باحث يدعو لإنجاز دراسة متكاملة عن حياة الدكتور مصطفى بن حمزة ومدرستة الفكرية وحياته المهنية
عبد الكريم المحيحش
لم يخل عصر من العصور في تاريخ الأمة الإسلامية من وجود علماء أجلاء، يعملون على توجيه دفتها، وتقويم انحرافاتها، والدفاع عن مقومات وجودها، في مواجهة كل التحديات الممكنة، وهو أمر يعود بالأساس، إلى كون العالِم في التصور الإسلامي، ليس من يستبطن العلوم، ويكتنز المعارف المختلفة، ويعيش بين ثنايا الكتب والمجلدات، منشغلا في برجه العاجي عن قضايا المجتمع وإشكالياته، وإنما العالِم الحق، من يشارك المجتمع همومه وقضاياه، ويعمل على إصلاح اختلالاته وتصحيح تصوراته؛ ذلك أن من تأهل بالعلم، فقد تحمل واجب الكلمة تجاه مجتمعه وأبناء وطنه، ولا تسقط عنه هذه المهمة إلا بأدائها، أو بوجود من يؤديها، ممن توفرت فيهم الشروط العلمية والمؤهلات الأخلاقية.
إن القيام بأي إصلاح في المجتمع يستلزم بالضرورة أن يكون هناك علماء، يؤدون هذه الوظيفة، لأنها اختصاص حصري ينهض به العلماء دون غيرهم. وإذا ما تخلى العلماء عن دورهم في الإصلاح، ورغبوا عنه بالانشغال بقضايا لم تعد من أولويات العصر، فقد تركوا وراءهم فراغا يملأه بعض أنصاف المثقفين وأشباه العلماء، الذين ليست لهم شرعية الكلمة، فيبثوا في الناس ما يريدون من أفكار وتصورات، غير منضبطة بضوابط العلم ولا بقيود المعرفة الشرعية. ومن هذا المنطلق، فقد حرص الإسلام حرصا شديدا على أن تسعى الأمة في كل عصر، إلى توفير نخبة من العلماء، تقوم بمهمة الإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران: الآية 104).
وقد يصح لي أن أقول بنوع من التجاوز في التعبير، إن العالِم في المنظور الإسلامي، هو أشبه ما يكون بما يسمى في المصطلح المعاصر بـ (المثقف العضوي) فكما أن هذا المثقف يستشعر المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه مجتمعه، فيحمل همه ويستبطن طموحاته، ويعمل على تحقيق آماله وانتظاراته، كذلك العالِم في التصور الإسلامي، يعد جزءا من كيان المجتمع الذي ينتمي إليه، وبالتالي تقع عليه مسؤولية التغيير الواجب إحداثه، والقيام بحركة تصحيحية تجديدية، كلما استجد في الحياة ما يتطلب ذلك.
إن العلماء عبر تاريخ هذه الأمة كانوا دائما في صلب المجتمع، يحملون همه، ويعملون على تحقيق شروط نهضته، وإبراز هويته، والدفاع عن مقدساته، فما ضعفوا وما استكانوا أمام كل الإغراءات والمساومات والتهديدات التي كانت تصوب ضدهم، ولذلك فإن ما نلاحظه اليوم من شموخ هذا الدين وعزته رغم كل المؤامرات التي تحاك ضده من تهميش للغته، وإفساد لقيمه، وزرع للشبهات حوله، إنما هو نتاج عمل وتضحيات جسام، بذلها العلماء عبر التاريخ.
والمغرب بحكم انتمائه دينيا وثقافيا للأمة الإسلامية، كان له نصيب من هذا الحضور اللافت للعلماء في مختلف مراحله التاريخية. وقد لا نبالغ إذا قلنا بأن هذا البلد ظل محفوظا من كل الاختراقات والهجمات القادمة من الشمال أو الشرق، بفضل جهود علمائه المخلصين. ولقد كتب الشيخ عبد الله كنون رحمه الله، كتابا بعنوان “النبوغ المغربي” حاول من خلاله التعريف بعلماء المغرب وأدباءه ورموزه الخالدة، بعد أن ظن الناس في بعض الأقطار الإسلامية، أن هذا البلد المسلم، ليس له علماء، كما هو الحال بالنسبة للمشرق، فكان هذا الكتاب ردا قويا على كل تلك الادعاءات والمزاعم، التي تخفي جهلا كبيرا بتاريخ المغرب وعلمائه، ودور هؤلاء العلماء، في تشكيل وعي الأمة، وبناء شخصيتها الثقافية والدينية.
في هذا السياق تأتي هذه المحاولة المتواضعة لتسلط الضوء على رمز من رموز المعرفة الدينية في المغرب، قدم الشيء الكثير لهذا الوطن العزيز، وللأمة الإسلامية بشكل عام، إنه الدكتور مصطفى بن حمزة، الذي أعتبره حقيقة من طينة العلماء الذين لهم وزنهم في الساحة الفكرية العربية والإسلامية. فهو شخصية منفتحة تمتلك قدرات معرفية قل نظيرها، إذ إلى جانب إتقانه لعلوم الشريعة إتقانا محكما كما يشهد له بذلك المتخصصون في هذا المجال، هو رجل واسع الاطلاع على مختلف النظريات والعلوم الحديثة، ما يجعل مقارنته بغيره تبدوا غير منصفة. فكثيرا ما نجد من يتقن علوم التراث بأصولها ومناهجها، لا يمتلك ذلك القدر من الإتقان بالنسبة لعلوم أخرى. وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا بأن هذه الموسوعية في المعرفة التي يتمتع بها الرجل، تكاد تكون ميزة تفرد بها دون غيره، وهو ما تؤكده تلك الشهادات والاعترافات التي وقفنا عليها في حقه، سواء من قبل أساتذته ومعاصريه، من المشتغلين في حقل المعرفة الشرعية، أو من قبل أناس ينتمون إلى حقول معرفية أخرى. وأكتفي هنا بعرض شهادة لأحد أساتذته، الذين درس على أيديهم حين كان طالبا في دار الحديث الحسنية، وهو الدكتور محمد الراوندي رحمه الله، حيث كان قد صرح لأحد المنابر الإعلامية، على هامش نشاط فكري أقيم بالمنطقة الشرقية بما يلي: الدكتور مصطفى بن حمزة أعرفه منذ أن جاءنا طالبا في دار الحديث، وكنت وقتها أستاذا فتشرفت بمعرفته، وكان قريبا مني جدا. وأعترف لكم بأنه طيلة حياتنا لم نصادف مثل مصطفى بن حمزة في إحاطته بكثير من العلوم. مصطفى بن حمزة يعرفه أساتذته ويعرفون فضله، أكثر مما يعرفه طلابه. وقد يصح لي أن أقول بأنه في عصره مفرد في علمه وفي إحاطته. فهو صاحب مدرسة كبيرة جدا، وأنا أعتز بأنني من أنصار مدرسة مصطفى بن حمزة؛ ولذلك لا أتردد حينما يدعونني إلى حضور ندوة أو كذا، فأنا أول من يقرأ ما يكتب وأول من ينصت لما ينتج.
هذه شهادة من عالم جليل تختزل كل معاني الإعجاب والتقدير لعمل الرجل وعلمه، ولا يمكن أن يعرف قدر هذه الشهادة، إلا من عرف قدر صاحبها، وهو الدكتور محمد الراوندي رحمه الله.
إن مما يمكن قوله في هذا السياق أنه من خلال متابعتي المتواضعة لبعض الأنشطة العلمية التي شارك فيها الدكتور مصطفى بن حمزة وطنيا ودوليا، بالإضافة إلى ما قرأته له من كتب ومقالات، ولا أدعي أن لدي إحاطة بها، ولكن ما هو مؤكد بالنسبة لي، أنه لا يمكن لأحد أن يجادل في رصانتها، وقيمتها المعرفية؛ كل ذلك ولَّد عندي قناعة راسخة بأن الرجل كما وصفه الدكتور محمد الراوندي رحمه الله مفرد في عصره بما حباه الله به من معرفة واسعة وفهم سليم.
وقد يتساءل البعض عن سبب قلة إنتاجه المعرفي على مستوى النشر والتأليف، مقارنة مع غيره ممن لا يفضُلونه علما ومعرفة بعلل الأمة وأدوائها، وبكيفية تشخيص أعطابها، ووصف الأدوية الناجعة لها، وهو تساؤل يمكن أن نجيب عنه بما يلي:
أولا: إن كل من يعرف الدكتور مصطفى بن حمزة يعلم جيدا أنه رجل متعدد الاهتمامات، فهو إلى جانب ما ذكرناه، له اهتمامات أخرى مرتبطة بالميدان، من بينها أنه مدير لمعهد البعث الإسلامي بوجدة، ورئيس للمجلس العلمي المحلي بالمدينة نفسها، كما أنه عضو في المجلس العلمي الأعلى، وقد شارك في عدة لجن وهيئات استشارية، مرافعا في كل القضايا والملفات، التي تهم الرأي العام الوطني والدولي. ويكفي أن يعلم القارئ الكريم، أن الدكتور مصطفى بن حمزة، كان عضوا في اللجنة العلمية المكلفة بمدارسة قانون مدونة الأسرة، التي كانت قد شهدت قبل أن تخرج إلى الوجود، مخاضا عسيرا، ونقاشا حادا بين التيار التقليدي المحافظ من جهة، التيار الحداثي العلماني من جهة أخرى. ولولا جهود الدكتور مصطفى بن حمزة، وأمثاله من العلماء الغيورين على هذه الشريعة، الذين وقفوا سدا منيعا أمام تلك المحاولات الساعية لعلمنة الدولة، والقضاء على ما بقي فيها من أثر للإسلام، لكانت الأسرة المغربية اليوم تشهد انحرافا خطيرا، على غرار ما نلاحظه في بعض الدول التي استغنت عن الزواج والإنجاب، بتربية القطط والكلاب.
ثانيا:
إن الرجل لا يكتب للاستهلاك الإعلامي، أو لمجرد إثارة الانتباه، والرغبة في الظهور، والتشوف نحو الشهرة وما إلى ذلك، وإنما يكتب للتاريخ؛
ذلك التاريخ الذي لطالما عاقب الكثير من ممارسي فن التهريج على مسرح الثقافة العربية، ممن أعوزتهم المعرفة العلمية الحقة، والاطلاع الواسع، فما لبثت تلك المشاريع التنويرية المزعومة التي نظّروا لها طويلا، وحاولوا فرضها على العقل المسلم، أن تحولت إلى مجرد ذكرى سيئة، تعكس لحظة الصدمة الحضارية التي تعرض لها العقل العربي، أكثر مما تعكس رغبة أصحابها في التطلع إلى القيام بإصلاح حقيقي يحترم المعايير المتعارف عليها في أي إصلاح.
ثالثا: إن الدكتور مصطفى بن حمزة لم يكن هاجسه إغراق المكتبة العربية والإسلامية باجترار قضايا استنفدت كل أغراضها، ولم يعد في واقع الناس ما يبرر استدعاءها، وإنما كان همه مناقشة قضايا وإشكالات معاصرة، يقتضي واجب الوقت الاهتمام بها، وإعطاءها من الأولوية ما تستحق، وبالتالي فإن هذا الإنتاج المعرفي وإن بدا قليلا من حيث الكم، إلا أنه كثير من حيث الغنى والتنوع والجدة التي يمتاز بها.
لقد أبانت تلك المرافعات والبحوث العلمية التي قدمها الدكتور مصطفى بن حمزة عن حس نقدي كبير، نظرا لما تتسم به من عمق في التحليل ودقة في التعبير وقدرة على استكناه جوهر الأشياء، والوقوف على حقائقها، وتعرية كل المفاهيم المعاصرة وسبر أغوارها وإزالة شوائبها، وتبيان ما بها من عيوب واختلالات، بأسلوب علمي رصين. ولقد تطرق الدكتور مصطفى بن حمزة خلال رحلته في النشر والكتابة، إلى كل القضايا الراهنة والمواضيع الممكنة، سواء كانت ذات طبيعة دينية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو تربوية أو غيرها، فتحدث عن الحرية، والمساواة، والكرامة، وحقوق المرأة، والأخلاق، والبيئة، والتربية، والعلاقة مع الآخر، وغيرها من القضايا المعاصرة الجديرة بالبحث والمناقشة. ولا يمكن للباحث في هذه المجالات أن يتجاوز ما كتبه الدكتور مصطفى بن حمزة إلا إذا كان ممن تحركه نزوات لا صلة لها بالممارسة العلمية.
ختاما أقول:
إن ما قدمه الدكتور مصطفى بن حمزة في مختلف الميادين، هو شيء أقصُر عن الإحاطة به، ولم يكن ذلك هدفي من كتابة هذه السطور، وإنما كان هدفي لفت الانتباه إلى إنجاز دراسة متكاملة تشمل كل جوانب حياته الفكرية والمهنية.
وهذه مسؤولية تقع بالأساس على تلامذته والمقربين منه أكثر مما تقع على غيرهم، ولذلك فإني أعتبر هذه المحاولة بمثابة دعوة موجهة لكل من يحمل هاجس التعريف برموز الأمة وعلمائها، إلى أن يقتطع شيئا من وقته الثمين، للتعريف بالشيخ الفاضل وبإسهاماته المختلفة.
- رابط المقال في موقع هسبريس: