مجلة مغرب القانونالمنبر القانونيمصطفى درويش : التمييز بين حجية الأمر المقضي و قوة الأمر المقضي.

مصطفى درويش : التمييز بين حجية الأمر المقضي و قوة الأمر المقضي.

  • من إعداد : مصطفى درويش باحث في القانون الإجرائي و طرق تنفيذ الأحكام القضائية.

مقدمة :

إن القاضي يستطيع الرجوع في حكمه عندما يتعلق الأمر بنقطة قانونية مختلف فيها أو لا يوجد في شأنها نص قطعي أو عندما ينبني الحكم على غلط بين في القانون أو في الواقع أو عندما يكون الحكم ظالما غير عادل، وبعبارة أخرى فإن حكم القاضي لا يكون له من التحصين والقيمة والحجية إلا بقدر ما يتمتع به القاضي من حصانة وقيمة وحجية1، والجهة في الرأي ولو صيغ هذا الرأي في حكم تجعل من صاحبة حجة autorité وربما هذا هو المقصود من مصطلح autorité المترجم بالقوة في الفصلين 451 و 452 من ق.ل.ع وبالحجية في الفصل 450 من نفس القانون، فهذا المعنى لا يدخل ولا يتعارض مع ما يصطلح عليه بقوة الأمر المقضي به في لغة المسطرة المدنية لأن هذه القوة تستفاد من الجودة المضافة إلى الحكم على المستوى الشكلي على الأقل بسبب ما بلغه هذا الحكم من درجة في السلم القضائي غير قابل للطعن فيه بالتعرض والاستئناف والحكم القضائي هو المعنى الدقيق للأمر المقضي في عبارة “حجية الأمر المقضي”.

إذن فالأحكام التي يصدرها القضاء تكون حجة بما فصلت فيه، بمعنى أن ما جاء في هذه الأحكام يعتبر مطابقا للحقيقة، ويترتب على هذه القاعدة أن الخصوم يمنع عليهم أن يعاودوا الالتجاء إلى القضاء في شأن نزاع سبق الفصل فيه، فإذا رفع أحد الخصوم دعوى جديدة تتعلق بهذا النزاع كان للخصم الآخر أن يدفع هذه الدعوى بحجية الأمر المقضي، أي سبق الفصل فيها2، لكن الاشكال الذي يظل مطروحا هو أن العديد من الباحثين والممارسين للمهن القانونية لا يزالون يخلطون بين قوة الأمر المقضي وحجية الأمر المقضي، وسبب عدم التمييز هو الترجمة الحرفية المقتبسة من التشريع الفرنسي (أولا) ثم الإشكال الثاني يتعلق بمتى يمكن للخصوم الدفع بحجية الأمر المقضي (ثانيا).

أولا : التمييز بين حجية الأمر المقضي وقوة الأمر المقضي به

حجية الأمر المقضي l’autorité de la chose jugée تكون هذه الحجية عندما يكون القاضي محايد و الخصوم هم الذين يقدمون الأدلة، فالحقيقة القضائية مرهونة بما يقدمون من ذلك من وثائق ومستندات، ومن أجل هذا كان الحكم حجة عليهم دون غيرهم.

بمعنى اخر أن للحكم حجية فيما بين الخصوم وبالنسبة لذات الحق محلا وسببا فيكون الحكم حجة في هذه الحدود، حجة لا تقبل الدحض ولا تتزحزح إلا بطريق من طرق الطعن في الحكم، وتثبت هذه الحجية لكل حكم قطعي، أي لكل حكم موضوعي يفصل في الخصومة سواء كان هذا الحكم نهائيا أو ابتدائيا حضوريا أو غيابيا3.

و تبقى للحكم حجية إلى أن يزول، فإن كان غيابيا حتى يزول بإلغائه في التعرض، وإن كان ابتدائيا حتى يزول بإلغائه في الاستئناف، وإن كان نهائيا حتى يزول بنقضه أو بقبول التماس إعادة النظر فيه.

أما قوة الأمر المقضي به فهي مرتبة يصل إليها الحكم إذا أصبح نهائيا غير قابل للطعن بالطرق العادية، ويقبل الطعن بالطرق الاستثنائية وفي كثير من الأحيان لا يميز الباحثون بين حجية الأمر المقضي وقوة الأمر المقضي فكثيرا ما يقع الخلط بينهما في التشريع و الفقه ثم القضاء وكثيرا ما تستعمل إحدى العبارتين ويكون المقصود بها العبارة الأخرى4.

مقال قد يهمك :   جريمة الشيك بدون مؤونة بين القانون الجنائي ومدونة التجارة

فإذا كان الحكم قابل للطعن بالطرق العادية فإنه لا يحوز قوة الأمر المقضي ولكن تكون له حجية الأمر المقضي وتبقى هذه الحجية قائمة مادام الحكم قائما، حتى لو طعن فيه بالتعرض أو الاستئناف، فإذا ألغى نتيجة للطعن زال وزالت حجيته، أما إذا تأيد ولم يعد قابلا للطعن بالطرق العادية بقيت حجية الأمر المقضي، ويصبح حتما حائزا لحجية الأمر المقضي والعكس غير صحيح ويتبين كذلك أن الحكم القطعي في أدنى مراتبه التي هي مرتبة الحكم الابتدائي تكون له حجية الأمر المقضي به ولا تزول إلا بزوال الحكم.

وقد ساد التباس قديم وحديث على مستوى الاصطلاح وترتب هذا الالتباس في الترجمة الحرفية لعبارة le jugement définitif التي تستخدم في مصطلحية القانون الفرنسي باعتباره المصدر المقتبس منه بمدلولين هما: القطعي والنهائي، والحال أن من شروط حجية الأمر المقضي في هذا القانون أن يكون الحكم قطعيا définitif، فعوض أن يؤخذ هذا الشرط بمدلول العبارة الأول (القطعية) وهو المراد هنا استعمل بمدلولها الثاني (النهائية)، ومن جهة ثانية فإن التقارب في التركيب اللغوي بين لفظي l’autorité و « la force » ساهم في التداخل إذ يفيد كلاهما معنى القوة، فيبدو أنه أثناء الاقتباس الفقهي والقانوني عن فرنسا تمت ترجمة لفظ l’autorité في الشرق العربي “بالحجية” وهي تقريبية لا تفيد المراد لأنها تحتوي على معنى الحجة، التي أضيفت إلى الحكم القضائي، كما فيها مدلول القوة الثبوتية la force probante، أما المقابل الدقيق للفظ الحجية هو القوة « la force » التي تثار إذا طعن في حكم حائز لها بطريق عادي.

أما الحجية l’autorité فتثار إذا جدد طلب قضائي متحد مع طلب سبق الفصل في موضوعه، إذن فكلاهما تخدم غرضا مختلفا وتفصل في مجال مختلف، فلا تتحكم الأولى في الثانية، ولا تعد شرطا لها، وإذا أردنا التوضيح أكثر فإن “القوة” لا تعني شيئا في غياب الحجية، وبهذا يتضح الفرق بين حجية الأمر المقضي وقوة الأمر المقضي، فرق في الطبيعة وليس في الدرجة لأنهما تختلفان في الوظيفة وفي المناط.

مقال قد يهمك :   النموذج التنموي الوطني : مقومات مرتقبة للنموذج الجديد

ثانيا : الدفع بحجية الأمر المقضي والتمسك بها

يعتبر الحكم القضائي حجية على الخصوم ويمنع طرح النزاع من جديد ومتى صدر الحكم ولو كان حكما ابتدائيا غيابيا، وجب على الخصوم احترامه5.

وقد بدأ الفقه يميز بين الدفع بهذه الحجية والتمسك بها، فهما شيئان منفصلان الأول هو دفع موضوعي يهدف إلى عدم قبول دعوى جديدة، والمدعى عليه هو الذي يدفع بهذه الدعوى. أما الثاني فليس بدفع بل هو حجية الأمر المقضي دائما يتمسك بها المدعي في دعوى يقيمها هو ضد من يكون مدعى عليه في الأمر المقضي فيتمسك بها في دعوى يقيمها هو ضد من يكون مدعى عليه مثلا وقعت جريمة وصدر حكم جنائي بإدانة المتهم، فيتمسك في دعوى التعويض المدنية التي يرفعها المحكوم له بحجية الحكم الجنائي فيما يتعلق بالوقائع التي فصل فيها هذا الحكم وكان فصله فيه ضروريا، وقد يستصدر حكما من قسم الأحوال الشخصية بثبوت نية هذا المورث في مواجهة الورثة ثم يرفع على هؤلاء الورثة دعوى استحقاق لنصيبه في الإرث، فيتمسك بحجية الحكم الصادر عن قسم الأحوال الشخصية، ففي الحالتين يتمسك بحجية الأمر المقضي في حكم صدر من محكمة جنائية، وفي الحالة الثانية يتمسك بهذه الحجية في حكم صدر من محكمة مدنية أخرى، ويتحقق كذلك في المثال الآتي:

يحصل المكتري على حكم بصحة عقد الكراء في مواجهة المكري، وقبل أن يتسلم العين المكتراة يبيعها المكري إلى شخص آخر، فيرفع المكتري دعوى على المشتري يطالبه فيها بتسليمه العين، ويتمسك في هذه الحالة بحجية الحكم الصادر بصحة عقد الكراء في الدعوى السابقة6.

وتسري نتائج الحكم على الخصوم في تلك الدعوى أو من يقوم مقامهم، ولا تتناول غيرهم ممن لم يكونوا طرفا فيها، فمثلا الحكم بالحضانة لشخص ليس طرف في الدعوى غير صحيح، لكن لو حكم على عدة أشخاص وكان بينهم رابطة قانونية بسبب المدعى به اي الحق المتنازع فيه، تمنح لأحدهم ببراءة ذمته دون الآخرين، فيستطيع من لم يكن طرفا في الدعوى الاستفادة من قرار البراءة الذي حازه رفيقه الذي كان طرفا في الدعوى كما لو حكم غيابيا على الورثة بدين للمدعي في ذمته المورث، فاعترض أحدهم على الحكم الغيابي، وأثبت اعتراضه، فقبل الاعتراض، وأثبت أن مورثه قد قضى الدين قبل وفاته، فيستفيد جميع الورثة من قرار البراءة الذي استصدر أحدهم وهكذا فإن القاضي يقرر ثبوت بعض الوقائع أو نفيها دون إصدار أمر إلى الخصوم كالحكم بصحة التوقيع والحكم بصحة التعاقد.

ومن المعلوم أن حجية الأمر المقضي ليست من النظام العام في المواد المدنية بصريح الفقرة الأولى من الفصل 452 من ق.ل.ع التي جاء فيه: ” لا يسوغ للقاضي أن يأخذ بالدفع بحجية الأمر المقضي من تلقاء نفسه” كما لو تنازل الخصم عن حقه، فالدعامة الأساسية التي ترتكز عليها قاعدة حجية الأمر المقضي هي أن الأحكام عنوان الحقيقة ورمز للصواب، ولكن ليس معنى ذلك أنها تعتبر الحقيقة المجردة، بل لا يسوغ للمحكمة أن تحكم بعدم جواز النظر في الدعوى لسبق الفصل فيها من تلقاء نفسها أي بدون أن يدفع الخصم بذلك إذ أن هذا من حقه ومن البديهي أنه يجوز لكل شخص أن يتنازل عن حق اكتسبه، وفضلا عن هذا فإن الحكم الأول يعتبر سندا وليس للقاضي أن يلزم شخصا بالتمسك بسند لا يريد التمسك به.

مقال قد يهمك :   تــوقف عــقد الشغل مـــؤقتا (تعليق على قرار قضائي)

وهكذا نخلص أن حجية الأمر المقضي تسري لجميع الأحكام ذات الحجية أطرافا ومحلا وسببا، أو ما يصطلح عليه فقهاء القانون بسبقية البت في الدعوى أو سبقية الفصل، فهذه السبقية لا تقبل الدحض ولا تتزحزح إلا بطريقة من طرق الطعن في الحكم، أو كما قال الأستاذ عبد العزيز حضري7: “أن حجية الأمر المقضي به تعني أن الأمر الذي فصل فيه من طرف القضاء يكون واجب الاحترام، ولا يمكن المجادلة بشأنه من طرف الخصوم بعرض نزاع جديد أمام القضاء”.

أما قوة الأمر المقضي به فكما رأينا فتعني أن الحكم أصبح نهائيا غير قابل للطعن بالطرق العادية ومتمتعا بالقوة التنفيذية التي تفيد إمكانية تحقيق ما قرره الحكم جبرا على المحكوم عليه وبالقوة العمومية.


هوامش :

1- محمد الشيلح: ميتودولوجية القانون المدني، مقدمة لأطروحة جامعية، سنة 2010

2- إدريس العبدلاوي: وسائل الإثبات في التشريع المغربي، السنة 1977، ص: 139.

3- جمال الطاهري: حجية الأمر المقضي في المادة المدنية، دار الآفاق المغربية، الطبعة الأولى 2011، ص: 56.

4- عبد الرزاق السنهوري: الوسيط في شرح القانون المدنري، الجزء الثاني، نظرية الالتزام بوجه عام – الإثبات – آثار الالتزام، دار الشروق، مصر، طبعة 2010، ص: 595-597.

5- محمد إبراهيم البدارين: الدعوى بين الفقه والقانون، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الأردن، 2007، ص: 304.

6- ياسين محمد نعيم: حجية الحكم القضائي بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، دار العرفان، عمان، الطبعة الأولى 1984.

7- عبد العزيز حضري: استئناف الأحكام المدنية في التشريع المغربي، آثار الاستئناف، الجزء الثاني، مطبعة الأمنية، الطبعة الأولى 2009، ص: 22-23.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]