مَن يمنع حق ولوج الأفراد للعدالة الدستورية؟
تُتيح جل دول العالم الفرصة للأفراد من أجل الانتصاف أمام المحاكم الدستورية، والتقدم أمامها بسؤال أو شكوى بخصوص قانون أو مقتضى تشريعي، يشكّون في تعارضه مع الدستور، حيث تسمع الشعوب لقضاتها بألاّ يطبقوا من القوانين إلا تلك التي لا تخالف الدستور، وبأن يبني القضاة الدستوريون أحكامهم على مبادئ الدستور لا على القوانين. لكن هناك دول قليلة جدا هي التي لا تسمح بهذه الإمكانية، ومنها تونس والمغرب، بعدما انضمت الجزائر إلى الدول التي نصت دساتيرها على مسألة “الدفع بعدم الدستورية”، أصدرت قانونا عضويا يخرج الآلية من النص إلى الواقع.
ولأن وصول الأفراد إلى العدالة الدستورية يعتبر وسيلة قوية لحماية حقوق الإنسان على مستوى الدستور، فإن المنظمات الحقوقية والمؤسسات الدولية ما فتئت تلحّ على تضمين الدساتير بنودا تسمح للمواطن الفرد بالوصول إلى العدالة الدستورية بصيغ متعددة، وقد استبشر الجسم الحقوقي المغربي خيرا لمّا نص الدستور المعدّل سنة 2011، على آلية الدفع بعدم الدستورية، حيث اختص الفصل 133 من المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون، الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور. بهذا التنصيص يمكن للمواطن أن ينازع في تطبيق مقتضى قانوني، في أي قضية يكون أحد أطرافها، وإذا تبين للمحكمة الدستورية أن القانون أو المقتضى التشريعي المطبق في القضية (نلحّ على توظيف عبارة “َقضية”، وسنعود لذكر السبب في نهاية المقال)، فإنها تأمر بنسخه ابتداء من التاريخ الذي تحدده في قرارها (الفصل 134 من الدستور).
وبما أن هذا الحق الدستوري، لا يمكن الاستفادة منه إلا إذا صدر قانون تنظيمي يبين إجراءاته، ويفصّل في كيفية تطبيقه، فإنه كان على الحكومة والبرلمان، المسارعة في تشريعه. لكن هذا الأمر لم يحدث لحدود كتابة هذه الأسطر، وإنما انتظر المشروع الذي قدمته الحكومة وشرّعه البرلمان حوالي ست سنوات، لكي يحال على المحكمة الدستورية، صاحبة الاختصاص الدستوري للنظر في مدى مطابقة القوانين التنظيمية للدستور.
وليس التأخير في إصدار القانون هو العائق الوحيد أمام وصول المواطنين لحقهم الدستوري، وإنما انضاف إليه عوار كبير في مضمون المشروع، وكأن البرلمان يفتقد للكفاءات التي في مقدورها صياغة قانون يُخرج الآلية من التنصيص الدستوري إلى الممارسة العملية. وهكذا لما أحيل مشروع القانون التنظيمي رقم 86.15 المتعلق بشروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون، بتاريخ14 فبراير 2018، أصدرت قرارها رقم 18/70 بتاريخ 06 مارس 2018، الذي قررت بموجبه المحكمة أن العديد من بنود المشروع إما تحتاج لتفسير يجعلها دستورية، وإما أنها غير دستورية من الأصل.
وعموما، يمكن القول أن جل اعتراضات المحكمة الدستورية على مشروع القانون، كانت في محلها، ما عدا أنه كان في إمكانها الاستفادة من كفاءة أعضائها وخبرتهم، من أجل اقتراح تفسيرات أكثر نزوعا نحو تقريب المواطن من العدالة الدستورية، وتوسيع هذا الحق لكي يشمل مجالات أخرى؛ فبينما ينص البند الدستوري على حق الدفع بعدم دستورية أي قانون أو مقتضى تشريعي “أثير أثناء النظر في قضية”، فإن مشروع القانون حوّل “القضية” بشكل مجرد إلى محكمة، وجعل المحاكم هي المكان الوحيد الذي يمكن فيه للمواطنين التقدم بشكوى أمام المحكمة الدستورية، والحال أنه كان في مقدور المحكمة الدستورية أن تثير انتباه الحكومة والبرلمان، إلى أنهما غير مخولان بتضييق ما فسحَه المشرع الدستوري، لأن القضية لا تكون فقط في المحاكم، وإنما هي أشمل من ذلك، بحيث قد تكون في مختلف المنازعات (المجالس التأديبية مثلا)، وهذا ما تزخر به قضايا التجارب المقارنة. كما أن “الأطراف” الواردة في مشروع القانون، قد ضيّقت من إمكانية التوسع في اللجوء إلى آلية الدفع بعد الدستورية، وبدورها لم تعترض المحكمة الدستورية إلا على عدم جعل النيابة العامة ضمن هذه الأطراف، وقد كان في إمكانها أن توسع من الأمر لكي يشمل جهات أخرى: مؤسسة الوسيط والجمعيات الحقوقية…إلخ (تسمح العديد من دول العالم، لمؤسسات الوسيط أو ديوان المظالم أو المدافع العام أو حتى الأفراد الذين لا يتوفر فيهم شرط المصلحة الخاصة، باللجوء إلى المحكمة الدستورية من أجل التقدم بشكاوى بخصوص قوانين تنتهك حقوق الانسان).
ولأنه لا يتّسع المجال لعرض كل الملاحظات حول مضمون مشروع القانون التنظيمي وقرار المحكمة الدستورية بخصوصه، بما أن الأمر يحتاج إلى دراسة خاصة، فإننا نعود إلى السؤال الوارد في العنوان: لماذا إلى حدود اللحظة لا يوجد للمغاربة قانون تنظيمي يحميهم من رزمة من القوانين التي تخالف الدستور؟
يجوز القول إجمالا، أنه بينما غير المغرب دستوره أو على الأقل عدّله، فإن الحكومة – وفي قلبها الأمانة العامة – والبرلمان، قد عجزا منفصلين ومجتمعين عن إصدار قانون هو من صميم عملهما الذي يتقاضان عليه أجورهما وتعويضاتهما. ألم يعلم هؤلاء أن هناك مئات القوانين التي صدرت منذ عقود، منها ما هو صادر منذ أكثر من قرن، تحتاج إلى تغيير ونسخ؟
تساهم آلية الدفع بعدم الدستورية بشكل أساس في عملية تطهير القوانين من شبهة عدم الدستورية، وتساعد المشرع على تجاوز المسطرة المعقدة لتعديل النصوص، وما يقتضيه ذلك من توافقات وصراعات، يمكن تجاوزها لو توفر للمغرب قانون ينظم الشكوى الدستورية؛ المسطرة والقانون الجنائيّيْن يزخران بالقوانين التي تخالف الدستور، قوانين الجنسية والأسرة تنتمي إلى ما قبل دستور 2011 وتحتاج إلى تطهير بعض بنودها، أصبحت العديد من مقضيات ظهير الحريات العامة بعيدة عن الدستور…إلخ.
القضية الحاسمة، في نظرنا، هي التالية: لو توفرت الإرادة السياسية، لَمَا تأخر هذا القانون التنظيمي لما يقارب العشر سنوات، وإلا ما الذي يمنع الحكومة وأمانتها العامة من تدقيق القانون بناء على ملاحظات المحكمة الدستورية، والتعجيل بعرضه على غرفتي البرلمان من أجل تعديله وإقراره، ثم إعادته إلى المحكمة الدستورية. هل هو نقص في الخبرات والكفاءات أم مجرد تلكّؤ وتسويف ومماطلة؟ أم هو خوف وعدم استعداد لتطبيق بند دستوري ينص على آلية متقدمة جاءت في سياق حراك فبراير؟ هل السرعة السياسية التي دُوّن في ظلها البند الدستوري لم تعد هي نفسها السرعة التي يسير بها مغرب اليوم حتى يتم إقبار مشروع عَوّل عليه الجسم الحقوقي من أجل تصفية القوانين المفتقدة للدستورية؟
تختزن هذه الأسئلة وتختزل استغرابا قويا حول إهدار الزمن الحقوقي، والتسويف المؤدي إلى إعاقة حق ولوج الفرد للعدالة الدستورية. والحال أنه لو غلّبت الحكومة المصلحة العامة، لعرضت المشروع على البرلمان خلال الشهر الأول أو الثاني الذي تلى صدور قرار المحكمة الدستورية، ولو امتلك نواب الأمة ومستشاريها الشجاعة السياسية، لما توقفوا عن طرح الأسئلة بمختلف أنواعها على الحكومة وعلى أمانتها العامة من أجل إحضار مشروع القانون التنظيمي للبرلمان، وقد توفّرت لأعضاء البرلمان أكثر فرصة سانحة لكي يسائلوا الحكومة بهذا الخصوص، آخرها حضور الأمين العام للحكومة للدفاع عن ميزانية وزارته.