حكيم وردي : جدل العقوبة والتقادم: الإشكالات الحقيقية ( 2/3 )
حكيم وردي باحت في صف الدكتوراه
قد يكون لكثافة الساكنة السجنية أثر على تبني المشرع ومعه الممارسة لمقاربة مرنة في التعاطي مع العقوبات السالبة للحرية، مرجحا مقدار العقوبة على طبيعة الفعل للقول بالتقادم عند التنفيذ ( المادة 649 ق م ج وما يليها )، أو إيقاف التنفيذ ( الفصل 55 ق ج ) أو المطالبة أو الموافقة على التسليم (720 وما يليها ق م ج).
وإذا كان منح ظروف التخفيف في إطار الفصل 146 من القانون الجنائي هو أمر يرجع للسلطة التقديرية لقضاة الموضوع، ولا يخضع لرقابة محكمة النقض( نقض جنائي عدد 1358/3، بتاريخ 28/07/1997 في الملف الجنائي عدد رقم 39ـ10637/90، قضاء المجلس الأعلى العددين53-54 ) فإنه تثار وسيلة تلقائية لتعلقها بالنظام العام إذا ثبت أن غرفة الجنايات لم تنزل بالعقوبة المحكوم بها عن الحد الأدنى المقرر لها قانونا رغم أنها منحت المتهم ظروف التخفيف ( نقض جنائي عدد 1358/3، بتاريخ 22/04/1997 في الملف الجنائي عدد 99494/90، قضاء المجلس الأعلى العددين53-54 ).
إن المرونة القانونية واستيعاب الممارسة لمحدودية العقوبة السالبة للحرية في الردع، لا يتناقض مع المبدأ المكرس في الفصل 112 ق ج من أن وصف الجريمة لا يتغير عند إعمال ظروف التخفيف والذي لست أدري سبب سياقته كدليل عند القائلين بالتقادم المبني على طبيعة الفعل لا نوع العقوبة.
والحال أن التنصيص عليه ( أي الفصل 112 ) إنما الغاية منه عدم إرباك غرفة الجنايات التي قد تحكم في الجناية بعقوبة الجنحة دون أن تصرح بعدم الاختصاص، كما تظل غرفة الجنايات الاستئنافية مختصة كمرجع للطعن في الحكم الصادر بعقوبة حبسية في قضية جنائية وتطبق عليها القواعد المسطرية المخصصة على الجناية.
وعدا ذلك لا يمكن الاستنجاد بانتفاء أثر ظروف التخفيف على وصف الجناية وإسقاطه كمبدأ على قواعد تقادم العقوبة.
وخلافا لنظيرة الفرنسي والمصري، وتماشيا مع فلسفتها المرنة، لم تنظم المسطرة الجنائية المغربية إجراءات قاطعة أو موقفة لتقادم العقوبات السالبة للحرية، ولم يجر العمل في المحاكم على الأخذ برأي فقهي ضعيف( أدولف ريولط: القانون الجنائي في شروح، منشورات تنمية البحوث والدراسات القضائية، ص 57)، يعتبر أن إجراءات التنفيذ ( مذكرة البحت والأمر بإلقاء القبض ) يمكن أن توقف تقادم العقوبة، في حين كان موقف الفقرة الأخيرة من المادة 684 ق م ج صريحا في كون التقادم فيما يخص استيفاء المصاريف القضائية والغرامات، ينقطع بكل إجراء من إجراءات التحصيل يتم بمسعى من الجهات المأذون لها بتحصيل تلك الأموال.
وقد يثور الإشكال بالنسبة لنقطة انطلاق احتساب أجل تقادم العقوبة الحبسية الصادر غيابيا في قضية جنحية: هل من تاريخ الصدور أم من تاريخ التبليغ، والإشكال نفسه بالنسبة للعقوبة الصادرة عن غرفة الجنايات إثر إعمال المسطرة الغيابية.
ومبعت الإشكال أن المبدأ في تنفيذ العقوبة أن يكون الحكم الصادر في شأنها قد اكتسب قوة الشيء المقضي ( 649-650-651 ق م ج ) ، والحال أن الحكم الجنحي الغيابي يكون قابلا للتعرض بعد التبليغ، في حين أنه بمجرد إلقاء القبض أو تسليم المحكوم عليه غيابيا نفسه للسجن فإنه يسقط بموجب القانون الحكم والإجراءات المتخذة منذ الأمر بإجراء المسطرة الغيابية بصريح المادة 453 ق م ج/ فق 3.
وإذا كانت المادة 652 ق م ج منعت بأي حال من الأحوال، أن يقبل من شخص تقدمه لتنفيذ ما حكم به عليه في غيبته، أو بناءً على المسطرة الغيابية، إذا تقادمت العقوبة المحكوم بها عليه. كما اشترطت المادة 453 ق م ج فق1 لاعتقال المحكوم غيابيا ألا تكون العقوبة قد طالها التقادم. فإن المنشور من قرارات النقض لا يقدم أجوبة واضحة عن تاريخ بداية احتساب تقادم العقوبات الصادرة في الأحكام الغيابية أو إثر تنفيذ المسطرة الغيابية.
وهكذا اعتبرت محكمة النقض ( المجلس الأعلى) أن بداية سريان أجل تنفيذ العقوبة هي تاريخ صدور الحكم الذي يكون منهيا للخصومة الجنائية وباتا بصفة نهائية وغير قابل للطعن وموجبا للتنفيذ ( نقض عدد 1897-7 بتاريخ 25/06/1998 ملف جنحي عدد 7536-98، قضاء محكمة النقض، العدد 52، ص 248 )، قبل أن تحسم بجعل تاريخ صدور القرار الغيابي منطلقا لاحتساب أجل تقادمه ( نقض عدد 1137-7 بتاريخ 24/02/2000، ملف جنحي عدد 20214-6-7-99، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد مزدوج 59-60 ص 358).
إن الذين يعلقون انطلاق أجل احتساب تقادم العقوبة الصادرة غيابيا في القضايا الجنحية على التبليغ، إنما يمنحون للتبليغ أثرا قاطعا لتقادم العقوبة، دون أن يتولى القانون التنصيص على ذلك صراحة، والحال أن التعرض إن كان يوقف تقادم العقوبة متى تمت مباشرته قبل انصرام أمد تقادمها بصريح المادة 393 فق 4 ق م ج، فإنه و بعد التقادم ولاعتباره من النظام العام فإنه لا يحول فقط دون تنفيذ العقوبة ولكن حتى ممارسة الطعن، وهو رأي انفرد به من بين الفقه المغربي أدولف ريولط ( القانون الجنائي في شروح ص 58 ) حين اعتبر أن التقادم يجعل الحكم غير قابل للطعن سواء صدر غيابيا أو بعد إجراء المسطرة الغيابىة ولا يمكن للمحكوم عليهم الذين تقادمت عقوبتهم أن يطعنوا بطرق التعرض أو يطلبوا إعادة المحاكمة حتى ولو رفضوا مثلا الاستفادة من ميزة التقادم التي متعهم القانون بها ورغبوا في المثول أمام المحكمة لإثبات براءتهم.
إن استلهام فلسلفة المشرع أمر ضروري عند التفسير، ومرونته المعلنة بالنسبة لتقادم العقوبة تسعف في القول ببدء احتساب تقادمها من تاريخ توقيعها غيابيا أو إثر المسطرة الغيابية، وعلى هذا التوجه استقر تفسير وزير العدل المرحوم مصطفى بلعربي العلوي في منشوره عدد 1013 المؤرخ في 23/02/1989، الموجه إلى النيابات العمومية بصفته آنذاك رئيسها.
هل انتهت الإشكالات المتعلقة بتنفيذ العقوبة في علاقتها الجدلية بتقادمها ؟ لا أعتقد طالما أن الوقائع تسبق ليس فقط من يشرع لها، ولكن حتى من يحاول التنظير لها، كما أن الممارسة غالبا ما تطرح إشكالات لا قبل للمشرع والفقه بها، من بينها تلك التي عالجتها غرفة الجنايات الاستئنافية بالدارالبيضاء وهي تبت بغرفة المشورة في نزاع عارض متعلق بتنفيذ عقوبة حبسية صادرة في قضية جنائية اكتسبت قوة الشيء المقضي قبل تعديل المادة 650 ق م ج وتخفيض مدة التقادم من خمس سنوات إلى أربع، في حين أنه نتيجة لفرار المتهم فإن إيقافه كان بعد التعديل، فطرح التساؤل حول ما إذا كان المتهم يستفيد من المدة الجديدة أم لا؟
نتمنى أن تسعف الظروف في ملامسة بعض من جوانب هذا الإشكال.