درجات التقاضي؛ وتنظيم المشرع نظام التصدي من جديد في مشروع ق.م.م -إن على مستوى محاكم ثاني درجة، وإن على مستوى محكمة النقض- ليس عبثاً؛ وإنما مرده للمزايا الذي يوفرها هذا النظام والمتمثلة في اقتصاد الوقت والإجراءات والنفقات، وكذا السرعة على حسم النزاعات.

وهكذا، فإننا نشيد بما قام به المشرع من إعادة هيكلة نظام التصدي الذي ظلت الحاجة ملحة لإدخال تعديلات على مقتضياته، وإضافة مواد جديدة تتعلق بالتصدي أمام محكمة النقض التي نأمل أن تلق ترحيبا على مستوى القضاء.

وفي انتظار دخول مشروع ق.م.م حيز التنفيذ، وتبنيه كل التعديلات التي همت نظام التصدي لما لها من أهمية؛ فإنه لا يسعنا الآن إلا أن نردد هاذين البيتين للشهر ستاني في أواخر أيامه عندما ضاقت عليه الأرض بما رحبت الذي أنشد قائلا:

لعَمري لقد طفتُ المعاهد كلها******* وسَيَّرتُ طرفي بين تلك المعِالم

فلم أرَ إلا واضعاً كفٌ حَائرٍ********* على ذقْن أو قارعاً سن نادِم.


الهوامش:

  • 1) محمد الكشبور: النقض المدني الجزئي -دراسة مقارنة-، مطبعة النجاح الجديدة (CTP) – الدارالبيضاء؛ الطبعة الأولى 2019، ص: 5.
  • 2) نور الدين لبــــــــــريس: نظرات في قانون المسطرة المدنية، مطبعة الأمنية -الرباط، الطبعة الأولى 2012، ص: 143.
  • 3) BOUDAHRIN ABDELLAH “les voies de recoures en matières civile” 1986; p: 215.
  • 4) محمد صابر: الأثر الناقل الاستئناف الأحكام المدنية في القانون المدني، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، وحدة التكوين والبحث في القانون المدني، جامعة القاضي عياض، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية عياض مراكش، السنة الجامعية 2009-2010؛ ص: 5.
  • 5) إلهام أقشو: التصدي ومبدأ التقاضي على درجتين، مجلة الوقائع القانونية، ع2021/12؛ ص: 13.
  • 6) والوجوب عند الأصوليون هو “ما يتاب على فعله ويعاقب على تركه”.

انظر:

  • عبدالله صالح فوزان: شرح الورقات في أصول الفقه، مكتبة دار المنهاج، ط8، الرياض 1429هـ؛ ص: 27.
  • محمد سليمان الأشقر: الواضح في أصول الفقه للمبتدئين، مطبعة دار السلف، الطبعة الثانية 1404ه/1984م؛ ص: 24.

[1]  بينما نأى المشرع المصري عن تنظيمه، و منعه احتراماً لمبدأ التقاضي على درجتين.

  • 7) بينما نأى المشرع المصري عن تنظيمه، و منعه احتراماً لمبدأ التقاضي على درجتين.
  • 8) المنصور مصطفى: نظام التصدي في قانون المسطرة المدنية المغربي، رسالة لنيل دبلوم الماستر في قانون الأعمال، السنة الجامعية 2018-2019؛ ص: 23.
  • 9) نورالدين لبريس: مرجع سابق؛ ص: 203.
  • 10) عبدالعزيز حضري: استئناف الأحكام المدنية في التشريع المغربي؛ الجزء الثاني، اثار الاستئناف، مطبعة الأمنية -الرباط، الطبعة الأولى 2009؛ ص: 274.
  • 11) قرار عدد 443 مدني بتاريخ 1999/02/26 – غير منشور.
  • 12) عبدالعزيز حضري: مرجع سابق؛ ص: 313.
  • 13) نور الدين لبريس: مرجع سابق؛ ص: 178.
  • 14) قرار عدد 1287 بتاريخ 11 يونيو، أورده عبدالعزيز الحضري، مرجع سابق؛ ص: 305.
  • 15) قرار عدد 1096 بتاريخ 2012/12/27 ملف إداري رقم 608-1-4-2011؛ أورده عمر أزوكار: المسطرة المدنية في ضوء أكثر من 1700 قرار لمحكمة النقض، دون ذكر المطبعة والطبعة؛ ص: 288.
  • 16) عبدالعزيز الحضري: مرجع سابق؛ ص: 303.
  • 17) محمد صابر: مرجع سابق؛ ص: 103.
  • 18) “Elle juge la légalité des décisions qui lui sont déférérs sans juger les litiges à l’occasion des queles ces décissions ont été prononcées”.

Jacques Boré: La cassation en matiere civile, Paris Sirey-1980, No. 1037.

  • 19) ) أحمد السيد صاوي: نطاق رقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع في المواد المدنية والتجارية، دار النهضة العربية سنة 1984، بند 1-2؛ ص: 5-6.
  • 20) أحمد مليجي: تصدي محكمة النقض للفصل في موضوع الدعوى -دراسة مقارنة- مجلة كلية الشريعة والقانون؛ جامعة الإمارات العربية المتحدة، العدد الأول؛ ص: 3-4.
  • 21) أحمد فتحي سرور:  الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية -الجزء الثالث- النقض الجنائي وإعادة النظر؛ سنة 1980، دار النهضة العربية -؛ ص: 13 وما بعدها.
  • -أحمد السيد صاوي: نطاق رقابة محكمة النقض؛ مرجع سابق؛  ص: 5-6.
  • 22) Jacques Boré: La cassation en matière civil, Paris Sirey, 1980; No. 1037.
  • 23) فتحي والي: الوسيط في القضاء المدني، دار النهضة العربية، ط1981؛ ص: 811.
  • 24) Francois Rigaux: la nature de contrôle de la cour de cassation Bruxelles 1966. No. 5. P. 10 ET S.
  • 25) Lord wilberforce: la chambre des Lords-Rev. Int. de Dr. comp. No. 1 Paris: 1978. P. 85. et s.
  • 26) Erwin, N. Griswold: la cour supréme des ETATS-UNIS. Rev. int. de Dr. comp. No. 1 Paris. 1978. P. 97. et s.
  • 27) فبينما تستطيع محاكم الاستئناف أن تعيد النظر في الوقائع وتكييفها تكييفا جديدا وتأمر بإجراءات تحقيق جديدة كالمعاينة والخبرة…، وتعطي لوسائل الإثبات قيمة ليست بالضرورة هي تلك التي أعطاها لها قاضي الدرجة الأولى، فإن المجلس الأعلى يمتنع عليه القيام بكل ذلك، إذ لا يمكنه أن يستعمل حق التصدي إلا إذا كان الأمر لا يفتقر إلى غير الرجوع إلى ملف النزاع.
  • – محمد الكشبور: رقابة المجلس الأعلى عَلى محاكم الموُضوع في المواد المدنية -مُحَاولة للتمييز بَين الوَاقع وَ القانون-، المطبعة غير مذكورة، ط2001؛ ص: 103.
  • 28) محمد الكشبور: رقابة المجلس الأعلى عَلى محاكم الموُضوع في المواد المدنية -مُحَاولة للتمييز بَين الوَاقع وَ القانون-، مرجع سابق؛ ص: 102.
  • 29) جاء في الفقرة الأخيرة من الأخير من الفصل 269 من قانون المرافعات المدنية والتجارية المصري ما يلي: “ومع ذلك إذا حكمت المحكمة بنقض الحكم المطعون فيه، وكان الموضوع صالحا أو كان الطعن للمرة الثانية ورأت المحكمة نقض الحكم المطعون فيه، وجب عليها أن تحكم في الموضوع”.
  • 30) Art. 627 (D.n. 79.941, 7 novembre, art 2). Ainsi qu’il est dit à l’article L. 131. 5 du Code de l’organisation judiciaire:

 «La Cour de cassation peut casser sans renvoi lorsque la cassation n’implique pas qu’il soit à nouveau statué sur le fond. Elle peut aussi, en cassant sans renvoi, mettre fin au litige lorsque les faits, tels qu’ils ont été souverainement constatés et appréciés par les juges du fond, lui permettent d’appliquer la règle de droit appropriée…».

  • 31) من التوصيات التي خرج بها مؤتمر المحامين بالمغرب والذي انعقد بمراكش أيام 3 و 4 يونيو 1982 المطالبة بالتراجع عن  نظام التصدي المخول للمجلس الأعلى.
  • 32) البشير بن إسماعيل: نظام التصدي: أي جديد جاءت به مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية؟، مجلة الإرشاد القانوني، ع2017/1؛ ص: 76.
  • 33) محمد الكشبور: رقابة المجلس الأعلى عَلى محاكم الموُضوع في المواد المدنية -مُحَاولة للتمييز بَين الوَاقع وَ القانون-،مرجع شابق؛ ص: 105.
  • 34) محمد الكشبور: محمد الكشبور: النقض المدني الجزئي -دراسة مقارنة-، مرجع سابق؛ ص: 173.
  • 35) جواد أمهمول: الوجيز في قانون المسطرة المدنية، مطبعة الأمنية- الرباط؛ الطبعة غير مذكورة، ص: 257.
  • 36) فتحي والي: مرجع سابق؛ ص: 906.
  • 37) البشير بن إسماعيل: مرجع سابق؛ ص: 78.

لائحة المراجع:

  • المراجع باللغة العربية:

أ: الكتب؛

  • محمد الكشبور: رقابة المجلس الأعلى عَلى محاكم الموُضوع في المواد المدنية -مُحَاولة للتمييز بَين الوَاقع وَ القانون-، المطبعة غير مذكورة، ط2001.
  • محمد الكشبور: النقض المدني الجزئي -دراسة مقارنة-، مطبعة النجاح الجديدة (CTP) – الدارالبيضاء؛ الطبعة الأولى 2019.
  • عبدالعزيز حضري: استئناف الأحكام المدنية في التشريع المغربي؛ الجزء الثاني، اثار الاستئناف، مطبعة الأمنية -الرباط، الطبعة الأولى 2009.
  • أحمد السيد صاوي: نطاق رقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع في المواد المدنية والتجارية – دار النهضة العربية سنة 1984.
  • أحمد فتحي سرور:  الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية -الجزء الثالث- النقض الجنائي وإعادة النظر؛ سنة 1980، دار النهضة العربية.
  • فتحي والي: الوسيط في القضاء المدني، دار النهضة العربية، ط1981.
  • جواد أمهمول: الوجيز في قانون المسطرة المدنية، مطبعة الأمنية- الرباط؛ الطبعة غير مذكورة.
  • نورالدين لبــــــــــريس: نظرات في قانون المسطرة المدنية، مطبعة الأمنية -الرباط، الطبعة الأولى 2012.
  • عمر أزوكار: المسطرة المدنية في ضوء أكثر من 1700 قرار لمحكمة النقض، دون ذكر المطبعة والطبعة.

ب: الرسائل والأطروحات؛

  • محمد صابر: الأثر الناقل الاستئناف الأحكام المدنية في القانون المدني، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، وحدة التكوين والبحث في القانون المدني، جامعة القاضي عياض، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية  عياض مراكش، السنة الجامعية 2009-2010.
  • المنصور مصطفى: نظام التصدي في قانون المسطرة المدنية المغربي، رسالة لنيل دبلوم الماستر في قانون الأعمال، السنة الجامعية 2018-2019.

ت: المقالات والأبحاث؛

  • إلهام أقشو: التصدي ومبدأ التقاضي على درجتين، مجلة الوقائع القانونية، ع2021/12.
  • البشير بن إسماعيل: نظام التصدي: أي جديد جاءت به مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية؟، مجلة الإرشاد القانوني، ع2017/1.
  • أحمد مليجي: تصدي محكمة النقض للفصل في موضوع الدعوى -دراسة مقارنة- مجلة كلية الشريعة والقانون؛ جامعة الإمارات العربية المتحدة، العدد الأول.

2- المراجع باللغة الفرنسية:

  • BOUDAHRIN ABDELLAH “les voies de recoures en matières civile” 1986;
  • Jacques Boré: La cassation en matiere civile, Paris Sirey-1980;
  • Jacques Boré: La cassation en matière civile, Paris Sirey, 1980;
  • Francois Rigaux: la nature de contrôle de la cour de cassation Bruxelles 1966;
  • Lord wilberforce: la chambre des Lords-Rev. Int. de Dr. comp. No. 1 Paris: 1978;
  • Erwin, N. Griswold: la cour supréme des ETATS-UNIS. Rev. int. de Dr. comp. No. 1 Paris. 1978.
error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]