مخالفة قاعدة تخصيص الأهداف
خالد شهيم باحث في القانون العام
إذا كانت مخالفة المصلحة العامة تهوي بالقرار الإداري إلى أبشع صور عيب الانحراف في استعمال السلطة، فإن مخالفة تخصيص الأهداف لا تشترط حيادا تاما عن المصلحة العامة حتى يوصم القرار بوصمة الانحراف، إذ يظل رجل الإدارة في اتخاذ قراره، ملتزما بنطاق المصلحة العامة لكنه يحيد عن هدفه الحقيقي الذي يخفيه عن أنظار المخاطبين به لعلمه يقينا بعدم مشروعيته. و بالتالي فلا يكفي لصحة القرار أن يصدر تحقيقا للهدف العام، و إنما ينبغي أن يفصح أيضا عن الهدف الخاص الذي استدعى إصداره، حتى إذا تعذر النص على هذا الإفصاح صراحة، أمكن للقاضي الإداري الكشف عن الهدف المخصص بأي وسيلة يراها مناسبة مثل تفحص المذكرات التفسيرية، أو مراجعة الأعمال التحضيرية و ما إلى ذلك.
أمثلة من القضاء الإداري الفرنسي
ففي فرنسا صدر حكم مجلس الدولة بتاريخ 26 نوفمبر 1875 بإلغاء قرار لم يكن مقصودا به إلا رعاية المصلحة المالية للإدارة على حساب الأفراد، وذلك حينما أرادت الحكومة سنة 1872 أن تحتكر صناعة عيدان الثقاب لكي تضيف موردا جديدا للدولة، و كان هذا الإجراء يستلزم أن تنزع الحكومة ملكية المصانع القائمة في فرنسا في ذلك الوقت و التي تباشر هذا النوع من الصناعة. و لما رأى وزير المالية أن ذلك سيكلف الدولة مبالغ طائلة، قرر أن يلجأ إلى طريقة ملتوية توفر على الخزينة العامة الكثير من المبالغ: ذلك أنه جعل الإدارة تأمر، بناء على سلطة البوليس، بإغلاق المصانع التي لم تكن قد حصلت على ترخيص سليم بمباشرة أعمالها.(1)
كما أصدر في نوفمبر 1875 قرارا آخر فيما يعرف بقضية باريزيه، جاء فيه: ” من حيث أنه ثابت من إجراءات الطعن أن المدير، إذ أمر بإغلاق مصنع ثقاب السيد باريزيه بمقتضى سلطات الضبط التي يستمدها من القوانين و اللوائح الخاصة بالمنشآت الخطرة و المقلقة للراحة و الضارة بالصحة، لم يستهدف المصالح التي تستهدف تلك القوانين و اللوائح تحقيقها؛ و إنما تصرف تنفيذا لتعليمات صادرة من وزير المالية عقب قانون 2 أغسطس 1872 و في إطار مصلحة مرفق مالي للدولة، فيكون بذلك قد استعمل سلطات الضبط الثابتة له بالنسبة إلى المنشآت الخطرة أو المقلقة للراحة أو غير الصحية من أجل هدف آخر غير ذلك الذي عهدت به إليه تحقيقه، فيكون السيد باريزيه على حق في طلب إلغاء القرار المطعون فيه…” (2)
و ألغى مجلس الدولة الفرنسي قرارا آخر أصدره أحد العمد مفاده عدم خلع الملابس على الشواطئ إلا في وحدة خلع الملابس، و ذلك لأن العمدة و إن كان يملك اتخاذ الإجراءات التي من شأنها المحافظة على الآداب العامة، فإن قراره كان يهدف في الواقع إلى تحقيق مصالح مالية لبلدية المدينة التي تستفيد من وحدة خلع الملابس (3)
و في نفس الاتجاه أيضا، قرر مجلس الدولة الفرنسي في حق أحد المجالس البلدية بأنه استعمل وسيلة نزع الملكية استعمالا منحرفا يهدف أساسا إلى تحقيق الربح للقرية، وذلك حينما حاولت هذه الأخيرة أن تنشئ حيا نموذجيا تقيمه على الأرض الفضاء المجاورة للمباني القديمة، و نزعت تبعا لذلك ملكية مساحات كبيرة من الأراضي، فقسمتها و عرضتها للبيع. (4)
و صرح مجلس الدولة الفرنسي كذلك في حكم صادر بتاريخ 25 أبريل 1947 قائلا: ” وحيث إنه قد ثبت أن استيلاء الإدارة على كمية الجبن التي يملكها السيد جيوفان بناء على قرار المدير العام للتموين في مقاطعة سافوا، إنما كان يقصد به في الحقيقة توقيع عقوبة على السيد جيوفان لاتهامه بتصدير كمية من الجبن بوسائل غير مشروعة … و بناء على ذلك فإن الإدارة تكون قد استعملت سلطة الاستيلاء في غير ما أعدت له.” (5)
و من أمثلة القرارات التي ألغيت لصدورها بقصد تحقيق نفع شخصي لرجل الإدارة نذكر القرار الذي أصدره أحد العمد في فرنسا بتحريم الرقص في المراقص العامة خلال فترات معينة بحجة أن الرقص يصرف الشباب عن العمل، قبل أن يتضح لمجلس الدولة الفرنسي أن العمدة إنما أصدر هذا القرار في واقع الأمر ليس لحماية الشباب و تحقيق المصلحة العامة كما يدعي بل فقط لحماية المقهى الذي كان يملكه من منافسة هذه المراقص التي تجذب الشباب إليها. (6)
أمثلة من القضاء الإداري المصري
أما في مصر فقد قضت محكمة القضاء الإداري في هذا الشأن بأنه: ” لا يجوز اتخاذ أي من التدابير أو الإجراءات التي يجيزها الشارع لتحقيق هدف آخر مغاير للهدف الأساسي الذي قصد إليه الشارع، و لو كان هذا الهدف محققا للصالح العام بمعناه الشامل، و ذلك تطبيقا لقاعدة أصولية هي المصطلح على تسميتها قاعدة تخصيص الأهداف، و جزاء مخالفة تلك القاعدة بطلان تلك القرارات لكونها مشوبة بالانحراف بالسلطة، و الذي يتمثل في عدم احترام القرار الإداري لركن الغاية من التشريع.” كما قضت بعدم مشروعية قرار ضبط بإغلاق سوق خاصة يوم الاثنين من كل أسبوع، ليحقق رواج سوق مجلس قروي الواسطي الذي أصابه الركود، حيث خرج قرار الضبط بذلك عن الهدف المخصص لإصداره و المستفاد من طبيعة الاختصاص، و هو تحقيق النظام العام بعناصره الثلاث من سكينة أو صحة عامة أو أمن عام.” (7)
كما أصدرت المحكمة الإدارية العليا بموجب الطعن رقم 3470، لسنة 31، قضائية في جلسة 1988/2/7 قرارا بالإلغاء مما جاء فيه: «إذا لم تبتغ الإدارة بنقل العامل الصالح العام و انحرفت عن هذه الغاية و اتخذت النقل سبيلا إلى التنكيل بالعامل و إنزال العقاب به تكون قد أساءت استعمال سلطتها مما يصم القرار الصادر منها بعدم المشروعية.» (8)
و ذهبت في قرار آخر بالطعن رقم 2227،لسنة 33ق بجلسة 1992/5/9, إلى القول: «النقل من الأمور التي تترخص فيها جهة الإدارة مادام لا يترتب عليه تفويت فرصة على العامل للترقية بالأقدمية أو كان يتضمن نقله إلى وظيفة من درجة أقل من تلك التي يشغلها أو كان مشوبا بإساءة استعمال السلطة أو متضمنا جزاء تأديبيا مقنعا – العبرة فيما إذا كانت قرارات النقل تحمل في طياتها قرارات أخرى مقنعة و أنها تنطوي على جزاء تأديبي مقنع إنما تكون بما قصدت إليه الإدارة حقيقة من اتخاذها قرارها لا بما وصفت به هذا القرار من وصف مخالف للحقيقة…» (9)
وقد أكدت أيضا بموجب الطعن رقم 3928 لسنة 38، ق بجلسة 1994/2/26, على مايلي: «النقل بنوعيه المكاني و النوعي هو سلطة خولها المشرع للجهة الإدارية تجريه وفقا لسلطتها التقديرية حسبما يمليه عليها صالح العمل و مقتضياته – يجب أن يكون القرار الصادر بالنقل متضمنا تحديد الوظيفة المنقول إليها و المدرجة بهيكل الوظائف المعتمدة لهذه الجهة – أساس ذلك أن قانون العاملين المدنيين بالدولة المشار إليه قائم على أساس موضوعي في الوظيفة العامة جوهره الاعتداد باشتراطات شغل الوظيفة طبقا لبطاقة وصفها – إذا خالف قرار النقل تلك القاعدة الموضوعية فصدر بنقل العامل دون تحديد الوظيفة المنقول إليها فإنه يقع باطلا لمخالفته القانون – مثال ذلك نقل العامل بذات درجته المالية دون تحديد مسمى الوظيفة المنقول إليها.» (10)
كما قررت أيضا بموجب الطعن رقم 606، لسنة 39ق بجلسة 1995/4/22، بأنه: «يعتبر النقل من الأمور التي تترخص فيها الإدارة بسلطتها التقديرية بلا معقب عليها طالما استهدفت وجه الصالح العام – مواكبة قرار النقل لجزاء تأديبي لا ينم بذاته عن انطواء القرار على عقوبة مقنعة بحسبان أن الواقعات المشكلة للذنب الإداري قد تستوي سندا صحيحا للنقل و باعثا مشروعا على إجرائه حرصا على حسن سير العمل و انتظامه – النقل إلى جهة تزخر بالعمالة الزائدة و افصاحها عن عدم حاجتها إليه و عدم وجود درجات خالية للنقل إليها و الادعاء دون دليل بأن المنقول تعدى بالضرب على زميل له و حاول إثارة العمال و نقله بعد أن زال عنه وصف عضوية اللجنة النقابية ينهض شاهد صدق على إساءة استعمال السلطة و يصم القرار بمخالفة القانون.» (11)
أمثلة من القضاء الإداري المغربي
في حكم لها صدر حديثا عن المحكمة الإدارية بالرباط تحت عدد 313، بتاريخ 3 فبراير 2021 في الملف رقم 2020/7110/325، قضت فيه المحكمة بإلغاء قرار النقل الصادر عن مديرية الموارد البشرية بإدارة الجمارك و الضرائب غير المباشرة باعتباره جاء مخالفا لقاعدة تخصيص الأهداف من جهة أولى كما جاء منطويا على اعتبارات جعلت منه قرارا تأديبيا في باطنه من جهة ثانية، حينما نص الحكم على ما يلي: «و حيث إنه بالرجوع إلى القرار المتضمن نقل الطاعن من مديرية الجمارك لميناء الدار البيضاء و كذا ما تضمنته المذكرة الجوابية للجهة المطلوبة في الطعن يتبين أن هذه الجهة لم تحدد بدقة وجه المصلحة التي اقتضت نقل الطاعن إلى الجهة المذكورة، و إنما اكتفت بإيراد مجموعة من الأهداف التي ترمي إليها سياسة الحركة الوطنية السنوية التي تجريها الإدارة؛ و المتمثلة في الرفع من كفاءة الأعوان و توسيع مداركهم المهنية و مدهم بالوسائل المعرفية اللازمة لتمكينهم من التواصل مع المحيط الاقتصادي المتجدد، و تحسين خدمة المرفق بإعادة بإعادة توزيع الكفاءات، و تخليق المرفق العام، و تجاوز عدم التركيز و التوزيع غير المتكافئ للموارد البشرية، و لم تبين أي هدف تخاطب به وضعية الطاعن، مما تكون معه المصلحة المعتمدة غير محددة، علما أن المديرية التي تم نقل الطاعن إليها و المتمثلة في المديرية الجهوية لجهة طنجة تطوان الحسيمة، وفق ما هو ثابت من وقائع مقال الدعوى التي لم تكن محل منازعة من المطلوبة في الطعن، قد شهدت تنقيل مجموعة من الموظفين بما ينفي فرضية التوزيع غير المتكافئ للموظفين، بما يقضي إلى عدم إثبات وجود خصاص في الموارد البشرية بالجهة التي تم التنقيل إليها، الأمر الذي يكون معه تنقيل الطاعن قد حاد عن قاعدة تخصيص الأهداف المستمدة من نص الفصل 64 المذكور، هذا من جهة.
و من جهة ثانية، فإن البين من وثائق الملف أن الطاعن قد تم استفساره من طرف مديرية الجمارك لميناء الدار البيضاء بتاريخ 14 نونبر 2019، بشأن تسليمه لبعض عينات البضائع المنتقاة لبعض زملائه، و هو الاستفسار الذي أعقبه توجيه ملاحظات صارمة إلى الطاعن استنادا إلى البحث المنجز من قسم التدقيق و التفتيش المضمنة نتائجه بالتقرير عدد EQ،/56 بتاريخ 26 يوليوز 2018 ، كما هو بين من القرار D/937/20/ADII/500 بتاريخ 10 مارس 2020، الذي موضوعه “التسيير الإداري للموظفين، سيرة الأعوان: التأديب”، و أن تنقيل الطاعن جاء لاحقا بزمن يسير – يراعي في تقدير هذا الزمن الفترة الزمنية التي اقتضاها الحجر الصحي الكلي – عن توجيه هذه الملاحظات الصارمة في إطار مسطرة التأديب؛ بما يجعله متأثرا بهذه الملاحظات تأثيرا يلبسه طابع العقاب، و يبعده عن مرامي المصلحة العامة.
و حيث إنه تبعا للعلل أعلاه، و بصرف النظر عن الوسيلة المستمدة من شكلية اللغة المستعملة لعدم وجاهتها، يكون القرار الرامي إلى نقل الطاعن من مديرية الجمارك لميناء الدار البيضاء مشوبا بعيب الانحراف في استعمال السلطة، الأمر الذي يتعين معه إلغاؤه.»
و بالرغم من كون الحكم المذكور قد حالفه الصواب فيما قضى به، إلا أنه في واقع الأمر كان رحيما بالإدارة حينما عزا الانحراف إلى مخالفة تخصيص الأهداف بدل مخالفة المصلحة العامة من أساسه، مادام قرار النقل المطعون فيه قد تم إصداره بناء على الفصل 64 من قانون الوظيفة العمومية في شكل لائحة ضمت عددا كبيرا من الموظفين، وهي لائحة من شأنها أن تصبغ عليه طابعا تنظيميا أكثر منه قرارا فرديا فيما لو أفصحت الإدارة عن الباعث على النقل، و كان مرد هذا الباعث هو قضاء الموظف فترة من الزمن في مكان معين يفضي بلوغها إلى حتمية نقله، مما يكون معه الاختصاص في إصدار القرارات التنظيمية تلك منعقدا لوزير المالية بدل مدير الموارد البشرية حسبما ما أكده قرار وزير الاقتصاد و المالية و إصلاح الإدارة رقم 4184-19 الصادر في 27 من ربيع الآخر 1441 الموافق ل 24 دجنبر 2019 الذي أكد في المادة الأولى على أنه: «يفوض إلى الأشخاص التالية أسماؤهم الإمضاء أو التأشير نيابة عن وزير الاقتصاد و المالية و إصلاح الإدارة على جميع الوثائق المتعلقة بالمهام المنوطة بهم بإدارة الجمارك و الضرائب غير المباشرة ما عدا المراسيم و القرارات التنظيمية ….»
و لعل الحكمة من حصر المراسيم و القرارات التنظيمية بيد الوزير، تكمن فيما قد تحدثه من تغييرات جذرية في دواليب الإدارة مثل إحداث مراكز أو مديريات جديدة، مثلما تم تأكيده في الفصل 28 من مدونة الجمارك الذي قال: « تنشأ مكاتب و مراكز الجمرك بقرار للوزير المكلف بالمالية تحدد فيه كذلك اختصاصاتها.» و هي تغييرات لا شك تقتضي دراسة معمقة و تفكيرا جيدا في النتائج بما يخدم الصالح العام،الأمر الذي قد يستعصي على مدير الموارد البشرية تداركه في نازلة الحال بما أقدم عليه من جرأة في سن حركية انتقالية غير معلومة العواقب، قد تخلف آثارا عكسية لعل أقلها تقديرا هو طمس الشعور بالإنتماء لإدارة الجمارك و إذكاء الرغبة في مغادرتها نحو وجهة إدارية أخرى بعد أن كانت مثالا يحتدى به في التسير الإداري.
كما أن اعتبار الحركية الانتقالية قرارا تنظيميا يباشره الوزير وحده، من شأنه أن يقطع الطريق على ممارسات الفساد المفتوحة التي قد تحدث أثناء إعداد لوائح الموظفين مقابل تمكين هؤلاء من بلوغ وجهات و مناطق مفضلة، فتضيع المصلحة العامة وفقا لما تقدم و يغدو منهج محاربة الفساد على المستوى الجهوي وسيلة لتكريسه على المستوى المركزي.
و بالعودة إلى حيثيات الحكم المشار إليه أعلاه في شقيه المتعلقين بالعقاب المبطن في قرار النقل و كذا مخالفته تخصيص الأهداف، فإننا سنتولى مناقشة كل حيثية على حدة بناء على ما جاء في مذكرات الخصوم وفق ما يلي:
أولا: في القرار التأديبي المُبَطَّن
إن قراءة ما جاء في دفوع الطاعن مجتمعة، لا يمكن لها إلا أن تنهض دليلا كافيا على الانحراف في استعمال السلطة مادام قرار النقل الصادر عن مدير الموارد البشرية، قد جاء مبنيا كما يبدو، على أسس شخصية و مطبوعا بدافع الانتقام نتيجة تراكم وقائع مادية أثبتها الطاعن في النقاط التالية:
– توجيه استنكار بالبريد الالكتروني للجهة المشرفة على التكوين يستنكر من خلاله الطاعن عرض خريطة المملكة مبتورة من صحرائها، و هي الجهة التابعة لمدير الموارد البشرية المسؤول عن التنقيل، حيث تقوم إدارة الجمارك و الضرائب غير المباشرة كغيرها من الإدارات باعتماد سياسة التكوين من أجل الرفع من كفاءة أعوانها و أطرها، سواء كان تكوينا حضوريا مقررا في معهد التكوين الجمركي، أو كان تكوينا محليا داخل مقر المديرية الجهوية، أو كان تكوينا مبرمجا في شكل دروس نظرية عن بعد تشرف عليها مديرية الموارد البشرية و تخصص للراغبين في تنمية مداركهم عبر بوابة الأنترانيت الخاصة بالإدارة بعد إتاحة التسجيل فيها لمن يهمه الأمر، و هو ما جعل الطاعن يثير استنكاره حول المساس بأحد التوابث المقدسة للمملكة المشهر بها من خلال هذه الوسيلة الأخيرة في موضوع يحمل عنوان اتفاقية إسطنبول مثلما أكده في عريضة دفوعه. ثم ألم يكن حريا – على هامش ما سيق أعلاه- أن يتم اعتبار الخريطة المقسمة خطأ جسيما يستوجب مساءلة مديرية الموارد البشرية من طرف الوزير المعني خاصة في ظل ما تشهده القضية الوطنية من تطورات وصلت حد استدعاء سفراء الدول المعادية قصد التشاور، أم أن الأمر ينطوي على سلطة مطلقة تختص بها هذه المديرية في التقدير بلا معقب عليها.
– توجيه رسالة بالبريد الالكتروني إلى السلطة الرئاسية ممثلة في مدير الموارد البشرية يطالب من خلالها الطاعن بضرورة أداء اليمين تحت طائلة بطلان المحاضر التي سينجزها مستقبلا و إخلاء لمسؤوليته عن المحاضر التي سبق له أن أنجزها، حيث ينص الفصل 33 من مدونة الجمارك و الضرائب غير المباشرة على مايلي: «1- يحمل أعوان الإدارة المدعوون لتحرير المحاضر وكالة عمل ينبغي لهم أن يدلوا بها كلما طلبت منهم 2- يجب عليهم أداء اليمين طبق الكيفيات و الشروط المنصوص عليها في التنظيم المتعلق بيمين الأعوان محرري المحاضر.» و معلوم أن مراسلة الطاعن لمديرية الموارد البشرية عبر رؤسائه بطريق التدرج الإداري يحذرهم من بطلان المحاضر نتيجة تخلف شرط أداء اليمين، إنما ينم عن ضعف مديرية الموارد البشرية في التدبير و يكشف عن عيوبها في التسيير، مما يكون معه الطابع الانتقامي مرتكزا على أساس، و لا يعد إبداء الرأي أو توجيه ملاحظات من الموظف إلى السلطة الرئاسية تنكيلا بالرؤساء أو تبخيسا لهم طالما التزمت حدود اللباقة و الاحترام،حيث تقول المحكمة الإدارية العليا بمصر في هذا الأمر في القضية رقم 480، لسنة 10 القضائية لجلسة 15 ماي 1965 : «لا تثريب على الموظف في إبداء رأيه صراحة أمام رئيسه ما دام لم يجانب ما تقتضيه وظيفته من تحفظ و وقار حتى ولو كان رأيه مخالفا لرأي رئيسه.»؛
– توجيه استفسار إلى الطاعن مباشرة بعد كشفه خروقات خطيرة لمكتب المنازعات بمديرية جمارك ميناء الدار البيضاء، تستوجب مساءلة الرؤساء الذين تعاقبوا على المصلحة المشرفة على هذا المكتب منذ 15 سنة خلت، و تلفيقه تهمة تبديد عينات البضائع، و هو الاستفسار الذي ولد شعورا لدى المحكمة بصدوره كإجراء تأديبي مبطن متخذ تحت ذريعة المصلحة العامة. ذلك أن طبيعة التفتيش الجمركي لا تسمح بالحسم حالا على أرضية الميدان في مصير البضاعة التي تتعدد أشكالها، مما يلزم الاحتفاظ بجزء منها للدلالة على مواد صنعها بالقدر الذي يتيح تصنيفها التصنيف الصحيح ضمن النظام المنسق للتعريفة الجمركية، و تحديد قيمتها كأساس لا غنى عنه لتصفية المكوس و الرسوم. و معلوم أن عينات البضائع هذه لا يجري اقتطاعها إلا في حدود المعقول و وفق الكميات المستوردة، أما البضائع من الآلات و الأجهزة فلا يستقيم الاحتفاظ بعينات منها لتوفرها من جهة أولى على دليل يسمح بتحديد مواصفاتها المتطلبة قانونا، و مراعاة لكلفة بعض القطع أو العينات من جهة ثانية.
– إجبار الطاعن على إخلاء المسكن المملوك للجمعية الجمركية بالدار البيضاء و الذي تشرف على تسييره مديرية الموارد البشرية بإدارة الجمارك، و حرمانه من سكن مماثل بمدينة طنجة التي تم نقله إليها، رغم أن الفصل 64 من قانون الوظيفة العمومية قد نص على مراعاة الحالة الاجتماعية للموظف عند نقله لدواعي المصلحة العامة.
– استثناء الطاعن من وجهة النقل إلى مديرية القنيطرة رغم توفره على سكن بمدينة المهدية ممول من قرض للجمعية الجمركية، مثلما أكد في معرض دفوعه، الأمر الذي يشير من جانبه إلى قصور البعد الإجتماعي في التدبير التوقعي للإدارة، حيث لا يسع للإدارة أن تحتج بعدم علمها بسكن الطاعن بمدينة المهدية ما دامت الموافقة على منح قرض السكن من أموال الجمعية الجمركية تتم لزوما بمعرفة مديرية الموارد البشرية، و بالتالي فإن عدم العلم هذا على صحة افتراضه، يضع مديرية الموارد البشرية في موضع حرج قد يكشف عن عدم إلمامها بشؤون موظفيها.
كما أن منطق الأمور من جهة ثانية يقضي من وراء تخصيص قرض السكن، إلى تكريس الاستقرار الأسري، حيث لا يعقل اقتناء سكن ممول من طرف الجمعية الجمركية بترخيص من مديرية الموارد البشرية، على أن يظل مغلقا غير مسكون طوال سنوات بفعل حركية انتقالية تكون مقررة كل أربع أو خمس سنوات، قد يهرم الموظف من خلالها و لا يدرك غاية الانتفاع بمسكنه ذاك قيد حياته.
ثم إن الغاية من الحركية الانتقالية من جهة ثالثة، إنما جعلت لتكسير هيمنة المسؤول الإداري على محيطه بفعل تعميره في منصبه مدة من السنوات تكون كفيلة بنشوء عادات مخلة بالتسيير الإداري و مدعاة إلى تكريس الفساد، فيكون تنقيل المسؤول الواحد أهون عند صرف النفقة العمومية من تتقيل المئات من المرؤوسين، و ذلك حتى لا تضعف خزينة الدولة و تضيع المهنية في تدبير الشأن اليومي بما يضمن للمرفق العام استمراريته.
– حرمان الطاعن من العلاوة المقررة في مصلحة التدقيق و التفتيش التي كان يشتغل بها في مديرية جمارك الدار البيضاء الميناء من غير تعليل قبل أن يتم نقله إلى مصلحة أقل درجة بمديرية جمارك ميناء طنجة المتوسط، حيث إن تقرير النفقة العمومية يخضع كما هو معلوم لضوابط من بينها صحة التصفية التي تهدف إلى التحقق من حقيقة الدين، حتى إذا تقرر إلغاء هذا الدين لسبب من الأسباب وجب حينئذ على الجهة المعنية تعليل ذلك، و إلا عد قرارا تأديبيا في باطنه، تحكمه أهواء شخصية تأتي بدافع الانتقام، فتعمي بصيرة من أصدره عن جادة الصواب و تهوي به تبعا لذلك بعيدا عن مرامي المصلحة العامة التي اقتضاها الشارع و وضع لها أسس لا يزيغ عنها إلا هالك.
ثانيا: في مخالفة قاعدة تخصيص الأهداف
تظهر مخالفة قاعدة تخصيص الأهداف في لجوء الإدارة إلى نقل الموظفين نقلا مكانيا أو نوعيا بقصد العقاب أو لخطإ في التقدير و ليس لتحقيق الغاية التي أرادها المشرع في النقل، و هي تحقيق مصلحة العمل بحسن توزيع العاملين بين الوظائف و الأماكن المختلفة، و يعد مجال الضبط الإداري من أوضح الأمثلة الدالة على مخالفة قاعدة تخصيص الأهداف لارتباطه بالمحافظة على النظام العام بعناصره الثلاث المتمثلة في الأمن العام و الصحة العامة و السكينة العامة، حيث سبق للغرفة الإدارية في قرارها بتاريخ 30 يناير 1970 أن أكدت على «أن الإدارة أخفت المضمن الحقيقي للمقرر المطعون فيه وراء مظهر الزيادة غير المشروعة في الأسعار بسلوكها مسطرة العقوبة الإدارية، و ااتي خصصها القانون لغاية غير التي توختها الإدارة من هذه النازلة بغية تجنب المسطرة القضائية المنصوص عليها في ظهير 14 غشت 1964 » ،
ولقد تبنت الإدارة في تبرير دواعي النقل ضمن مذكرتها الجوابية أهدافا تتسم بالعموم و التجريد اعتبرتها المحمكة مخالفة لقاعدة تخصيص الأهداف، عجزت الإدارة معها عن تحديد أي هدف تخاطب به وضعية الطاعن، و ذلك عندما قال السيد الوكيل القضائي بالحرف: «حيث إنه اعتبارا لارتباط النشاط الإداري لإدارة الجمارك و الضرائب غير المباشرة بتحولات التجارة الخارجية و بالاقتصاد الوطني و رغبة منها في مواكبة مسلسل الإصلاح الإداري تنتهج هذه الأخيرة سياسة الحركة الانتقالية السنوية لتحقيق الأهداف التالية:
– الرفع من كفاءة الأعوان و توسيع مداركهم المهنية و مدهم بالوسائل المعرفية اللازمة لتمكينهم من التواصل مع المحيط الاقتصادي المتطور باستمرار ؛
– تحسين جودة خدمة المرفق بإعادة توزيع الكفاءات المهمة التي اكتسبت خبرة في مجال معين بنقلها إلى مديرية تحتاج لتلك الكفاءة؛
– تخليق المرفق العام و تخليصه من بعض الممارسات اللا أخلاقية التي أضحى تجاوزها أمرا ملحا؛
– تسريع وثيرة عدم التركيز و تجاوز التوزيع غير المتكافئ للموارد البشرية و مركزتها المفرطة. »
و من جهته فقد فند الطاعن ما أتى على ذكره السيد الوكيل القضائي من أهداف عامة، فأثار انتباه المحكمة إلى وجود مصالح بالإدارات الجهوية تعنى بتأهيل الأطر و الأعوان إلى جانب معهد التكوين الجمركي الذي يساهم في تكوين و إعادة تأهيل موظفي الجمارك الذين ينحدرون من جميع المديريات الجهوية.
كما أن نقل الخبرات من مديرية إلى أخرى لا ينهض هدفا في مواجهة الطاعن، لأن مثل هذا الإجراء الموجب للنقل لابد و أن يصحبه امتيازات مادية، حيث أن مجرد نقل الخدمات من منطقة إلى أخرى يستوجب منح تعويضات بدل التنقل، فكيف بإطار تترجى منه الإدارة تمرير خبرته و مع هذا تحرمه من مستحقاته في العلاوة و السكن كما سبقت الإشارة إليه. يضاف إلى ذلك ما قد يحدثه هذا الإجراء من إفراغ للكفاءات بالمديريات الأصلية، أو ما قد يشكله هذا الإجراء من عدول عن اكتساب الخبرات مخافة توقيع النقل الإجباري.
ثم إن الادعاء بتخليص المرفق العام من بعض الممارسات اللاأخلاقية لا يستقيم في حق الطاعن الذي عرض على أنظار المحكمة ضمن مذكرته إمكانية التحري عن استقامته، حيث إن السعي وراء هذا المطلب إنما ينبغي للإدارة الجمركية أن تحتكم فيه إلى هيئة المجلس الأعلى للحسابات الذي يفرض على كافة الموظفين تصريحا إجباريا بممتلكاتهم، و بالتالي يكون تعطيل مثل هذا الإجراء كحاجة في نفس يعقوب، لما قد يكشف عنه من فساد على المستوى المركزي نفسه، و بالتالي تكون فرضية النقل من أجل التخليق و محاربة الفساد غير مرتكزة على أساس للاعتبارات التالية، وهي:
– أن فساد الموظف لا يمكن إثارته من غير اتباع مسطرة التأديب، و إلا كان ذلك افتراء عليه، و مجرد مَظَنَّةٍ من جهة الإدارة لا تعكس مصداقيتها؛
– أن فرضية نقل الموظف الفاسد على اعتبار صحتها، قد لا تحقق المبتغى، ما دام تَلقِّي الرشوة لا يَحُدُّه النطاق الجغرافي؛
– أن نقل عدد كبير من الموظفين من منطقة معينة و استبدالهم بعدد مماثل من منطقة أخرى بحجة الفساد قد يعكس سوء التدبير في الموارد البشرية؛
– أن فرضية الفساد على صحتها إذا كانت تُعالج من منظور الإدارة بالنقل الجغرافي، فمن باب أَسْلَم أن تتم معالجتها بالنقل الوظيفي داخل الجهة نفسها حتى لا يستمر الموظف في مباشرة نفس المهام بالطريقة نفسها، و حتى لا يضر ذلك بمصلحة الموظف و الدولة على السواء، من حيث تشتيت الأسر و تضييع المال العام على التنقيل؛
– أن الحكمة تقتضي الإبقاء و المحافضة على الموظفين المتقيدين بقيم النزاهة مثلما أوصى بذلك بيان أروشا المعدل.
أما من جهة تسريع وثيرة عدم التركيز، فإن الطاعن قد ضرب للمحكمة مثلا تمثل في تعمير رجل الإدارة الذي أصدر قرار النقل و هو مدير الموارد البشرية الذي ناهز مدة 18 سنة كمدير مركزي، ناهيك عن الموظفين الآخرين ممن يلونه في مديرية الموارد البشرية و الذين يتم استثناؤهم من الحركية الانتقالية السنوية مثلما أفصح عنه الطاعن في مذكرته.
ختاما نقول على ضوء كل ما تقدم أن الحركية الانتقالية التي تم سنها من طرف مديرية الموارد البشرية بإدارة الجمارك و الضرائب غير المباشرة، ليست في حقيقتها سوى قرارا تنظيميا جاء على شاكلة القرارات الفردية لعدم ارتكازها على أساس قانوني إلا ما كان من قانون الوظيفة العمومية في فصله 64 الذي راعى الجانب الاجتماعي لموظفي الدولة المعترف لهم في ظل هذا القانون بمجموعة من الحقوق كالحق النقابي و حق الإنتماء الحزبي. و لما كانت القرارات التنظيمية حكرا على الوزير المعني لا يجوز تفويضها، فقد كان من الأولى إلغاء قرار مدير الموارد البشرية القاضي بالنقل التلقائي، تفاديا للآثار السلبية التي تقع على الوضعيات الفردية للموظفين في كل مرة يتم فيها إصدار قرارات بالنقل قد تساهم في تدفق النزاعات المتفرعة عن قرار هذه الحركية الانتقالية. (12)
و لقد فطنت إدارة الجمارك إلى خطأ تصرفها من غير سند قانوني، فعملت على وضع قانون أساسي يجيز لها سن حركة إنتقالية لموظفيها بدون معقب لأحد على قراراتها إلا ما كان منها من انحراف في استعمال سلطتها إزاء ذلك، فيحق للقضاء الإداري أن يحد من سوء تصرفها دون أن يعني هذا مساسا بمبدأ الفصل بين السلطات مثلما أكدته محكمة القضاء الإداري في مصر بقولها : “إن مبدأ الفصل بين السلطات لا يعني استئثار كل سلطة بالوظيفة المخولة لها حتى و لو نص القانون على خلاف ذلك” (13)
كما أن الإدارة تكون ملزمة في ممارستها لسلطتها التقديرية بأن تحترم جميع أوجه المشروعية، فيجب أن يكون قرارها موافقا للقانون بمعناه الواسع و أيا كان مصدره، بما في ذلك القواعد القضائية التي ينشئها القضاء الإداري مما يضيق من نطاق سلطتها التقديرية تلك في اتجاه تقييدها، بل إن رقابة القضاء الإداري تتجاوز مراقبة المشروعية إلى مراقبة الملاءمة عند استخدام الإدارة لسلطتها التقديرية.(14)
بل إن القاضي الإداري أصبح بإمكانه إثبات عيب الانحراف من ظروف خارجة عن النزاع المعروض أمامه، و هذا يمثل قمة ما توصلت إليه الرقابة القضائية على مشروعية القرار الإداري للتأكد من خلوه من عيب الانحراف.
الهوامش:
(1) د. سليمان محمد الطماوي: نظرية التعسف في استعمال السلطة “الانحراف بالسلطة”. دار الفكر العربي، القاهرة 2014 ص 133
(2) مارسو لونغ، بروسبير ڤيل، غي بريبان، بيار ديلڤولڤي، و برونو جينڤوا : القرارات الكبرى في القضاء الإداري. المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع. الطبعة الأولى 2009، ص 43
(3) د ماجد راغب الحلو: القضاء الإداري، دار الجامعة الجديدة 2010، ص 387
(4) د. سليمان محمد الطماوي: نظرية التعسف في استعمال السلطة “الانحراف بالسلطة”. دار الفكر العربي، القاهرة 2014 ص 136
(5) د. سليمان محمد الطماوي: نظرية التعسف في استعمال السلطة “الانحراف بالسلطة”. دار الفكر العربي، القاهرة 2014 ص 130
(6) د. ماجد راغب الحلو، مرجع سابق ص 383
(7) د. عبد العزيز عبد المنعم خليفة: القرارات الإدارية في الفقه و قضاء مجلس الدولة، دار محمود القاهرة ص 170 و 171
(8) د. مجدي محمود محب حافظ: أحكام المحكمة الإدارية العليا منذ نشأتها حتى عام 2015، الجزء الرابع. دار محمود القاهرة ص 2657
(9) نفس المرجع ص2658، و 2659
(10) نفس المرجع ص 2659
(11) نفس المرجع ص 2660
(12) ذ محمد باهي: التمييز بين دعوى القضاء الشامل و دعوى الإلغاء في مجال النزاعات المتعلقة بالوضعية الفردية للموظفين. المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية، عدد 72، 2011، ص:148
(13) د. محمد عبد الواحد الجميلي: قضاء التعويض، مسؤولية الدولة عن أعمالها غير التعاقدية. دار النهضة العربية، القاهرة، 1995،ص 54
(14) د. ماجد راغب الحلو مرجع سابق ص 51 و 52