مجلة مغرب القانونالقانون الخاصالمصطفى بنعلي: شبكات التواصل الاجتماعي ومعضلة الأخبار الزائفة: مقدمات لنقد التوجهات التشريعية المغربية في مجال تقنين الفضاء العمومي الافتراضي

المصطفى بنعلي: شبكات التواصل الاجتماعي ومعضلة الأخبار الزائفة: مقدمات لنقد التوجهات التشريعية المغربية في مجال تقنين الفضاء العمومي الافتراضي

الدكتور المصطفى بنعلي

تتزايد المخاوف من الآثار الداهمة للأخبار الزائفة، التي يتم الترويج لها على شبكات التواصل الاجتماعي. إذ لم يعد يمر يوم، دون أن ينكشف زيف خبر، أو صورة، أو تسجيل، سبق تداوله، على نطاق واسع، على أساس أنه صحيح. والواقع أنه لطالما عاش الإنسان مع معضلة الأخبار الزائفة منذ قديم الزمان، لكن، دون أن يشهد هذا النوع من الأخبار الانتشار الكبير الذي يشهده اليوم. فقد أدى اقتحام تكنولوجيا المعلوميات والاتصالات الحديثة لحياتنا اليومية إلى انتشار الأخبار بكم هائل، وبسرعة فائقة، لتصبح الأخبار الزائفة، واحدة من أكبر المعضلات، التي ليس لآثارها حدود.

وعلى الرغم مما تحظى به الأخبار الزائفة من اهتمام، بعد تزايد انتشارها على شبكات التواصل الاجتماعي، وتورط وسائل الإعلام الجماهيري في تلفيق الأخبار، فإن دراسة هذه المعضلة لازالت تنطوي على جملة من النظريات، والقليل من القواعد. وهو الأمر الذي لم يعد مقبولا، خصوصا، بعد أن ولج العالم عصر “مابعد الحقيقة”[1]الذي أصبحت فيه الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا من الأكاذيب، والشائعات، والشحن العاطفي، في تشكيل الرأي العام.

والواقع أن موجة تزوير الأخبار وتزييفها وتسييسها على شبكات التواصل الاجتماعي أضحت معضلة كونية حقيقية، تمس كل دول العالم حتى ولوكان ذلك بدرجات مختلفة، باختلاف البيئات التكنولوجية التي تشتغل فيها هذه الشبكات، ومدى تفاعل النموذج الاقتصادي، الذي تعتمده في تصنيف الجماهير، مع البيئات الاقتصادية والسياسية والقانونية والثقافية السائدة في كل دولة على حدة.حتى وإن كان من الجائز الجزم منذ البداية أن التلاعب بالأخبار يزدهر في الأوساط التي تتظافر فيها عوامل انعدام الثقة، وفوضى المعارف، وصراع الهويات، ومدى انتشار التكنولوجيا في الحياة اليومية للناس.

ولمكافحة ظاهرة الأخبار الزائفة، يبدو أن المغرب ثابت على اختيار المقاربة التأسيسية للقانون، لمعالجة كل الظواهر المجتمعية الجديدة، ما يحملنا على الإدلاء بهذا الرأي، الذي نحاول، قدر الإمكان، إحاطته بالمعيارية الضرورية، من أجل بحث مساهمة شبكات التواصل الاجتماعي في إطلاق العنان للأخبار الزائفة، وخطورة الآثار المدمرة الناجمة عن الانتشار السريع واللامحدود لهذا النوع من الأخبار، سيما على مستوى قتل الثقة في مؤسسات الحكم.

كما سنحاول بلورة مقدمات لنقد التوجهات التشريعية المغربية لتقنين الفضاء العمومي الافتراضي، من خلال تسليط الضوء على سياق ومضامين مشروع قانون رقم 22.20 يتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، الذي صادق عليه مجلس الحكومة، يوم 19 مارس 2020، بما هو مشروع قانون يندرج في سياق التدابير القانونية والمؤسساتية التي تقوم بها الدولة المغربية لمكافحة الأنماط المستجدة من الجريمة الإلكترونية، وتقوية آليات مكافحتها، في سياق سعيها المتواصل لتقنين الفضاء العمومي الافتراضي.

الفصل الأول: دور شبكات التواصل الاجتماعي في نشر الأخبار الزائفة وتزايدآثارها المدمرة.

ليس من باب الصدفة أن تصبح قضية الأخبار الزائفة، منذ ترشح دونالد ترامب لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وانطلاق حملات البريكسيت، هاجسا لجميع الفاعلين العموميين، في كل أنحاء العالم. فالظاهرة، بأبعادها الجديدة، متشعبة ومعقدة من حيث أسبابها ونتائجها، سياسيا، أمنيا، واقتصاديا، وسوسيو ثقافيا. ما يجعل معضلة الأخبار الزائفة بشبكات التواصل الاجتماعي تأخذ حجما مقلقا، بالنظر إلى الكم الهائل من الأخبار والمعلومات والصور والأشرطة السمعية البصرية التي يجري تداولها يومياً بهذه الشبكات.

وعلى العموم، فإن مكافحة الأخبار الزائفة، بتعدد توجهاتها واجتهاداتها، تتم عموما من خلال استراتيجيتين اثنتين. تهدف الأولى إلى اتخاذ تدابير لمنع انتاج الأخبار الزائفة، بما في ذلك استعمال القانون لتجريم فبركة الأخبار وترويجها. فيما تسعى الثانية للحد من انتشارها، عبر تمكين الأفراد من أساليب تنمية ملكات الشك والنقد، وتحليل وتقييم الأخبار، وتسخير العقل والتربية لتعزيز المناعة الذاتية لمنع انتشار الزائفة منها.

واختزال اجتهادات مكافحة الأخبار الزائفة في استراتيجيتين اثنتين، إنما هو اختزال للأخبار الزائفة في جانبي إنتاجها واستهلاكها. وهو، بطبيعة الحال، لا يلغي كل المساحة الموجودة بينهما، بما تستدعيه من تظافر جهود الجميع لتشكيل جبهة عريضة عرض هذه المعضلة المدمرة. لذلك فإن تحديد العقوبات وتغليض الموجود منها على الجرائم الإليكترونية، وضمان حق الحصول على المعلومة، وإصلاح الاعلام العمومي، وتسخير الذكاء الاصطناعي لكشف وحضر تداول الأخبار الزائفة، وغيرها من التدابير التي تتخذها الحكومات، والباحثون والفاعلون والمهنيون والمهتمون، ومنصات التواصل الاجتماعي ذاتها، على أهمية دورها في مكافحة الأخبار الزائفة والمضللة ستبقى، في نظرنا، قاصرة ما لم تواكب بتدابير تستهدف إدماج الجمهور في هذا الفعل.

المبحث الأول: دور شبكات التواصل الاجتماعي في نشر الأخبار الزائفة.

لم تكتف شبكات التواصل الاجتماعي بأن أحدثت نفس الأثر الذي أحدثه مكبر الصوت فقط، بل زادت عليه بأن جعلت مستعملي هذه الشبكات صانعين ومروجين للأخبار وليس مجرد متلقين لها كما كان الأمر عليه بالنسبة لوسائل التواصل التقليدية. وهذا ما قد يشكل منطلق فهم دور هذه الشبكات في تضخم معضلة الأخبار الزائفة. فإذا كان لا أحد ينكر دور مكبر الصوت بالنسبة لرفع آذان الصلاة، وإنجاح مختلف التجمعات الجماهيرية، فكيف يمكن إنكار دور شبكات التواصل الاجتماعي في مدى وسرعة انتشار الأخبار؟

في هذا السياق، تتراكم الدراسات لتؤكد أن انتشار الأخبار الزائفة يتم بسرعة أكبر مقارنة مع الأخبار الصحيحة. فحسب بحث حديث، ينتشر الخبر الزائف بمعدل ست مرات أكبر مقارنة مع الخبر الصحيح، بمجرد بلوغ عتبة انتشاره بين ألف وخمسمائة شخص.[2] وكشفت دراسة أخرى حديثة، ترتبط بجانب المسؤولية عن نشر الأخبار الزائفة، أجريت سنة 2017، بأن شبكات التواصل الاجتماعي مسؤولة بنسبة 27% عن انتشار الأخبار الزائفة، مقابل 12% بالنسبة لمحطات التلفزيون، وفقط 6% بالنسبة للمطبوعات.[3] فيما تضع دراسة ثالثة مقارنة تجريبية بين قابلية انتشار الخبر الكاذب مقارنة مع بيان تصحيحه…

ولو شئنا لاسترسلنا في تعداد الدراسات التي تبين كيف أضحت شبكات التواصل الاجتماعي بيئة ملائمة لتلفيق الأخبار، وانتشار الأخبار الزائفة، بسبب كثافة تدفقها وسرعة سريانها على شبكة الإنترنت، حيث أن منطق خوارزمياتها مبني على الرغبة في مضاعفة معدلات الانتشار، وأن الخبر الكاذب مصمم في الأصل بهدف الانتشار الواسع، مستفيدا في ذلك من تطور مذهل في البرامج التي تسهل تزييف الصور والفيديوهات، إضافة إلى انتشار المصادر المجهولة، حيث أفادت شركة فيس بوك، على سبيل المثال، أن عدد مستخدميها عبر حسابات وهمية قد بلغ سنة 2012 أزيد من 83 مليون مستخدم، في وقت كان فيه مجموع المستخدمين قد بلغ ما يفوق المليار.[4]

إن معضلة الأخبار الزائفة تكمن في سرعة انتشارها اللامحدود على شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما يرتبط بالنظام الجديد لاقتصاد المعلومة، المبني في علاقته بهذه الشبكات على تحقيق أكبر عدد ممكن من النقرات. لذلك لا غرابة أن يرتبط انتشار الأخبار الزائفة بجيل جديد من “الصحافة الصفراء”. تلك الصحافة التي ارتبطت في التجربة المغربية ببعض الصحف الورقية التي اهتمت، وفق مقاربتها الخاصة، بأحداث المجتمع، فأصبحنا اليوم نشهد بناء نموذجها الإلكتروني، المرتكز إلى أخبار “البوز”. التي تعتمد على تقنيات الإشاعة والتشهير، وتنتقي عناوينها المثيرة من قبيل ما أصبح شائعا (عاجل، خطير، فضيحة، قنبلة من العيار الثقيل..). مع ما لهذا النموذج من أخطار تتهدد الصحافة والمجتمع معا، حتى وأن تهديد الصحافة لوحده كاف لتهديد المجتمع، لأن الإعلام يبقى إحدى قنوات التنشئة الضرورية لتأهيل الإنسان.

وإذا كانت الأخبار الزائفة، كما أسلفنا، قديمة قدم حاجة الإنسان إلى التواصل، بما يجعلها سابقة في وجودها عن وجود شبكات التواصل الاجتماعي، حيث استخدمت لغايات مختلفة مرتبطة بمصالح المالكين لأدوات التواصل المستعملة في نشرها، فإن الحاجة إلى استعمالها سياسيا قد أضفى عليها نوعا من التعقيد. بحيث أنه بقدر ما تم توظيفها في مختلف المراحل التاريخية، التي واكبت تطور وسائل التواصل الجماهيرية، لتسخير انتشارها، خدمة أغراض توجهات سياسية بعينها، بقدر ما تم استخدامها، عكس ذلك، لكبح حرية الإعلام وفرض الرقابة عليه.

فالأخبار الزائفة، طالما، عرف استخدامها من طرف ساسة بارزين، حتى أنه لا يخلو نظام سياسي، كان ديمقراطيا أو لم يكن، من ميل احترافي لفبركة الأخبار والأحداث، وقد تكون شبكات التواصل الاجتماعي بريئة من ذلك، بل على العكس من ذلك يكون حظرها نتيجة فعاليتها في فضح تلفيق الأخبار وصناعتها، بما يجعل استخدامها مكافحا لنشر الإشاعة والأخبار الزائفة بدل نشرها.

مقال قد يهمك :   Le principe de l’indépendance des institutions supérieures de contrôle des finances publiques

المبحث الثاني: الآثار المدمرة لنشر الأخبار الزائفة.

ينبغي التأكيد على أن الوعي الجمعي للإنسانية يختزن استعدادا لا شعوريا لنشر وتصديق الأخبار الزائفة، ففي كل الثقافات جذور لممارسات السلف، ترتبط بتلفيق الأخبار، وحبك الروايات. فهذه الممارسة تكاد لا تخلو منها ثقافة من الثقافات الإنسانية. حيث نجدها في الثقافة العربية الإسلامية، التي تشكل مكونا أساسا من مكونات الأمة المغربية، لم تستثني أحدا، ومست حتى الرسول الكريم، ولعل أبسط ما يدل على ذلك أن الحديث باعتبار وصوله إلينا ينقسم إلى أنواع كثيرة، منها الحديث الصحيح، والضعيف، والحسن، والمتواتر، والمرسل، والآحاد، والمشهور، والموضوع، والمرفوع، والمدلس. بل أن هناك دراسات أصبحت تشكك حتى في صحة الأحاديث الصحيحة، من قبيل المؤلف الأخير الذي زعم صاحبه إنهاء “أسطورة صحيح البخاري”.[5]

وإذا ما اعتبرنا أن الأصل في هذه المعضلة هو الكذب، فإن الطبيعة البشرية مرتبطة في وجودها بوجوده، حتى أن الديانات السماوية كلها تذم الكذابين وتتوعدهم بالعقاب. لذلك تلعب النفس البشرية والانحرافات المعرفية لدى بعض الأشخاص دورا حاسما في نشر الأخبار الزائفة. ويعزى ذلك أساسا لمجموعة من الدوافع الغريزية التي تؤثر على وظائف العقل البشري، الذي يفضل التعامل مع المعلومة المألوفة، التي لا تتناقض مع تصوراته وأفكاره المسبقة. إن المغزى من تبيان علاقة الكذب بنفسية وعقل البشر، ما يبعد معضلة الأخبار الزائفة عن دائرة الأخلاق، وبما يعزز ميلنا في التركيز على التهديد الكبير الذي يشكله انتشار الأخبار الزائفة على الثقة، كرأسمال اجتماعي ومؤسسي. تلك الثقة الضرورية، في الوقت الراهن، لجعل الحياة الاجتماعية ممكنة، كما قال بذلك فرنسيس فوكوياما.

إن أخطر ما تتهدده الأخبار الزائفة، حتى نذهب إلى الهدف رأسا، هو الثقة. سوف لن نتحدث عن أخطار أخرى كثيرة جانبية، لأن استهداف الثقة هو استهداف للمكون الاجتماعي التراكمي الأساس للاستقرار والاستمرار. سوف لن نتحدث عن صناعة التفاهة والشعبوية، ولا عن انتشار السطحية والابتذال، لأن هذه مجرد مؤشرات لسبب مسبب واحد هو استهداف الثقة. إن الخطر الداهم للأخبار الزائفة، هو ما يرتبط بإضعاف الثقة. لأن الثقة هي أساس انتشار السلوكات النزيهة، الشفافة، التي تنشد تكامل العمل الإنساني في المجتمع. وحاجة المجتمع، أي مجتمع كان، تزداد إلى الثقة، بشكل اضطرادي، مع تنوع وتشابك العلاقات بين أفراده ومؤسساته.

ومن هذا المنطلق تبرز الحاجة الماسة للثقة السياسية، التي تتعلق بمؤسسات الحكم، لأن الحاجة إلى الثقة، في آخر المطاف، ليس حاجة أخلاقية، بل هي ضرورة تنموية، مؤسسية ومعيارية، ذات أثر مباشر على الفرد والجماعة، وضمان التفاعلات الإيجابية الضرورية لاستقرار الحكم، ونمو الاقتصاد، وبلوغ الرفاهية. ولأن الثقة السياسية المؤسسية مرتبطة بمؤسسات الدولة، ممثلة في مؤسسات القانون والتمثيلية السياسية، وكل المؤسسات التي تعبر عن إرادة الأمة واختياراتها، لذلك فإن زعزعة الثقة فيها له انعكاس سلبي بالضرورة على مستوى الاطمئنان العام لقدرة مؤسسات الدولة على حماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات، مع ما لذلك من تبعات على فشل السياسات العمومية، التي يحتاج نجاحها لارتفاع منسوب الثقة بصفة دائمة ومستمرة.

وإن لم تحسم الدراسات في العلاقة السببية بين منسوب الثقة واتجاهات سلوكات الأفراد، وفي ماهو السابق من اللاحق من بينهما، فإن الثابت هو أن زعزعة الثقة المؤسسية للأفراد، طريق مختصر لانتشار السلوكات المحبطة للتنمية والتقدم. إذ لا يمكن أن نتصور، مثلا، أن ينضبط من لا ثقة له في المؤسسات لقرارات وتدابير عمومية، حتى ولو تعلقت بصحته ومصلحته. ولا يمكن، كذلك، ألا نتصور أن يكون عدم التصويت والتهرب الضريبي وانتشار الرشوة نتيجة منطقية لضعف الثقة في مؤسسات الدولة. كما لا يمكن ألا نعتبر بأن الفساد ملازم لعدم الثقة في انتاج القانون وتطبيقه. إن الأمثلة كثيرة في هذا الاتجاه، لكن البحث عن السبب من النتيجة، سيكون بمثابة البحث عن السابق من اللاحق بين البيضة والدجاجة، وبالتالي السقوط في متاهة بدون مخرج.

والخلاصة أن الأخبار الزائفة مضرة بالتنمية في أبعادها المختلفة، فالأخبار الزائفة مدمرة لكل السلوكات الإيجابية المتوقعة في علاقات التعاون والتكامل بين الأفراد والجماعات. فانتشارها، في معناه البسيط، تزيف للواقع، عبر تشكيل صورة وفهم خاطئين عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة. والتجربة أبانت أن التقدم حليف المجتمعات التي استطاعت تأمين علاقات أفرادها، وأكسبتها مناعة الثقة المؤسسية المرادفة للاستقرار. حيث كشفت التجربة كذلك أن هذه المسؤولية الجسيمة لا يمكن أن تكون جزرية، وهي لن تكون بأي حال من الأحوال، مسؤولية أخلاقية. بحيث لو كان الأمر كذلك لما طرح مشكل الأخبار الزائفة من الأساس.

الفصل الثاني: مشروع القانون 22.20 وتوجهات التشريع المغربي في تقنين الفضاء العمومي الافتراضي.

أحدثت ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات زلزالا قويا في مختلف أوجه النشاط الإنساني، وقدمت العديد من الخدمات والمنافع، في الوقت نفسه، الذي طرحت فيه العديد من المشاكل والتحديات. وإذا كانت الثورات السابقة،باختلاف أنواعها،قدغيرت من طبيعة العلاقات الإنسانية، فإن الأثر الكبير الذي تركته الثورةالتكنولوجية على طبيعة العلاقات بين الدول والمجتمعاتوالأفراد بات يطرح تحديات كبيرة على القانون من أجل ضبط وتقنين العلاقات الناشئة والمستجدة منها. وعلى غرار ما فرضه الطريق السيار للمعلومات من إقرار قوانين جديدة، في مختلف فروع القانون، لمواكبة تنظيم المجتمع، أصبح التطور التكنولوجي يفرض استصدار قوانين مستحدثة لتقنين الفضاء العام الافتراضي.

إن وظيفة وغاية القانون ترتبط بهندسة العلاقات الاجتماعية، وهي بذلك تسعى إلى توجيه وتنظيم وتأطير الآثار الاجتماعية الناجمة عن التطور التكنولوجي، عبر محاولة إخضاعها للشرائع العامة، وربطها بمبادئ وقيم المجتمع الثقافية والأخلاقية والسياسية والدينية والفلسفية. وذلك في الوقت الذي تسعى فيه التكنولوجيا إلى تنميط العلاقات الإنسانية بما يجعلها ترى في القانون تضييقا وتقييدا لا يسعفان طبيعة وسرعة تطورها. من هذا المنطلق تضطرب علاقة التكنولوجيا بالقانون وتتعارض، بقدر ما تتوطد لخلق علاقات التعاون والتكامل بينهما،لتتجلى الحكمة من صناعة القانون في ملأ الفراغ القانوني الذي يخلقه التطور العلمي والتكنولوجي، والسعي الدائم والمتجدد لتجويد وتأهيل التشريع من أجل مواكبة هذا التطور المتسارع.

في هذا السياق وجد المشرع المغربي نفسه ملزما بالتدخل من أجل إصدار وتأهيل عدد من النصوص القانونية، مستجيبا في ذلك لمتطلبات مواكبة الاقتحام الواسع لنظم المعلوميات والاتصالات لحياة الناس العامة والخاصة.حيث أقر عدد من النصوص بهدف عام يرتبط بالسعي المتواصل لتهيئة بيئة قانونية تناسب سرعة انتشار هذه النظم والتوسع في استعمالها. بالشكل الذي أصبح الأمن القانوني لنظم المعلوميات والاتصالات لا يقتصر على المجالات التقليدية لبعض القطاعات والمؤسسات، من قبيل الأبناك والحكومات والجيوش، بل أصبح يهم كل المرتفقين والمستهلكين. وهو ما سنحاول تبيانه من خلال رصد توجهات المشرع المغربي في التعاطي مع تقنين الفضاء العمومي الافتراضي.

المبحث الأول: مشروع القانون رقم 22.20 ونهج التدرج في تقنين الفضاء العمومي الافتراضي.

يفرض تطور البيئة التكنولوجية على المشرع المغربي تحديات كبيرة ومتجددة،[6] وإذا كانت اهتمامات المشرع متعددة لمواكبة هذا التطور،نتيجة الضغوط التي مارستها العولمة، وتبنى الحكومات المغربية المتعاقبة لعدد من المشاريع والبرامج الرامية لتعزيزاستعمال التقنيات الرقمية في الحياة الوطنية.[7]فإن ضغط الاستعجال يضطره في كل حين إلى تقنين جوانب من المعاملات،ذات الصلة بهذا التطور، في المجالات التجارية والضريبية والإدارية وغيرها،إضافة إلى إصدار قوانين خاصة لمكافحة الجريمة المعلوماتية.

والواقع أن تقنين استعمال نظم المعلوميات والاتصالات بالمغربلم ولنيتم دفعة واحدة، بل بالتدرج تبعا لتطور أوجه هذا الاستعمال، وتظافر العوامل التيجعلتالجرائم المتصلة به تكتسب المزيد من الخطورة. وعلى الرغم من أن العامل الحاسم في التشريع المرتبط بتكنولوجيا المعلوميات والاتصالات مرتبط بمدى تغلغلها في ثنايا الحياة اليومية للمجتمع والدولة، فإنه من الناحية الزمنية على الأقل، يمكن التمييز بين مرحلتين أساسيتين، تتجلى الأولى في التشريعات التي تمت في الحضن الدستوري لدستور 1996، والتي انصبت على وضع الأوعية القانونية لتقنين وصول هذه التكنولوجيا لعدد من المعاملات الاجتماعية. فيما تتجلى المرحلة الثانية في مرحلة تعزيز دور مؤسسة القانون في ضمان العمل بهذه التكنولوجيا، دون المساس بحقوق الإنسان وحرياته، المضمونة بمقتضى المتن الدستوري لدستور 2011.

مقال قد يهمك :   الدفع بعدم الاختصاص النوعي و فكرة النظام العام

ففي المرحلة الأولى ومواكبة منه لنهج التحرير أصدر المشرع المغربي في بداية الأمر القانون المتعلق بالبريد والمواصلاتسنة 1996،[8] غير أنه ولمواجهة الجرائم التي أضحت تهدد فعليا التجهيزات السلكية أصدر القانون 07.03 سنة 2003؛[9] والقانون 03.03المتعلق بمكافحة الإرهاب؛[10]ومدونة الجمارك التي تضمنتتجريم كل عمل يتعلق بإتلاف بيانات أو أكثر في النظم المعلوماتية، إضافة إلى القانون رقم 09.08 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين اتجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي سنة 2009؛[11] وغيرها من القوانين المتعلقة بحقوق المؤلف والحقوق المجاورة وبحماية التبادل الإلكتروني للمعطيات.

أما في المرحلة الثانية، فإن أهمية الترسانة القانونية التي راكمها العمل التشريعي خلال المرحلة السالفة، طرحت على الفاعل العمومي، من جديد تحديات كبيرة ومستجدة، بفعل تنامي موجةنشر الأخبار الزائفة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الاتصال الفوري، وتعاظم دورها في التأثير السلبي على جهود التعبئة الوطنية التي رسمت لها السلطات المغربية رزمة من التدابير الاحترازيةلمواجهة فيروس كورونا المستجد. ولم تفلح تحذيرات مسؤولي السلطات العمومية والقضائية في الحد من الترويج للإشاعة والأخبار الزائفة، التي بلغت حدا كبيرا من الخطورة، حين عمدت إلى “فبركة” بيانات ووثائق رسمية ونسبتها إلى سلطات عمومية، ما أضر كثيرا بأمن واستقرار المجتمع، إلى الحد الذي توضحت معه الحاجة إلى تشريعات جديدة.

في هذا السياق صادق المجلس الحكومي على مشروع قانون رقم 22.20 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، الذي يندرج إعداده في سياق التدابير القانونية والمؤسساتية التي تتخذها البلاد لمكافحة الأنماط المستجدة من الجريمة الإلكترونية، وتقوية آليات محاربتها، دون المساس بحرية التواصل الرقمي باعتباره صورة من صور ممارسة حرية التعبير المكفولة دستوريا.

ويستهدف مشروع القانون ملاءمة المنظومة القانونية الوطنية مع القوانين المقارنة والمعايير المعتمدة في مجال محاربة الجريمة الإلكترونية، خاصة بعد مصادقة المغرب على اتفاقية بودابيست المتعلقة بالجريمة المعلوماتية بتاريخ 29 يونيو 2018. وهو مشروع يتضمنالتنصيص على ضمان حرية التواصل الرقمي عبر شبكات التواصل الاجتماعي،وشبكات البث المفتوح وباقي الشبكات المماثلة، شريطة عدم المساس بالمصالح المحمية قانونا.

وذلك بعد محاولة للإحاطة بمختلف صور الجرائم المرتكبة عبر شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، لاسيما تلك التي تمس بالأمن العام، والنظام العام الاقتصادي، ونشر الاخبار الزائفة والسلوكات الماسة بالشرف والاعتبار الشخصي للأفراد، وكذا بعض الجرائم التي تستهدف القاصرين.

وبعد التنصيص على الالتزامات الواقعة على عاتق مزودي خدمات شبكات التواصل الاجتماعي، ووضع مسطرة فعالة وشفافة للتصدي للمحتويات الإلكترونية غير المشروعة، ينتهي إلى وضع تدابير جزرية لإقرار جزاءات إدارية في مواجهة مزودي خدمات شبكات التواصل المخلين بالالتزامات الواقعة على عاتقهم.

المبحث الثاني: نقد توجهات المشرع المغربي في مجال تقنين الفضاء العمومي الافتراضي. 

بداية لابد أن نوضح أن المقصود، في نظرنا، ب “الفضاء العمومي الافتراضي”، هو الامتداد الجديد الذي أصبحت تشكله شبكات التواصل الاجتماعي للفضاء العام في أطروحة يورغن هابرماس (Jürgen Habermas)، باعتباره المكان المتاح مبدئيا لجميع المواطنين، حيث بإمكانهم الاجتماع لتكوين رأي عام.وهذا الرأي قد يجد دوافعه ومبرراته في كون الفضاء الافتراضي هو المحك الجديد لعلاقة السلطة بالمجتمع، بالنظر لما بات يمارس فيه من أنشطة للاستقطاب الجماهيري، ولممارسة الأنشطة السياسية والحقوقية والصحافية وغيرها.

على هذا الأساسنجد بواعث بحثنا، من منطلق النقد البناء، في تأمل ثنائية الحرية والرقابة، الكامنة في توجهات التشريع المغربي من أجل ضمان تملك المجتمع لفضائه العام، في بعديه الواقعي والافتراضي، ومحاربة الجريمة الإلكترونية، تمثلا لأدوار الدولة في امتلاك السلطة وممارستها.

ومنذ البداية يتحدد موقع مشروع قانون رقم 22.20 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة في سلم تقنين الفضاء العام الافتراضي، بكونه تشريع للحاجة والضرورة والاستعجال. ذلك أنه يستهدف سد الفراغ التشريعي الذي تعاني منه المنظومة القانونية الوطنية لردع كافة السلوكات المرتكبة عبر شبكات التواصل الاجتماعي والشبكات المماثلة، من قبيل نشر الأخبار الزائفة وبعض السلوكات الاجرامية الماسة بشرف واعتبار الأشخاص أو القاصرين، خاصة في مثل الظرفية الحالية التي يعرفها العالم، ويعيشها المغرب، والمرتبطة بتفشي فيروس كورونا.

إن ما يكشف طابع الاستعجال في مضامين مشروع القانون رقم 22.20 هو التنصيص بمقتضى المرسوم بقانون رقم 2.20.292 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها من أجل الحد من تفشي جائحة فيروس “كوفيد 19″، على اتخاذ عقوبات زجرية في حق المخالفين للأوامر والقرارات الصادرة عن السلطات العمومية، بالحبس من شهر إلى ثلاثة أشهر وبغرامة تتراوح بين 300 و1300 درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين، وذلك دون الإخلال بالعقوبة الجنائية الأشد.[12]

وهي نفس العقوبة التي تتخذ ضد كل من قام بتحريض الغير على عرقلة او مخالفة قرارات السلطات بواسطة الخطب أو الصياح أو التهديدات المفوه بها في الأماكن أو الاجتماعات العمومية أو بواسطة المكتوبات أو المطبوعات أو الصور أو الأشرطة المبيعة أو الموزعة أو المعروضة على أنظار العموم أو بواسطة مختلف وسائل الإعلام السمعية البصرية أو الإلكترونية، وأي وسيلة أخرى تستعمل لهذا الغرض دعامة إلكترونية.

وإضافة إلى ما تشترك فيه التشريعات المغربية الجنائية المرتبطة بالجرائم المعلوماتية من خصائص شكلية، كونها وليدة سياقات وطنية مشحونة بانفعالات عاطفية، حيث ارتبطت مقتضيات القانون رقم 03-07 المتعلق بالإخلال بسير نظم المعالجة الآلية للمعطيات، والقانون رقم 03-03 المتعلق بمكافحة الإرهاب،[13]واللذان حاولا سد الفراغ التشريعي لمواجهة الجرائم المتعلقة بنظم المعالجة الآلية للمعطيات، في سياق الصدمة الكبيرة التي كان يعيش عليها المجتمع المغربي في أعقاب تفجيرات 16 ماي الإرهابية، وهو نفس السياق الذي يندرج فيه مشروع القانون 22.20 الموسوم بالتعبئة الوطنية لمواجهة فيروس كورونا، واستياء الرأي العام الوطني من استعمال شبكات التواصل الاجتماعي للدعوة إلى القيام بمظاهرات بعدد من المدن المغربية، وخرق قرار الطوارئ الصحية الذي أعلنه المغرب للحد من انتشار الفيروس.

في مثل هذه السياقات فإن أكبر تحدي يواجه المشرع هو تحقيق التوازن الراشد بين ثنائية الحرية والمنع.[14] إذ أن الخوف كل الخوف من أن يتملك الحماس المشرع في مواجهة الجريمة الالكترونية وآثارها المدمرة، وهو غالبا ما تعوقه الخبرة والدراية الكافية بمستجدات التطور الذي بلغته التقنية التكنولوجية، فيعتدي على حقوق وحريات الأفراد، ويتحول بذلك التشريع من ضمانة لحماية الحقوق والحريات،وتحقيق المصلحة العامة، إلى اداة للقهروالتسلط، ليس فقط في مواجهة الأشخاص، بل كذلك المبادئ الدستورية، التي لا ينبغي الخروج عليها‏، تحت أي مبرر من المبررات.

ولا تقتصر التحديات المطروحة على المشرع في مجالات الجرائم الالكترونية على ضمان التوازن بين الحرية والمنع، بل كذلك على عدم بلوغ التضخم، بفعل الطبيعة المستحدثة لهذه الجرائم في مقابل الاستقرار اللازم في مؤسسة القانون.  حيث أصبح التضخم في سن القواعد القانونية محل انتقاد واسع في الممارسة التشريعية المغربية، لما له عنها من انعكاسات بالغة التعقيد. والتضخم في التشريع، الناجم في الغالب عن غياب تصور مسبق في تحديد الغايات من صناعة القواعد القانونية، وفق مخططات تشريعية دقيقة، لا يعيق فقطتكييف وتطبيق النصوص الجنائية، بسبب كثرتها وتناثرها، بل قد يؤدي الى الزيادة في تضخم الظاهرة الاجرامية ذاتها، عوض مكافحتها والحد منها.

ولأن للتكنولوجيا تأثير واضح على القانون، فإن حكمة المشرع تتمثل كذلك في الحفاظ على مناعة وقدرة القانون على التأقلم مع التطور التكنولوجي المتسارع، وتمكينه من المضادات الحيوية كي لا يمس تأثير التكنولوجيا بماهية القانون وجوهره. والواقع أن المشرع المغربي حافظ في مقاربته للجرائم الالكترونية على اعتمادمرتكزاته الثلاثة المرتبطة بالتجريم و الجزاء و المسؤولية. وهي المرتكزات التي تضمن أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وعدم رجعية القوانين، المساواة، الشرعية والإنصاف والمسؤولية الشخصية عن الجرائم المرتكبة.

مقال قد يهمك :   حدود اختصاص القاضي المنتدب بمناسبة تحقيق دين عمومي

ومن الملاحظات التي نريد أن نختم بها هذا البحث، مادام الأمر يتعلق بمقدمات لنقد ترسانة قانونية مغربية في طور التشكل، لمواجهة والتطورات الداخلية المتسارعة للظواهر المعلوماتية، ومجاراة التشريعات الدولية، والوفاء بالتزامات المغرب الخارجية، هو أن المشرع المغربي، أو بالأحرى الدولة المغربية، لازالت متشبثة بالمقاربة التأسيسية للقانون لمواجهة تلفيق الأخبار وحضر تداولها. وهو مقاربة تركز على جانب انتاج الأخبار الزائفة، في حين أن ذلك، في نظرنا لن ينجح، ما لم تعضيد ذلك بنشر الشك والتربية الإعلامية الكفيلة بتأمين الوعي النقدي لدى الجمهور.

إن تحصين العقول بالمهارات النقدية اللازمة لمحاصرة الأخبار الزائفة من خلال فرز محتويات الأخبار ضرورة حيوية لمواجهة هذا السيل الجارف من المعلومات التي تؤثر على طريقة تفكير الأفراد، وطبيعة تعاطيهم مع محيطهم. وهي بذلك، تنعكس على علاقتهم بذواتهم، وفهمهم لثقافتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم. وهي ضرورة تقع على كاهل القائمين على الشأن التربوي، لأن تمكين الأجيال الجديدة من التعاطي مع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بقدر عال، من المسؤولية والثقة بالنفس، في آخر المطاف هو مسؤولية تربوية ينبغي أن تتغذى من الفكر النقدي، ومن عملية التعلم المدرسي الممنهج الهادف.

خاتمة:

إن تلفيق الأخبار والترويج لها في مواقع التواصل الاجتماعي يتم بتظافر جهود البشر والالة، ولذلك مهما تطورت التقنيات التكنولوجية التي يتم اعتمادها لكشف وتحذير المستخدمين منها، لا تكون فعالة إلا إذا كان الإنسان يريد ذلك. ونظرا للأهمية التي بات يكتسيها ما سميناه “الفضاء العام الافتراضي” في المجتمع المغربي فإن المقاربة النقدية للتوجهات التشريعية الوطنية أصبحت ضرورية لفهم وتوجيه صناعة القانون في هذا المجال الحيوي، وهي صناعة تتوقف جودتها على إشراك الخبراء التقنيين في المجال، وكذا على مشاركة جميع الفاعليين في المنظومة القانونية والدارسين لها.

ولكون الكذب على الانترنيت سلوكا مكتسبا، تقتضي مواجهتهبكافة الوسائل المتاحة. وإن كان من الطبيعي، نظرا لطبيعة المشترك الإنساني، أن نلجأ لما يتم ابتكاره من قواعد وتدابير في مجال محاربة الأخبار الزائفة، خصوصا في المجالات التكنولوجية، والتقنية، فإنه ثمة مشكلة بالنسبة للقواعد القانونية، التي يعول عليها في محاربة إنتاج الأخبار الزائفة، والحد من انتشارها وأضرارها. ذلك أن وفاء المغرب بالتزاماته الدولية في مجال التشريع لتكنولوجيا المعلوميات والاتصالات، لا يعفيه من مراعاة الخصائص الضرورية لصناعة قاعدة وطنية ذات فعالية ومردودية.

إن ارتباط القاعدة القانونية بالظاهرة الإنسانية، التي تختلف من مجتمع لآخر، باختلاف المعطيات السوسيو-ثقافية لكل مجتمع، هو ما يحدد طبيعة التفرد والخصوصية التي يتعين بلوغها. وهو ما يحتم على الدولة المغربيةصياغة وإصدار وتنفيذ قواعد قانونية جيدة. حتى أنه، ومهما بلغت هذه القواعد القانونية من مستويات الجودة، فإن ذلك لا يعفي الوعي الجمعي الوطني من التحفيز على خلق العقل النقدي، انطلاقا من واقع ومستوى تطور الحركية المجتمعة الداخلية. لأن استخدام الخوارزميات والحواسيب والبرامج الاليكترونية، المستوردة من مجتمعات أخرى، لا يعفينا من ابتكار نظريات وقواعد علوم الإنسان والاجتماع التي تراعي خصوصيات الإنسان المغربي.

يبقى أن نشير إلى أن إصلاح المنظومة الجنائية الوطنية يقتضي نقاشا وحوارا وطنيين، ولكونه إصلاحا جوهريا يرتبط بنوع المجتمع الذي نريد، هل هو مجتمعإصلاحي وإدماجي أم مجتمع انتقامي إقصائي، فإننا نعتبر بأن تقنين الفضاء العام الافتراضي جزء من هذا الحوار الوطني، بما يجعل التكنلوجيا في خدمة حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة، وليس سببا للتضييق عليها.


الهوامش:

[1]بدأ مفهوم “ما بعد الحقيقة” في التشكل مع بداية الألفية الثالثة، حيث قدم الكاتب الأميركي، رالف كييس، في كتابه “عصر ما بعد الحقيقة، الصدق والخداع في الحياة المعاصرة”، رؤيته حول التحولات التي برزت في سلوك الأفراد، لما سماه “سلوك التضليل العفوي”، بعد أن أصبحت الحدود ضبابية بين الحقيقة والكذب، وبين الخيال والواقع، بل وأصبح خداع الأخرين تحدياً، وعادة.بعد ذلك وفي سنة 2016اعتمد معجم أكسفورد البريطاني وكذلك معجم ويبستر الأميركي على إضافة مصطلح post-truth (ما بعد الحقيقة) بشكل رسميوتقديم شرحها باعتبار دور الأكاذيب في تشكيل الرأي العام.

[2]توصلت هذه الدراسة التي أشرف عليها باحثون من معهد ماساتشوستس للتقنية، إلى أن الأخبار الزائفة تنتشر على موقع تويتر بشكل أسرع، ويبحث عنها الناس أكثر من الأخبار الحقيقية. وركزت هذه الدراسة على نحو 126 ألف إشاعة وخبر كاذب، انتشروا على موقع تويتر عبر مدة 11 عاما (2006-2017)، لتجد أن الأخبار الزائفة جرى إعادة نشرها من جانب البشر أكثر من روبوتات الإنترنت. وفسر الباحثون ذلك إلى أن الأخبار الزائفة غالبا ما تكون غير مألوفة.وقد كانت أكثر القضايا التي جرى تداول أخبار زائفة عنها هي القضايا السياسية.

[3]Meredith, MOAT, Fake News, Real Consequences: Impact on Consumers, Publishers and Advertisers – PDRF 2017 Madrid.

[4]قام موقع الفيس بوك، اواخر يوليوز 2012، بالإعلان عن نتائجه المالية والكشف على عدد المستخدمين الحاليين للموقع الذي كان من المقرر أن يتجاوز المليار مستخدم اواخر سنة 2012،واعترفت إدارة الموقع اليوم أن هناك 8.7% من عدد المستخدمين يستعملون حسابات مزيفة ووهمية وهو ما يعادل 83 مليون حساب تقريبا.

[5] كتاب “نهاية أسطورة.. صحيح البخارى” لمؤلفه رشيد أيلال صدر عام 2017 عن دار الوطن.

[6]تكشف البحوث الميدانية السنوية التي تنجزها الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات حول مؤشرات تكنولوجيا المعلومات والاتصال لدى الأسر والأفراد اتساع دائرة استخدام الهواتف الذكية والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعيفي أوساط الأسر المغربية خلال السنوات الأخيرة. حتى أصبححوالي %92 منالمغاربة البالغين 5 سنوات فما فوق مجهزون بهاتف متنقل خلال 2018، كما أن %60 من الأسر تتوفر على حاسوب/لوحة إلكترونية، وأن 94.3% من مستعملي الإنترنيت البالغين أكثر من 5 سنوات يشاركون في المنصات الاجتماعية.

[7]مثال: مشروع الحكومة الإلكترونية، ومخطط المغرب الرقمي واستراتيجية المغرب الرقمي …

[8]ظهير شريف رقم 1.97.162 صادر في 2 ربيع الآخر 1418، (7 غشت 1997)، بتنفيذ القانون رقم 24.96 المتعلق بالبريد والمواصلات،الجريدة الرسمية رقم 4518 بتاريخ 18 شتنبر 1997.

[9]ظهير شريف رقم 1.03.197 بتاريخ 16 رمضان 1424 (11 نونبر 2003)، صادر بتنفيذ القانون رقم 07.03 المتعلق بالمس بنظم المعالجة الآلية للمعطيات، الجريدة الرسمية عدد 5171 بتاريخ 27 شوال 1424 (22 دجنبر 2003).

[10]ظهير شريف رقم 140-03-1 صادر في 26 من ربيع الأول 1424 (28 ماي 2003) بتنفيذ القانون رقم 03-03 المتعلق بمكافحة الإرهاب.الجريدة الرسمية عدد 5112 بتاريخ 27 ربيع الأول 1424 (29 ماي 2003).

[11]ظهير شريف رقم 1.09.15 صادر في 22 من صفر 1430 (18 فبراير 2009) بتنفيذ القانون رقم 09.08 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي،الجريدة الرسمية عدد 5711 بتاريخ 27 صفر 1430 (23فبراير 2009).

[12]يراجع المرسوم بقانون رقم 2.20.292 يتعلق بـ”سن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها”. صادر بالجريدة الرسمية عدد 6867 مكرر، في الثلاثاء 29 من رجب 1441، الموافق ل 24 مارس 2020.

[13]يراجع القانون رقم 03-03 المتعلق بمكافحة الإرهاب، الجريدة الرسمية عدد 5112 بتاريخ 27 ربيع الأول 1424 (29 ماي2003)، ص 1755.

[14]سبق للنقابة الوطنية للصحافة المغربية أن أبدت في بيان لها، في يناير 2018، تحفظها على مسودة مشروع قانون أعدته وزارة الثقافة والاتصال لمحاربة الأخبار الزائفة، وعبرت في ذات البيان “عن استغرابها الشديد إزاء هذا المشروع غير الواضح في خلفياته وأهدافه”. معتبرة أن الأمر يتعلق برغبة في تكميم أفواه الصحفيين باسم مكافحة ومحاربة “نشر الأخبار الزائفة”.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]