الحسين بلحساني : أحكام النسب في مستجدات قانون الأسرة المغربي
- الدكتور الحسين بلحساني أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق و جدة.
- قدمت هذه المداخلة في ندوة علمية بجامعة الحسن الأول بسطات بتاريخ 7 و 8 يناير 2004
من المسلم به أن الشريعة الإسلامية قد صانت الأنساب من الضياع و الكذب والتزييف، وجعلت ثبوت النسب حقا للولد يدفع به عن نفسه المعرة والضياع، وحقا لأمه تدرأ به الفضيحة والاتهام بالفحشاء، وحقا لأبيه يحفظ به امتداده أن يضيع أو ينسب إلى أحد غيره. وجعلت أحكامه من النظام العام المعبر عنه بحق الله سبحانه وتعالى، صيانة له عن كل دنس وريبة[1]. ويرتبط بذلك الحق في الإسم، فهو يعبر عن شخصية الإنسان وعن مكانته الاجتماعية وعن خصائصه. وهو أسمى تمثيل رمزي لشخصيته[2].
وبالنظر إلى أهمية النسب بالنسبة للمعنيين مباشرة، وكذا بالنسبة للمجتمع كله، فإن التشريع الذي يؤطره، يفترض فيه أن يكون حريصا على التمسك بالمقصد الشرعي من النسب، وأن يتبنى الوسائل المجدية في تحقيقه، القمينة بتوفير السبل إلى “أن يكون لكل طفل أبوان، وألا ينسب إلى أحد ولد ليس من صلبه” طبعا في الحدود التي يمكن فيها بلوغ هذا المبتغى
وفعلا فإنه لا يمكن لأي متتبع موضوعي أن ينكر كون التغييرات التي يفترض أن تطرأ على مدونة الأحوال الشخصية المغربية، عند الإقرار المرتقب لمشروع مدونة الأسرة، بالنسبة لموضوع النسب على الخصوص، من العمق والأهمية، بحيث إنها قد تجاوزت في بعض الأحيان حتى ترقبات المطالب النسائية نفسها. ولا شك أن هذه التغييرات ما كان لها أن تتحقق لو تم التعامل مع نصوص الشريعة الإسلامية وأحكام الفقه الإسلامي بنفس المنهج المعتمد في المنظومة الفقهية التقليدية، وهو منهج يتجاهل كما هو معلوم كل أثر للتاريخ والجغرافيا والاجتماع في تفسير النص وفهمه. بل الظاهر أن التغييرات قد انتصرت للنظريات التجديدية التي تتيح إمكانية وضع النص المقدس في سياقه التاريخي، وقراءته على ضوء المستجدات، وعلى أساس توظيفه بما يحقق المصلحة المؤكدة للمجتمع.
ولأن الحد الفاصل بين المنهجين يشكل هوة سحيقة سيتطلب ردمها مشاكسة ومجادلة ومحاججة حادة، قد يستغرق بالتأكيد ردحا من الزمن طويل، فقد بدا التردد واضحا بين المنهجين، ينطق به عدد من الأحكام والقواعد المتعلقة بالنسب، سويت بهدف التوفيق، فأتت غير متناسقة ولا متجانسة، بل يخشى أن تتناقض مع غيرها من الأحكام المقررة في فروع قانونية أخرى
لقد وفقت التغييرات المحدثة على قانون الأسرة بالفعل إلى معالجة العديد من النقائص المسجلة في ظل المدونة الحالية، ولاسيما تلك التي كانت تلقي بظلالها على الأطفال. ومن هنا كان الاهتمام البالغ بموضوع النسب، حيث خصه المشروع ب 13 مادة من 150 إلى 162.
ولكن التمييز بين الأب و الأم في مجال ثبوت النسب ونفيه ما يزال قائما.
فالمادة 146 من المشروع تنص على أنه: “تستوي البنوة الشرعية وغير الشرعية بالنسبة للأم في الآثار المترتبة عليهما”
أما المادة 147 فتعتبر في فقرتها الأخيرة أن بنوة الأمومة شرعية في حالة الزوجية والشبهة والاغتصاب
ويختلف الأمر تماما بالنسبة للمفترض أن يكون أبا، حيث إن المادة 148 تنص على أنه: “لا يترتب على البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية”
وتجاوزا لكل ذلك، نتساءل هل تحقق القواعد المعتمدة في مشروع قانون الأسرة المقصد الشرعي الأساسي من النسب؟
الواقع أن هذه الوسائل بعيدة كل البعد عن تيسير بلوغ هذا الهدف لاعتبارات متعددة منها:
- إنها تحتكم إلى المنظومة الفقهية التقليدية، فيتحصل من ذلك كونها بعيدة عن التجاوب مع المعطيات العلمية والاكتشافات الطبية الحديثة في هذا المجال، ومن ثم فهي تطرح بإلحاح ضرورة النظر بل والحسم في طبيعة العلاقة بين الفقه والعلم
- إنها تعكس التنافر بين المبادئ المعبر عنها في مجال النسب والتي تمثل مقاصد الشريعة، وبين ترجمتها وتجسيدها في الواقع، فيغدو موضوع النسب مظهرا آخر لأزمة النموذج الأصولي التقليدي في تحقيق المقاصد الشرعية، ودعما إضافيا للدعوة الإصلاحية أو للمدرسة التجديدية[3].
إن بلوغ المقصد الشرعي في النسب لا يمكن أن يتحقق إلا بتبني وسائل الإثبات والنفي المجدية والفعالة التي يوفرها العلم الحديث حتى ولو كانت مخالفة في ظاهرها لما استقرت عليه المدونة الفقهية المغلقة. وهو ما لم تذهب فيه التغييرات إلى المدى المطلوب. ولبيان ذلك، سنعرض في المطلب الأول لحق الطفل في أن يكون له مبدئيا أبوان، انطلاقا من تحديد مفهوم الإنجاب، ثم نتناول مظاهر قصور التشريع المغربي بشأن النسب الشرعي في المطلب الثاني ونخصص الثالث والأخير لما يعرف بالنسب غير الشرعي
المطلب الأول: حق الطفل في الانتساب إلى أبويه
إن الإنجاب بالمفهوم العلمي هو ثمرة تزاوج بين ذكر وأنثى بالغين. وتبدأ العملية التي تؤدي إلى الإنجاب حين تتحد نطفة الذكر المخصبة ببويضة الأنثى القابلة للتلقيح.
والعلم يقتضي أن الحياة في الحمل تبدأ بالاتحاد أعلاه، سواء في مجال التكاثر الطبيعي الجنسي، أو بواسطة التلقيح الصناعي، فالطفل الوليد ثمرة الإنجاب إذن، هو امتداد لأبويه، ولذلك فهو من حيث المبدأ ينبغي أن ينسب لهما معا، وهو يسمى ابنا لأنه بناء للأبوين. فلا يمكن للإبن أن يكون له أكثر من أب، ولا يمكن أيضا أن يكون بدون أب.
ولأن كل فرد يتميز باحتوائه على ترتيب ثابت لمقاطع الحمض الريبي النووي، ولأن هذا الترتيب يختلف من فرد إلى آخر، فإن ذلك قد جعل علماء الوراثة يستفيدون منه باعتباره علامة مميزة للفرد، وذلك كما هو الحال بالنسبة لبصمات الأصابع المعروفة. ولهذه التقنيات تطبيقات جنائية متعددة. ويمكن اعتمادها بنسبة نجاح فائقة في إثبات النسب حال الإنكار
وعلى خلاف الاستنساخ البشري الذي يتطلب حسب الغالب خلية كاملة حية تستطيع أن تنقسم وتتضاعف. فإن هذه التقنية لا تقتضي سوى الحصول على جزئي المادة الوراثية ولو من رفات، وهي بذلك تسمح بالتعرف على النسب الحقيقي للأبناء حتى ولو كان آباؤهم متوفين[4].
ومن الأكيد أن التقنية الحيوية قد أصبحت منذ اكتشاف تركيبة الحموض الأمينية عام 1953 فرعا علميا واسع النطاق، ينمو بتسارع ملحوظ عاما بعد عام. ويقوم بالدرجة الأولى على الاستفادة من نتائج البحوث العلمية على مفعول عناصر الوراثة هذه في تحديد مواصفات الأحياء. وفي هذا الإطار ظهرت ميادين علمية فرعية، في مقدمتها ما يسمى “التشخيص عبر الجينات” وطب إعادة إنتاج الأعضاء، وتهجين النبات والحيوان عبر الجينات وكذلك تقنية الاستنساخ[5].
وواضح من نشأة هذه الفروع أن التقنية الحيوية، مثلها مثل مختلف الميادين العلمية الأخرى، قابلة لاستغلالها في أغراض نافعة أو ضارة.
فهل يمكن توظيف هذه التقنية في مجال إثبات النسب؟
بداءة يجب التأكيد على ما يلي:
-إن هذه التقنية العلمية التي تقوم على التحليل الجيني للبصمات الوراثية، توفر بالنسبة لإثبات النسب أو نفيه معا نتائج مطابقة للحقيقة بشكل قاطع لا مجال فيه لأية نسبة من الخطأ.
وهذا ما حدا ببعض البلدان الإسلامية ذاتها إلى تبني هذه التقنية واعتمادها. وفي هذا الصدد صدر في تونس منذ سنة 1998 ما يعرف بقانون إثبات الهوية، متبنيا مبدأ إثبات النسب بكل الوسائل العلمية المتاحة وعن طريق البصمات الوراثية أو التحليل الجيني على الخصوص.
– إن مصادقة المغرب على الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل سنة 1993 تحمله التزاما قانونيا بضرورة العمل على مراجعة كل التشريعات الوطنية التي لا تتفق ومقتضياتها، بل إن عليه إقرار كل الإجراءات والقواعد الكفيلة بتدعيم حقوق الطفل وحمايتها مع العلم أن المغرب لم يتحقظ سوى على أحكام المادة 14 من الاتفاقية التي تعترف للطفل بالحق في حرية الدين، نظرا لأن الإسلام هو دين الدولة.
وتجد الالتزامات أعلاه، سندها في مقتضيات المادة الثانية من الاتفاقية التي ورد فيها أنه: “تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة لتكفل للطفل الحماية من جميع أشكال التمييز أو العقاب القائمة على اساس مركز والدي الطفل…”
كما تنص المادة 7/1 من ذات الاتفاقية على أنه “يسجل الطفل بعد ولادته فورا، ويكون له الحق منذ ولادته في اسم والحق في اكتساب جنسيته، ويكون له قدر الإمكان، الحق في معرفة والديه وتلقي رعايتهما”
وفي نفس الاتجاه تقريبا، تنص المادة 8 من ميثاق حقوق الطفل العربي في شأن الحقوق الأساسية على “تأكيد وكفالة حق الطفل في الرعاية والتنشئة الأسرية القائمة على الاستقرار الأسري، ومشاعر التعاطف والدفء والتقبل، وإحلاله المركز اللائق به في الأسرة بما يمكنه من التفاعل الإيجابي في رحابها..بما يضمن تلبية وإشباع حاجاته البيولوجية، والنفسية والروحية والاجتماعية ، وبما ييسر له بناء شخصية مستقلة، وحرية في الفكر والرأي تتكافأ مع قدراته دون تمييز بين البنين والبنات”
أما المادة 7/1 من إعلان القاهرة عن حقوق الإنسان في الإسلام فتؤكد على أن: “لكل طفل منذ ولادته حق على الأبوين، والمجتمع، والدولة في الحضانة والتربية والرعاية المادية والصحية والأدبية…”
ومن ثم فإنه يمكن القول إجمالا بأن كل التشريعات والمواثيق تلتقي عند أحفية الطفل في ثبوت نسبه من كلا والديه، وأن يعيش في ظلهما…ولذلك فإن بعض الفقه إنما يرفض الاستنساخ الأحادي لأنه ببساطة يؤدي إلى حرمان الطفل من هذه الحقوق بالحصول على طفل دون رجل ودون زواج[6].
ولكن ماهي مظاهر القصور في الوسائل المعتمدة لإثبات النسب أو نفيه في مستجدات قانون الأسرة؟
سنحاول إبراز ذلك بالنسبة لحالات النسب الشرعي، وكذا بالنسبة لما يعبر عنه بحالات النسب غير الشرعي
المطلب الثاني : النسب الشرعي
إن المبدأ العام الذي يؤطر ثبوت النسب الشرعي أو نفيه، ينبني على القاعدة التي أقرتها الشريعة الإسلامية استنادا إلى قول الرسول عليه السلام: “الولد للفراش…” وإلى وسائل إثبات أخرى محددة فقهيا
أولا : ثبوت النسب بالفراش
الشريعة تؤسس بهذا المبدأ قرينة منطقية على أن الولد الذي يولد من رجل وامرأة تربط بينهما علاقة زوجية، يفترض فيه أنه من صلبهما، ومن ثم فهو ينتسب إليهما. ولا شك أنها قرينة تتفق تماما مع الواقع والمنطق والعلم. وترتيبا على ذلك، فإن الطفل المولود من زوجين، يعتبر طفلا شرعيا، مما يخوله بداهة وبحكم صريح النص أن يحمل الإسم العائلي لأبيه. وهو ما يتفق على كل حال مع خاصية عدم انقسام النسب الشرعي ومع وحدة العائلة الشرعية[7].
ولكن التفسيرات الفقهية، قد انحرفت بها فيما يبدو عن القصد، وتوجهت بها إلى الاصطدام مع كل من الواقع والمنطق والعلم. وهو ما تعكسه للأسف مقتضيات مدونة الأحوال الشخصية المغربية، وزكت الكثير منها مستجدات قانون الأسرة التي اعتمدت بدورها في هذا المجال الآراء الفقهية الجاهزة المتأتية عن تصورات كانت مناسبة لقرون خلت، ولكنها اليوم أضحت متجاوزة بفعل التطور.
فكيف تم التعامل مع قرينة “الولد للفراش” عندما انتقلت إلى قاعدة قانونية، وكذا على مستوى التطبيق القضائي؟
إن الفصل 85 من المدونة ينص على أن “الولد للفراش إن مضى على عقد الزواج أقل من مدة الحمل وأمكن الاتصال وإلا فالولد المستند لهذا العقد غير لاحق.”
ويؤكد الفصل 84 على أن: “أقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثرها سنة مع مراعاة ما ورد في الفصل 76، فيما يخص الريبة.
ولم تختلف مستجدات قانون الأسرة كثيرا عن هذه المقتضيات، بل أعادت صياغتها بذات المعنى، حيث تنص المادة 155 من المشروع على أنه: “يثبت نسب الولد بفراش الزوجية
1-إذا ولد لستة أشهر من تاريخ العقد وأمكن الاتصال، سواء أكان العقد صحيحا أم فاسدا
2-إذا ولد خلال سنة من تاريخ الفراق”
ودون الدخول في التفاصيل، يمكن التأكيد عموما على أن الفقه يستخلص من جامع ذلك ضرورة توفر عدد من الشروط لكي تكون البنوة شرعية حال الفراش، وهي:
1- أن يكون حمل الزوجة من زوجها ممكنا: ويتحدد الإمكان في القدرة على الوطء، لذلك فهو يرتبط أساسا بالبلوغ، وإمكانية الاتصال، مع التأكيد على أن هذه الإمكانية تتحقق بثبوت القرب الذي يخول الرجل القدرة على التمكن من المرأة، مع وجود اختلافات واسعة حول تحديد المسافة اللازمة لذلك.
2- ألا ينفي الزوج هذا النسب: بعد أن يلاعن زوجته اللعان الشرعي. فليس من الحكمة عند الفقهاء “أن يثبت النسب من زوج يقرر أن هذا الولد لم يخلق من مائه، ويرد نسبه ويدفعه عن نفسه، ويقسم الأيمان على صدق قوله، ويؤكد ذلك بالدعاء على نفسه باللعنة من الله والطرد من رحمته…وليس من الحكمة أن نرهقه بتقديم إثبات على دعواه، ولا يستطيعه إن حاوله!” [8].
3- أن تتم الولادة داخل أمد الحمل
إن هذه الأحكام في مجملها تتطاول على مجالات ليست من اختصاصها، وهو ما يضعها في مأزق. ومن الواضح أن المدونة قد اعتمدت في تحديد هذه الشروط على ما ترجح لدى واضعيها من آراء الفقه، وخصوصا من المذهب المالكي. وهي بالتأكيد مبنية على مجرد التخمين والملاحظة، بحيث أصبحت اليوم مجرد وهم تصطدم مع الحقائق العلمية الدامغة. وبيان بعض ذلك كالآتي:
- I-ربط النسب بإمكانية حصول الوطء.
إن التغييرات المرتقبة في قانون الأسرة تربط ثبوت النسب حال الفراش بإمكانية الاتصال وفقا لصريح نص المادة 154. والحال أن ذلك غير صحيح بالمرة. فقد المحنا إلى أن التكاثر البشري، سواء في الإنجاب الطبيعي الجنسي أو بواسطة الإنجاب الصناعي لا يتم إلا بتفاعل الحيوانات المنوية المخصبة للذكر مع بويضات قابلة للتلقيح لدى الأنثى. ومن دون هذا التفاعل الإيجابي، فإن مجرد الاتصال مهما تكرر، ومهما كانت القدرة على الوطء لا ينتج عنه ولد ولا هم يحزنون.
هذا بالنسبة للتكاثر التزاوجي، أما بالنسبة للتكاثر اللاتزاوجي، أي عن طريق الاستنساخ البشري، والذي أضحت طريقه سالكة، بحيث لم يعد تحققه سوى مسألة وقت يكفي لتليين موقف “الرأي العام الديني” على الخصوص، فإن ذلك يستدعي تنظيما آخر قد يؤدي إلى قلب أحكام النسب كلها رأسا على عقب.
وبالنظر إلى وضوح الارتباط في ثبوت النسب بين الإخصاب والإنجاب، وباعتبار أن ذلك من البديهيات العلمية والمؤكدة يقينا، فإن المادة 168 من قانون الأحوال الشخصية الكويتي مثلا تنص صراحة على أنه: “لا يثبت النسب من الرجل إذا ثبت أنه غير مخصب، أو لا يمكن أن يأتي منه الولد لمانع خلقي أو مرضي”
ولا شك أن هذا الموقف من المشرع الكويتي يعكس فهما سليما وتفاعلا عقلانيا مع منطوق الحكم الشرعي المقرر في قاعدة “الولد للفراش”. أي أن الولد الذي يزداد في إطار علاقة زوجية قائمة ينسب أصلا ومن حيث المبدأ لأبيه، ما لم يثبت بوسائل الإثبات القطعية أن الولد ليس له. ومن ثم تكون القاعدة قرينة بسيطة تعفي من تقررت لفائدته من عبء الإثبات، ويملك من يدعي عكسها أن يقدم الحجة على صدق ادعائه.
أما في المغرب، فإن القضاء ما يزال متمسكا بالتأويلات الفقهية وتفسيراته العتيقة لمقتضى القاعدة. ويخشى أن يستمر الوضع على ما هو عليه ويتكرس هذا الاتجاه في ظل قانون الأسرة المرتقب،. فهو يعتد بمجرد توفر عقد الزواج واستمرار قيامه، وثبوت إمكان الاتصال بين الزوجين، دون الاعتداد بالتأكيد على عدم حدوثه. فقد حكم بأن: ” ما ينعاه الطاعن في تصريح المدعية بأنها طردت من بيت الزوجية بتاريخ 1-4-1984 والبنت ازدادت بتاريخ 1-6-1986 لا يؤثر على لحوق نسب البنت بوالدها … إن البنت التي أنكر الطاعن نسبها ازدادت بتاريخ 1-6-1986 وقد اقر الطرفان بالعلاقة الزوجية، مما تكون معه البنت المتنازع في نسبها ازدادت على فراش العارض خلال العلاقة الزوجية”[9] إن الحكم يفرض في هذه الحالة على الأب نسبا من الواضح أنه ليس له اعتبارا للتفسير المعتمد ظاهر النصوص.
والأخطر من ذلك أن المجلس الأعلى قد استقرت أحكامه على أن الولد ينسب لأبيه تطبيقا للقاعدة، ما دام عقد الزواج قائما، أو لم يمض على انحلاله بطلاق أو وفاة أمد الحمل، حتى ولو ثبت بالطرق العلمية الحديثة وبشواهد من فرق طبية متخصصة أن الزوج عقيم لا يستطيع الإنجاب.
قد يكون لهذا الموقف ما يبرره، وهو أساسا الحرص على عدم قطع الأنساب، وتشوف الشريعة إلى ثبوته. ولكن ذلك يصطدم أيضا مع مبدأ عدم جواز نسبة الولد إلى غير أبيه، وإلا فكيف سيكون تعامل الرجل مع ولد يعتبره القانون ولده رغم أنفه، ورغم يقينه القاطع بأن الولد ليس ابنه ولا هو من صلبه؟
إن القضاء المغربي يتمسك بهذا الموقف تطبيقا لحكم الفصل 90 من المدونة الذي يقضي بأنه: “لا ينتفي الولد عن الرجل أو حمل الزوجة منه إلا بحكم القاضي” وبالرغم من أن الفصل 91 منها ينص على أنه: “يعتمد القاضي في حكمه على جميع الوسائل المقررة شرعا في نفي النسب”
ولكن التشبث بالتفسير الفقهي الضيق، والانتصار “للاتجاه النصوصي”، واستحكام التقليد، جعل القضاء يحكم صراحة بعدم اعتبار نتائج التحاليل الطبية في إثبات النسب، بل وعدم اعتمادها أو الالتجاء إليها أصلا. ففي قضية عرضت أمام محكمة الاستئناف بأكادير، طلب فيها الزوج عدم إلحاق الولد به، مؤيدا ادعاءه بشهادة طبية تثبت عقمه، عللت المحكمة رفض الطلب بكون: “التحليلات الطبية التي تثبت العقم لا يعتمد عليها في نظر الشرع”[10]، ومع أن المحكوم ضده قد طالب ضمن أسباب الطعن في هذا الحكم بإيراد النص الشرعي الذي يمنع اعتماد الخبرات الطبية في الموضوع، مؤكدا أن النصوص الشرعية على العكس من ذلك، تأخذ بعين الاعتبار ما قد يصل إليه الأطباء في تحليلاتهم فيما يخص العمل، إلا أن المجلس الأعلى لم يلتفت لهذا الطلب بالمرة، بل ساير محكمة الاستئناف في ما أقرته، باعتبار أن الحكم المطعون فيه يجد أساسه في الفصل 91 من المدونة. وشدد على أنه: “يلتجأ للتحليل الطبي لمعرفة ما في الرحم علة أو حملا إذا بقيت الريبة في الحمل بعد السنة من تاريخ الطلاق أو الوفاة. ولا يلتجأ إلى هذه الوسيلة في نفي النسب، فالفصل 91 من م.أ.ش. ينص على أن القاضي يعتمد في حكمه على جميع الوسائل المقررة شرعا في نفي النسب، وليس من بين هاته الوسائل وسيلة التحليل الطبي”[11].
وهكذا فإن القرار يؤكد على حقيقتين اثنتين تعكسان عمق تأثير التقليد في صياغة القرار، وبعده عن العقلانية في التعامل مع الأحكام الفقهية وليس الشرعية.
-إنه يعلن صراحة بأن الوسائل العلمية لا تدخل ضمن جميع الوسائل المقررة شرعا في نفي النسب. أي أننا أمام إقرار واضح بأن العلم ليس وسيلة شرعية في مفهوم القرار. مما يوحي بأن الشريعة لا تعتد بالحقائق العلمية ولا بالكشوفات الطبية في هذا المجال، وهو ما قد يحيل على صراع قديم جديد بشأن حقيقة العلاقة بين العلم والفقه.
-إن القرار يزكي الالتجاء إلى الوسائل العلمية عندما يتعلق الأمر بحالة الريبة في الحمل بعد مضي السنة عن الطلاق أو الوفاة. أي في الحالات التي لا تقوم فيها الحاجة إلى مراجعة هذه الوسائل العلمية أصلا. إذ قد ثبت أن الحمل لا يمتد إلى سنة، وأن ما في الرحم أصبحت معرفته متاحة وبتفاصيل دقيقة منذ الأيام الأولى للحمل. بل إن العلم أضحى يستشرف أن يكون المحمول به تحت الطلب شكلا وحتى جوهرا.
ولكن القضاء يعمل النص وفقا لمنطوقه، ويهتدي في تطبيقه بما تيسر لدى فقهه المهتدى به، والذي تشكل منذ قرون خلت. وهذا مظهر من مظاهر ما يعبر عنه بفجيعة الإنسان المسلم في تاريخه[12].
وإن مستجدات قانون الأسرة ما تزال محتفظة بنفس الحكم حيث تشير إلى الريبة في نص المادة…………
ولكن هل يعني ذلك أن قاعدة “الولد للفراش” قاطعة؟
- II-اعتبار قاعدة الولد للفراش قرينة قاطعة
إن القضاء المغربي يعتبر القاعدة أعلاه قاطعة بالفعل، بحيث لا تقبل إثبات العكس.
صحيح أنه يقر اللعان وسيلة وحيدة لنفي النسب حالة وجود الفراش، إعمالا للحكم الوارد بهذا الشأن في القرآن الكريم، والمشار إليه بمقتضى الفصل 91 من المدونة كوسيلة مقررة شرعا لنفي النسب. ولكن رصد دعاوى اللعان على مستوى العمل، يخلص إلى أنه لم يستجب في أي قضية لطالبها اعتبارا للشروط التعجيزية المتطلبة رغم ثبوت صحة كثير من الدعاوى في الموضوع واقعيا وطبيا بما لا يدع مجالا للشك. وهو ما يستلزم حسب بعض الفقه تفعيله[13].
والواقع أن المطلوب فيما أعتقد هو إلغاء اللعان كوسيلة لنفي النسب، وليس المطالبة بتفعيله، سيما وأنه معطل عملا.
لا مراء في أن اللعان حكم شرعي وردت بشأنه نصوص قطعية في القرآن الكريم والسنة النبوية. ولكن المؤكد أيضا أن الأمر يتعلق بنوع الأحكام المعبر عنها بالوسيلية الصرفة، وهي أحكام تتميز بكونها ليست مقصودة لذاتها نهائيا، ومن ثم فهي قابلة للتغيير إذا فقدت الوسيلة قيمتها ووظيفتها، أو تيسرت وسيلة أخرى أفضل منها وأكثر تحقيقا للمقصود. ولا شك أن اللعان كان ملائما لمستوى التطور الاجتماعي حين إقراره ، فإذا تبين أن زماننا يتيح لنا تنظيم هذه الوسيلة وتنفيذ هذه التدابيرالتوسلية الصرف، ببدائل أكثر نجاعة وفاعلية ومصداقية، فلا شك في أن الأخذ بهذه الوسيلة وإقرار أحكامها وإحلالها محل ما جرى به العمل في الصدر الأول، عمل مشروع وتغيير غير ممنوع، لأن ما غيرناه لم يكن تعبدا، ولم يكن مقصودا وليس هو مصلحة في ذاته، وإنما مصلحته فيما يفضي إليه. [14]
وما يدعم ذلك أن اللعان يحتكم في نفي النسب إلى الضمير، وإلى الوازع الديني، حين لم تكن هناك وسيلة أخرى توفر العلم والإثبات اليقينيين. والرسول عليه السلام قال لمتلاعنين: “حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها” وقال لآخرين: “الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب ثلاثا”
وإذا كان العلم الحديث يوفر وسيلة إثبات أو نفي قاطعة، في الوقت الذي تأكد فيه فساد كثير من الذمم، وتراجع الوازع الديني لدى غير قليل من الناس، فإن المفروض أن نطبق قاعدة أن الشك يزول باليقين، ويكون الأولى التمسك بما يفيد القطع والجزم. فنكون بذلك قد فهمنا النص على أساس ضرورات التطور الاجتماعي والعلمي، دون أن يعني ذلك إهماله أو تجاوزه، وإنما هو النفاذ إلى جوهره وما وراءه.
وصحيح أيضا أن المادة 153 من التغييرات المرتقبة في قانون الأسرة قد اعتمدت الخبرة الطبية كوسيلة إضافية لنفي النسب. إلا أن ذلك لم يكن في ما أرى كافيا. فقد ورد في المادة أنه: “يثبت الفراش بما تثبت به الزوجية.
يعتبر الفراش بشروطه حجة قاطعة على ثبوت النسب، ولا يمكن الطعن فيه إلا من الزوج عن طريق اللعان، أو بواسطة خبرة طبية تفيد القطع، بشرطين :
- إدلاء الزوج المعني بدلائل قوية على ادعائه
- صدور أمر قضائي بهذه الخبرة”
وهكذا فإن الزوج هو الذي يملك اختيار أي من الطريقتين –اللعان أم الخبرة الطبية- لنفي النسب، بحيث يحتمل دائما إمكانية التنصل من نسب ثابت بناء على وسيلة ظنية.
- III-تحديد غير مبرر لأمد الحمل
إن الفقه يشترط لانطباق قاعدة “الولد للفراش” أن يتم الوضع خلال مدة الحمل. وحددت المدونة بناء عليه أقل مدة الحمل في ستة أشهر، وأقصاها في سنة. وقد أقرت التغييرات المرتقبة نفس الأحكام في هذا الشأن، والحال أن كلا التحديدين لا يستندان إلى أي سند شرعي، وإنما هو تكريس لمواقف فقهية بشكل آلي دون البحث في مدى توافقها مع الحقائق العلمية من عدمه.
ومن ذلك أنها تصطدم مع المقرر علميا من أن أقصى أمد الحمل هو تسعة أشهر وبضعة أيام، ويموت الجنين بعد ذلك حتما. ومما يؤكد أن المشرع قد حدد أقصى أمد الحمل بشكل اعتباطي من غير أن يستند في ذلك إلى أية قاعدة علمية، كونه قد حدد ذات الأمد بالنسبة لقانون حوادث الشغل في 300 يوما، مع أن الأمر في كلتا الحالتين مقرر لأن يحكم نفس المرأة المغربية
إن المدونة والمستجدات تحدد أقل مدة الحمل في ستة أشهر، وهي بذلك تقطع أيضا في شأن علمي دون علم، والله تعالى يقول: “ولا تقف ما ليس لك به علم” فأقل مدة الحمل لا يمكن أن ينطبق على حالات التكاثر عن طريق التلقيح الاصطناعي. وخصوصا بشأن الأطفال الذين يقضون مدة الحمل في الأنابيب، بدون مدة أدنى ولا أقصى. مع العلم أن الفقه الإسلامي متفق على جواز التكاثر بهذه الوسائل إذا احترمت بشأنها الضوابط الشرعية المحددة من خلال ملتقيات فقهية علمية متعددة.
وحتى في حالة الإنجاب الطبيعي، فإنه لا شيئ يؤكد بأن العلم لن يتيسر له السبيل إلى تمام الوضع قبل فوات ستة أشهر من الحمل، بل لعلها متحققة بالفعل، خصوصا وأن تطوير وسائل الرقي بمعدلات حياة الخديج قد حققت اليوم نتائج باهرة.
وهكذا يلاحظ أن مبرر الحكم هو مجرد تغليب لرأي فقهي ضمن آراء أخرى متعددة لم تتوفر لها في حينه سبل اليقين العلمي، تصل بالمدة الأقصى إلى سنوات تمتد أربعة عند بعضهم بل وحتى خمس سنوات أو سبعة عند آخرين، اعتمادا على مجرد الظن والتخمين، أو تصورات أثبت العلم أنها محض أوهام، من قبيل الرقاد، وسقوط المشيمة والريبة وما إليها. وهو رأي لم يعد اليوم مقبولا. ولكن القضاء للأسف ما يزال متمسكا بها إعمالا للنص على كل حال. فهو يقضي تلقائيا بأن:
“الوضع لأقل من ستة أشهر ينفي النسب بغير لعان لقيام المانع الشرعي على نفيه…” [15].
ونحن لا ندري أين هو هذا المانع الشرعي القائم على نفي النسب في مثل هذه الحالة؟ ولا نفهم بالتالي كيف يستقيم تأكيد القضاء على أن الربط بين قاعدة “الولد للفراش” وبين أمد الحمل هو حكم شرعي لا سبيل للجدل بشأنه. فقد ورد في قرار للمجلس الأعلى أنه: “لما كانت المحكمة قد تأكدت من أن المرأة وضعت مولودها بعد الزواج بأربعة أشهر فقط، وألحقت نسب المولود بالزوج مع ذلك بناء على ما ثبت لديها من أنه كان يعاشرها معاشرة الأزواج قبل أن يعقد عليها، أخذا بالنظرية الفقهية القائلة بجواز اعتبار الحمل الذي يظهر بالخطيبة قبل أن يعقد عليها الخطيب ولحوق النسب إذا أمكن الاتصال. وتكون المحكمة بصنيعها هذا قد خالفت أصول الفقه المعمول بها والحديث الشريف: الولد للفراش أي للعقد الصحيح بعد إمكان الوطء وجاءت به بعد ستة أشهر من العقد، وهو ما أخذت به المدونة في الفصلين 84 و 85…” [16].
ثانيا: الإقرار و البينة
بموجب الفصل 89 من المدونة، فإنه: “يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الأب أو بشهادة عدلين أو بينة السماع بانه ابنه ولد على فراشه من زوجته”
ودون الخوض في التفاصيل يمكن القول بان هناك اليوم قناعة تكاد تكون عامة على أن الشهادة، وخصوصا اللفيفية منها لم تعد تتمتع بالمصداقية الكافية التي تؤهلها لأن تكون وسيلة إثبات مطمئنة وحاسمة لأي نزاع حول الوقائع التي تثبتها، بل إنها تعتبر مصدر الكثير من التعقيدات والخصومات. وهو ما دفع وزارة العدل إلى طرح موضوع الشهادة باللفيف قصد الدراسة والتقييم من خلال ندوة نظمتها لهذا الغرض خلال شهر ماي الأخير. ولذلك فإن هذه الوسيلة ليست ذات فاعلية في الاطمئنان إلى سلامة النسب الذي يثبت عن طريقها.
أما الإقرار، فإنه من الطبيعي أن يعتد به الفقه الإسلامي والمدونة في إثبات النسب. فالإقرار على كل حال اعتبر على الدوام سيد الأدلة. وهو ينسجم مع تشوف الشريعة الإسلامية إلى حفظ الأنساب بدل قطعها. غير أن الشروط التي قيد بها الفقه التقليدي هذا الإقرار، والتي يشدد عليها القضاء المغربي بدوره، قد أفرغت هذه الوسيلة من محتواها تماما، بل وجعلت منها سببا للتنصل من الاعتراف بنسب الأولاد. ذلك لأنه يشترط ألا يصرح المقر بأن هذه البنوة قد نشأت خارج إطار عقد الزواج. فقد ورد في قرار المجلس الأعلى أنه: “لا يلحق نسب البنت المولودة قبل عقد النكاح وإن أقر الزوج ببنوتها لأنها بنت زنا، وابن الزنى لا يصح الإقرار ببنوته ولا استلحاقه.” [17].
بل إن الإقرار كوسيلة لإثبات النسب أصبح معطلا تماما من الناحية العملية، بفعل منشور وزاري يتناقض مضمونه مع مقتضى الفصل 89 من المدونة الذي يعتد بالإقرار كوسيلة قانونية للإثبات. ودون أن نقف عند التساؤل عما إذا كان من حق منشور وزاري أن يعطل مفعول قاعدة قانونية، نسجل بعيدا عن كل نقاش نظري حول تدرج القواعد، أن المنشور هو الذي يجد سبيله إلى التطبيق في العمل، بفعل التزام المخاطبين في شأنه بالتراتبية الإدارية.
وهكذا ففي فاتح يوليوز 1983 أصدرت وزارة الداخلية المنشور رقم 159. جاء فيه أن “التصريح بولادة الأبناء لدى الضابط يستلزم إثبات العلاقة الشرعية التي تربط أب هؤلاء الأبناء وأمهم بواسطة عقد زواج شرعي..
ففي هذا الصدد يشرفني أن أذكركم بأن الإدلاء بنسخة من عقد الزواج عند التصريح بولادة الأبناء يعتبر شرطا أساسيا لا يمكن التساهل فيه بتاتا”
وقد أثار هذا الموقف استغراب الفقه المغربي الذي لا يدري ما هو السند القانوني أو الشرعي لهذا الاجتهاد، إذ الأب الذي لم يوثق عقد زواجه يشجعه المنشور على عدم التصريح بميلاد أبنائه..وإذا تحمل تكاليف إنجاز الوثيقة المطلوبة عن طريق ما يعرف بلفيف استمرار الزوجية، فإنه لن يتاتى له ذلك داخل الأجل القانوني للتصريح، وهو ما يفرض عليه طلب التسجيل عن طريق رفع الدعوى أمام المحكمة بما تتطلبه من وقت وتنقل ومصاريف، فتكون النتيجة هو اللجوء إلى الحل السهل وهو عدم تسجيل الأطفال في الحالة المدنية، وآثار ذلك معروفة لا تحتاج إلى بيان. [18]
وبذلك يتضح أن الربط بين التصريح بالولادة، وهو إقرار بالأبوة، وبين وجود ضرورة الإدلاء بعقد الزواج، يحمل على التنصل من النسب، خلافا لمقتضى الشريعة التي تشجع على الإقرار به، وتجعل من هذا الأخير وسيلة غير ذات جدوى
المطلب الثالث: النسب غير الشرعي
لا أحد يمكن أن يجادل في خطورة الآثار المترتبة عن الزنا. ولا شك أن اقترافه يعد فاحشة قرر الشارع لمرتكبيها حدودا يصل بها الفقه بالنسبة للمحصنين إلى القتل. وكل ذلك وغيره لم يكن أبدا موضع خلاف. ولكن المطروح للمنافشة هو الأحكام التي نظم بها المشرع المغربي وضعية الأطفال الناجمين عن العلاقات غير الشرعية. إذ المؤكد أن البنوة غير الشرعية موجودة واقعا رغم تحريم الزنا، وأن هؤلاء الأطفال على كل حال لايد لهم في ما ارتكبه أصولهم من جرائر، وأن وصفهم بالأبناء غير الشرعيين لا ينزع عنهم براءتهم، ولا يبرر اعتبارهم مذنبين، ولا يصادر حقهم في حمايتهم وضمان حقوقهم. فهل تحقق نصوص المدونة لهؤلاء الأطفال شيئا من ذلك؟
تنص الفقرة الثانية من الفصل 83 من مدونة الأحوال الشخصية على أن: “البنوة غير الشرعية ملغاة بالنسبة للأب، فلا يترتب عليها شيئ من ذلك إطلاقا. وهي بالنسبة للأم كالشرعية لأنه ولدها”
الواقع أن الفقه المغربي لم يقف مطولا عند الأحكام التي تتضمنها هذه المادة قبل أن يتناولها حسب علمي أستاذنا أحمد الخمليشي في الجزء الثاني من مؤلفه “وجهة نظر” بالدراسة والتحليل العميقين، بالرغم من الخطورة البالغة التي تتضمنها مقتضياتها. وبدلا من ذلك، أولى الفقه أهمية خاصة للجوانب التنظيمية من الموضوع، وأساسا كيف سيتم تسجيل المولود في سجلات الحالة المدنية، وتحت أي اسم شخصي وعائلي.
*و ليس المقصود هو التقليل من أهمية حمل الإسم وتسجيله، فإن كل ذلك بالتأكيد يعتبر من أولى حقوق الطفل ومن أبرز مظاهر الإقرار بوجوده والاعتراف بشخصه.
ولكن المفارقة هنا هي أن القوانين المنظمة للحالة المدنية بالمغرب لا تفرق فعلا بين الطفل الشرعي وغير الشرعي فيما يخص التصريح بولادتهما. فكان المفروض أن يتم تسجيل الثاني باسمه الشخصي طبعا وبالإسم العائلي لأمه، ما دام أن الفصل 6 من ظ.1950 ينص على أنه “يترتب على التقييد في سجلات الحالة المدنية اختيار اسم عائلي من طرف المصرح إذا كان لا يتوفر على هذا الإسم” ويكتسب الطفل غير الشرعي الإسم العائلي لأمه، بمقتضى نص الفصل 83 من المدونة الذي ينص على أن البنوة غير الشرعية بالنسبة للأم كالشرعية لأنه ولدها، ومن المعلوم أن البنوة الشرعية المحال عليها ترتب الحق في الإسم بشقيه الشخصي والعائلي.
وفعلا فإن دورية وزارة الداخلية بتاريخ 11 دجنبر 1978 باتصال مع وزارة العدل قد أتاحت إعطاء الطفل غير الشرعي الإسم العائلي لأمه، ولكنها اشترطت لذلك حصولها على موافقة أبيها أو إخوانها إن وجدوا. وتطلبت أن تكون هذه الموافقة كتابية لتفادي أي تعرض قد يقع فيما بعد.
وعند وجود الخلاف واستحالة التوفيق، يتعين كما أكدت على ذلك أيضا الدورية رقم 130 بتاريخ 31 ماي 1979، على ضابط الحالة المدنية أن يختار اسما عائليا لا ينتمي لأحد من كشاف الأسماء العائلية
ويبدو لي أن الدورية تتطاول مرة أخرى على نطاق القانون، فتجعل انطباق حكم الفصل 83 من المدونة متوقفا على محض إرادة ذوي الأم، ومن ثم فهي تحد من نطاق النص القانوني، وذلك يتجاوز صلاحياتها بالتأكيد.
على أن هناك إشكالا آخر يتمثل في أن الطفل غير الشرعي لا يكون له أب، وإنما أمه هي التي تقوم بالتصريح بولادته لدى ضابط الحالة المدنية، فيسجل باسمه متبوعا باسم أمه الشخصي وباسمها العائلي إذا حصلت على الموافقة المطلوبة ويبقى رسم الولادة مع ذلك خاليا من الإشارة إلى اسم الأب عملا بمقتضيات ظهير 12 شتنبر 1922 الذي يمنع أن تكتب برسوم الحالة المدنية لأولاد السفاح عبارة “أم مجهولة” أو “أب مجهول” أو غير مسمى أو ما شابه. فالأب يبقى مجهولا بالنسبة للطفل ولو كانت الأم تعرفه، وهو ما يؤدي إلى المساس بهويته، لذلك يقترح بعض الفقه أن تختار الأم باتفاق مع ضابط الحالة المدنية عند التصريح بالولادة اسما شخصيا صوريا للأب حتى يكون لهذا الطفل نسخة كاملة من رسم ولادته، ولكن يجب على ضابط الحالة المدنية أن يشير بصفة سرية بسجلات الحالة المدنية إلى أن الطفل مولود من أب مجهول [19]
غير أنني أتساءل لماذا هذا الالتفاف حول الموضوع؟ ولماذا لا يتجه التفكير نحو اقتراح صيغة تضمن لجميع الأطراف حقوقهم كاملة، مقابل أداء كل المقدور عليه من التزاماتهم قبل بعضهم البعض، وقبلهم والمجتمع؟ لماذا يجب أن تتحمل الأم وحدها وزر خطإ ارتكبته بالمشاركة مع غيرها؟ ولماذا يجب أن يتحرر الرجل من كل مسؤولية تجاه الطفل وتجاه الأم وتجاه المجتمع، فلا اسم ولا نسب ولا نفقة ولا تعويض…؟ إن المانع كان فيما مضى هو استحالة التعرف على شريك الأم فيما أثمر الطفل. فهل إذا توفرت لدينا سبل تحديد الفاعل يقينا، لا يتبقى مانع آخر لكي يحمل الطفل الشرعي نسب أبيه؟ علما بأن تقنية البصمات الوراثية أو التحليل الجيني تتيح ذلك فعلا، على الأقل عندما تتيسر معرفة الأب من لدن الأم كما في حالات الخطوبة التي لا تتوج بالزواج أو حالات الاغتصاب، أو حالات التغرير وما إليها. ومن باب أولى وأحرى عند ادعاء زواج لا توجد وثيقة لإثباته.
إن الأمر ليس كذلك فيما يبدو، إذ قد ترسخ بحكم التقليد رأي مفاده أن الشريعة قد قطعت نسب الولد غير الشرعي. والقضاء يؤكد على أن المادة 92 من المدونة، تنفي طبقا للشريعة الإسلامية إلحاق أبناء السفاح بآبائهم، ولا تلتفت إلى إقرار الآباء إلا بما ولد لهم من نكاح شرعي. كما أن المجلس الأعلى قضى بأن: “الولد المزداد قبل إبرام عقد النكاح لا يمكن لحوق نسبه إلى الزوج ولو أقر ببنوته وكان من مائه لأنه ابن زنا الذي لا يصح الإقرار ببنوته ولا استلحاقه[20].
فهل صحيح أن الشريعة الإسلامية لا تسمح بان يكون للولد غير الشرعي نسب من أبيه؟؟
إن ما يستدل به على هذا القطع هو حديث الرسول عليه السلام ” الولد للفراش وللعاهر الحجر”. غير أن الأستاذ الخمليشي يؤكد على أن الحديث إنما يستدل به خارج مجال مورده. فصياغته واضحة في أن المولود على فراش الزوجية ينسب إلى الزوج، وإذا ادعى أحد أنه ولده عن طريق الزنى فله الحجر والخيبة. وهذا لا نزاع فيه ولم يقل بغيره أحد لا قديما ولا حديثا، حتى ولو لاعن الزوج ووجته.
فنطاق إعمال الحديث إذا هو حال الازدياد في ظل زوجية قائمة. في حين أن الموضوع محل المناقشة هو حالة حمل المرأة غير المتزوجة من زنى. هل يصح أن ينسب حملها إلى من زنى بها خارج إطار الفراش؟
وإذا استبعدنا الحديث السابق لعدم انطباقه على الحالة المعروضة، فلا يتبقى حينئذ سوى مجموعة من الأدلة متمثلة أساسا في حديثين رواهما في هذا الشأن أبو داود في سننه لم تثبت صحتهما عند ابن القيم في زاد المعاد، وإجماع مزعوم ثبت أن من مخالفيه مجموعة من كبار التابعين، كما دل العقل على أن هذا القطع المزعوم يتضمن ظلما بينا تنزه عنه شريعة الله [21].
وبذلك يتبين أن الشريعة لم تقطع في الحقيقة نسب الإبن غير الشرعي، وإنما هو حكم قرره الفقهاء نزولا عند مقتضى الحال. فقد كان قصدهم حماية الأنساب من الاختلاط، وضمان وجود النسب للطفل غير الشرعي في نفس الوقت. وما دام أن التعرف على الأب لم يكن ممكنا ولا متاحا، فقد تقرر أن ينسب الولد إلى الطرف الذي ولده فعليا وهو الأم. فهذه هي العلة التي اقتضت الحكم، وهي نفسها ما أكدته المادة 83 من المدونة
وفي ذلك يقول الشيخ محمد رشيد رضا: “إذ لا يمكن إثبات نسبه بالبينة، والدليل على اعتبار الحقيقة في ذلك إذا عرفت هو إجماع الأمة على أن ولد الزانية يلحقها ويرثها للعلم بأنها أمه”[22].
يستخلص من هذا أن إقرار النسب ونفيه مرتبطان بثبوت وعدم ثبوت البنوة الواقعية و اليوم أصبحت البصمات الوراثية تثبت بصفة يقينية بنوة الأب للطفل مثل ما تفعله الولادة بالنسبة للأم، وبناء عليه فإن التعليل الذي أسست عليه المادة 83 أ.ش. أصبح ينطبق على الأب لأنه ولده.
إن القول بغير ذلك يوهم بأن الشريعة الإسلامية تحمل الأم كامل المسؤولية، في حين تعفي الزاني من كامل المسؤولية، وهذا لا يجوز.
بل إن مقولة “ولد الزنى قطع الشرع نسبه” توحي بتحميل الولد نفسه قسطا من المسؤولية، وأن ذلك القطع كان جزاء كونه ولدا من علاقة غير شرعية. والحال أن الشريعة قد حرمت الزنى وحددت عقوبة الزانيين، ولكنها لم تؤاخذ الولد بشيئ مما جناه أبواه[23] وفي الشريعة أنه: “ولا تزر وازرة وزر أخرى” و “كل نفس بما كسبت رهينة”
واعتبارا لذلك، فإن الأستاذ الخمليشي يقترح إلزام الأب بنسب ولده من الزنى في الحالتين الآتيتين:
الحالة الأولى : إذا اعترف بأبوته له أخذا برأي مجموعة من الفقهاء، وانسجاما مع مقصد الشريعة من أحكام النسب
الحالة الثانية : إذا أثبتت البصمات الوراثية أنه ولده، ويؤمر بهذا التحليل من طرف النيابة العامة كلما وجدت قرائن كافية تبرره، وذلك باعتبار النسب من النظام العام. طبعا لابد من حكم قضائي بعد إحالة النيابة نتائج التحليل مع طلباتها على المحكمة المختصة طبقا لقواعد المسطرة المدنية[24].
ولا يمكن التذرع في هذه الحالة بحقوق الشخصية، أو بعدم جواز إرغام الشخص على تقديم أدلة ضد نفسه، لأن أحقية الطفل في أن ينتسب إلى أبيه تقدم على ما سواها، وهي لأهميتها أولى بالاعتبار.
والأستاذ الخمليشي يرى بحق أن الاقتراح لا يلغي حكما شرعيا ثابتا ولا يناقض مبدأ مقررا ولا يخالف إجماعا، وهو يدفع نسبة مرتفعة جدا من المنحرفين بغريزتهم الجنسية إلى الالتزام بالسلوك السوي، وإلى تدارك الخطأ فور حدوثه[25]
وصدق الشهاب القرافي: “الجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين”
وإذا كان المشروع قد أقر حق الطفل في الانتساب إلى أبويه معا ولو تولد عن علاقة خارج إطار الزواج، إلا أن قصر الحماية على الأطفال المنحدرين من طرفين ثبت أنهما كانا مخطوبين[26] يحول دون تحقق المقصود. فالغاية هي أن يكون لكل طفل أبوان في الحدود القصوى الممكنة. ومن شان توظيف الوسائل العلمية الحديثة أن يتحقق الكثير من ذلك. فما معنى عدم ثبوت نسب الطفل من الفاعل في حالات الإكراه والاغتصاب والتغرير وغيرها؟ إذا كان إثبات هذا النسب متاحا وممكنا؟
خامسا : تحديد أمد الحمل
1-الربط بين النسب وإمكانية حصول الوطء
والحال أن ذلك غير صحيح بالمرة.
ومن المؤمل ألا يظل القضاء المغربي متمسكا بالتأويلات الفقهية وتفسيراته العتيقة لمقتضى القاعدة. وألا يعتد بمجرد توفر عقد الزواج واستمرار قيامه، وثبوت إمكان الاتصال بين الزوجين، دون الاعتداد بالتأكيد على عدم حدوثه كما كان يفعل في ظل المدونة الحالية،
سادسا: اللعان
صحيح أن المدونة الحالية تقر اللعان وسيلة وحيدة لنفي النسب حالة وجود الفراش، إعمالا للحكم الوارد بهذا الشأن في القرآن الكريم، والمشار إليه بمقتضى الفصل 91 من المدونة كوسيلة مقررة شرعا لنفي النسب.
وهذه هي السياسة الشرعية التي من اختصاص ولي الأمر.
الهوامش :
[1]- زكريا البري: الأحكام الأساسية للأسرة الإسلامية. منشأة المعارف. بدون تاريخ ص.176[2]- محمد الشافعي: الإسم العائلي بالمغرب. 1999 دار وليلي للطباعة والنشر. مراكش[3]- راجع بشأن العوة الإصلاحية والمدرسة التجديدية:
محمد جمال باروت: تعقيب على بحث الدكتور محمد الريسوني. حوارات لقرن جديد
الاجتهاد، النص، الواقع، المصلحة. دار الفكر.2000. ص. 165-166
[4]- فايز عبد الله الكندري: مشروعية الاستنساخ الجيني البشري من الوجهة القانونية. مجلة الحقوق. لبسنة 22. العدد 2. يونيو 1998 ص.824
[5]- المجتمع. العدد 1244. 1-4-1997. ملف العدد: مفهوم وحقيقة الاستنساخ. ص21
[6]- فايز عبد الله: ص. 823
[7]- محمد الشافعي: الإسم العائلي بالمغرب. 1999 دار وليلي للطباعة والنشر. مراكش. ص44
[8]- فايز عبد الله: ص. 815
[9]- قرار المجلس الأعلى رقم 978 بتاريخ 23-12-1993. عن: خالد بنيس: قاموس الأحوال االشخصية والميراث. ردمك. 1998. ص. 51.
[10]- راجع لمزيد من التفاصيل”-أحد الخمليشي: التعليق على قانون الأحوال الشخصية. الجزء الثاني. آثار الولادة والأهلية والنيابة القانونية. الطبعة الأولى. 1994. مطبعة النجاح الجديدة. ص. 67 وما بعدها.-محمد الكشبور: قانون الأحوال الشخصية. الطبعة الثالثة. 1996. مطبعة النجاح الجديدة. ص. 415 وما بعدها
[11]- قرار المجلس الأعلى رقم 527 بتاريخ 15-9-1991. ملف اجتماعي 217-91 مجلة قضاءالمجلس الأعلى عدد 30. ص. 95
[12]- محمد جمال باروت: تعقيب على بحث الدكتور محمد الريسوني. حوارات لقرن جديدالاجتهاد، النص، الواقع، المصلحة. دار الفكر.2000. ص. 165-166
[13]- خالد بنيس: قاموس الأحوال االشخصية والميراث. ردمك. 1998 .ص.56
[14]- أحمد الريسوني: تعقيب على بحث الأستاذ محمد جمال باروت. المرجع السابق. ص.159-161
[15]- قرار المجلس الأعلى رقم 145 بتاريخ 3-2-1987. ملف شرعي 5420/85 مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 40. ص. 167
[16]- قرار المجلس الأعلى رقم 622 بتاريخ 10-5-1988. ملف شرعي 4308/85 مجلة القضاء والقانون عدد 140/141. ص. 158
[17]- قرار المجلس الأعلى رقم 446 بتاريخ 30-3-1983. ملف شرعي 54758 مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 40. ص. 370
[18]- أحمد الخمليشي: وجهة نظر. الجزء الثاني. دار نشر المعرفة. الرباط. 1998. ص 80
[19]- محمد الشافعي: الإسم العائلي بالمغرب. 1999 دار وليلي للطباعة والنشر. مراكش. ص.49
[20]- القرار 446 بالريخ 30 مارس 1983 مجلة المحاكم المغربية. عدد 48. السنة 1987 .ص. 77
[21]- راجع بشأن التفاصيل أستاذنا أحمد الخمليشي: وجهة نظر . الجزء الثاني. المرجع السابق. ص.80 وما بعدها
[22]- تفسير المنار. ج.4. ص. 467
[23]- أحمد الخمليشي: وجهة نظر . الجزء الثاني. المرجع السابق. ص.90
[24]- أحمد الخمليشي: وجهة نظر . الجزء الثاني. المرجع السابق. ص.95
[25]- أحمد الخمليشي: نفس المرجع السابق.[26]- المادة 156 من المشروع