الزيادة في أسعار اللجوء للعدالة
عاش المغاربة ومعهم أغلب سكان العالم جائحة كورونا وبعدها نشوب الحرب الروسية-الأوكرانية، محطتين كانتا كافيتين لكي تعدم ملايين مناصب الشغل وتوقف عجلة الاقتصاد المغربي والعالمي وتلهب الأسعار كافة، أزمتان مازالتا لم تنتهيا، أزمتان أصبحنا نتكلم فيهما عن قرب إفلاس العديد من الدول الفقيرة والمتوسطة، بل إن الأزمة والفاقة وقلة الحيلة أرخت بظلالها على دول كنا نعتبرها لحد سنوات قليلة دولا عظمى لا يمكن أن تشتكي أو يعاني مواطنوها.
وفي المغرب وبعد حوالي سنتين من معاناة الأسر مع الغلاء الذي لا يريد أن يتوقف، وأسعار طاقة جاع بطنها لأكل الطري واليابس من جيوب المغاربة، لم يكفهم ما قاسوه والألم الذي عاشه ومازالوا من فقدان الأحبة والأصدقاء.
وفي الوقت الذي كان يجب فيه على الحكومة أن تفكر في سبل معالجة وضعية المغاربة؛ التي تضررت من الزيادات في كل شيء وأن تُحس بأن صبر المغاربة يجب أن يكون حافزا لمجازاتهم عليه لا أن يكون دافعا لزيادة وضع الحصى على أكتافهم، أو تقرأه على أنه إشارة خضراء لمزيد من الزيادات ورفع الأسعار دون وجل أو خوف من رد فعل.
ها هي الحكومة ممثلة في وزارة العدل، وفي أول سابقة من نوعها تريد أن تزيد وتفرض رسوما ضريبية جديدة، ستثقل كاهل المواطنين المغاربة لا المحامين، فلجوء المغاربة لعدالة بلدهم بعد الإضافات المقترحة في مشروع قانون المالية لسنة 2023، سيصبح غاليا ومكلفا جدا، فبعد أن كان المواطن قبل لجوئه للمحكمة لوضع دعواه يؤدي عنها رسوما قضائية مهمة، ها هي تسبيقات الضرائب على الدخل التي اقترحها وزير العدل واستجابت لها بسرعة وزارة المالية، أصبحت تهم كل ملف سيفتح أمام المحاكم، فالمواطن عليه أن يؤدي مبلغ 300 درهم عن فتح ملف أمام المحاكم الابتدائية وهذا التسبيق يعني أن المحامي يجب أن يتقاضى على الأقل أتعابا عن ملفه، بعد أن كان يؤدي فقط رسوما قضائية أو تسبيقا بسيطا عن أتعابه من الموكل، وأداء مبلغ 400 درهم عن رفع الملف إلى محكمة الاستئناف، ومبلغ 500 درهم عن رفع الملف إلى محكمة النقض، وهذا المقتضى لا يهم فقط المدعين بل كذلك المدعى عليهم الذين هم معفون أصلا من أداء أية رسوم قضائية ومازالوا، وهذه المقترحات سيصبح معها المواطن كمدع أو مدعى عليه مجبرا على أن يؤدي مبالغ مالية مهمة لمحاميه لكي يضعها هذا الأخير بصندوق المحكمة كشرط قبل فتح ملفه، والذي يعتبره مشروع قانون المالية لسنة 2023 مجرد تسبيق عن الضريبة على دخل المحامي، رغم أن المتعارف عليه أن الضريبة على الدخل تؤدى بعد التوصل بالأتعاب ولا يمكن تصور أدائها قبل تسلم الأتعاب، وحتى التسبيق الأدنى عنها كان يتم بعد نهاية السنة لا قبلها، ولم تكن بتاتا مرتبطة وقيدا يمكن أن يكون مقيدا للجوء المتقاضي إلى العدالة والقضاء.
بل إن شهية الحكومة في إثقال المتقاضين المغاربة لم تقف عند ما سطرناه أعلاه، فهي حسب المشروع نفسه تريد الزيادة في ضريبة القيمة المضافة، ورفعها بنسبة مائة بالمائة على المتقاضين المغاربة، وكان من الأنسب أن يتم إعفاء المتقاضين الباحثين عن العدالة والذين يلجؤون للمحاكم من الضريبة على القيمة المضافة؛ كما تم إعفاء المرضى وزبناء الأطباء من أداء الضريبة على القيمة المضافة وحرمان المتقاضين من مثل هكذا إعفاء، وهذا التضريب المفاجئ وغير المبرر على المتقاضي المغربي، هو ناتج ربما عن تصور خاطئ وقاصر يتصور أن المتقاضين سيربحون من لجوئهم للعدالة والقضاء، وخدمة وعمل العدالة في الحقيقة هي مبتغى أخلاقي يروم في هدفه منح كل صاحب حق حقه عبر انتزاعه من الظالم المتعدي أو إحقاقه وتقريره لمصلحة صاحب الحق، وهو مفهوم بعيد جدا عن هدف التجارة والربح، وضريبة القيمة المضافة هي ضريبة تدور عدما ووجودا مع وجود التجارة والربح. والعدالة والقضاء تغرق كلما حفتها مصطلحات التجارة والربح وأكلت من كتف مرتاديها مثل هذه الضرائب.
والمتقاضون المغاربة، وأغلبهم من الفئات الفقيرة والمتوسطة، لم تنم الحكومة وتصبح فقط على فرض رسم عليهم أداؤه قبل وضع أي ملف كما هو مفصل أعلاه في مشروعها الخطير، بل مددت حلم الزيادة لزيادة مداخيل خزينتها على حساب جيوب الفقراء والمتوسطين من المتقاضين، بعد أن ضمنت مشروعها رفع واجب الضريبة على القيمة المضافة، ليس على المحامين، ولكن على الضريبة التي يجب عليهم أن يستخلصوها من موكليهم لقاء لجوئهم للقضاء والعدالة، من عشرة بالمائة إلى عشرين بالمائة، وهو ما يعني أن الموكل الذي سيؤدي مبلغ خمسة آلاف درهم كأتعاب لمحاميه، عليه أن يؤدي مبلغ ألف درهم كضريبة على القيمة المضافة، وعلى تفكيره في أن يقصد محاكم الدولة لاسترجاع حقوقه أو إقرارها، وهو ما يعني زيادة مضاعفة لضريبة القيمة المضافة التي يجب عليه أن يؤديها للدولة بداية من سنة 2023، بعد أن كانت فقط يؤدي ضريبة أقل حسب النمط الضريبي القائم.
ولنعطي مثالا بسيطا: رجل يقصد المحكمة ليطلب أداء مبلغ 10000 درهم كدين على مدينه، عليه أن يؤدي كرسوم قضائية لصالح الخزينة نسبة 2,5 من المبلغ المطلوب الحكم به تساوي مبلغ 250 درهم، وحسب زيادات المشروع المقترح عليه أن يؤدي مبلغا قدره 300 درهم كتسبيق عن الضريبة على دخل محاميه، لأن محاميه سيطلب هذه الضريبة وأتعابا كذلك، والضريبة المستحدثة نلاحظ أنها تفوق الرسم الذي يؤديه المغاربة منذ عقود لفتح ملفاتهم أمام القضاء، بالإضافة إلى مبلغ 20% كضريبة عن القيمة المضافة، فإذا أدى إلى محاميه مبلغ 2500 درهم أتعابا، عليه أن يؤدي له مبلغ خمس مائة درهم، كضريبة على القيمة المضافة لكي يؤديها المحامي الجابي للدولة، فيكون مجموع ما عليه أداؤه لاقتضاء مبلغ 10000،00 درهم هو مبلغ 250 درهما الذي قد يسترجعه من المحكوم عليه وقد لا يسترجعه، ومبلغ ثلاث مائة درهم مبلغ الضريبة المسبقة على الدخل المقترحة، ليصل المبلغ إلى 550 درهما يضاف إليها مبلغ 500 درهم كضريبة على القيمة المضافة المقترحة، تضاف إليها أتعاب المحامي وقدرها 2500 درهم، وأتعاب المحامي، -وفقط في المغرب وبخلاف دول عربية وغربية كثيرة تبقى على كاهل الموكل، ولا يمكن أن يسترجعها من خاسر الدعوى، وهو الموضوع الذي سبق وأن طرحناه سابقا في مقال لنا وطلبنا فيه تضمين المسطرة المدنية المغربية مقتضى يقضي بضرورة أداء خاسر الدعوى لأتعاب محامي خصمه. حتى نقلل من الدعاوى الكيدية، ونقلل من الخسارة المالية التي يُبتلى بها كل متقاض يلجأ إلى العدالة-. هذا دون أن ننسى مصاريف أخرى يؤديها المتقاضي طالب 10000 درهم كرسم المرافعة 10 دراهم، وأجرة المفوض القضائي التي غالبا ما أصبحت تفوق الرسوم القضائية بكثير.
لنخلص إلى أن المتقاضي في ظل مقترحات المشروع الضريبي الجديد، بعد ربح دعواه وتنفيذها وبعد استرجاعه الرسوم القضائية، وأداء الضريبة على القيمة المؤداة المسبقة قبل وبعد التنفيذ، سيتبقى له ما يلي بعد هذه العملية: 10000 درهم ناقص أتعاب محاميه 2500 درهم، ناقص 500 درهم ناقص 10 دراهم رسم المرافعة زائد 300 درهم ضريبة الدخل المسبقة التي سيؤديها لمحاميه في الأول، فيتبقى له مبلغ 6700 درهم من المبلغ الذي كان مدينا به. أما إذا لم يسترجع ما عليه من رسوم سيكون المبلغ أقل بكثير.
وهو ما يعني أنه خسر مبلغ 3300 درهم من حر ماله، لكن الكثير من المتقاضين يصعب عليهم استرجاع الرسوم القضائية والضريبية المؤداة بعد تعذر التنفيذ، أو حتى مع التنفيذ، ليصبح المبلغ المدين به المتقاضي الذي سيغنم به بعد لجوئه للعدالة، أقل مما سطرناه أعلاه.
إذن من خلال مشروع قانون المالية المقترح لسنة 2023، فقد زادت الحكومة على المتقاضين المغاربة الضرائب وهم ليسوا بتجار بل فقط طالبو عدالة وباحثون عن حقوقهم عبر اللجوء إليها، بالرفع من نسبة الضريبة على القيمة المضافة من عشرة بالمائة إلى عشرين بالمائة بل إنها فرضت عليهم أداء تسبيق ضريبي، ولمن يقول إن ضريبة الدخل تهم المحامي ولا تهم الموكل، فهو لا يعرف كيف يعمل المحامون المغاربة بكل إنسانية وينوبون في الملفات الاجتماعية بدون تقاضي أتعاب، ولكن مع هذه المقتضيات الجديدة؛ الدولة تريد أن تعدم وتنهي إنسانية المحامي في تعامله مع موكله، والمحامي لن يكون كما كان في تعامله، سيطلب التسبيق الضريبي وتسبيق الأتعاب، وأداء تسبيق ضريبي قبل اللجوء إلى فتح الملف أمام القضاء، هو مقتضى غير دستوري، لأن الدستور يجعل الحق في اللجوء للقضاء مضمونا، وكل حق يضمنه الدستور لا يكون بشروط مالية يمكن أن تجعله حقا موقوفا على أداء مبلغ مالي وليس مطلقا حين اعتبره الدستور مضمونا (الفصل 118)، والأمر نفسه بالنسبة لحقوق الدفاع؛ فالضمانة الدستورية التي تحيطه تجعل القيود المالية التي تسعى الحكومة من خلال قانون الميزانية لفرضها نظير الاستفادة من خدمات الدفاع، حقا مشروطا ومقيدا وغير متاح للجميع وليس مضمونا، وضمانته الدستورية المطلقة التي ينص عليه دستور 2011 وغير المقيدة تصبح حبرا على ورق الدستور فقط.
الدولة في شخص الحكومة ومن خلال المقترحات المسطرة في القوانين التي تعمل عليها؛ أصبح يظهر من خلال الاطلاع عليها أن اللجوء إلى خدمات العدالة أو طرق الطعن ستصبح مكلفة جدا، وحق الطعن سيحرم منه صغار المتقاضين والمتوسطين منهم في قضايا كثيرة، فلا يجب أن نقع في أرض تلك المقولة التي تقول (الأغنياء فقط هم من يحصلون على العدالة، والفقراء فقط لا يستطيعون الهروب منها).
الظلم الذي يقع على الكثير من المغاربة الفقراء والمتوسطين في حياتهم البسيطة من طرف خصومهم، قد يكون قليلا أو كبيرا، والدولة فتحت لهم المحاكم لكي تساعدهم في الوصول إلى حقوقهم واسترجاعها أو إقرارها، وكل تفكير ينحو في اتجاه إثقال كاهل هؤلاء المتقاضين بالرسوم والضرائب هو ضرب بدراية أو بغير دراية؛ بقيمة العدالة وبأهدافها السامية وتعسير على هؤلاء المتقاضين في اقتضاء حقوقهم وإقرارها عبر مؤسساتها، سيجعل المتقاضي المظلوم فريسة للظالم ورهينة جشع الدولة الضريبي في اغتنام فرصة طلبه للعدالة عبر مؤسساتها لإرهاقه ماديا.
كفوا عن اعتبار العدالة المغربية ساحة للتربح والتجارة بل يجب أن تعلموا أنها قلعة أسست بنيانها لاسترجاع الحقوق وإقرارها، ولا يربح المتقاضي بعد اللجوء إليها بل يخسر جزءا من حقوقه عبر تأدية رسوم قضائية وأتعاب محاميه، وفكروا في إعفاء المتقاضي المغربي من هذه الضريبة المرتبطة بالربح والتجارة.
الأحزاب المشكلة للأغلبية الحكومة نالت ثقة المواطنين المغاربة ببرامجها التي استهوت الناخب المغربي، وجعلته يعتقد بأن نوافذ الأمل بمستقبل زاهر ومنصف للطبقة الفقيرة والمتوسطة من المغاربة يمكن أن تنفتح معهم لتدخل للبيت المغربي رياح ذات نسيم عليل مبهج ومريح، ولكن الزيادات والخطوات الضريبية التي تريد وزارة المالية أن تقدم عليها باقتراح من وزير العدل كما صرح بذلك السيد لقجع، هي ذاهبة إلى جعل اللجوء إلى عدالة بلادنا مكلفه وغاليه على الطبقة الفقيرة والمتوسطة. وستجعلنا نترحم على السابقين من الوزراء الحكماء مهما اختلفنا معهم ونتعوذ من كيد القريب.