الاختصاص القضائي في منازعات القروض الاستهلاكية
- من إنجاز : العربي الوهاسي حاصل على الماستر في قانون المقاولة جامعة محمد الخامس بالرباط – كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي-
مقدمة :
يعتبر تحديد المحكمة المختصة للبت في منازعات القروض الاستهلاكية من المرتكزات الأساسية والضرورية لتحقيق الأمن القضائي للمستهلك، خاصة انه طرف ضعيف في العلاقة التي تربطه بالمهني المقرض. غير أن المشرع وعلى خلاف ما كان متوقعا فإنه لم يعلن وبشكل صريح المحكمة المختصة نوعيا بالبث في منازعات القروض الاستهلاكية، وهو ما خلق تضاربا فقهيا وقضائيا حول مسألة الاختصاص النوعي بالنسبة لنزاعات الاستهلاك.
هذا الاختلاف نابع اساسا من غموض الطبيعة القانونية للقرض الاستهلاكي. حيث أن هناك من يعتبره عقد مختلطا كونه يجمع بين تاجر – المقرض – ومدني – المستهلك المقترض.
وبين من يذهب إلى اعتباره عقد تجاريا يدخل في إطار العقود التجارية (الفقرة الأولى) و خلافا لما عليه الأمر بالنسبة للاختصاص النوعي. فإن المشرع تدخل من خلال القانون 31.08 القاضي بتحديد تدابير حماية المستهلك وأوكل الاختصاص المحلي لمحكمة محددة وخي محكمة موطن أو محل إقامة المستهلك أو المقترض سواء كان مدعيا أو مدعى عليه. (الفقرة الثانية)
الفقرة الأولى : التضارب القضائي بخصوص الاختصاص النوعي
يقصد بالاختصاص النوعي صلاحية المحكمة للبث في النزاع بحسب نوع القضية. وكما سبقت الإشارة فإن المشرع المغربي ومن خلال قانون حماية المستهلك رقم 08-31 لم يحدد المحكمة المختصة نوعيا في نزاعات الاستهلاكية بصفة عامة وفي تلك المتعلقة بالقروض الاستهلاكية بصفة خاصة. فالمشرع لم يراعي خصوصيات نزاعات الاستهلاك التي تقتضي وضع قواعد كفيلة بحماية المستهلك، وترك المجال للقواعد العامة[1] من أجل تحديد قواعد الاختصاص الواجبة التطبيق على هذا النوع من النزاعات.
و الفراغ التشريعي على هذا المستوى أدى إلى وجود تضارب بين القضاء بحيث هناك بعض الأحكام ترجع الاختصاص للمحاكم التجارية اعتبار أن عقد القرض الاستهلاكي عقد تجاري – أولا – وأخرى تسند الاختصاص النوعي للمحاكم العادية مؤسسة موقفها على أن عقد القرض الاستهلاكي عقد مختلط – ثانيا –
أولا : الاتجاه القائل باختصاص المحاكم التجارية
إن بعض التشريعات المقارنة ذهبت إلى اعتبار عقد القرض عقدا تجاريا بغض النظر عن صفة المقترض، سواء كان مستهلكا أو تاجرا وبغض النظر عن الغرض من القرض ومن بين هذه التشريعات: التشريع الإماراتي “المادة 410 من قانون المعاملات التجارية لدولة الإمارات”. وكذلك قانون التجارة لسلطنة عمان حيث ينص المرسوم السلطاني رقم 55/90 بإصدار قانون التجارة على أنه “تسري أحكام هذا القانون على التجار وعلى جميع الأعمال التجارية التي يقوم بها أي شخص ولو كان غير تاجر”
خلافا لما تقدم فإن غياب نصوص قانونية صريحة في هذا الإطار، في كل من المغرب ومصر وفرنسا قد فتح الباب على مصرعيه أمام الاجتهاد القضائي في هذه البلدان.
ففي المغرب ذهبت المحاكم إلى اعتبار عقد القرض عقد تجاريا تطبق عليه أحكام القانون التجاري ويرجع بالتالي الاختصاص النوعي للبث في منازعات القروض الاستهلاكية إلى المحاكم التجارية بغض النظر عن صفة المقترض أو الغرض المخصص له القرض وهو ما ذهب إليه المجلس الأعلى بمحكمة النقض حاليا – في مجموعة من قراراته بحيث جاء في إحدى قراراته “أن عقد القرض والرهن الرابط بين الطرفين الذي هو عقد تجاري بطبيعته، بصرف النظر عن طرفيه عمل بالمادة 5 من مدونة التجارة. لذلك ينعقد الاختصاص في النزاع للمحكمة التجارية ولو كان طرفيه مدنيا”[2].
إلا أن التكييف الذي اعتمده المجلس الأعلى لعقد القرض في هذه النازلة، يعتبر محل نظر ذلك أن أحد أطراف العقد ليس تاجرا حتى يكيف هذا العقد بالعقد التجاري الصرف. فالعقد من العقود المختلطة إذ يجمع تاجر بطرف مدني ومن تم فإن القول بانعقاد الاختصاص في هذا النوع من العقود للمحاكم التجارية مناف لمنطوق وروح المادة 5 في فقرتها ما قبل الأخيرة. فلو أن نية المشرع قد انصرفت إلى إسناد الاختصاص للمحاكم التجارية حسب البند الأول من المادة المذكورة أعلاه. لما صرح المشرع في الفقرة ما قبل الأخيرة من هذه المادة إلى إمكانية الاتفاق بين التاجر وغير التاجر إلى إسناد الاختصاص للمحكمة التجارية فيما قد ينشأ بينهما من نزاع سبب أعمال التاجر.[3]
فهذا الاتجاه القضائي اعتبر أن عقد القرض هو عقد تبرمه المؤسسة البنكية أو مؤسسات الائتمان مع الزبون وان جميع العقود التي تنجزها الابناك، هي عقود تجارية بغض النظر عن طبيعة الشخص المتعاقد معها سواء كان مستهلك عادي أو تاجر محترف عقود تجارية من حيث الشكل دون التفات لأطراف هذا العقد، ومن تم تبقى المحاكم التجارية تبعا للفصل الخامس من قانون 95-53 المتعلق بإحداث المحاكم التجارية هي المختصة نوعيا للبت في هذه الملفات.
وفي هذا الصدد جاء في قرار لمحكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء[4]، حيث جاء فيه ما يلي :
” حيث يتمسك الطاعن بأن الحكم المستأنف قد جانب الصواب لانه ليس بتاجر ، وأنه لا يمارس أي عمل تجاري وأن العقد الرابط بين الطرفين هو عقد مدني فضلا على ان قانون حماية المستهلك يعتبر القروض الاستهلاكية المجزئة إلى أقساط شهرية بمثابة قرض مدني بالنسبة للمقترض.
وحيث لئن كان من المسلم به أن عملية البنك ومنح القروض والتسهيلات تعتبر عملا تجاريا بالنسبة للمؤسسة البنكية عملا بمقتضيات الفقرة 7 من المادة 6 من مدونة التجارة ، فإنه حتى بالنسبة للمقترض أو المستفيد من التسهيلات البنكية فإن الفقه والقضاء استقرا على اعتبار القروض والتسهيلات التي تعقدها البنوك في نشاطها المعتاد عملا تجاريا مهما كانت صفة المقترض ومها كان الغرض الذي خصص له القرض أو التسهيلات البنكية الممنوحة (انظر قرار محكمة النقض الفرنسية الصادر بتاريخ 25/7/1985 دالوز 193- 18961).
وحيث إنه علاوة على ذلك فإن المادة 5 من قانون إحداث المحاكم التجارية تنص على أن هذه المحاكم تختص بالبت في الدعاوى المتعلقة بالعقود التجارية وبما أن عقد القرض هو من العقود التجارية وبالتالي فإن النزاع القائم بشأنه يدخل في نطاق اختصاص المحكمة التجارية.
وحيث انه تبعا لذلك يتعين رد الاستئناف لعدم ارتكازه على أساس وتأييد الحكم المستأنف وبإرجاع الملف إلى المحكمة التجارية بالدار البيضاء للاختصاص بدون صائر“.
وجاء في قرار آخر رقم 4603/2013 ما يلي[5] :
” لكن حيث لئن كان من المسلم به أن عملية البنك ومنح القروض والتسهيلات تعتبر عملا تجاريا بالنسبة للمؤسسة البنكية عملا بمقتضيات الفقرة 7 من المادة 6 من مدونة التجارة، فإنه حتى بالنسبة للمقترض أو المستفيد من التسهيلات البنكية فإن الفقه والقضاء استقرا على اعتبار القروض والتسهيلات التي تعقدها الأبناك في نشاطها المعتاد عملا تجاريا مهما كانت صفة المقترض ومهما كان الغرض الذي خصص له القرض أو التسهيلات البنكية الممنوحة (محكمة النقض الفرنسية قرار 25/07/1985 دالوز 1896.1.193).
وحيث إن الثابت من وثائق الملف خاصة عقد إعادة تشكيل الديون الموقع من الطرفين والمصادق على توقيعاته بتاريخ 28/11/2006 أن النزاع لا يتعلق بقرض سكن قروي بل أيضا بتسهيلات في الأداء ومعلوم أن المحكمة التجارية تختص بالنظر في مجموع النزاع التجاري الذي يتضمن جانبا مدنيا وذلك وفقا لأحكام المادة 9 من القانون المحدث بموجبه المحاكم التجارية.
وحيث إنه علاوة على ذلك فإن المادة الخامسة من قانون إحداث المحاكم التجارية تنص على أن هذه المحاكم تختص بالبت في الدعاوى المتعلقة بالعقود التجارية، وبما أن الحساب البنكي الجاري يعتبر من العقود البنكية وبالتالي فإن النزاع القائم بشأنه يدخل في نطاق اختصاص المحكمة التجارية.
وحيث إنه يتعين تبعا لذلك اعتبار الاستئناف وإلغاء الحكم المستأنف والحكم من جديد باختصاص المحكمة التجارية بالدار البيضاء نوعيا للبت في النازلة، وبإرجاع الملف إليها للاختصاص بدون صائر. ”
وبخصوص القضاء الفرنسي فالراجح فيه أن القرض الصادر من البنك يعتبر تجاريا دائما بالنسبة للطرفين أيا كانت صفة المقترض أو غرضه من الفرض. لأن ذلك يدخل في عمليات الأبناك المعتبرة تجارية بحكم القانون وخاصة المادتين 613 و632 من القانون التجاري الفرنسي.[6]
وقد ذهبت أيضا محكمة النقض المصرية في إحدى قراراتها إلى أن :
“القروض التي تعقدها المصارف تعتبر بالنسبة للمصرف المقرض عملا تجاريا بطبيعته وفقا لنص المادة الثانية من قانون التجارة. أما بالنسبة للمقترض فإنه وإن اختلف الرأي في تكييفها. إذ لم يكن المقترض تاجرا أو إذا كان القرض مخصصا لأغراض غير تجارية. فإن محكمة النقض ترى اعتبار القروض التي تعقدها البنوك في نطاق نشاطها المعتاد تجارية مهما كانت صفة المقترض وأيا كان الغرض الذي خصص له القرض”[7].
و عموما فإنه ومن خلال القرارات السالفة الذكر يتضح جليا أن الاجتهاد القضائي ذهب في اتجاه اعتبار القرض الاستهلاكي تجاريا يغض النظر عن صفة طرفيه والغرض المخصص له وبالتالي إسناد الاختصاص للمحاكم التجارية.
وهو الشيء الذي قد لا يتوافق مع ضرورة تكريس حماية قضائية للمستهلك المقترض، لأنه يصبح ملزم باللجوء إلى محاكم تعتمد قواعد خاصة وتخدم مصالح الطرف التاجر – المقرض- بشكل أكبر.
وبالتالي فاعتبار القرض الاستهلاكي الممنوح للمستهلك عملا تجاريا بالنسبة له قد يضر بمصلحته. وعلى نقيض هذا الطرح فإن الأستاذ محمد الفروجي يرى على أنه بالرغم من تحميل المفترض بعض الالتزامات المقررة بمقتضى القواعد التجارية فإن من شأن تطبيق مقتضيات قانونية موحدة على ذات العملية. بصرف النظر عن صفة طرفيها. أن يخلق شيئا من التكافؤ في الحقوق والواجبات بين الطرفين وأن يجتنبهم بعض المشاكل المسطرية التي يفرزها تطبيق نظرية الأعمال المختلطة[8].
لكن رغم ذلك فإن مبرر استقرار المعاملات وتوحيد القوانين المطبقة على كافة القروض أيا كانت صفة مبرمها والغرض منها وإسناد الاختصاص للبث في المنازعات المتعلقة بها إلى المحاكم التجارية. يجب أن لا يكون على حساب مصلحة المستهلك المقترض بإخضاعه لقواعد قانونية تتعلق بالتجار، الذين يتوفرون على جانب كبير من الاحترافية والمهنية حيث يتعين إعمال قواعد الإنصاف القضائي بشكل يؤدي لاستبعاد اختصاص المحاكم التجارية نوعيا من قضايا القروض الاستهلاكية ولو كان النزاع بين المستهلك وبين المهني الذي له صفة تاجر. فالقضاء يجب أن يتعامل مع القواعد العامة بشكل يحقق الحماية للمستهلك ليس استقرار المعاملات والتكافؤ في الحقوق والواجبات.
ثانيا : الاتجاه القائل باختصاص المحاكم العادية.
يعتبر عقد القرض ذو طبيعة تجارية دائما بالنسبة للمؤسسة المقرضة، طبقا لنص الفقرة السابعة من المادة 6 من مدونة التجارة والتي اعتبرت أن عمليات البنوك تجارية بذاتها. أما بالنسبة للمستهلك في عقد القرض الاستهلاكي فإنه لا يعتبر تاجرا وبالتالي فإن العقد بالنسبة إليه يعتبر عملا مدنيا.
فالقرض الاستهلاكي إذن هو عقد مختلط، حيث أن العلاقة التي تربط بين التاجر والمستهلك، تعد بالنسبة للمقرض عملا تجاريا وبالنسبة للمستهلك المقترض عملا مدنيا. والمبدأ يقتضي في هذه الحالة ضرورة اللجوء إلى محكمة المدعي عليه من حيث الاختصاص النوعي وعلى هذا الأساس فإنه يجب على المدعي أن يقاضي المدعى عليه أمام المحكمة المدنية، أما إذا كان العمل تجاريا بالنسبة للمدعى عليه فإنه يجب إعطاء المدعي الخيار بند رفع دعواه أمام المحكمة المدنية باعتبارها محكمة أو أمام المحكمة التجارية باعتبارها محكمة المدعى عليه[9].
وبالتالي فإن الاختصاص النوعي يعود في الغالب للمحاكم الابتدائية ما لم يقم المستهلك المقترض برفع دعواه أمام المحاكم التجارية.
و قد أكد جانب من القضاء المغربي هذا الاتجاه سواء على محاكم الموضوع أو على صعيد محكمة النقض. فبالنسبة لمحاكم الموضوع فقد قضت محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء في قرار لها إلى أن الاختصاص يعود للمحاكم العادية حيث جاء فيه[10] ما يلي :
” حيث تمسك المستأنف بعدم اختصاص المحكمة التجارية للبت في النزاع.
وحيث إن النزاع موضوع الدعوى يتعلق بعقد قرض استهلاكي يؤدى بواسطة استحقاقات قارة وتخضع لأحكام عقد القرض المنظم بموجب قانون31.08 المتعلق بحماية المستهلك.
وحيث انه لا يوجد ما يبرر إسناد الاختصاص للمحكمة التجارية للبت في دعاوى القروض الاستهلاكية التي تجمع بين أشخاص طبيعيين يقترضون من اجل حاجتهم الشخصية وبين مؤسسات القرض، على اعتبار أن العقد ليس من العقود التجارية المنظمة بموجب مدونة التجارة، ومن جهة أخرى فان المقترض شخص مدني ويبقى عقد القرض بالنسبة إليه عملا مدنيا مما يكون معه دفعه المثار بشان الاختصاص النوعي مرتكز على أساس، ويكون وبالتالي الحكم الابتدائي قد جانب الصواب فيما قضى به مما يتعين معه إلغاؤه، والحكم من جديد بعدم اختصاص المحكمة التجارية بالدار البيضاء نوعيا للبت في النزاع، وبإحالة الملف على المحكمة المدنية بالدار البيضاء للاختصاص بدون صائر.”
وهو ما أكدته أيضا في قرار آخر لها حيث جاء فيه ما يلي[11]:
“حيث يتمسك الطاعن بأن الحكم المستأنف قد جانب الصواب فيما قضى به لأنه ليس بتاجر ولم يقترض لأجل التجارة، وأن عقد القرض الرابط بينه وبين المستأنف عليه هو عقد مدني بالنسبة إليه، خاصة وأن قانون حماية المستهلك اعتبر القروض الاستهلاكية المجزئة إلى أقساط شهرية، قرض مدني.
وحيث إنه بعد الإطلاع على عقد القرض الرابط بين الطرفين فإنه نص في فصله 19 على أن القرض هو قرض استهلاكي.
وحيث إن المقصود من المستهلك وحسب المادة 2 من قانون حماية المستهلك هو كل شخص طبيعي أو معنوي يقتني أو يستعمل لتلبية حاجياته غير المهنية منتوجات أو سلعا أو خدمات للاستعمال الشخصي أو العائلي، أي أن المقصود من المستهلك هو الذي يقتني أو يستعمل الشيء المستهلك منقولا أو عقارا للاستعمال الشخصي وليس المهني.
وحيث إنه بالرجوع إلى الفصل 202 من قانون حماية المستهلك فإنه ينص على أنه “في حال نزاع بين المورد و المستهلك ورغم وجود أي شرط مخالف، فإن المحكمة المختصة هي محكمة موطن أو محل إقامة المستهلك…”.
وحيث إن القرض الذي منح للمستأنف هو من أجل استعماله الشخصي مما يجعل هذا الأخير يدخل في حكم المادة 2 المذكورة أعلاه وتبعا لذلك يستفيد الطاعن من أحكام الفصل 202 من قانون 08/13 والتي تمنح الاختصاص المكاني لمحكمة موطن المستهلك.
وحيث يتعين تبعا لذلك إلغاء الحكم المستأنف والحكم من جديد بعدم اختصاص المحكمة التجارية للبث في النزاع وبإحالة الملف على المحكمة الابتدائية بالجديدة للاختصاص بدون صائر”.
وعموما فإن هناك مجموعة من الأحكام والقرارات التي تقضي بأن الاختصاص يعود للمحاكم العادية [12].
أما بخصوص محكمة النقض فمن خلال القرارات الصادرة عنها. يتبين أنها تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المختلطة لعقود القرض الاستهلاكي، واعتبرت فيها أن المقترض لا يعد تاجرا وذلك بمناسبة مناقشة وسائل الإثبات في هذا النوع من العقود.[13]
ومن خلال ما تقدم يتضح أن الاتجاه الذي يقول باختصاص المحاكم الابتدائية ينطلق في طرحه من كون عقد القرض الاستهلاكي يعتبر عقد مختلطا، عكس الاتجاه السابق الذكر الذي ينظر إليه كعقد تجاري يؤول الاختصاص فيه للمحاكم التجارية. فالقضاء اعتبر أن هذا العقد هو عقد مدني من جانب المقترض حتى ولو كان تجاريا من جانب البنك أو المقرض، وطالما أن الاختصاص يتحدد بحسب مركز المدعى عليه الذي يكون دائما هو المقترض فان المحكمة المختصة هي المحكمة المدنية وليست التجارية .
ونعتقد أن هذا التوجه هو الأسلم والأنسب لحماية المقترض الذي يبقى قضائه الطبيعي هو القضاء العادي وليس القضاء التجاري الذي مجاله هو المنازعات بين التجار بصدد أعمالهم التجارية ، وان أصل هذا الخلاف يعود إلى غياب نص تشريعي ينظم مسالة الاختصاص النوعي في قضايا الاستهلاك.
وحتى في حالة وجود اتفاق بين الطرفين يقضي بإسناد الاختصاص النوعي للمحكمة التجارية، فانه في مثل هذه الحالة يمكن أن يثار تساؤل حول اعتبار شرط إسناد الاختصاص النوعي للمحكمة التجارية هو شرط تعسفي يتعين التصريح باستبعاده طبقا للمواد 15-18 فقرة 17 من القانون 31.08 على أساس أنه يؤدي إلى مقاضاة المدين أمام محكمة غير محكمته القريبة منه وأمام قضاة تجاريين غير قضاته الطبيعيين خاصة وأنه ليس تاجرا ولم يقترض من اجل التجارة كما ان هذا الشرط هو في مصلحة المؤسسة المالية التي يتواجد مقرها بدائرة المحكمة التي يرفع أمامها النزاع.
وتجب الإشارة إلى أن المستهلك في الدول الأوروبية يفضل اللجوء إلى المحاكم التجارية، للمطالبة بحقوقه على الرغم من وجود احتمال رفض الدعوى أو عدم حصوله على نتائج إيجابية، وذلك لأن هذه الأخيرة تفرض ضرورة الإسراع في إنجاز الإجراءات المسطرية اللازمة لسير الدعوى، كآجال التبليغ والبت في الدعوى واستئنافها لمدة محدودة ومعقولة[14]، وتماشيا مع ذلك فإن الغرفة التجارية بمحكمة النقض في قرار لها بتاريخ 20 يوليوز 1965 قضت بموجبه بمبدأ قبول الشرط الذي يمنح الاختصاص الكامل للقضاء التجاري في العقود المختلطة[15]، ومنذ سنة 1997 استقر رأي نفس الهيئة القضائية على أن مثل هذا الشرط لا يتعارض مع مصلحة الشخص غير التاجر[16].
وعموما فإن عدم تحديد القانون 31.08 للمحكمة المختصة نوعيا في منازعات القروض الاستهلاكية، وعدم وجود قواعد قانونية تجبر القاضي على الإشارة التلقائية لخرق المقتضيات المتعلقة بحماية المستهلك، كل ذلك من شأنه أن يبعد المستهلك عن محكمته الطبيعية التي هي المحكمة الابتدائية.
لذلك يجب تقرير القاعدة الآتية في هذا المجال “تعتبر المحكمة الابتدائية هي جهة الاختصاص الطبيعية في قضايا الاستهلاك” وجعل هذا الاختصاص حصريا في قضايا القرض الاستهلاكي[17].
ويجب لتحقيق حماية قانونية للمستهلك المقترض بصورة أشمل وأدق، حسب الأستاذ عبد المهيمن حمزة تعديل المادة 18 من قانون رقم 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك بإضافة شرط الاتفاق على إسناد الاختصاص في الأعمال المختلطة إلى القضاء التجاري واعتباره شرطا تعسفيا يستوجب بطلانه لأنه يحرم المستهلك من حق الخيار الممنوح له بمقتضى نظرية الأعمال المختلطة من جهة ولأنه يبعد المستهلك عن محكمته الطبيعية التي هي المحكمة الابتدائية من جهة أخرى.[18]
كما نتفق مع الأستاذ عبد الحميد أخريف الذي اقترح إضافة قسم خاص بالحقوق القضائية للمستهلك والولوج إلى العدالة إلى القانون 31.08 يتضمن مادة خاصة بالاختصاص النوعي تكون صيغتها على الشكل التي : “ينعقد الاختصاص القضائي في قضايا الاستهلاك حصريا للمحكمة الابتدائية لمحل إبرام العقد وكل اتفاق على خلافه يعتبر باطلا”[19].
الفقرة الثانية : نظام الاختصاص المحلي في منازعات القروض الاستهلاكية
كما سبقت الإشارة فإنه وبصدور قانون حماية المستهلك فإن المشرع قد وضع نظاما جديدا للاختصاص المحلي وهو ما يتبين من خلال المادة 111 من قانون حماية المستهلك التي تنص “يجب أن تقام دعاوى المطالبة بالأداء أمام المحكمة التابع لها موطن أو محل إقامة المقترض خلال السنتين المواليتين للحدث الذي أدى إلى إقامتها تحت طائلة سقوط حق المطالبة بفوائد التأخير…” فهذا المقتضى جاء لحماية المستهلك فبعد أن كانت القواعد المتعلقة بالاختصاص المحلي تنص على صيغة “المدعى عليه” لتحديد المحكمة المختصة محليا. جاء قانون حماية المستهلك لينص على كون الاختصاص المحلي يرجع لمحكمة موطن أو محل إقامة المستهلك المقترض سواء كان مدعيا أو مدعى عليه[20].
وبالتالي فإن نظام الاختصاص المحلي المتعلق بمنازعات القروض الاستهلاكية يعتبر من أهم الاختيارات المسطرية التي تخدم مصلحة المستهلك، وذلك لتسهيل مأمورية التقاضي بالنسبة لهذه الفئة الاجتماعية وتقريب القضاء منها.[21]
كما أنه سوف يضع حدا لتضارب الاجتهادات القضائية حول الاختصاص المحلي في منازعات القروض الاستهلاكية. وحدا لبعض الممارسات التي كان يلجأ إليها المقرض من أجل تعطيل حق المقترض في اللجوء للقضاء حيث أن عقود القرض كانت تتضمن دائما شرطا يشير إلى أنه في حال وقوع نزاع بين المقرض والمقترض فان المحكمة المختصة محليا للبت في النزاع الذي ينشا بينهما، هي المحكمة التابع لها المقر الاجتماعي لمؤسسة القرض، وطالما أن أغلب أن لم تكن كل مؤسسات القرض يتواجد مقرها الاجتماعي بمدينة الدار البيضاء، فإن جميع قضايا القروض الاستهلاكية كانت ترفع أمام محاكم الدار البيضاء حتى وإن كان المقترض يقطن بجنوب المملكة أو شمالها وهو ما كان يشكل عبء تقيل لا يمكن تحمله، إضافة إلى أن الانتقال إلى مدينة أخرى غير موطن المقترض تتطلب مصاريف إضافية، وهو ما كان يترتب عنه عدم جواب المدعى عليهم عن الدعاوى المقامة في مواجهتهم، حيث أن أغلب الأحكام الصادرة في هذا الإطار كانت غيابية.
وعلى المستوى العملي فإنه يلاحظ أن كل الأحكام الصادرة بعد صدور القانون 31.08 المتعلق بحماية المستهلك، نصت على أن الاختصاص المحلي يعود للمحكمة التي يوجد بدائرة نفوذها موطن المستهلك المقترض وذلك طبقا للمقتضيات المنصوص عليها في المادة 111 من القانون السالف الذكر، فقد جاء في حكم صادر عن المحكمة التجارية بالدار البيضاء ما يلي[22]:
“حيث جاء بالمادة 111 من قانون رقم 08-31 أنه يجب أن تقام الدعاوى للمطالبة بأداء المديونية الناجمة سواء عن عقد القرض أو عقود الإيجار المقرون بوعد بالبيع أو مع خيار الشراء أمام محكمة موطن أو محل إقامة المقترض ، وهذا المقتضى القانوني هو من صميم النظام العام انسجاما مع ما ورد بالمادة 151 من هذا القانون.
وحيث جاء كذلك بالمادة 202 من هذا القانون أنه في حال وقوع نزاع بين طرفي عقد القرض أي كل من المقرض والمستهلك أو المدين المقترض فان المحكمة المختصة تكون هي محكمة موطن المقترض وذلك بالرغم من وجود شرط مخالف.
وحيث إن مقتضيات هذا القانون الجديد دخلت حيز التنفيذ من تاريخ نشر هذا القانون بالجريدة الرسمية تطبيقا للمادة 197 التي أوجبت تطبيق هذا القانون بمجرد نشره ، ومادام أن الدعوى المرفوعة إلى هذه المحكمة مسجلة بتاريخ لاحق على دخول هذا القانون حيز التطبيق فإنها تبعا لذلك تكون خاضعة لبنوده. وبالتالي فإن الاختصاص ينعقد للمحكمة المدنية.”
كما جاء في حكم صادر عن المحكمة التجارية بالدار البيضاء أنه[23] :
“وحيث جاء بالمادة 1&1 من القانون المذكور أنه يجب أن تقام الدعاوى للمطالبة بأداء المديونية الناجمة سواء عن عقدد القرض أو عقود الإيجار المقرون بوعد بالبيع أو مع خيار الشراء أمام محكمة موطن أو محل إقامة المقترض، وهذا المقتضى القانوني هو من النظام العام طبقا للمادة 151 من هذا القانون.
وحيث جاء كذلك بالمادة 202 من ذلك القانون أنه في حالة وقوع نزاع بيم وقوع نزاع بين طرفي عقد القرض أي كل من المقرض والمستهلك او المدين المقترض فان المحكمة المختصة تكون هي محكمة موطن المقترض وذلك بالرغم من وجود شرط مخالف.”
و من خلال هده الأحكام يتبين أن المشرع وضع حد لثغرة قانونية كانت سببا في كون معظم نزاعات الاستهلاك لم تكن تتسم بالحضورية والتواجهية، وكانت مؤسسات القرض وحدها الممثلة أمام القضاء،
و نعتقد أن المشرع أحسن صنعا في هدا الإطار ووفر للمستهلك الإمكانية للدفاع عن نفسه وعن حقوقه بعد تقريب القضاء إليه وقام هدا القانون الجديد بهدم مبدأ قدسية العقد التي تقوم على أساس مبدأ سلطان الإرادة.
الهوامش :
[1] – Abdellah Boudahrain, le droit de la consommation au maroc, édition Al madriss – casablanca 1999, p 381.
[2] – قرار محكمة النقض – المجلس الأعلى سابقا – عدد 289 بتاريخ 2002/02/25 ملف تجاري عدد 2006/1/3/351. منشور بنشرة قرارات المجلس الأعلى، الغرفة التجارية عدد 5، السنة 2010 ص 12.
[3] – أحمد كويسي: الاختصاص النوعي للمحاكم التجارية في العقود المختلطة في ضوء قرار المجلس الأعلى بتاريخ 25 فبراير 2009، المجلة المغربية للقانون الاقتصادي، العدد 4، 2011، ص 162.
[4] – قرار رقم 4864/2012 صدر بتاريخ 30/10/2012 رقم الملف 4219/2012/13، غير منشور
[5] – قرار رقم 4603/2013 صادر عن محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء بتاريخ 29/10/2013 ملف رقم 2042/2013/8، غير منشور
[6] – محمد جنكل، العمليات البنكية المباشرة طبعة 2010 ص 267.
[7] – نقض بتاريخ 27 يونيو 1963 طعن 255 أورده محمد حبكل في كتاب العمليات البنكية المباشرة، م س، ص 268.
[8] – محمد الفروجي، القانون البنكي المغربي وحماية حقوق الزبناء أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص. جامعة الحسن الثاني عين الشك كلية العلوم القانونية والاقتصاد والاجتماعية الدار البيضاء 1996 – 1997، ص 219.
[9] – مهدي منير، المظاهر القانونية لحماية المستهلك أمطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص وحدة البحث والتكوين : قانون الأعمال. جامعة محمد الأول كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية وجدة ص …
[10] – رقم 1577/2013 صدر بتاريخ 19/03/2013، غير منشور.
[11] – قرار رقم 1935/2013 صدر بتاريخ 02/04/2013 رقم الملف 986/2013/13. غير منشور
[12] – حكم المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء عدد 1689 بتاريخ 2012/07/13 ملف عدد 2012/24/12851 (غير منشور)
– حكم المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء تحت عدد 16887 بتاريخ 2012/07/13 ملف عدد 201/24/3/128 (غير منشور).
– قرار رقم 317/2014 صادر عن محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء بتاريخ 22/01/2014 ملف رقم 5346/2013/6.غير منشور
– قرار رقم 4887/2013 صدر بتاريخ 19/11/2013 رقمه بمحكمة الاستئناف التجارية 4421/2013/13.غير منشور
– قرار رقم 4408/2013 صادر عن محكمة الاستئناف التجارية بتاريخ 15/10/2013 ملف رقم 4077/2013/13.غير منشور
– قرار رقم 1923/2013 صادر عن محكمة الاستئناف التجارية بتاريخ 02/04/2013 ملف رقم 4341/2012/8.غير منشور
[13] – قرار المجلس الأعلى – محكمة النقض – عدد 94 المؤرخ في 16/01/2002 ملف تجاري عدد 187/09 منشور بالمجلة المغربية لقانون الأعمال والمقاولات العدد 1 دجنبر 2002 صفحة 105.
[14] – مهدي منير: مرجع سابق، ص 399.
[15] – قرار الغرفة التجارية بمحكمة النقض الفرنسية بمنشور بــ Dalloz 1965 jurisprudence 581
[16] – مهدي منير: مرجع سابق، ص 400.
[17] – عبد الحميد أخريف: الحقوق القضائية للمستهلك مجلة المعيار العدد 38 دجنبر 2007
[18] – عبد المهيمن حمزة: النظام القانوني للقروض البنكية العقارية المخصصة للسكن دراسة في الأسس النظرية والجوانب العملية. أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص. جامعة عبد المالك السعدي مركز الدراسات للدكتوراه في القانون، الاقتصاد والتدبير، كلية العلوم القانونية والاجتماعية – طنجة – السنة الجامعية 2012 – 2013، ص 245.
[19] – عبد الحميد أخريف: قراءة في مشروع قانون رقم 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك. المجلة المغربية للقانون الاقتصادي، العدد 3 سنة 2010، ص 212.
[20] – المهدي العزوزي: نسوية نزاعات الاستهلاك في ضوء القانون رقم 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك. سلسلة أعمال جامعية ص 43.
[21] – عبد القادر العرعاري، قراءة انطباعية أولية بخصوص القانون رقم 31.08 المتعلق بحماية المستهلك. حماية المستهلك دراسات وأبحاث في ضوء مستجدات قانون رقم 31.08، جمع وتنسيق زكرياء العماري الطبعة الأولى ص 16
[22] – حكم رقم 865/2011 ملف رقم 2011/8223. صادر بتاريخ 27/12/2011 غير منشور
[23] – حكم رقم 18707 صادر بتاريخ 08/12/2014 ملف رقم 3887/5/2014.غير منشور