ع.الحق صافي : قانون العقود بين التنظيم العام والتنظيمات الخاصة-الحصيلة والآفاق-ج2
*) الدكتور عبد الحق صافي أستاذ التعليم العالي كلية الحقوق-المحمدية.
المبحث الثاني: حصيلة تشتت قانون العقود وآفاق تعديله
لا يمكن الحديث عن آفاق تعديل قانون العقود قبل الكلام عن حصيلة تشتته:
الفقرة الأولى: حصيلة تشتت قانون العقود
يقتضي منا الإلمام بحصيلة ذلك التطرق أولا المقارنة من حيث أسس التنظيمات العامة والخاصة لقانون العقود، ثم نتبع ذلك بالحديث عن مدى تفعيل التنظيمات الخاصة للعقود.
أولا: مقارنة من حيث أسس التنظيمات العامة والخاصة لقانون العقود
نستنتج من خلال هذه المقارنة وجود عدة أوجه للتباعد بين التنظيمين سيما من النواحي الآتية:
1- من حيث المصدر المادي لقواعد كل تنظيم
كما هو معلوم فقد صدر ق ل ع بمبادرة من الحماية الفرنسية، كما صيغ صياغة تسعى للتوفيق بين المصالح المتعارضة في ذلك الوقت: مصالح المعمرين الفرنسيين والأجانب من جهة ومصالح الأهالي المغاربة من جهة أخرى[1].
وهو مستمد من خلال ثلاثة مصادر أساسية وهي: القانون التونسي للالتزامات والعقود، القانون المدني الفرنسي وبعض القوانين المدنية الأوربية الأخرى والشريعة الإسلامية[2].
أما التنظيمات الخاصة المتعلقة بقانون العقود فهي مستمدة في أغلبها من قوانين أجنبية خصوصا القانون الفرنسي الذي ترجمت عنه بصورة حرفية-أحيانا- بعض تلك القوانين[3].
2- من حيث اعتماد مبدأ سلطان الإرادة
التنظيم العام لقانون العقود يستند بالأساس لمبدأ سلطان الإرادة وحرية التعاقد، أي أنه يعتمد المنطلقات التقليدية لقانون العقود[4].
أما التنظيمات الخاصة لقانون العقود فهي متأثرة بالتوجهات الحديثة للتعاقد، بدليل أنها تشتمل عددا كبيرا من القواعد القانونية الآمرة التي تسعى إلى تحقيق مصلحة عامة اقتصادية واجتماعية، وذلك عن طريق تنظيم كثير من العقود أو مراقبتها أو منعها[5] أو فرضها أحيانا.
أ- العقود المنظمة
يتجه التطور في المجال التعاقدي نحو إصدار العديد من القوانين الخاصة الآمرة وليس فقط المكملة للإرادة، بحيث أصبح المشرع يكاد يستأثر بتنظيم بعض العقود التي لا يسوغ للأطراف مخالفة شروطها القانونية. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أبرز الأمثلة وهي:
-عقد الشغل: في الوقت الحاضر لم يعد دور الدولة يقتصر على حفظ العدل والأمن داخل المجتمع، بل أصبح في بعض الأحيان دورا إيجابيا موجها للحياة الاقتصادية، وذلك عن طريق تنظيم القواعد وسن التشريعات التي تحكم الأنشطة الاقتصادية وما تشهده من معاملات وعلاقات، وأشهر مثال على ذلك عقد الشغل الذي عملت م ش على تنظيمه وذلك من خلال تنظيم العلاقة بين الأجراء والمؤاجرين من عدة وجوه أهمها: تنظيم فترة الاختبار، إبرام عقد الشغل، التزامات الأجير والمؤاجر، قواعد توقف عقد الشغل وإنهائه، الحد الأدنى للأجر، الحد الأقصى لساعات العمل، فترات الراحة الأسبوعية أو السنوية، الإجازة بمناسبة الولادة أو المرض، فقواعد حفظ صحة الأجراء وسلامتهم، الوساطة في الاستخدام وتشغيل الأجراء، وتسوية نزاعات الشغل الجماعية[6].
– عقد التأمين: لقد جعلت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة طرفي هذا العقد غير متساوي السلطات: فالمؤمن له يوجد-في الغالب- في مواجهة طرف قوي هو المؤمن، ولا يمكن سوى الرضوخ لإرادته والتسليم بالشروط الجاهزة التي يمليها عليه بدون أية مناقشة، وهي تكون في العادة مطبوعة ومكتوبة.
لأجل هذا تدخل المشرع لتنظيم عقد التأمين تنظيما آمرا غايته حماية العاقد الضعيف في مواجهة العاقد القوي الذي يعمد أحيانا إلى وضع شروط قاسية وجاهزة في حق الطرف الأول، وليجعل التأمين يحقق وظيفته الاجتماعية التي وجد من أجلها، وهي تنظيم التعاون بين المؤمن لهم المتعرضين لخطر مشترك ومساهمة كل واحد منهم بتحمل نصيبه منه إذا لحق أحدهم ضرر نتيجة تحققه، وهذا ما يخدم في نهاية المطاف الاقتصاد الوطني برمته[7].
– تحديد أثمنة بيع المنتوجات والخدمة الاستهلاكية: إذا كان الأصل أن يعين المتبايعين الثمن في البيع بالمفاوضة فيما بينهم كما يتعاوضان بخصوص بقية شروط العقد، فإن ثمة استثناءات-تفرضه ضرورة حماية الاقتصاد الوطني وضبط والتحكم في مؤشرات تطوره وحماية مصالح المستهلكين-تخول بموجبه مهمة تنظيم الأثمان ومراقبتها للدولة، فانطلاقا من هذا الاعتبار إذا كان القانون رقم 06.99 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة الحرة قد أقر مبدأ حرية تحديد أسعار السلع والمنتوجات والخدمات عن طريق المنافسة الحرة (المادة2)، فإن هذا القانون خول الإدارة حق تحديد أسعار بعض البضائع والمنتوجات والخدمات وكذا اتخاذ تدابير مؤقتة في مواجهة تفاحش ارتفاعها وانخفاضها وذلك بشروط وضوابط معينة.
ب- العقود المراقبة
لقد أدى توسع دائرة النظام العام الاقتصادي والاجتماعي إلى تطور أوجه مراقبة السلطات العمومية للعقود المبرمة في الواقع. فعلاوة على المراقبة التقليدية التي تخول القاضي سلطة التأكد من احترام الروابط العقدية لموجبات النظام العام وحسن الأداب، فإن الغالب أن تتدخل الإدارات العمومية عندنا لمراقبة العقود مراقبة تتخذ أشكالا مختلفة منها:
– ضرورة استصدار إذن إداري لتمام بعض العقود، والمثال عن ذلك المادة 35 من قانون 25.90 المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات والتي منحت العدول والموثقين والمحافظين على الأملاك العقارية ومأموري إدارة التسجيل من تلقي أو تحرير أو تقييد أو تسجيل البيوع في هذه التجزئات إلا عقب الإدلاء إما بنسخة مشهود بمطابقتها للأصل من شهادة مسلمة من رئيس مجلس الجماعة الحضرية أو القروية تثبت أن العملية لا تدخل ضمن تطبيق هذا القانون.
– وتكريسا لتدخل الدولة في تنظيم الأثمان ومراقبتها بما يضمن حماية المستهلك ضد كل زيادة غير مشروعة قد يرتكبها الباعة خفية وتسهيلا لمراقبة الأسعار نص المشرع على ضرورة إشهار أثمنة بيع المنتوجات والخدمات بشكل واضح، جاء بهذا الخصوص ضمن قانون 06.99 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة:
“يجب على كل من يبيع منتوجات أو يقدم خدمات أن يعلم المستهلك عن طريق وضع علامة أو ملصق أو إعلان أو بأي طريقة مناسبة أخرى بالأسعار والشروط الخاصة للبيع أو لإنجاز الخدمة”.
– أيضا يلاحظ أن المصالح الضريبية تبسط مراقبتها على العقود والمعاملات الجارية حتى تضمن استيفاء كل حقوق الخزينة العامة التي تستخلص بشأنها، وهكذا يحتاج تمام البيوع العقارية إلى استصدار البائع لوصل الإبراء (Quitus) الذي يعتبر إشهادا إداريا يبرؤه مبدئيا من كل تكليف ضريبي يقع على العقار المبيع، ويفيد أداءه لجميع الضرائب التي تثقل كاهله كمالك للعقار المبيع.
وعملا بأحكام ظهير 25 يوليوز 1969 المتعلق بالعمليات العقارية الواقعة بين أشخاص ذاتيين مغاربة في الدوائر السقوية-والتي أخضعت لمقتضيات ظهير 26 شتنبر 1963 الخاص بمراقبة العمليات العقارية في الأراضي الفلاحية- يتوقف تمام البيع الواقع على هذه الأراضي على توفر ترخيص إداري. ويهدف هذا الإجراء إلى تأمين حصول الدولة على المساهمات المباشرة من أجل رفع قيمة هذه الأرض من جهة أولى، وللحد من تجزئتها من جهة ثانية وفقا لما أكد عليه المنشور الوزاري المشترك بين وزارات الفلاحة والمالية والداخلية الصادرة بتاريخ 12 يناير 1984.
ج- العقود الممنوعة
علاوة على أوجه المنع التقليدي لإبرام بعض العقود، فقد اقتضى نظر المشرع توسيع دائرة المحافظة على النظام العام الاقتصادي والاجتماعي عن طريق التصدي لبعض أوجه المعاملات التجارية التي تشكل خطرا على المستهلك وكذا الاقتصاد الوطني ككل. وهكذا يمنع بيع-وتداول- البضائع المغشوشة التي تهدد الصحة والحياة وذلك بموجب قانون 13.83 المتعلق بالزجر عن الغش في البضائع.
وضمن نفس السياق عمل قانون 06.99 على منع الممارسات المنافية لقانون المنافسة الحرة. جاء في الفصل 6 من هذا القانون:
“تحضر الأعمال المدبرة أو الاتفاقات أو التحالفات الصريحة أو الضمنية كيفما كان شكلها وأيا كان سببها، عندما يكون الغرض أو يمكن أن تترتب عليها عرقلة المنافسة أو الحد منها أو تحريف سيرها في سوق ما، ولاسيما عندما تهدف إلى:
1- الحد من دخول السوق أو من الممارسة الحرة للمنافسة من لدن منشآت أخرى؛
2- عرقلة تكوين الأسعار عن طريق الآليات الحرة للسوق بافتعال ارتفاعها أو انخفاضها؛
3- حصر أو مراقبة الإنتاج أو المنافذ أو الاستثمارات أو التقدم التقني؛
4- تقسيم الأسواق أو مصادر التموين”.
وتبعا للمادة 9 من نفس القانون:
“يعد باطلا بقوة القانون كل التزام أو اتفاقية تتعلق بممارسة محضورة تطبيقا للمادتين 6 و7 أعلاه.
يمكن أن يثار البطلان المذكور من لدن الأطراف، وتعاينه إن اقتضى الحال المحاكم المختصة التي يجب أن يبلغ إليها رأي مجلس المنافسة إن سبق إبداؤه”.
د- العقود المفروضة
أصبح الالتزام بإبرام بعض العقود أمرا عاديا تفرضه تعقيدات الحياة المعاصرة وموجبات تدخل الدولة في مختلف مجالاتها. ومن الأمثلة على ذلك:
– الالتزام بالبيع الذي يقع على عاتق الصناع والتجار الذين يمنع عليهم الإعراض عن الاستجابة لطلبات الشراء الصادرة عن طائفة المستهلكين بصورة عادية وبحسن نية.
– الالتزام بإبرام عقد تأمين العربات ذات محرك. بحيث يتعين على كل شخص طبيعي أو معنوي يمكن إثارة مسؤوليته المدنية نتيجة للأضرار البدنية أو المالية اللاحقة بالأغيار والتي قد تتسبب فيها عربة برية ذات محرك غير مرتبط بسكة حديدية أو بواسطة مقطورات أو شبه مقطورات، أن يغطي هذه المسؤولية بعقد تأمين مبرم مع مقاولة للتأمين وإعادة التأمين.
– الالتزام بإبرام عقد التأمين على القنص. وهنا يتعين إرفاق كل طلب لرخصة القنص بشهادة تأمين مسلمة من قبل مقاولة للتأمين وإعادة التأمين تضمن خلال مدة صلاحية الرخصة مسؤولية القناص المدنية عن الحوادث التي قد تتسبب فيها للأغيار بدون قصد.
– التزام المتقاضي في الدعوى ذات المسطرة الكتابية بالتعاقد مع محامي للنيابة عنه لدى المحكمة.
ففي سائر هذه الأمثلة وما سواها كثير لا نكون أمام عقود تناقش وتبرم بحرية، وإنما نكون أمام روابط عقدية مفروضة فرضا تقتضيه التعقيدات المتصاعدة لحياة الأعمال.
3- من حيث طبيعة القواعد القانونية المنظمة لكل تنظيم
تتميز أغلب القواعد القانونية المتعلقة بالتنظيم العام لقانون العقود بطبيعتها المكملة بحيث إنها تعبر تعبيرا ضمنيا عن إرادة المتعاقدين اللذين يمكنهما الاتفاق على خلافها، في حين أن القواعد القانونية الآمرة لنفس التنظيم قليلة، وهي تتعلق خصوصا بضبط البنية القانونية للعقد وأمور الأهلية، وتحريم إبرام العقود التي ترد على أشياء أو أفعال أو حقوق معنوية خارجة عن دائرة التعامل ومنع الالتزامات التعاقدية التي لا يكون لها أي سبب أو المبنية على سبب غير مشروع. وقس على ذلك…
أما التنظيمات الخاصة لقانون العقود فهي آمرة في أغلبها، بحيث إنها تفرض أحيانا تحت طائلة جزاءات زجرية ونكتفي هنا بعرض مثالين:
المثال الأول: قانون 31.08 المتعلق بحماية المستهلك والذي خصص قسمه التاسع للعقوبات الزجرية التي يتعرض لها المخالف لكثير من أحكامه.
والمثال الثاني: قانون 16.98 المتعلق بالتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية وأخذها وزرعها والذي أخص بدوره القسم الخامس للعقوبات الزجرية التي تطبق في حق المخالف لأحكامه[8].
ثانيا: مدى تفعيل التنظيمات الخاصة لقانون العقود
بالرغم من إصدار المشرع عندنا لكثير من التنظيمات الخاصة لقانون العقود كما أسلفنا، فإن التنظيمات لا تتفاعل إيجابيا مع الواقع المعيش، فأغلبها لا يلقى إلا إقبالا محدودا، وبعضها الآخر يطرح خلافات مستعصية.
1- التنظيمات الخاصة لقانون العقود التي لا تلقى إلا إقبالا محدودا
كثير من التنظيمات الخاصة للعقود لا تعرف إلا إقبالا جد محدود في الواقع بسبب ابتعادها من واقعنا الاجتماعي، لأن صدورها استهدف بالأساس تلميع صورة البلد، وتمكينه من الوفاء باستحقاقاته الدولية.
ونكتفي هنا بالإشارة إلى الأمثلة الآتية:
– قانون 44.00 المتعلق ببيع العقار في طور الإنجاز لا يطبق إلا جزئيا (تم تعديله مؤخرا بالقانون رقم 107.12) ، وذلك بسبب عدم انسجامه مع الواقع المجتمعي من جهة، وبسبب عدم تحقيقه لتطلعات كل من المنعش العقاري والطرف المقبل على الشراء من جهة أخرى[9].
– قانون 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك هو الآخر لا يفعل إلا جزئيا بسبب عدم صدور أغلب أحكامه التنظيمية. كما أن المجتمع المدني لا يستوعبه بصورة جيدة، وحتى تطبيقاته القضائية تعتبر جد محدودة.
– قانون 53.05 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية معلق في انتظار إصدار المدونة الرقمية خصوصا عقب إقدام الحكومة على سحب مشروعها القانوني من أمام مجلس النواب. كما أن المهنيين أصحاب المواقع الإلكترونية التجارية لا ينشرون-في الغالب- عبر مواقعهم الشروط العامة للبيع كما ينص على ذلك هذا القانون، بل هم يعمدون أحيانا إلى اقتباس تلك الشروط من مواقع إلكترونية أجنبية خصوصا فرنسا. وهذا ما لا يسمح به القانون.
– قانون 16.98 بخصوص التبرع بالأعضاء والأنسجة وأخذها وزرعها هو الآخر لا يلقى إلا تطبيقا جد محدود بسبب عدم انسجامه مع العقلية المغربية.
2- التنظيمات الخاصة لقانون العقود التي تطرح خلافات مستعصية
علاوة على ذلك هناك عدة تنظيمات خاصة لقانون العقود تفعل في الواقع العملي مخلفة نزاعات كثيرة وجد مستعصية تثقل كاهل القضاء للفصل فيها والمثال على ذلك:
– قوانين الأكرية المدنية والتجارية التي تتعلق بالزيادة في الوجيبة الكرائية أو المطالبة بسدادها أو فسخ عقد الكراء لدواع مختلفة، وما شابه ذلك مما يشكل نسبة مائوية كبيرة من مجموع القضايا المطروحة أمام القضاء[10].
– القوانين المتعلقة بالشركات التجارية وهي تطرح في كثير من جوانبها نزاعات جد مستعصية، تعرض بعضها على المحاكم التي تفصل فيها دون إعمال روح الابتكار والإبداع في الغالب. وهذا ما يعود حسب الأستاذ الإدريسي العلمي مشيشي إلى وجود: “قضاء تقليدي… يلتزم بالنص ويحاول ما أمكن احترام هذا النص ولم يتعود على الجرأة في الإبداع… فهناك … حالات كثيرة جدا لم يجرأ فيها القضاء المغربي على الإبداع وهو معذور في هذا، لأنه لم يعود عليه، ولو خلقت له الأدوات وأعطيت الأدوات لتمكن ولأعطى الإبداع الضروري في كثير من المجالات…”[11].
الفقرة الثانية: آفاق تعديل قانون العقود
من دون شك أن الفشل في تفعيل أغلب التنظيمات الخاصة للعقود يعود بالخصوص إلى أنها تنظيمات مستوردة في أغلبها من الخارج، بل هي أحيانا مجرد نقل حرفي لقوانين أجنبية، بمعنى أنها لم تكن وليدة متطلبات اجتماعية محلية وإنما أتت – في بعض منها- لتلميع صورة بلدنا ولضمان الوفاء بالتزاماته الدولية.
ومما يزيد الإشكال تعقيدا أننا لا نتوفر لحد الساعة على مدرسة قانونية مغربية أصيلة نابعة من خصوصيات المجتمع المغربي وتستجيب لرغباته وتطلعاته.
حقيقة لقد بذل الفقه والقضاء عندنا مجهودات كبيرة لشرح وضمان حسن تفعيل قوانيننا الوطنية، كما قدم العديد من الاقتراحات التشريعية بهدف إصلاحها بما يتلاءم مع الواقع المعاش.
لكن حصيلة هذه المجهودات تبقى محدودة لأنها تحتاج إلى التنسيق والتأطير ضمن مدرسة قانونية مغربية أصيلة تستند إلى ثلاثة أسس:
الأساس الأول: البعد الاجتماعي
من أهم خصائص القاعدة القانونية كونها قاعدة اجتماعية، فعلى هذا المستوى يستطيع علماء الاجتماع أن يساهموا مساهمة فعالة في إنشاء القانون، كما يتعين على المشرع أن يأخذ بعين الاعتبار الوسط الاجتماعي وكذا تطلعاته حتى يصدر قوانين تلبي حاجيات الأشخاص الذين سيطبق عليهم[12].
وللإشارة فقد تضمن القانون الأسمى للبلد عدة مقتضيات تمكن جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية من المساهمة في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها[13]. كما يتعين على السلطات العمومية خلق هيئات للتشاور بهدف إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها[14]. أيضا بإمكان المواطنين والمواطنات تقديم ملتمسات في مجال التشريع وعرائض إلى السلطات العمومية وذلك ضمن الشروط والكيفيات التي يحددها قانون تنظيمي لاحق[15].
لكن مع الأسف فهذه المقتضيات لا تلقى إلا إعمالا جد محدود سيما وأن أغلب القوانين التنظيمية المتعلقة بها لم تصدر لحد الساعة.
لذلك فإن تكريس البعد الاجتماعي لمدرستنا القانونية الأصيلة يقتضي إضافة إلى جعل مختلف هيئات المجتمع المدني بمثابة قوة اقتراحية حقيقية للقوانين، الانفتاح على المهتمين بعلم الاجتماع الذين يتعين عليهم أن يقوموا بأبحاث اجتماعية مكثفة في مختلف نواحي البلد، وذلك بهدف استطلاع الرأي وتحديد رغبات وتطلعات كافة الشرائح الاجتماعية بخصوص انتظاراتهم القانونية والتنظيمية. وفي ضوء كل هذا يمكن إعادة صياغة قوانين ناجحة تتلاءم وخصوصيات مجتمعنا المغربي.
الأساس الثاني: فقه الشريعة الإسلامية
يحتل الفقه الإسلامي المالكي عندنا مكانة مرموقة ضمن مصادر قرر القاعدة القانونية، فهو يأتي في المرتبة الثالثة بعد التشريع والعرف، بل هو مصدر أساسي تستنبط منه الأحكام المنظمة لمجالات معينة من أهمها قانون الأسرة والعقار غير المحفظ[16].
لذلك يبقى على فقهائنا الأجلاء أن يبذلو مزيدا من الجهد في سبيل إعادة صياغة فقه الشريعة الإسلامية وتقديمه في قالب جديد مبسط والاجتهاد فيه بما يتلاءم وروح العصر الحاضر دون المساس بالثوابت الشرعية.
كما يتعين على كل المهتمين بالقوانين الوضعية أن يتعرضوا لأحكام الفقه الإسلامي خصوصا المالكي في كل الدراسات التي يقومون بها سيما على صعيد القانون المدني الذي يشكل كما هو معلوم العمود الفقري لسائر فروع القانون الخاص.
كل ذلك في أفق بلورة وتعزيز هذا الأساس الذي يشكل أحد أهم ركائز مدرستنا القانونية المرتقبة والتي بإمكانها المساهمة في إصدار قوانين ناجحة وصالحة لمعالجة كل المشاكل المرتبطة بتطور مجتمعنا في كل الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
الأساس الثالث: استمرار التواصل مع القوانين الأجنبية
المغرب بلد منفتح على الخارج، من ثم فهو يستمد كثيرا من تنظيماته القانونية من دول أوربية خصوصا فرنسا التي تعتبر تشريعاتها المصدر المادي للعديد من تشريعاتنا الوطنية ، لذلك لا بد من استمرار هذا التواصل ليس فقط عند إصدار النصوص القانونية بل أيضا عند تفسيرها وإعمال مقتضياتها من طرف القضاء وعلى رأسه محكمة النقض.
لكن يتعين أن يكون هذا التواصل محسوب العواقب، وبالقدر الذي يخدم مصالحنا، كما يتعين أن يراعي واقعنا الاجتماعي ولا يتنافى مع أحكام الفقه الإسلامي سيما المالكي.
بمعنى أنه يجب أن تنشط مدرستنا القانونية في إطار تحقيق التوازن بين مرتكزاتها الثلاثة السالفة.
خاتمة
وخلاصة القول إنه إذا كان من الضروري إعادة النظر في قانون العقود – وغيره كثير من القوانين الأخرى- حتى يواكب تطور المجتمع وتطلعاته، فإن ذلك يتعين أن يحصل في إطار مدرسة قانونية مغربية أصيلة تستند إلى المرجعيات المذكورة والتي أفرزها مجتمعنا منذ القديم.فبدون ذلك لن تتمكن من إصدار قوانين تحقق النجاح المطلوب وتستجيب لآمال وانتظارات الأشخاص الذين سوف تسري عليهم.
الهوامش:
1. عبد الحق صافي، عقد البيع، دراسة في قانون الالتزامات والعقود وفي القوانين الخاصة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1998، ص 41.
2. قال وزير الخارجية والعدل في فرنسا عند تقديمه نصوص ق ل ع لرئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك Poincare: “إن الأوربيين سيجدون في هذا الظهير قواعد مستقاة من قوانينهم الوطنية في حين أن الأهالي سوف لن يجدوا فيه ما يجرح شعورهم الديني ما دامت نصوصه غير مخالفة للقانون التونسي الذي يتعارض بدوره مع أحكام الشريعة الإسلامية”.
– انظر في التفاصيل بالخصوص:
– أحمد أدريوش، أصول قانون الالتزامات والعقود، بحث في الأصول الفقهية والتاريخية، منشورات سلسلة المعرفة القانونية، الرباط، الطبعة الأولى 1996، ص 13 وما بعدها.
3. عند التعمق في دراسة ق ل ع يتبين لنا أنه يقترب أكثر من التشريعات المدنية الصادرة في أوربا الغربية-خصوصا فرنسا- عند وضعه نظرية عامة للالتزامات والعقود صالحة للتطبيق على كل الفروض الواقعية للمعاملات المالية بين الأفراد، ويبتعد بالتالي عن منهجية الفقه الإسلامي التي تعتمد طريقة فقه النوازل مقدمة الحلول الشرعية لعلاقات تعاقدية واقعية وحالات معينة من المسؤولية.
لمزيد من المعرفة بهذا الخصوص راجع:
Omar Azziman-I, Le contrat, Imprimerie Najah El Jadida, Casablanca, 1995, p 31.
– عبد الكريم الطالب، العرف في “القانون المدني” المغربي، التأصيل النظري والواقع العرفي، دكتوراه الدولة في الحقوق، كلية الحقوق بمراكش 1999/2000، ص 168 وما بعدها.
4. والمثال على ذلك قانون 53.05 بخصوص التبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية والذي استنسخ بصورة شبه حرفية عن القانون المدني الفرنسي عقب تعديله وتتميمه بموجب القوانين الآتية:
1- القانون رقم 230 لسنة 2000 بتاريخ 13 مارس 2000 المتعلق بالتوقيع الإلكتروني وبتكييف قانون الإثبات مع التقنيات الحديثة.
2- القانون رقم 575 لسنة 2004 بتاريخ 16 يونيو 2005 الصادر -بإحالة من القانون رقم 575 لسنة 2004 المتعلق بالثقة في الاقتصاد الرقمي- قصد تنظيم استكمال بعض الشكليات التعاقدية الموجهة بطريقة إلكترونية.
أيضا لقد نقل المشرع عندنا ضمن صلب القانون المذكور، العديد من الأحكام التنظيمية بالاستناد إلى القوانين المذكورة من جهة، وبالاستناد إلى المراسيم الفرنسية من جهة أخرى، حيث نذكر من ضمنها على الخصوص:
– المرسوم رقم 272 لسنة 2001 بتاريخ 30 مارس 2001 الصادر لتطبيق الفصل 4/1316 من القانون المدني والمتعلق بالتوقيع الإلكتروني.
– المرسوم رقم 535 لسنة 2002 بتاريخ 18 أبريل 2002 الخاص أيضا بالتوقيع الإلكتروني.
ولم يقف الحد عند هذا المستوى بل تخطاه بحيث اقتبس المشرع المغربي من نظيره الفرنسي عدة أمور أخرى نذكر من بينها:
تنظيم طريقة تحرير وحفظ الوثيقة الإلكترونية من طرف الموثقين (مرسوم رقم 973 لسنة 2005، بتاريخ 10 غشت 2005، ج ر عدد 11 غشت 2005).
5. بخصوص تفاصيل مبدأ سلطان الإرادة عند النظرية التقليدية للعقد انظر:
عبد الحق صافي، تكوين العقد، مرجع سابق، ص 104 وما بعدها.
6. الحقيقة أن السلطات العمومية لا تستهدف اليوم عرقلة وتعطيل المبادلات الاقتصادية ذات الأساس التعاقدي بل تسعى فقط إلى جعلها مطابقة لنظرتها وتوجهاتها.
Jacques Ghestin, op cit, p 123.
7. للإشارة إن التنظيم الآمر لعلاقة الشغل لا ينفي بتاتا دور الإرادة كأساس للارتباط بهذه العلاقة، أيضا بإمكان طرفي العلاقة مخالفة هذه التنظيمات الآمرة وذلك بهدف منح الأجير ميزات إضافية لا يشملها القانون.
انظر في التفاصيل:
– موسى عبود، دروس في القانون الاجتماعي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1994.
– محمد سعيد بناني، قانون الشغل بالمغرب في ضوء مدونة الشغل، علاقات الشغل الفردية، الجزء الأول، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 2005، ص 348.
8. لمزيد من المعرفة بهذا الخصوص راجع:
الأمراني أزنطار أمحمد، شرح قانون التأمين رقم 17.99، دراسة نظرية وتطبيقية، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، الطبعة الأولى 2005.
9. انظر في التفاصيل:
نور الدين الشرقاوي الغزواني، قانون زرع الأعضاء البشرية، ظهير 25 غشت 1999، دراسة قانونية مقارنة، مطبعة أولمبيا، القنيطرة، 2000.
10. راجع بالخصوص:
– Le nouveau droit de la vente d’immeuble en l’état futur d’achèvement. Actes de la rencontre nationale organisée à Rabat le 25 Mars 2003 en partenariat avec la Confédération Générale des entreprises du Maroc. Coordination : Farid El Bacha et Abdelmajid Bargach, Centre Marocain des Etudes Juridiques, 2003.
– عبد الحق صافي، بيع العقار في طور الإنجاز، شرح وتحليل لنصوص القانون رقم 44.00، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2011.
11. للإشارة فقد وصل العديد من هذه القضايا إلى مرحلة التقاضي لدى المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) الذي كرس مبادئ قانونية تطبق بهذا الخصوص مثل قاعدة: “السومة الكرائية مطلوبة وليست محمولة”.
12. محمد الإدريسي العلمي المشيشي، القضاء والتنمية، أشغال ندوة: عمل المجلس الأعلى والتحولات الاقتصادية والاجتماعية، الرباط 18 دجنبر 1997، مطبعة ومكتبة الأمنية، الرباط 1999، ص 507 و508.
13. Mohammed Jalal Essaid, Introduction à l’étude du droit, Imprimerie Fedala, Mohammedia, 1992, p 89.
14. الفصل 12 من الدستور.
15. الفصل 13 من الدستور.
16. الفصلان 14 و15 من الدستور:
كما تعمد الأمانة العامة للحكومة إلى عرض مشاريع على موقعها الإلكتروني مانحة كل المواطنين والمواطنات الحق في إبداء ملاحظاتهم بخصوصها خلال مدة تحددها لهذا الغرض.
17. انظر التفاصيل بالخصوص:
محمد الكشبور، مشكلة التنازع بين الفقه المالكي وقانون العقود والالتزامات في مجال العقار غير المحفظ، الأيام الدراسية حول قانون الالتزامات والعقود والمجتمع بعد مضي سبعين سنة، 20 و21 أبريل 1984 الدار البيضاء، المجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية، العدد 7 ، 1984، ص 41 وما بعدها.