تطبيق عقد الوكالة المفوضة: الإشكاليات العملية
إشكاليات تطبيق عقد الوكالة المفوضة
تقديم
مما يعاب به على استخدام عقود الوكالة في الواقع العملي، اعتقاد الكثير من الناس أن الوكالة المفوضة تمكن الوكيل من مباشرة جميع الصلاحيات نيابة عن الموكل ولو كانت في غير صالحه، وهذا خطأ، لأن الوكالة المفوضة، هي وكالة حفظ وصيانة من الناحية القانونية، ووكالة سداد النظر من الناحية الفقهية، ولا تمكن الوكيل من اتخاذ القرارات التي لا تخدم مصلحة الموكل أو لا تضمن حقوقه.
هذا إذا بقيت ألفاظ الوكالة العامة على عمومها، ولم يرد بها أي تخصيص لتصرف معين، إذ لا تخول الوكيل إجراء التصرفات المنافية لمصلحة موكله، بل تصح في كل ما هو تدبير وتسيير لمصالح الموكل وأموره كما لو كان هذا الأخير يسيرها بنفسه بكل ما يطبع الإنسان من رغبة فطرية لجلب المصالح ودفع المفاسد.
أما الاعتقاد بكون الوكيل المفوض يفعل في مصالح موكله كل ما يريد فعله دون أن يصدر له إذن صريح من موكله، فهذا لم يرد به أي نص فقهي أو قانوني، وهو اعتقاد خاطئ أدى إلى اضطراب عميق في استعمال الوكالة المفوضة أمام الجهات المختصة، ولبيان حدود صلاحية الوكيل المفوض وما يسمح له القيام به باسم موكله، نورد الأحكام المفصلة لذلك من الناحيتين الفقهية والقانونية فيما يلي:
الجانب الفقهي:
الوكالة العامة تفويض الموكل لوكيله التصرف في جميع أموره مع الصلاحية الكاملة لمباشرة تلك التصرفات من غير تخصيص عمل محدد، فتطغى إرادة الوكيل في هذا النوع من الوكالة على التصرف الموكل فيه، حيث يعمل حسب مشيئته، ويتم هذا النوع بألفاظ عامة، كأنت وكيلي في كل شيء، أو فوضت لك أمري، أو وكلتك في جميع أموري، وهذا يعني أن الموكل أذن للوكيل في مباشرة أمواله وأملاكه، والتصرف في أموره الشخصية، بيعا وشراء وهبة وطلاقا من غير استثناء وللفقهاء في ذلك اتجاهات ثلاث:
أ-الاتجاه الأول:
يتبناه كل من الشافعية والحنابلة، ومفاده أن الوكالة العامة باطلة، وهو مقتضى مذهب الظاهرية)، ذلك أن لفظ الوكالة العامة مبهم وبالغ في الإبهام، إذا لو سمى الوكيل شيئا أو ذكر ما يتعلق بالوكالة لجاز عندهم.
قال الشافعي رحمه الله: “وإذا شهد الرجل لرجل أنه وكله بكل قليل وكثير له، ولم يزد على هذا فالوكالة غير جائزة من قبل أنه وكله ببيع القليل والكثير ويحفظه ويدفع القليل والكثير وغيره، فلما كان يحتمل هذه المعاني وغيرها لم يجز أن يكون وكيلا حتى يبين الوكالات من بيع أو شراء أو وديعة أو خصومة أو عمارة أو غير ذلك”).
وصرح بعض أصحاب الشافعي أن الوكالة العامة تجوز عندما يضيف الموكل التصرف إلى نفسه ولا تجوز إذا جاء لفظه خاليا من الإضافة، ووجه الأول كقوله أوكلك ببيع أموالي أو استيفاء ديوني، ووجه الثاني كقوله أوكلك في جميع الأشياء، أو فوضت إليك جميع الأمور، فعللوا المنع بإرسال اللفظ مع ترك الإضافة إلى نفس الموكل)، وعللوا الإجازة بذكر الإضافة، إلا أن المنع قولا صحيحا في المذهب نقلا عن الإمام كما رأينا، وعقلا لأن الإضافة لا تفيد شيئا، إذ الموكل ما وكل في شيء إلا ويخصه بنفسه).
ويحتجون لذلك بأن في هذا التوكيل غررا عظيما وخطرا كبيرا يهدد ملك الموكل، لأنه بهذه الوكالة تدخل هبة أمواله وطلاق زوجاته)، أو التزوج من نساء يلزمه معهن المهور الكثيرة وأثمان باهظة، وقد لا يقدر على ذلك، بل قد لا يكون ذلك متفقا مع إرادته، ومخالفا لحاله وطاقته.
ب-الاتجاه الثاني:
أن الوكالة العامة جائزة صحيحة، وينفذ تصرف الوكيل على الموكل في جميع حقوقه، شاملا للتبرعات والطلاق وغير ذلك مما يملكه الموكل، وبهذا قال ابن أبي ليلى)، وإليه ذهب بعض الحنفية، قال في بدائع الصنائع: “فالعام أن يقول اشتر لي ما شئت أو ما رأيت أو أي ثوب شئت أو أي دار شئت أو ما تسير لك من الثياب ومن الدواب ويصح مع الجهالة الفاحشة من غير بيان النوع والصفة والثمن لأنه فوض الرأي إليه فيصح)، ذلك لأن لفظ الموكل يقتضي العمل به والامتثال إليه، فمادام شاء التعميم يجب احترام مشيئته، لأنه لو لم يرض بموكله على هذه الصفة لما عمم لفظه، ثم إن الموكل مهما فعل له يكون ممتثلا لأمره)، لأن فعله يدخل في عموم كلام الموكل.
قال في الفتاوي الهندية: “ولو قال وكلتك في جميع أموري التي يجوز بها التوكيل كانت الوكالة عامة تتناول البيوعات والأنكحة”)، لذلك فإن مثل هذه الوكالة تدعو إليها الحاجة، فقد يعجز الإنسان عن حصر التصرفات التي يرغب أن يوكل فيها أموره، فيكون سبيله آنذاك تعميم الوكالة.
وحجة هذا الفريق في جواز الوكالة العامة أن العموم يجري على عمومه ما لم يدخل عليه تخصيص من قبل الموكل، فيعمل به في كل ما يحصل من الوكيل في أمور وحقوق الموكل).
ج- الاتجاه الثالث:
يرى أصحابه أن التوكيل العام صحيح نافذ، إلا أنه مخصص بالعرف وبمصلحة الموكل، فلا ينفذ من تصرفات الوكيل إلا ما لا ضرر فيه على الوكيل، بأن يكون التصرف فيه نفع ومصلحة ظاهرة، ويتبنى هذا الاتجاه المالكية والحنفية في صحيح المذهب، إلا أنهم اختلفوا في التصرفات الضارة بالموكل على حسب رأي كل مذهب.
فالمالكية وإن جوزوا الوكالة العامة استثنوا منها بيع دار السكنى وطلاق الزوجة وإنكاح البكر، أي لا يجوز للوكيل المفوض أن يبيع دار سكنى الموكل، أو أن يزوج بنته البكر، أو أن يطلق زوجته، إلا بتوكيل خاص على ذلك، لأن في ذلك مضرة عليه. جاء في مختصر الشيخ خليل: ” بل حتى يفوض فيمضي النظر إلا أن يقول وغير نظر إلا الطلاق وإنكاح بكره وبيع دار سكناه وعبد)، قال الحطاب شرحا للمختصر: “فلو قال بمالي من قليل وكثير مضى في جميع الأشياء إذا كان نظرا إلا أن يقول وغير نظر قد ذكر المصنف أن إطلاق التوكيل لا يفيد حتى يقيد بالتفويض أو بأمر وهذا الفرع مثال للتفويض وشرط فيه المصنف وغيره أن يكون تصرفه على وجه النظر إلا أن يزيد في التعميم فيقول أو غير نظر وهذه هي التي للإباحة بها يتم تعميم الوكالة وقد جرى عمل الناس عندنا في هذه الجهات أنه يتصرف الوكيل المفوض إليه في كل شيء مع وجود هذا القيد الذي ذكره المصنف إلا في بيع دار سكنى موكله وطلاق زوجته”).
يظهر من هذا أن فقهاء المالكية من الناحية الموضوعية راعوا المصلحة الراجحة، ومن الناحية الشخصية راعوا الإرادة الصادرة من الموكل فيما إذا فوض الأمر لوكيله ونص على ما فيه الضرر، لأن إرادته اتجهت إلى ذلك، إلا أن ما جرى به العمل هو الاستثناء المذكور)، سواء خص الموكل ما فيه المصلحة أو غير المصلحة، وقد أطال المالكية شرحا في هذه المسألة حتى قال بعضهم إن الوكالة إن طالت قصرت وإن قصرت طالت، بمعنى كلما قل كلام الموكل عمت الوكالة وكلما كثر خصت، كما أن الوكالة العامة إذا سمي فيها شيء دون شيء فإن العموم يدخل ما سمي منها، ويقال لها عامة فيما ذكر).
أما الحنفية في المعتمد فالوكالة العامة عندهم، وكالة بالحفظ، فقد استثنوا منها التبرعات لأنها مما يدخل النقص على مال الموكل، وبالتالي يحصل له الضرر، وهذا قول الإمام أبي حنيفة وعليه الفتوى عند الحنفية، وزاد بعضهم الإبراء والحط، فلا يجوز للوكيل أن يبرئ مدين الموكل ولا أن يحط عنه الدين إلا بتوكيل خاص، لأن ذلك من قبيل التبرع، والتبرعات مستثناة من الوكالة العامة).
ولا بأس أن نشير إلى أن تلك التصرفات التي ذكرها أصحاب هذا الرأي واعتبروها ضارة بالموكل ليست على سبيل الحصر، ولا يمكن التسليم أنها وحدها التي تدخل المضرة، بل هناك العديد من التصرفات غير النافعة على حسب الظروف.
وحجة هذا الاتجاه أن العموم رغم سريانه على عمومه، فإن مقاصد الشريعة الإسلامية ومبادئها تقتضي تخصيص ذلك بما فيه المصلحة تطبيقا لقاعدة “لا ضرر ولا ضرار”، كما تقتضي دعامة العقل الذي يتنافى مع إهدار المصالح والحقوق، لذلك خصصوا الوكالة العامة بما هو نظر وبما فيه مصلحة للموكل، ثم إن الإنسان لا يمكن أن يوكل آخر على إدخال الضرر لنفسه، على العكس فما عزم التوكيل إلا لمصلحة رآها في الوكيل، ولقدرة على التصرف لم يجدها في نفسه.
ونحن نستحسن هذا الرأي لأنه يساير العصر الذي نعيشه، بعدما قلت المروءة وكثر الاحتيال وانعدمت الثقة في الغالب، سدا لما تحمله الوكالة العامة من أضرار من جراء تضارب المصالح وتعارضها، وحتى لا يجد أولئك المحتالون طريقا إلى من ائتمنهم على ماله ونفسه لتنفيذ نزواتهم الدنيئة، خاصة وأننا في عصر ذابت فيه القيم الروحية والأخلاقية في الماديات حيث أصبحت أمانة الوكيل أمرا غير محقق.
الجانب القانوني:
وإذا ما رجعنا إلى أحكام الوكالة العامة في قانون الالتزامات والعقود نجد المشرع حدا حدو الاتجاه الثالث مع توسيع مجال المنع ليشمل مجموعة من التصرفات تم حصرها في الفصل 894 من ق ل ع وهي: اليمين الحاسمة والإقرار القضائي والدفاع أمام القضاء في جوهر الدعوى وقبول الحكم أو التنازل عنه وقبول التحكيم وإجراء الصلح والإبراء من الدين وتفويت عقار أو حق عقاري وإنشاء الرهن رسميا كان أم حيازيا وشطب الرهن والتنازل عن الضمان ما لم يكن في مقبل الوفاء بالدين وإجراء التبرعات وشراء وتفويت لصل تجاري وتصفيته والتعاقد على إنشاء شركة أو شياع.
فلا يجوز للوكيل أيا ما كانت صلاحياته أن يباشر نيابة عن موكله هذه التصرفات ما لم يمنحه الموكل الإذن الصريح بمباشرتها نيابة عنه، ولعل في هذا الاختيار التشريعي الذي تبناه المشرع المغربي ضمانات قوية في حماية مصالح الموكل من مخلفات التطبيق السيء للوكالة العامة.
فالوكالة العامة في القانون هي التي ترد بألفاظ عامة، لا يعين فيها الموكل محل التصرف المعهود به للوكيل، بل لا يعين نوع هذا التصرف بذاته، فيقول الموكل مثلا وكلتك في جميع أعمالي، أو وكلتك في مباشرة ما تراه صالحا لي، أو وكلتك لإدارة مهامي، أو جعلتك وكيلا مفوضا عني، أو نحو ذلك مما يفيد التوكيل العام في إدارة الأموال. وتكون عامة كذلك حتى في قضية معينة إذا منحت صلاحيات عامة غير مقيدة فيها. نص الفصل 893 من قانون الالتزامات والعقود على أن “الوكالة العامة هي التي تمنح للوكيل صلاحية غير مقيدة لإدارة كل مصالح الموكل أو هي التي تمنحه صلاحيات عامة غير مقيدة في قضية معينة، وهي التي تمنح الصلاحية لإجراء كل ما تقتضيه مصلحة الموكل. وفقا لطبيعة المعاملة وعرف التجارة وعلى الأخص قبض ما هو مستحق له ودفع ديونه، واتخاذ كل الإجراءات التحفظية ورفع دعاوى الحيازة (الدعوى التصرفية) ورفع الدعاوى أمام القضاء على المدينين وحتى التعاقد الذي من شأنه تحميل الموكل بالالتزامات في الحدود التي يقتضيها تنفيذ المعاملات التي كلف الوكيل بإجرائها”.
يتبين من النص السالف أن الوكالة العامة تصح في ظل القانون المغربي إذا كانت معهودة للوكيل في أعمال الإدارة التي يمتهنها الموكل، بحيث يستطيع إعطاء الصلاحية الكاملة للوكيل في إدارة مصالحه، والقيام بجميع الإجراءات التي توصله إلى ذلك وفق طبيعة المعاملة وعرف التجارة*.
وسواء أشارت الوكالة إلى أعمال الإدارة أو لم تشر، فإنها لا تخول للوكيل الصلاحية إلا في أعمال الإدارة الخاصة بالموكل، بحيث لا يستطيع الوكيل أن يقوم بتصرفات لا تقتضيها مصلحته، أو خارجة عن طبيعة المعاملة المعهود بها، أو تتنافى مع عرف التجارة. وهذا لا يعني أن الوكيل ليس له أن يباشر تعاقدات من شأنها تحميل الموكل التزامات، بل العكس له أن يتعاقد باسم الموكل في إنشاء التزامات في ذمته بشرط أن تكون هذه الالتزامات داخلة في الحدود التي يقتضيها تنفيذ المعاملات المكلف بإجرائها).
وبما أن النص المذكور حدد صلاحية الوكيل في حدود مصلحة موكله، وحيث أن عقود التبرعات والإسقاطات والإبراء لا تحقق مصلحة الموكل، فإن هذا النوع من التصرفات خارج عن صلاحية الوكيل العام، ليس فقط لأنه من غير أعمال الإدارة، بل لأن في إجرائه إخراج ملك من أملاك الموكل، وهو مالا مصلحة فيه، إلا أن هذه الأعمال إذا كانت تدخل في أعمال الإدارة الموكل في تسييرها، وكانت بسيطة لا مغالاة فيها، تصح من الوكيل إذا كانت من شأنها أن تساعد على تنفيذ الوكالة بالدقة المطلوبة، وذلك كالهدايا والمنح التي تعطى للعمال، وتفرضها نوع التجارة.
ولا تشمل الوكالة العامة أعمال التصرف كإجراء الإقرار القضائي، أو الدفاع أمام القضاء، أو الإبراء من الدين، أو تفويت عقار أو حق عقاري، أو إجراء تبرع أو غير ذلك ما لم ينص عليها صراحة في التوكيل، لأن هذه الأعمال لا تدخل في الإدارة، وبالتالي لا تصح فيها الوكالة العامة، بل لابد فيها من إذن صريح من الموكل في إجرائها.
وعليه فإن الوكالة العامة لا تصح إلا في الأعمال التي توافق طبيعة المعاملات المكلف بها، من إدارة أموال معهود بها، وتسيير ممتلكات داخلة في هذا الإطار. أما غير ذلك من التصرفات التي ذكرناها من تبرعات ومعاوضات فلا بد فيها من ذكر نوع التصرف حتى وإن ورد ذكره بلفظ عام. وهذا ما يستفاد من الفصل 894 من قانون ل.ع.م الذي ينص على ما يلي: “لا يجوز للوكيل أيا ما كان مدى صلاحيته، بغير إذن صريح من الموكل توجيه اليمين الحاسمة ولا إجراء الإقرار القضائي، ولا الدفاع أمام القضاء في جوهر الدعوى ولا قبول الحكم أو التنازل عنه ولا قبول التحكيم أو إجراء الصلح، ولا الإبراء من الدين ولا تفويت عقار أو حق عقاري ولا إنشاء الرهن رسميا كان أم حيازيا ولا شطب الرهن أو التنازل عن الضمان ما لم يكن ذلك في مقابل الوفاء بالدين، ولا إجراء التبرعات ولا شراء أو تفويت لأصل تجاري أو تصفيته، ولا التعاقد على إنشاء شركة أو شياع، وكل ذلك ما عدا الحالات التي يستثنيها القانون صراحة”.
والوكيل العام المفوض له الصلاحية في أن يوكل تحت يده من يشاء من الوكلاء، لأنه يعتبر مأذونا في ذلك طبقا لما جاء في الفقرة الثانية من الفصل 900 من قانون ل.ع.م حيث نصت على ما يلي: “غير أن الوكيل ذا الصلاحية التامة يعتبر مأذونا في أن يوكل تحت يده كليا أو جزئيا”. فالوكيل بموجب هذا النص يسمح له بتوكيل غيره في القيام ببعض التصرفات الموكولة له بموجب عقد الوكالة. وهذه الصلاحية في منح الموكل حق توكيل شخص آخر لتنفيذ الوكالة جزئيا أو كليا استحقها الوكيل العام لأنها لا تدخل في الاستثناءات المنصوص عليها في الفصل 894 السابق، إذ ليست معاوضة ولا تبرع. بل هي أقرب إلى عقد العمل من غيره، لذلك يسمح القانون بإبرام عقد العمل مع المقاولين لأجل القيام بترميمات سواء بسيطة أو جسيمة، واستئجار معدات وناقلات وغير ذلك مما تتطلبه مهمة الوكيل في تنفيذ الوكالة العامة. ومثل هذا العقد العقود التي يبرمها الوكيل لإيداع البضائع والمنتوجات والمحاصيل الناتجة عن الإدارة، وتعتبر هذه من أعمال الصيانة التابعة لمهمة الوكيل.
وإن لم يكن نص التوكيل يتضمن مثل هذه الأنواع من الأعمال صراحة، فهي تعتبر من أعمال الإدارة ويشملها عموم النص الذي يشير إلى تحقيق المصلحة للموكل، وغيرها كثير لا نحتاج لذكره، إذ يكفينا في تبليغ المقصود ما ذكر.
ونشير إلى أن اتجاه القانون هذا يسير مع ما قرره جمهور الفقهاء من أن الوكالة العامة وإن كانت تسري على عمومها فهي لا تنفذ إلا فيما يحقق المصلحة للأصيل، ويوافق حاله وطبيعة معاملاته، ويلاحظ أن القانون أخذ برأي الجمهور مع تضييق المجال شيئا ما على الوكيل المفوض، بحيث إذا كان الوكيل وكالة عامة في الفقه الإسلامي له صلاحية تفويت عقارات موكله إلا سكناه كما في المذهب المالكي، أو عدا التبرعات كما في المذهب الحنفي، فإن القانون استثنى أكثر من ذلك كما يظهر من الفصل 894 السابق، حيث شمل الاستثناء جميع الأعمال الخارجة عن الإدارة من إقامة الشركة أو الشياع وإنشاء الرهن بنوعيه وشطبه، والإبراء من الدين والتفويت إلى غير ذلك مما هو منصوص عليه في هذا الفصل.
ولعل هذه التقييدات مستحسنة في الوقت الراهن، ذلك أن ذمم الناس تسرب إليها الخراب. ولا يطمئن المرء في ظل هذه الظروف إلى اعتماد التوكيل العام، الذي قد يفضي إلى جلب المفاسد إلى الموكل سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد.
لكن ما يلاحظ على الفاعلين في مجال تطبيق الوكالة، المكلفين بتنفيذ عقود التوكيل – على رأسهم مصالح المحافظة على الأملاك العقارية- أنهم يميلون إلى التضييق أكثر فأكثر كلما كانت الوكالة عامة، وإن كانت أحيانا لا عموم فيها و لا تفويض سوى العنوان، فيكون العنوان وكالة عامة مفوضة في حين يتناول الموضوع مجموعة من الأمور والتصرفات المتعددة والإجراءات المختلفة التي تخرج التوكيل عن عمومه وشموليته، وهذه هي الصيغة المتداولة للوكالة العامة في الوسط المهني التوثيقي، بحيث صارت الوكالة خاصة بسبب تعداد الأمور الموكولة إلى الموكل، ومن هنا يأتي التخصيص الذي يستقي صبغته من تحديد القضايا، فتخرج الوكالة العامة عن صفتها العمومية، إذ لو تم الاقتصار على ذكر ألفاظ التوكيل مثل: ” وكله لينوب عنه ويقوم مقامه في جميع أموره وكافة شؤونه” لاستحقت أن تسمى وكالة عامة، لأنها فعلا لم تسم أي قضية ولم تعين أي تصرف بعينه، لكن يحصل العكس حين تحرير عقد الوكالة ويتم تعداد مهام الوكيل بالتنصيص على البيع والشراء والقسمة والهبة والصدقة والكراء…… وكثير من الإجراءات الأخرى.
والتشديد الذي تمارسه هذه المصالح على عقود الوكالة العامة يؤدي إلى رفض اعتمادها في بيع الأملاك العقارية مع أن ألفاظ التوكيل تتضمن البيع بحجة أن عنوان الوكالة “وكالة عامة مفوضة” لا تشمل التفويت بمقتضى القانون، غافلين الإذن الصريح بالبيع الذي صدر عن الموكل وإن كان إذنا عاما بالبيع، أو متغافلين لفظ التفويت الصريح إما بالهبة أو الصدقة أو غيرهما، وهو ما يخالف مقتضيات الفصل 894 الذي ينص على أنه:” لا يجوز للوكيل أيا ما كان مدى صلاحيته، بغير إذن صريح من الموكل توجيه اليمين الحاسمة ولا إجراء الإقرار القضائي، ولا الدفاع أمام القضاء في جوهر الدعوى ولا قبول الحكم أو التنازل عنه ولا قبول التحكيم أو إجراء الصلح، ولا الإبراء من الدين ولا تفويت عقار أو حق عقاري ولا إنشاء الرهن رسميا كان أم حيازيا ولا شطب الرهن أو التنازل عن الضمان ما لم يكن ذلك في مقابل الوفاء بالدين، ولا إجراء التبرعات ولا شراء أو تفويت لأصل تجاري أو تصفيته، ولا التعاقد على إنشاء شركة أو شياع، وكل ذلك ما عدا الحالات التي يستثنيها القانون صراحة”.
فصدور إذن الموكل بإجراء التفويت في الوكالة العامة أيا كان نوعه معاوضة أو تبرع، يمنح الوكيل الصلاحية في إجراء التصرف المأذون فيه وإن كانت ألفاظ التفويت عامة، وهنا يأتي دور الجهات التوثيقية المكلفة بتلقي عقود الوكالة وتحريرها في التوجيه والإرشاد والتوضيح، بحيث يتعين أن يشعر الأطراف خاصة الموكل بآثار عقد الوكالة المطلوب إنجازه وما يترتب عليه من أحكام، حتى يتمكن المتعاقدون من معرفة آثار ما هم مقدمون عليه من تصرفات، وبالتالي يتم الحد من التشكيات ومن التذمرات التي تتوقع من الأطراف، كما يتم الحد من التوسع في التفسير السلبي لأحكام الوكالة العامة بالنسبة للمصالح المعنية بتنفيذها.
كما أن التشديد يشمل صلاحية الوكيل المفوض بخصوص توكيل من يشاء تحت يده، فالقانون يسمح للوكيل المفوض أن يوكل تحت يده من يشاء وإن لم يتم التنصيص على ذلك في صلب الوكالة العامة، بحيث يجوز له أن يوكل غيره لممارسة مهام الوكالة المنوطة به جزئيا أو كليا دون قيد، وتسري على الوكيل الثاني أحكام عقد الوكالة العامة وينزل منزلة موكله في الحقوق والواجبات تجاه الموكل الأصيل، نص الفصل 900 من ق ل ع على أنه” غير أن الوكيل العام ذا الصلاحية التامة يعتبر مأذونا في أن يوكل تحت يده كليا أو جزئيا”.
لكن الواقع مع الأسف لا يستوعب تطبيق هذه الأحكام بداعي الدفاع على مصالح الموكل وحماية حقوقه، وقد أبان عن هذا الواقع مجموع التشكيات المتناقلة عن أفراد الجالية المغربية المقيمين بالخارج الذين يتوافدون عن مختلف المصالح بالقنصليات العامة للمملكة، حاملين تذمراتهم وناقلين معاناتهم في التعامل مع عقود الوكالات التي يدولون بها داخل أرض الوطن من أجل قضاء مصالحهم في فترات محدودة وأوقات ضيقة.