الحرية بين ثنائية الخوف منها و عليها
- فدوا بنبنعيسى : دكتورة في الحقوق-تخصص حقوق الإنسان-
مما لا مناص منه أن الحرية مفهوم فلسفي، جدلي، اجتماعي، أخلاقي، وسياسي، مربك أحيانا وشائك في جميع الأحوال، لتداخله مع الكثير من المفاهيم التي تنظم العلاقة بين الأفراد على مستوى الوطن والإنسانية، كالحرية الشخصية وحدودها المتاحة وحسن استخدامها، وتحمل مسئولية النتائج المترتبة عليها، وكحرية التعبير وحق الاعتراف بالآخر واحترام اختلافه، وكذلك لارتباطه بمفاهيم أخرى تحدد علاقة الأفراد بأنظمة الحكم وسياساتها، كالديمقراطية وحرية الضمير والعدل وتداول السلطة، وأثر ذلك على السلم الاجتماعي وعلى الأمن وغيرها. علما أن هناك علاقة طردية بين تعزيز الديمقراطية التي تضمن رفع سقف الحريات، وكفالة حقوق الإنسان، واستقلال القضاء، واحترام القانون، وسيادة ثقافة التسامح، واحترام الرأي الآخر، وبين تعزيز الأمن والاستقرار، لهذا السبب اتخذ مفهوم الحرية دائما شعارا للحركات التحررية والثورية ومختلف المنظمات الحقوقية في العالم، باعتبارها قيمة إنسانية سامية.
فسؤال الحرية هو سؤال وجودي أزلي، يجيب عنه الإنسان دوما من خلال أفعاله وسلوكه داخل مجتمعه، بغض النظر عن درجة وعي ومعرفة هذا الإنسان، وكأنه يسترشد بفطرته وهو يتجه صوب الحرية، التي ليس لها من ضفاف واضحة المعالم إلا من خلال تلك الثلاثية ( الشرع – العرف – القانون) والتي قد يختلف ترتيب ورودها في حضارات وثقافات أخرى، إلا أنها موجودة، والتي يجمعها تسمية واحدة وهي المسؤولية الأخلاقية.
وإن كان يعتقد كثيرون من الناس، ولا فرق في هذا بين مجتمعات شرقية أو غربية، أن الحرية مطلقة لا حدود لها، وبالتالي فإن أفعالهم وسلوكهم لا تصدر إلا عن دواتهم الحرة، إلا أن مثل ذلك القول يصطدم بحريات للآخرين يحرصون على التصرف بها ومن خلالها، ولكن ضمن حدود تفترضها المسؤولية تجاه حريات الآخرين والالتزام بعدم انتهاكها. كما قد يجادل البعض أن الحرية لها صفة الأصالة في الإنسان، وهو صحيح، لكن تلك الأصالة ليست مطلقة، إذ يحدها الواجب والالتزام تجاه الذات أولا وتجاه الآخرين ثانيا، عبر قواعد شرعية وأخلاقية لا يمكن للإنسان تجاوزها، وهذا الالتزام هو قمة الحرية.
وفي خضم الأحداث التي شهدتها كثير من الدول العربية والتي سميت بأحداث الربيع العربي، تعالت الهتافات من حناجر الثائرين مطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية، فالحرية هي من أسمى المعاني وأنبل الغايات التي يسعى إليها الإنسان، وهي الحالة التي يكون فيها هذا الأخير قادرا على اتخاذ كافة قراراته بكامل إرادته، دون أن يتدخل فيها أحد بالإكراه أو الجبر، وهي الحالة التي يستطيع فيها الإنسان أن يبدي رأيه في المسائل المختلفة.
من هنا نجد أنه في الوقت الذي يرى البعض ضرورة التنازل عن بعض الحريات الشخصية لصالح حماية المجتمع وصون حرياته، يرى البعض الأخر أن الحريات الشخصية هي جزء لا يتجزأ من منظومة قيم النظم الديمقراطية، التي لا يمكن التنازل عنها أو عن جزء منها، وبأن حماية الحرية لا يمكن أن تتحقق من خلال تقييد الحرية نفسها.
لنتساءل في هذه الأثناء إذا وقعت المفاضلة بين الاستقرار وحفظ الحياة من جهة، والحرية من جهة أخرى، فأيهما نختار؟ إنه السؤال الشائع اليوم في المجتمعات العربية، هل تحرير المجتمع والفرد من الإملاءات الدينية يكفي كي يمارس الإنسان حريته؟ وما العلاقة بين حرية الفرد وحرية الجماعة التي ينتمي إليها؟ ولمن الأولوية، للمساواة أم للحريات؟ علما أن إطلاق الحريات للجميع من دون توافر المساواة في شروط تحقيقها، يفرغها من أي مضمون عملي، ويحولها حريات نظرية غير ممارسة وغير ممكنة التحقيق، لأن الحرية أصبحت من الناحية الفكرية وفي حاجات الناس وتوقعاتهم وتطلعاتهم، أحد الخيرات أو إحدى المنافع الاجتماعية والوطنية، فأصبح لزاما أيضا توزيعها توزيعا عادلا.
من تم دائما ما يكون هناك سؤال صعب الإجابة في لب التوجه السياسي لأي شخص: أيهما تفضل، الحريات الفردية أم المصلحة الجماعية. قد يبدو السؤال تافها للبعض وشديد السهولة حتى، فعند تحديد ميول سياسية غالبا ما يتجاهل الأشخاص الكثير من الحالات التي تقع في نطاق الجدل وينحازون لرأي واحد دون الآخر، سواء ممن كانوا يريدون مصلحة الجماعة دائما في الطليعة بشكل يحد من العديد من الحريات الشخصية، أو ممن يريدون حريات شخصية واسعة تؤذي الجماعة في الكثير من الأحيان، لكن بين هذين التوجهين يقع أغلب الوسطيين في حيرة من أمرهم، أين يرسمون الخط الفاصل بين الحريات التي من الممكن التخلي عنها لمصلحة الجماعة، والمصالح الجماعية التي لا تستحق أن يتم الحد من الحرية الشخصية لأجلها.
وإن لم يكن هذا المقال يعطي جوابا قطعيا على مكان رسم الخط الفاصل، فهو على الأقل يناقش الفكرة ويطرح المواضيع الشائكة الواقعة في المنطقة العربية، حيث لا تظهر المصلحة الجماعية جلية كفاية لتمحي الحرية الشخصية، ولا تكون صغيرة كفاية ليتم تجاهلها مقابل الحرية الشخصية.
لذلك سنحاول التطرق بادئ الأمر إلى أهمية الحرية في حياة الفرد والمجتمع، موضحين الإشكالية التي تثيرها جدلية الحرية مقابل المصلحة العامة، لنبرز في نقطة ثانية معالم الحرية المسؤولة.
أولا: أهمية الحرية وجدليتها مقابل المصلحة العامة
ترتبط الحرية بالحياة اليومية وبالمجال السياسي العمومي، ذلك أن اعتبار الحرية حقا يشترك فيه جميع الناس، يفترض توفر نظام سياسي وقوانين تنظم هذه الحرية، وتحدد مجال تعايش الحريات، حيث يرى “مونتسكيو” أن الحرية تنطوي على العديد من المعاني والدلالات، وتقترن بأشكال مختلفة من الممارسات السياسية، فالحرية في نظره ليست هي الإرادة المطلقة، وإنما الحق في فعل يخوله القانون دون المساس بحرية الآخرين([1]).
في حين يحدد “جون ستيوارت ميل” الحرية من خلال الإطار المناسب لتطورها، فيقول: “إن النطاق المناسب للحرية الإنسانية هو حرية الضمير بأشمل معانيها، وحرية الفكر والشعور، وحرية الرأي والوجدان المطلقة في كل الموضوعات، سواء كانت عملية أم تأملية أم أخلاقية أم لاهوتية”([2]).
أما الحرية حسب “زهير الخويلدي”، فهي خلوص واختيار وروية، ويقابلها الرق والعبودية والجبر والحتمية، وبالتالي فيها السلبي والإيجابي، وتدل على الفعل الإرادي والقيام بمبادرات عقلانية ومشاريع، فهي لها عدة معان هادفة وإتيان أفعال مسؤولة، وتشير إلى النظرة الإبداعية التي يعامل بها المرء نفسه وغيره والمحيط المادي الذي يوجد حوله، وتشمل مجال التفكير والتعبير والإعلام والمعتقد والرأي. إن الحرية المسؤولة هي تلك التي تسبق فعل الخير على ارتكاب الشر، وتجعل وجود الإنسان ثمرة معركة مستمرة مع كل أشكال الاستلاب والاستعباد والاستغلال. ومثلما أكد “كارل ياسبرس”: “بقدر ما تكون حريتي بقدر ما يكون وجودي، وذاتي لا تكون ذاتا أصيلة إلا إذا انفتحت على غيرها من الذوات الأصيلة”([3]).
هذه التعريفات تدفعنا لخوض العناصر التالية:
- أهمية الحرية في حياة الفرد والمجتمع
نستشف من التعريفات التي تم بسطها أعلاه، أن أهمية الحرية كبيرة في حياة الفرد والمجتمع، كونها تعد وسيلة لإشباع الرغبات الإنسانية والحاجات الفطرية في التعبير عن الرأي، ومشاركة الناس مشاكلهم وهمومهم وما يجول في خواطرهم، فعندما يكون هناك هامش حرية للأفراد تراهم يشعرون بالسعادة، لأنهم قادرون على التعبير عن آرائهم بكل حرية، بدون أن يتعرضوا للضغط والإكراه من أحد. فالحرية أيضا هي السبيل لرفعة المجتمعات وتقدمها، فأينما وجهت وجهك في هذا العالم الفسيح، ترى الدول التي تتمتع بالحرية هي الدول الأكثر تقدما ورقيا وحضارة، ذلك بأن الحرية تخرج كل ما لدى الناس من مهارات وقدرات يسخرونها في خدمة وطنهم وتقدمه، بينما ترى المجتمعات التي تفتقد إلى الحرية مجتمعات متخلفة عن ركب الحضارة والتقدم، فضلا عن أنها وسيلة لمشاركة القرارات ومناقشتها واختيار الأفضل والأصلح منها، وأن الديمقراطية كوسيلة من وسائل الحكم ما هي إلا شكل من أشكال الحرية.
كما أن الحرية وسيلة للإبداع، كون هذا الأخير لا يكون ولا يزدهر إلا بوجود هامش الحرية التي تمكن الإنسان من التفكير بدون عوائق، كما أنها وسيلة لابتكار الحلول والأفكار الخلاقة([4])، تكمن أهمية الحرية كذلك بالسماح للأشخاص بممارسة قدراتهم في المكان الذين اختاروه بإرادتهم، ودون تأثير من أي أحد، ما يمكن من تنظيم أبعاد الحياة الاجتماعية وبإدماج كافة فئات المجتمع على اختلافاتها.
بإمكان الحرية أيضا دفع الشعب إلى صناعة قوانينه وتشريعاته، مما يؤدي إلى شعور الأشخاص بأهميتهم، ومسؤوليتهم عن تطوير الدولة ونهضتها، ويساهم بالتالي في التحرر من كافة العوائق الاجتماعية والنفسية التي تمنع الأشخاص من القيام بالأدوار الفعالة والضرورية لتنمية المجتم، ذلك أن انعدام الحرية وفرض القوانين يساهم في تطبيقها بالإكراه، مما يؤدي إلى عدم انتماء الأشخاص إلى الدولة، والشعور بالكبت والإحباط.
بالموازاة مع ذلك، تخلق الحرية أدوات رقابية مجتمعية تراقب السلطات والمؤسسات الموجودة داخل المجتمع، مما يساهم في مكافحة الفساد بأشكاله المتعددة، والقضاء على آثاره السلبية التي يخلفها في المجتمع.
إلى جانب تحفيز الشخص على التفكير والإبداع والابتكار، فهي توفر له مساحة كبيرة لتنفيذ أفكاره ومخططاته التي تعود بالفائدة على مجتمعه، وعلى تطوير طاقات الشخص ومهاراته، وذلك يزوده بالقوة والإصرار من أجل مواجهة جميع التحديات، والصعوبات التي تعترضه.
فالحرية تعد حقا لا يمكن للإنسان التخلي عنه، وعلى أي إنسان سلبت منه حريته القتال من أجل نيلها والحفاظ عليها، وهي شرط مهم للوصول إلى التمدن والتحضر والرقي، لذا فكل انحطاط يتعرض له الإنسان يرجع سببه إلى أخذ حريته منه، خاصة أن الوصول إلى درجات عليا من الوعي، ليس ممكنا من دون ممارسة حرية الرأي والتعبير والاجتماع والاتحاد، وحق الوصول إلى المعلومات وغيرها من الحريات، فتوافر الحريات الفردية شرط الديمقراطية، وهي معطى يمثل جزء من حقوق المواطنة الحديثة، لكن نظير ذلك يجب الحرص من عدم ارتكاب الأخطاء، والتمادي في السلوكيات تحت غطاء الحرية، فذلك سيسبب تراجعا للمجتمع، لذا ينصح بدراسة السلوكيات قبل تنفيذها([5]).
وهو ما ينتج عنه من جهة أخرى عدم إمكانية القول بإطلاقية الحريات الفردية، كونها قد تؤدي إلى الإضرار بالجماعة، وهي الحالات التي سنحاول الوقوف عندها في النقطة الموالية:
- جدلية الحرية مقابل المصلحة العامة :
حتى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لم يتعرض للحريات الشخصية في المأكل والملبس والمزاج… لأنها خارجة عن الضبط القانوني الرسمي، وتحكمها الطبيعة الثقافية للمجتمع أكثر مما تحكمها قوانين الدول، فهي تخضع لعرف العيب والحرام الاجتماعي، والذي يتولى حراسته المجتمع المحافظ نفسه، وكل مجتمع فهو محافظ بطبيعته، فالمجتمع دائما يفترض من أفراده انضباطا بما يرسمه من قواعد اللياقة والعيب الاجتماعي، والذي قد لا يكون دينيا أو قانونيا، بل هو عرفي يختلف من مجتمع لآخر ومن منطقة لأخرى، ومثل هذا لا سبيل لتقنينه لأن المجتمع سيتولى الجزاء بنفسه ولو بالاحتقار والازدراء للمخالفين([6]).
وفي إطار الحديث عن الحريات التي قد تتعارض مع المصلحة العامة و تهدد الاستقرار الاجتماعي، نشير هنا على سبيل المثال إلى بعض الحالات.
- مثلا عند الحديث عن الحريات و لربما أهمها حرية التعبير، يتبادر إلى ذهن الكثيرين دولة “فرنسا”، كونها كانت منذ ثورتها الشهيرة قبل قرنين ونيف تعتبر “منارة للحريات”، لكن حتى هذه البلاد التي تتغنى بالحريات، تحد من حرية الرأي بمنع أي تصريح ينكر وجود المحرقة اليهودية (الهولوكوست)، وكذلك تمنع بعض الألبسة التي تندرج تحت بند الملابس التي تخفي الهوية، كالأقنعة والأزياء التنكرية وبطبيعة الحال النقاب (البرقع)، وإن كانت هذه الملابس تعد خيارات في النهاية لذلك تعد حرية شخصية، لكن كونها حرية شخصية يتم التغاضي عنه لأجل مصلحة الجماعة، باعتبارها تساعد المجرمين والإرهابيين على إخفاء هوياتهم، وتجنب اكتشافهم من قبل الأجهزة الحكومية، وبالتالي فهي تهديد أمني كبير، لذلك تحظرها اليوم بضع دول أوروبية([7])، وهنا يظهر الصراع بين الحرية والمصلحة العامة من جديد.
- حق عدم القتل: ربما لا يكون الموضوع جدليا اليوم في الدول الغربية، إلا أنه ما زال مهما في العديد من البلدان حيث لا يزال التجنيد إلزاميا. يمكن تلخيص الفكرة هنا بأن التجنيد الإلزامي للأفراد القادرين على القتال أمر لا شك بكونه لمصلحة الجماعة، ففي حال عدم وجوده سيتهرب العديدون من القتال في الحروب، مما يجعل الجماعة أضعف وأسهل للاحتلال والسيطرة عليها، بالمقابل فهذا الأمر يعد انتهاكا واضحا لحرية الأشخاص بكونهم معارضين للقتل أو العنف أصلا، عدا عن حريتهم في الحفاظ على حياتهم قدر الإمكان.
- التدخين والكحول والمخدرات: في النطاق الضيق، يعد التبغ والمشروبات الكحولية ومختلف أنواع المخدرات (سواء كانت ذات أساس نباتي أو مصنعة بالكامل في المخابر) من الحريات الشخصية، فهي تؤثر على المستخدم بشكل أساسي، مما يجعلها ليست من شأن الجماعة، إلا أن الأمر يختلف عند النظر إليه من وجهة نظر المصلحة الجماعية، حيث أن هذه المواد تؤثر على أفراد من الجماعة ومحيطهم بالضرورة، وبالمحصلة فحظرهم يعتبر أمرا لمصلحة الجماعة، والأمر هنا أن الناس غير مستعدين للتخلي عن حرياتهم الصغيرة التي تجلب لهم السعادة مقابل المصلحة الجماعية.
- كما أنه لا يمكن في المجتمع المسلم إباحة المثلية ونكاح البهائم بدعوى الحرية الشخصية، بل ولا حتى في مجتمع غير مسلم يحترم فطرته الإنسانية، كما لا يمكن السماح لعلاقات جنسية خارج إطار القانوني بدعوى رضا الطرفين، فهذه أعراف غربية لا علاقة لها بالحرية الشخصية، بل هي جناية على المواليد المحتملين وعلى النظام الصحي والنفسي العام([8]).
إن الحديث المشبوب عن الحرية الشخصية في مجتمعاتنا، يأتي تحت تأثير النمط الغربي المفتوح في الحياة، خاصة فيما يتعلق بالجنس وتكشف اللباس والملاهي والمرقس والمشروب، والأهم من كل هذا قوى الاتجار بهذه البضاعات فيما يسمي بصناعة الترفيه والسياحة، فهناك مئات المليارات من الدولارات تجنى من وراء هذه التجارة: تجارة الترفيه والجنس والحانات والفنادق والأزياء وغيرها، وهذه لا علاقة لها بالديمقراطية والحريات المنصوص عليها في المواثيق الدولية لحقوق لإنسان، وإنما بالمزاج الليبرالي الاجتماعي المفتوح الذي تعيشه قطاعات واسعة من الغرب، وهناك من يعارض كل هذه المظاهر المفرطة من نفس قطاعات المجتمع المحافظة، دون أن يعتبروا هذه المعارضة منافية لحقوق الإنسان.
وهو الأمر الذي يدفعنا للكشف عن معالم الحرية المسؤولة في نقطة ثانية.
ثانيا: معالم الحرية المسؤولة
إن أول ما ينبغي الالتفات إليه هو اختلاف الرأي العام الملتزم عموما والديني خصوصا، كما هو الحال عند المسلمين لمفهوم الحرية عن الفهم الليبرالي لها، ففهم هذا الأخير يقوم على أساس أن الحرية تتكامل مع الخلو من القيود، وأنه كلما أمكن رفع القيود كانت الحرية أكمل، ومع ذلك فالليبرالية لا تقول بإمكانية الحياة في مجتمع متماسك فيما لو طرحت كل القيود، فالمجتمع الإنساني يحتاج بالضرورة للقوانين والأنظمة التي تضبط مسيرة الناس وتنسق مصالحهم لئلا يفسد ترابط المجتمع ويختل نظامه، ولكنهم يختلفون عن المحافظين في كمية هذه القيود، وأي منها هو الضروري الذي لا يمكن التخلي عنه، وإلا فالأصل ثابت عند الجميع.
وأما الحرية في مفهوم الثقافة الإسلامية فتتجلى في قوة الالتزام بالقيم ومبادئ الشرف وقواعد النبل، فكلما كان الإنسان مخالفا لهواه وشهوته ومزاجه، متحكما في نفسه، ضابطا لعواطفه، مسيطرا على تفكيره بقواعد صارمة لا تخرج عن موازين الحق، كلما كان كذلك حرا ، فمتبع الشهوة والهوى عبد نفسه، ومخالف الشهوة والهوى حر، والعبودية الحقة لله تتجلى في الأحرار بهذا المفهوم.
هذا المفهوم للحرية، ليس غريبا أيضا عن الفكر الفلسفي الغربي ولا عن القيم الغربية المسيحية، ولا عن القيم الأخلاقية الغربية والعالمية، لأنه مفهوم إنساني قبل أن يكون دينيا، ولكن الليبرالية لا تأخذ هذا التوجه لا لكفرها به بل لاعتقادها أنه مدخل للاستبداد، كما حدث ذلك كثيرا على مستوى الواقع التاريخي، فاختارت كسر القيود دليل على الحرية، ولكنها أغفلت أن النفس جموح، وأنها متى ما أسلس لها أقحمت بصاحبها للمهالك، وصار الواقع أن الليبرالية الغربية أحبت دنيا الشهوات وأحبت التجارة فيها، بل وجعلتها نموذجا للحياة التي سمتها حرة([9]).
من تم فالتوازن بين الحريات والمصلحة الجماعية، هو الأساس الذي تبنى عليه الأنظمة السياسية والاجتماعية، ففي البلدان المتقدمة اليوم نوعان أساسيان من هذا التوازن، أولهما هو المائل للرأسمالية كما في الولايات المتحدة، حيث التشريعات محدودة للغاية والسوق حر إلى حد بعيد، مما أنتج عدم توازن كبير بين فئات المجتمع، كما أن الرعاية الصحية التي تعمل كشركات ربحية جعلت النظام الصحي الأمريكي واحدا من الأسوأ والأقل عدلا في العالم، بالمقابل يعمل النظام الديمقراطية الاجتماعي السائد في الدول الاسكندينافية وألمانيا وهولندا وغيرها بطريقة مختلفة فعليا، فالحريات أضيق من مقابلها في الولايات المتحدة، وإن لم يكن ذلك ملحوظا تماما، كما أن السوق مقيد بتشريعات عديدة وشديدة، بالإضافة لنظام رعاية اجتماعية ورعاية صحية، يتيح وجود حياة بمستوى مقبول للجميع وتحثيث رعاية صحية لكل من يحتاجها، كما أنه يقلل من الفراغ الواقع بين الفئات الاجتماعية العليا والدنيا([10]).
إننا نتحدث عن الحرية وأهميتها في حياة الفرد والمجتمع كحافز لإنتاج القيم الحضارية المتطورة، لأجل دفع المجتمع وحضارته إلى الأمام وللارتقاء به نحو غدا أفضل، وبناء أجيال تحافظ على المبادئ والقيم الإنسانية، خاصة في ضوء توفر القانون كأداة لحماية الحريات الفردية والأمن الاجتماعي، فعندها يكون موضع قبول واحترام من طرف المجتمع، عندئذ يكون منتجا لمقدمات النظام الديمقراطي الحر ولمجتمع العدل والمساواة، علما أن القانون هو الضابط الذي ينظم عمل فعل الإبداع الإنساني وإبقائه على مساره الصحيح، بمعنى آخر إبقاء الحريات الفردية والمجتمعية ضمن حدود يكون فعلها في الإبداع إيجابيا، وبالتالي منعها من أن تتحول إلى أداة هدامة، كون أن الفرد غير الواعي والمسؤول قد يحول الحرية إلى مجرد سلوكيات عبثية غير منضبطة تضره وتضر المجتمع، وكما هو الحال عندما يكون الفرد واعيا ويمارس حريته فأنه يؤثر إيجابا في المجتمع، وينتج قيما وسلوكيات متحضرة يتطبع بها سلوك المجتمع، وبالنتيجة إنتاج مجتمع مثقف متحضر.
وعليه فإن حضور عنصري الثقافة والوعي بكل أشكالها وألوانها يجب توفرها في المجتمع، لكي تكون ظاهرة ممارسة الحرية كحافزا ومصدرا للإبداع الإنساني الخلاق وليس العكس، وكذلك الحال بالنسبة لتطبيق القانون كضابط لإبقاء سياقات ممارسة الحريات الفردية والمجتمعية مفيدة، أي ليس هناك ضرورة لوجود الحرية الفردية أو الحرية المجتمعية في غياب ضوابط من مجموعة قوانين، تنظم عملية ممارسة الحريات على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، لأن في غياب القانون الضابط تكون ممارسة الحريات بشكل عبثي وذات نتائج مدمرة لذات الفرد ولذات المجتمع معا.
من وجهة أخرى لا يوجد أيضا قانون في ظل كبح وقمع وغياب الحريات الفردية والمجتمعية، لأن القانون عندها يفقد قدسيته واحترامه، قد يتحول إلى أداة بيد السلطة الحاكمة لفرض استبدادها، ولكن بوجود الاثنين معا، الحرية والقانون، بالشكل الايجابي المفيد وفي يد سلطة قادرة على إدارة العملية برمتها، عندها يتحقق الهدف المطلوب في بناء المجتمع الحضاري المنشود([11])، وبالتالي إمكانية تحقيق سلم اجتماعي، بحيث يــشكل الاستقرار أحـد أهــم الأهــداف الـتي تـسعى إليهــا كافة المجتمعات الإنسانية في العـالم، وذلـك لما يــشكله مـن انعكاسات ايجابية على جميع مناحي الحياة في أبعادهـا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
أما السلم الاجتماعي فيتمثل في حالة الوئام داخل المجتمع نفسه، وفي العلاقة بين شرائحه وقواه، كون أن من أهم المقاييس الأساسية لتقويم أي مجتمع، تشخيص حالة العلاقات الداخلية فيه، فسلامتها علامة على صحة المجتمع وإمكانية نهوضه، بينما اهتراؤها دلالة سوء وتخلف، كما أن تحقق السلم الاجتماعي عامل أساسي لتوفير الأمن والاستقرار في المجتمع، وإذا ما فقدت حالة السلم الداخلي أو ضعفت، فإن النتيجة الطبيعية لذلك هي تدهور الأمن وزعزعة الاستقرار([12])، وفي رحاب السلم الاجتماعي يمكن تحقيق التنمية والتقدم نحو المصالح المشتركة، وتتعاضد الجهود والقدرات في خدمة المجتمع والوطن.
لكن ما هي مقومات السلم الاجتماعي؟ وكيف تتم حمايته من تأثيرات العوامل المناوئة؟
في هذا الشأن يمكن اعتبار قضية الحرية مسألة متعلقة بالأخلاق، انطلاقا من شرط المسؤولية الأخلاقية، كون الحرية قيمة في حد ذاتها، انطلاقا من فرضية أن الحرية المطلقة والحرية المجردة ليست قيما، ذلك أن الحرية موضوع خطر ومصيري للإنسان والمجتمع، لا يقتصر الخوض فيه على تحديد الحريات كقيمة ومعيار تقاس أخلاقية الفعل بموجبهما فحسب، بل يفترض أن يتجاوز ذلك ليتضمن وعي الإنسان بالخيارات في مرحلة معينة، وضمن أوضاع تاريخية معطاة، ومدى دفع أي خيار منها المجتمع تجاه تحقيق الحريات وضمانها، والمخاطر الكامنة في الخيارات التي لا تحسب عواقبها على نحو صحيح، ومنها الإضرار بقضية الحرية ذاتها.
إن البشر يبحثون في النهاية عن حريتهم في مواضعها الأثيرة، النفس الإنسانية والمجتمع البشري المنظم. فالحرية معرفة بالعقل والإرادة ومشروطة بهما، بحيث يجب أن ينظر إلى الحرية، باعتبارها قدرة على الحسم بين خيارات، وهذه قدرة ملازمة للإنسان يمتاز بها عن باقي الكائنات، وتجعل الإنسان كائنا أخلاقيا يُتوقع منه التمييز بينهما واختيار أحدهما، مثلما يُتوقع منه بصفته كائنا عاقلا أن يميز بين الصواب والخطأ أيضا.
في هذا يعتبر عزمي بشارة الفوضى الاجتماعية “أشنع أنواع الاستبداد”، لأنها تمنع ممارسة الحرية بالضرورة، ولأن الحرية غير ممكنة التحقيق إن سيطر التعسف والفوضى على حياة البشر، لكنها قابلة للتحقق في ظل القوانين، على الرغم من قدرة هذه القوانين على حجب الحريات([13]).
ونشدد هنا على أن الحرية مسؤولية، وأن الإنسان مسؤول ليس عما اختاره وقام به فحسب، بل عن نتائج هذا الاختيار أيضا. إن الحرية السالبة تنفي القيود، إنها التحرر من إكراه الإنسان على اتباع نمط حياة مفروض، ورفض تقييد حرية الحركة وتكميم الأفواه وحظر التجمع والسجن العشوائي، وهي إذا لم تشمل حرية الإنسان بأن يقوم بأفعال معينة تتجلى في حريات موجبة وتوفير الشروط كي يمارس هذه الحريات، فإنها تبقى مجردة.
فالحرية الفردية هي قدرة الفرد على القيـام بعمـل يرغـب بـه دون أن يـؤدي عملـه إلـى المـساس بحرية الآخرين، أو الاعتداء على حقوقهم وتهديد أمنهم، فالحريـة مـن حـق كـل فـرد ولكـن عليـه أن يعلـم بـأن للمجتمـع الـسلطة والوسـيلة، التـي يمكـن أن يلجـا إليهـا لـردع أو لمنـع الفـرد مـن الإتيـان بعمـل لا يتفــق أولا ينــسجم مــع حقــوق وســلطة الآخـرين، وما ذاك إلا حماية للمجتمع جــراء العمـل المتخذ من قبل الفرد بحرية غير مقيدة في التصرف([14]).
وفي مجال الفكر إن حرية الإرادة في الأخلاق تعني أن الفرد مسؤول ومقيد أخلاقيا عن تصرفاته، أما في الحقول العلمية المختلفة، فإنها تعني أن تصرفات الجسد بما فيه الدماغ، ليست تماما تحددها الأسباب المادية، وفي كل حقل من هذه الحقول كانت مسألة الإرادة الحرة مركزية منذ بداية الفكر الفلسفي. وبشكل عام تعكس فكرة اختبار الفرد لحريته مواجهة الفرد للعديد من العوامل المقيدة لإرادته في التعبير عن رغباته، سواء تمثلت تلك القيود في السلطة أم القوانين أم التقاليد الاجتماعية أو العقيدية أو سواها.
وتبقى الحرية حسب علي حرب “ليست مجرد انفلات من القوالب والآليات والشبكات العقائدية
أو السلطوية أو الاجتماعية أو الإعلامية، بقدر ما هي قيادة الذات وصناعة الحياة، عبر خلق الوقائع وإنتاج الحقائق في مجال من المجالات المعرفية أو الجمالية أو التقنية أو الاقتصادية أو السياسية، تلك هي المسألة أن نمارس حريتنا هو أن نعمل على تفكيك آليات العجز لتغيير قواعد اللعبة، بتشكيل عوالم ومجالات أو خلق أساليب وفرص تحدث تحولا في الفكر، وتسهم في تغيير الواقع، بقدر ما تمتلك هي نفسها وقائعيتها”([15]).
وبدورها تناقش الدكتورة سعاد الشرقاوي العلاقة بين الحرية والسلطة في قولها، “إن الحرية والسلطة ليستا متناقضتين وإنما متكاملتان، وبدون نظام لا توجد حرية، والحرية يجب أن تتعايش مع القانون والنظام، وهذا التعايش يتسم بالجدلية”([16]). ويقول نعوم تشومسكي في هذا أيضا: “عدم الأهلية للحرية لا يمكن أن تنتج إلا عن نقص في القوة الأخلاقية والفكرية، والزيادة في هذه القوة تعد الوسيلة الوحيدة لتجاوز هذا النقص، بيد أن هذا يفترض استعمال هذه القوة، وهذا الاستعمال يفترض الحرية التي توقظ الفعالية التلقائية([17]).
ونؤكد أن واجب الدولة في كل نظام سياسي سليم، هو أن تضمن للفرد القدرة على الدفاع عن نفسه وتتركه حرا وشأنه لا أن تدافع عنه هي، وهذا لا يعني الدفاع عن الحرية الفردية غير المنضبطة، بل الإقرار في هذه النقطة بمبدأ أساسي وهو “كلما تعين ضرر واقع أو محتمل إما للفرد وإما للعموم، ينزع الفعل الذي قد يتسبب في الضرر من حيز الحرية ليلحق بحيز الأخلاق أو بحيز القانون”([18]). وبالتالي تظل الإشكالية الكبرى للحرية تبرز من خلال ارتباطها بسابقاتها، وهي صراعها الدائم ما بين بعديها الفردي والاجتماعي، فإذا كان الفرد هو محور الحرية الأساسي، فإنه لا يستطيع العيش إلا في مجتمع، والحرية الفردية لا تكون كذلك إلا في إطار الجماعة.
فالحرية هي حق يقابله واجب وهو حسن التصرف في هذه الحرية، فلا تصبح محدودة إلا حين يصبح هذا الفرد الحر غير قادر على الالتزام بواجبها، حينها تصادر الحرية بقوانين دستورية… وهذه الأخيرة في الإسلام هي القوانين التي تملك القدرة على التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة([19]).
وما يمكن استنتاجه هو أن الحرية هي حرية مسؤولة، فيها يصبح الإنسان مسؤولا ومحاسبا على أقواله وأفعاله تجاه مجتمعه وذاته، وهذه الحرية المسؤولة إنما بدأت مع رسالة النبي محمد صلى الله
عليه وسلم، التي ترشد الإنسان لضوابط هذه الحرية الجالبة للنفع والدافعة للضرر. بينما الحرية الفردية لا
يمكن ممارستها فعليا إلا بعد التكليف الشرعي لكل فرد لأنه مسؤول عن أفعاله وتصرفاته، وفي هذا الصدد إن الحرية لا تعني أن يفعل الإنسان ما يشاء ويترك ما يريد، فذلك ما يتفق مع طبيعة شهوته، ولا يتفق مع طبائع الوجود كما ركب عليه، ولكنها تعني أن يفعل الإنسان ما يعتقد أنه مكلف به، وما فيه الخير لصالح البشر أجمعين، وإيمان الإنسان بأنه مكلف هو أول خطورة في حريته”([20]).
من تم لا يمكن الدعوة إلى الحرية على الإطلاق أو على الإجمال، لأن هناك حدودا دقيقة بعضها نافع وبعضها مذموم، والحرية أكبر ما تهش لسماعه الآذان، فمفهومها يعرف تسيبا كبيرا، ذلك أن مستعمليه يحملونه على محامل ذاتية ضيقة، فالواقع مثلا يحسب الوقاحة حرية، والجريء يجد ذلك مبررا لجرأته، والثائر يستعمل الحرية أداة مسوغة لفعله، والمفتون في اعتقاده يدعي حرية العقيدة، وبالتالي فالحرية كما جاء عند ابن عاشور هي “السلامة من الاستسلام إلى الغير بقدر ما تسمح به الشريعة والأخلاق الفاضلة”([21]).
ومادام الإنسان جزءا من المجتمع، فقضيته هنا هي قضية الالتزام بهذا المجتمع والجماعة المكونة له،
كنتيجة حتمية للعلاقة التي تربطه بها، لأن الإنسان ليس حيوانا اجتماعيا ومفكرا فحسب، بل لديه أهواء وحاجيات ورغبات جامحة، ولديه كما يقول كانط مزاج اجتماعي يدفعه إلى الرغبة في توجيه كل شيء على هواه([22])، فالحياة الإنسانية في حاجة إلى النظام والتنظيم، وافتراض الحرية المطلقة للجميع معا افتراض خارج عن التصور والتفكير، لأن نتائجه ستقود إلى الفوضى المطبقة وانتشار الشر، وبذلك لا يمكن للحرية أن تتوفر إلا في ظل النظام، ولا يمكن إقامة نظام بدون سلطة، فالسلطة السياسية هي الملجأ الذي يقبل الجميع اللجوء إليه والمشاركة في بنائه وتشييده.
ولابد لنا أن نسجل في هذا المجال أن الحديث عن حريات شخصية لا تضر بالمجتمع هو حديث كاذب، فمهما فعل الأفراد في أنفسهم وخلواتهم فإنهم يؤثرون على المجتمع بوجه من الوجوه، فطرق ممارسة الأفراد لأنشطتهم المختلفة في الطعام واللباس والجنس وغير ذلك، لا بد وأن تترك أثرا على المجتمع من حيث التعدد السكاني وانتشار الأمراض وشيوع الفساد واختلال موازين العفاف أو تشددها، بل وسلامة الناس والبيئة أيضا، وكل مجتمع مهما كان متحررا، له قائمة من المحرمات التي يعتبرها ضارة بالناس يمنع الأفراد من ممارستها ويعاقب عليها.
فليس سؤال الحرية اليوم ترفا فكريا كما لم يكن يوما كذلك، كما نشدد على أنه لم يعد مقبولا أن ينظر إلى الحريات على أنها هبة أو مكرمة يتصدق بها على المجتمع، وإنما هي حق طبيعي ومشروع، ولا يمكن أن تحتكر مفاتيحها بيد جهة ما تفتحها أو توصد أبوابها متى تشاء، كما أنها ليست شأنا فرديا خاصا بل هي مسئولية كونية يشترك في حملها أصغر مكلف في المجتمع الإنساني وأكبر دولة أو نظام عالمي. وواضح أن الحرية إذا فقدت مسؤوليتها تحولت إلى نقيضها، ما يعني أنه ينبغي أن يكون بين الحرية وبين المسؤولية علاقة تكافؤ.
ختاما ومن خلال التحليلات السابقة ربما نستطيع استخلاص حقائق مهمة، منها أن البحث عن الحرية يدلنا على أهمية البحث في نفس الوقت عن صيغ تنظيمية تحقق الاستقرار، الذي هو الإطار العام لممارسة الحرية في معناها الايجابي، حيث افتراض ارتباطها بالمعقولية. فالحرية المنشودة هنا يحدوها خوفان: خوف من الحرية وهو خوف الأنظمة، وخوف على الحرية وهو خوف الشعب، وبين هذين الخوفين تقف المسؤولية لترسم الحدود وتبدد المخاوف، وتذكرنا بأننا أعطينا إلى جانب المسؤولية العقل والمحبة، بالأول نعقل حريتنا، وبالثاني ننفتح على آفاق الآخر، وبهما معا نحل جدل الاستقرار والحرية لنكون أهلا بأمانة أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها وحملناها، ذلك أن الاستقرار والحرية صنوان لا ينفصلان، فبدون الحرية والديمقراطية لا يتحقق الأمن والسلام الاجتماعي، وبدون الأمن تصبح الحرية والديمقراطية بلا معنى، لكن عندما يتعارض الحفاظ على الأمن مع الحرية باسم الدفاع عن الحرية، فإن الحرية تفقد معناها والأمن قد لا يتحقق في هذه الحالة.
لائحة المراجع المعتمدة :
- عزيز العرباوي: “مفهوم الحرية في الإسلام وفي الفكر الغربي رؤية بانورامية”، صادر عن مركز مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 26 ماي 2016 .
- عيسى بيرم: “الحريات العامة وحقوق الإنسان بين النص والواقع”، دار المنهل اللبناني، بيروت، 1998.
- زهير الخويلدي: “المسؤولية بين إكراهات القانون ومستلزمات الحرية”، مجلة الأزمنة الحديثة، عدد5، 2012.عيسى الشارقي: ” الحرية الشخصية”، مجلة التجديد العدد 7 دسمبر 2010 ، ملف العدد – حديث الدولة-.
- حسن الصفار: “السلم الاجتماعي: مقوماته وحمايته”، دار الساقي للنشر والتوزيع 2002.
- عزمي بشارة: “مقالة في الحرية”، الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات -الطبعة الأولى 2016.
- مجيد حميد الحدراوي : “محاضرات في الحريات العامة والديمقراطية”، 2013.
- علي حرب: “مسألة الحرية، مساحة اللعبة وازدواج الكينونة”، عالم الفكر، عدد، يناير، مارس، 2005.
- نعوم تشومسكي: “الحرية واللغة، ترجمة حسن العمراني”، الأزمنة الحديثة، عدد5.
- عبد الله العروي: “مفهوم الحرية”، المركز الثقافي العربي، الطبعة 6، الدار البيضاء، 2002.
- محمود محمد طه: “الرسالة الثانية من الإسلام”، المركز الثقافي العربي، بيروت ودار قرطاس الكويت، 2002.
- علال الفاسي: “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”، دار الغرب الإسلامي، الطبعة 5، 1993.
- محمد الطاهر بن عاشور: “مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق محمد الطاهر الميساوي”، الطبعة 2 الأردن، 2001.
- جان وليم لابيار: “السلطة السياسية”، ترجمة: إلياس حنا إلياس، منشورات عويدات، باريس، ط.3، 1983.
- طلال مشعل : “أهمية الحرية في حياة الفرد والمجتمع” ، آخر تحديث : 11:25 – 31 ماي 2015. http://mawdoo3.com
- أروى بريجية: “أهمية الحرية”، آخر تحديث 11:21 – 4 يوليو 2017 . http://mawdoo3.com
- علي وديع حسن: “الحريات الفردية مقابل المصلحة العامة”، 6 ديسمبر 2016. https://dkhlak.com/individual-freedom-vs-public-good/
- عمر إسماعيل حسن: “الحرية في حياة الفرد والمجتمع والضوابط التي تحكمها”، 26 نونبر 2012، [email protected]
الهوامش :
- ) عزيز العرباوي: “مفهوم الحرية في الإسلام وفي الفكر الغربي رؤية بانورامية”، صادر عن مركز مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 26 ماي 2016، ص 4. ↑
- ) عيسى بيرم: “الحريات العامة وحقوق الإنسان بين النص والواقع”، دار المنهل اللبناني، بيروت، 1998، ص 11-12. ↑
- ) زهير الخويلدي: “المسؤولية بين إكراهات القانون ومستلزمات الحرية”، مجلة الأزمنة الحديثة، عدد5، 2012، ص 9. ↑
- ) طلال مشعل : “أهمية الحرية في حياة الفرد والمجتمع” ، آخر تحديث : 11:25 – 31 ماي 2015 . http://mawdoo3.com ↑
- ) أروى بريجية: “أهمية الحرية”، آخر تحديث 11:21 – 4 يوليو 2017 . http://mawdoo3.com ↑
- ) عيسى الشارقي: ” الحرية الشخصية”، مجلة التجديد العدد 7 دسمبر 2010 ، ملف العدد – حديث الدولة- ص 9. ↑
- ) تعد المحرقة اليهودية أو ما يعرف ب ”الهولوكوست“ مثبتا تاريخيا، وبالتالي يعتبر إنكاره خطاب كراهية تجاه اليهود وكل من عانى تحت الظلم النازي خلال الحرب العالمية الثانية، أما حذر النقاب وأي وسيلة أخرى لإخفاء الشخصية فيعود لكونه يشكل خطرا أمنيا على المجتمع بشكل عام. ↑
- ) عيسى الشارقي: ” الحرية الشخصية”، مرجع سابق، ص 13. ↑
- ) عيسى الشارقي: ” الحرية الشخصية”، مرجع سابق، ص 10. ↑
-
) علي وديع حسن: “الحريات الفردية مقابل المصلحة العامة”، 6 ديسمبر 2016. https://dkhlak.com/individual-freedom-vs-public-good/↑
- ) عمر إسماعيل حسن: “الحرية في حياة الفرد والمجتمع والضوابط التي تحكمها”، 26 نونبر 2012، [email protected] ↑
- ) حسن الصفار: “السلم الاجتماعي: مقوماته وحمايته”، دار الساقي للنشر والتوزيع 2002، ص 9. ↑
- ) عزمي بشارة: “مقالة في الحرية”، الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات -الطبعة الأولى 2016، ص 100. ↑
- ) مجيد حميد الحدراوي : “محاضرات في الحريات العامة والديمقراطية”، 2013، ص 8. ↑
- ) علي حرب: “مسألة الحرية، مساحة اللعبة وازدواج الكينونة”، عالم الفكر، عدد، يناير، مارس، 2005، ص 13. ↑
- ) عيسى بيرم: “الحريات العامة وحقوق الإنسان بين النص والواقع”، دار المنهل اللبناني، بيروت، 1998، ص 61. ↑
- ) نعوم تشومسكي: “الحرية واللغة، ترجمة حسن العمراني”، الأزمنة الحديثة، عدد5، ص 11. ↑
- ) عبد الله العروي: “مفهوم الحرية”، المركز الثقافي العربي، الطبعة 6، الدار البيضاء، 2002، ص 43. ↑
- ) محمود محمد طه: “الرسالة الثانية من الإسلام”، المركز الثقافي العربي، بيروت ودار قرطاس الكويت، 2002، ص 101. ↑
- ) علال الفاسي: “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”، دار الغرب الإسلامي، الطبعة 5، 1993، ص 248. ↑
- ) محمد الطاهر بن عاشور: “مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق محمد الطاهر الميساوي”، الطبعة 2 الأردن، 2001، ص55. ↑
- ) جان وليم لابيار: “السلطة السياسية”، ترجمة: إلياس حنا إلياس، منشورات عويدات، باريس، ط.3، 1983، ص 8. ↑