التقنوقراط والضبط السياسي
ايناو عبد الكريم طالب باحث بسلك الدكتوراه بكلية الحقوق وجدة
تبرز تلك العلاقة الناظمة لثنائية “السياسي” و “التقنوقراطي” على سبيل التزايد و القطيعة أو التعلق و الترابط بينهما في تدبير شؤون السلطة والحكم، و هي تضرب عروقها في التاريخ السياسي، وتنطرح عند تشكيل الحكومات و البرلمانات، بين اتجاه يدافع عن ضرورة إسناد تدبير شؤون الحكم للسياسيين فقط مع استبعاد تام للتقنوقراط، لما يترتب عن ذلك من فضائل سياسية و تدبيرية مكينة تذهب في اتجاه العمل لصالح المواطنين، لأن السياسي يكون دائما أشد ارتباطا بشؤون الناس، على خلاف التقنوقراطي الذي يعلي من شأن الخبرة والتقنية، و بالمقابل يهمش البعد الاجتماعي في تدبير شؤون السياسات العمومية، مما يجعله أكثر متقوقع في الحسابات التقنية و الخبراتية و التدبير المغلق بعيدا عن الاستماع لمطالب المواطنين.
والاتجاه الآخر الذي يرى في تعقد الحياة السياسة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الحاجة إلى التركيز على التقنوقراط الذين يمتلكون الخبرة الكافية في الحكم والتدبير يفتقدها السياسي، بالإضافة إلى ما يعيشه السياسي من حالات التدهور والتقهقر والتواضع في الخبرات وصعوبات الاستجابة للكثير من التحديات التي يطرحها العصر الراهن، خصوصا وأنه عصر التقنية والتكنولوجيا المعلوماتية يتطلب امتلاك قدرات استثنائية قد لا تتوفر لدى رجل السياسة.
والاتجاه التوفيقي الذي يرى في الجمع بين الاثنين مصلحة مفيدة وأكيدة بمعنى الجمع بين خبرة السياسي وخبرة التقنوقراطي لتجاوز سلبيات كل طرف، وبالتالي تلاقح الإيجابيات وتجميعها وتوجيهها لخدمة التدبير الجيد لشؤون السلطة والحكم. وذلك من خلال تشكيل قوة قادرة على كسب مختلف الرهانات وتجاوز مختلف الصعاب والاختلالات التي قد تظهر أثناء التدبير الحكومي مما يجعل كثيرا من الحكومات في الديمقراطيات الغربية تجمع هذه النوعية حرصا منها على تكريس مقومات ” التدبير الجيد والمحكوم” لمختلف السياسات العامة للدولة.
إن الإشكالية مازالت مستمرة وسارية في الزمان، تطرح تحديات على المستوى الواقعي والممارساتي، برزت هذه الإشكالية على مدار التاريخ السياسي وكرونولوجيا التشكيلات الحكومية، لكن يبقى مربط الاشكال أكثر حول عودة التقنوقراط في ظل الحكومة الثانية في ظل دستور 2011، مما طرح العديد من الاستفسارات بين داعم للفكرة لكونها تشكل عين العقل في ظل تواضع أداء التشكيلة الحكومية، وبين من يرى في ذلك بمثابة إعلان صريح في إحداث إنقلاب على مؤسسة الحكومة وتجريدها من اختصاصاتها، وعودة التقنوقراطدال على هيمنة المؤسسة الملكية ومستشاريها في التدبير الحكومي.
إن التمركز في المشهد المغربي على التقنوقراط، يلغي السياسي باعتباره نقصا في الوجود manque-a-être، ذلك أنه تاريخيا اعتبر الاشتغال ب ” اسطورة التقنوقراطية” خاصة في تأو يلها المضاد للحزبية أحد المكونات الأساسية لأدوات الضبط السلطوي للنظام السياسي المغربي[1]، ولكون أن الظاهرة التقنوقراطية عموما معطى بنيوي داخل الحياة السياسية المغربية المتأثرة بالنمطية الإدارية من خلال الحضور القوي للموظفين داخل المؤسسات، وارتباط الشرائح الجديدة بالإدارة، وسيادة فكر حول النظام تتمثله كبناء ترابي في قمته رئيس ترابي، أي توسيع دوائر الحياة الإدارية على حساب الحياة السياسية[2].
إن تواجد التقنوقراط تؤطره بدرجة أولى خلفية ضبط الملك لمجال العمل الحكومي، بما يتوافق مع استراتيجيته في الحكم وتدبير السياسات العامة للدولة.
تبرز الإشكالية في خلق نوع من الازدواجية على مستوى” الولاءات” يكون التقنوقراطي مدينا للملك أكثر منه لرئيس الحكومة، فالوزير التقنوقراطي يدين بالولاء للملك أكثر من رئيس الحكومة، وهنا لا يمكن أن نخلق مسار سياسي مؤسساتي ينحو نحو مأسسة رئاسة الحكومة، ومنحها نوعا من الاستقلالية في ممارسة اختصاصاتها.
والرهان على التقنوقراط في الحكومة يتم من ورائه تسويق فكرة لدى مختلف الفاعلين وحتى على مستوى الرأي العام الوطني مفادها أن السياسي الحزبي ” عمله رديء” وليس في مستوى الرهان في تدبير قطاعات وزارية مهمة، وكذلك بعض الوزارات التي تنطوي تحت ما يسمى بوزارات السيادة التي ظلت مجالا محفوظا للملك يتحكم فيها وتخضع لسلطته التقديرية في التعيين.
إن الاعتماد على النخبة التقنوقراطية في النسق السياسي المغربي تحكمه دوافع تعزيز هيمنة المؤسسة الملكية على المجال السياسي.“فالمؤسسة الملكية بالنسبة لباقي المؤسسات الأخرى، كالأرض بالنسبة لباقي الكواكب، التي تتحرك كلها من أجلها، ومن أجل مركزيتها وإضاءتها وبث الحياة المستمرة فيها، فهي تسبح في نسقها وتبتعد عنها أو تقترب منها بقدر ما تحتاج من أجل الاستمرار والبقاء، تتحكم في أدوارها بإتقان وتحدد مسافة ومساحة حركة كل منها بدقة متناهية.
يعتقد البعض ممن لا يلمون بالمشهد السياسي خارج البلاد أن الأحزاب السياسية هي منافسة للملكية أو ند لها، غير أن ذلك الأمر يعد ضربًا من السذاجة، فالأحزاب مشروعيتها نابعة أصلا من النظام الملكي.
والقوى السياسية التي لا تعترف بالنظام الملكي لا يسمح لها بموجب الدستور بإنشاء حزب سياسي رسمي، كالحال لدى جماعة العدل والإحسان، بل هي دعامة ومعين له في تسيير أعباء الشأن العام، دون أن تستطيع الخروج عن التوجهات الكبرى للدولة التي يرسمها الملك، وكيفما كان الحال فهي في الواقع تتسابق دوما لاستجلاب رضاه ومباركته.
[1]– BOUABID A et El MESSAOUDI A . (2007). Technocratie versus démocratie . Les cahiers. FAB.FES. n 9. P22.
[2]– عبد الله ساعف، النخب المغربية وإشكالية الإصلاح، في التمثيلية، الوساطة، والمشاركة في النظام السياسي المغربي، كتاب تكريمي لأستاذ عبد الرحمان القادري، تنسيق عبد الله ضاعف، شعبة القانون العام، أكدال، الرباط، ص 65.