الآجال الاسترشادية: هل تمس بالأمن القضائي؟
ذ. الحسن الملكي دكتور في الحقوق
هناك مبدأ عام في نظام تحديد الوعاء الضريبي يقرر ” trop d’impôts tue l’impôt” وهذا المبدأ في الواقع صحيح أيضا في النظام القضائي فكثرة المراقبة والضبط والمحاسبة تقتل ” الابداع” القضائي وتنتج أحكام لا حس للخلق والاجتهاد فيها وتؤدي لعكس المراد منها ، والذي يؤدي الثمن في النهاية هو ” المتقاضي” الذي يجد نفسه مرغما لسلوك إجراءات أخرى للتقاضي لنيل حقوقه التي كان من المفروض نيلها أمام أول حكم لو أعطي الوقت الكافي لدراسة ملفه وتمحيص وقائعه والتعاطي الدقيق والمتمعن مع جميع الدفوعات واوجه الدفاع المعروضة فيه
في الآونة الأخيرة تجسدت الية الضبط هذه في مراقبة كيفية تدبير القاضي ” للزمن القضائي ” إذ أنه امام ضغط الرأي العام، بخصوص بطء الالة القضائية وطول مدة إصدار الأحكام القضائية ، انبرى المسؤولون عن صناعة الرؤية القضائية في المغرب على التفكير في إيجاد حلول عملية لهذه المعضلة من خلال تكريس مجموعة من الأفكار ثم دمج بعض منها في قانون التنظيم القضائي والبعص الاخر منها بمشروع قانون المسطرة المدنية وبعض المبادرات الاتية من المجلس الأعلى للسلطة القضائية ومن بينها مبادرة وضع ما يسمى ب” الآجال الاسترشادية “
و في بيانه للمرجعية القانونية التي حكمت صياغة الاجال الاسترشادية جاء في منشور المجلس الاعلي للسلطة القضائية المؤرخ في 21 ديسمير 2023 ان السياق القانوني الذي حكم وضع هذه الاجال هي مقتضيات الفصل 120 من الدستور المكرس لمبدأ ” إصدار الاحكام في اجال معقولة ” وكذا مقتضيات المادة 45 من القانون التنظيمي رقم 13.106 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة ، وكذا المخطط الاستراتيجي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية (2021-2026 ) الذي وضع نصب عينيه في التوجه الاستراتجي منه هاجس تدبير وترشيد الزمن القضائي من أجل تعزيز ثقة المتقاضين في القضاء وتجويد خدمات العدالة بما يمكن من التحكم في مخزون القضايا في المحاكم ، ويحول دون هدر الزمن القضائي وتطويل عمر القضايا بــــــدون مبرر مشروع .
واضح إذن أن الغاية من وضع ” الاجال الاسترشادية ” هو في المقام الأول تثمين الزمن القضائي وعدم هدره وصياغة حكم قضائي في أجل معقول ما أسماه المنشور بنفسه ” الأمن القضائي ” و ” النجاعة القضائية ” إنما الذي غاب عن واضعي هذه الآجال حقيقتين:
الأولى : أن الأمن القضائي لا يتحقق فقط باستصدار حكم قضائي في أجل معقول وإنما أيضا في استصدار حكم بجودة قانونية و واقعية رفيعة تحسس المتقاضين بمن فيه الطرف الذي خسر دعواه أن العدالة تحققت في الملف وان دفوعات الأطراف واوجه دفاعهم نالت حظها وكفاية من المناقشة .
لكن للأسف ، وهذا ربما ما يمكن للمحامين معاينته لأنهم هم المتعاطين المباشرين مع الأحكام القضائية والمساهمين في صناعة مضمونها ، فالتمحيص في جانب مهم من المقررات القضائية يتبين أنها حررت على عجل ، فبعضها يمر على الدفوعات الحاسمة مرور الكرام ويردها بحيثية عامة وفضفاضة ، وبعضها يحور نطاق الدعوى ويقوم بصياغة منطوق يتلاءم مع هذا التحوير ، وبعضها تعليله لا علاقة له بما يشبه التعليل ، وبعضها تعطي الانطباع ان القاضي حسم في منطوق الحكم ثم شرع تاليا في البحث عن التعليل المناسب له ، وبعضها الاخر يخطأ في عرض الوقائع ويؤسس تعليلا بناء على العرض او الفهم الخاطئ للوقائع ، والبعض الاخر لا يدقق أصلا في دفوعات الأطراف ويتجاهل حتى الرد عليها ، والبعض الاخر في إطار الأخطاء المادية وتحرير الأحكام بناء على تقنية ” النقل واللصق” يقوم بلصق وقائع لملف اخر لا علاقة لها بها ، او تعرض تعليلا مغرقا في التناقض أو الابهام والغموض بالشكل الذي يومئ أن القاضي قام بتحريره دون إعادة قراءته قبل الصياغة النهائية للحكم ….وهلمجر
كل هذه الأمثلة وغيرها تعد مساسا خطيرا بالقيمة المقدسة للحكم القضائي، ومساسا جسميا بالأمن القضائي ، وهو ما يفرض عدم تجاهلها او التطبيع معها أو التعاطي معها على أنها عادية ومقبولة لأنها في الواقع ليست كذلك ، فمرفق “العدالة” المفروض فيه ان يحيط نفسه بهالة من القدسية والمثالية التي يجب ان تلازمه منظورا له على أنه الملجأ والمفر الأخير ، الذي يحتمي به الجميع ، ولا غرو في ذلك فالمشرع الدستوري استحضر بنفسه هذا المعنى الفلسفي والقدسي لمهنة القاضي واستعمل لفظة “الحماية ” مقررا في الفصل 117 منه ما يلي “يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص وحرياتهم وامنهم القضائي ، وتطبيق القانون” ، ومعنى الحماية هنا مرداف للصون والحفظ والذود عن الحقوق .
وبطبيعة الحال الذي يلجأ إليه قصد الحماية، يجب أن يوفرها وأن يحسس من يحتمي به بانه امن في حقوقه ومطمئن على مصالحه ولا خشية من ضياعها أمامه، وهو وصف للأسف ينهدم أمام ما سلف إبرازه من ظواهر تصاحب إصدار الأحكام القضائية
والمشكل في الظواهر السالفة الذكر أن الطعون المترتب عليها أصبحت بمثابة طعون تروم ليس مناقشة المحكمة المصدرة للحكم المطعون فيه في اجتهاد أو تقدير قانوني للقاضي وإنما غدت بمثابة تصحيح لخطأ ناجم عن انعدام كفاءة مهنية، أو تسرع في الحكم ،أو سوء تقدير للوقائع، أو إغفال لنصوص قانونية صريحة ، أو عدم الانتباه لوثائق وقع الإدلاء بها وثم الحكم على أساس أنها غير موجودة وهذا مؤشر على أن قيمة وجودة الأحكام القضائية في تراجع وهذه وحدها تحتاج لدراسة استقرائية لكشفها ودراستها وإيجاد الحلول الناجعة لها ، فملف ” الكفاءة المهنية ” يعد ملفا مستعجلا و من المفروض أن ينكب عليه المجلس الأعلى للسلطة القضائية مع ما يفرضه ذلك من تعميق للنظر بخصوص هذه الإشكالية .
الثاني: أن جزء من الزمن القضائي لا يقع في الواقع هدره من طرف القاضي ، لأن الزمن الذي يملكه القاضي محدود وينحصر في زمن تدبير الجلسات ، دون أن يعني ذلك أن القاضي منزه كلية عن هدر هذا الزمن ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، إذ ما معنى مثلا اشعار المحكمة لدفاع أحد أطراف الخصومة بالجواب بكتابة الضبط لعدم تعيين محل المخابرة بدائرتها ، والإبقاء على الاجراء يدور لشهور في انتظار حصول هذا الاشعار ، او مادا يعني مثلا امر المحكمة بتبليغ دفاع أحد أطراف الخصومة بمذكرة خضمه قصد الجواب أو التعقيب عليها ، والحال أن هذا الدفاع أدلى بنابيته في الملف وموكله أبلغ مسبقا بتاريخ الجلسة ، وما معنى تأخير الملف مع العلم أنه ثم منح دفاع أحد اطراف الخصومة اخر مهلة بدعوى تعدر حضور القاضي المقرر المكلف بالملف ورفض ادخال الملف للمداولة من طرف رئيس الجلسة …. واللائحة تطول فمثل هذه القرارات وشبيهها يجب الحسم فيها بتكريس مبدأ” الحرص المسطري ” وتقنينه تشريعيا في مشروع قانون المسطرة المدنية، وجعله الأساس والمبدأ الذي يحكم القاضي في تدبيره لأطوار النزاع المعروض عليه وجعل هذا المبدأ ينضاف إلى بقية المبادئ الأخرى المكرسة في قانون المسطرة المدنية من قبيل ” لا بطلان بدون ضرر ” ، درءا ليس فقط لهذر الزمن القضائي وإنما سدا لباب الاحتيال وسوء النية في التقاضي .
مع ذلك فهذه الأمثلة وغيرها و كما سلف التوضيح لا تعكس حقيقة المسؤول الحقيقي عن هدر الزمن القضائي ، فالمسؤول الأول في ذلك هم أطراف الخصومة ونوابهم وباقي مهني القضاء المتدخلين في مسار الخصومة القضائية ، فواقعيا هناك تلاعب جسيم في إجراءات التبليغ ما يجعل ملف النزاع يروج امام المحكمة لأشهر عديدة قبل الحسم فيه، وهناك تراخي في القيام بالخبرات في وقتها ، و عدم تقييد أغلب هؤلاء بالنقط الفنية المطلوبة منهم مما يؤدي إلى ارجاع الكثير من التقارير للخبراء الذين انجزوها لإتمام الخبرة ناهيك عن انعدام أي سلطة للقضاة على الخبراء فيما يخص مساءلتهم عن تقصيرهم او عدم القيام بالمامورية المحددة لهم في الأحكام التمهيدية ، فضلا عن ظاهرة تضخم الملفات التي لا يد للقاضي فيها والتي تفرض عليه إدراج الملفات في تواريخ متأخرة وإلا سيجد نفسه وقد دخل للجلسة بخمسائة ملف وزيد وهو أمر لا يستوعبه لا عقل ولا منطق .
ونعتقد أن هدر الزمن القضائي مرتقب أن يزداد تعميقه من خلال مشروع قانون المسطرة المدنية إذا لم يقع سد منافذه بصرامة تشريعية لا تترك هامشا للمناورة والتدليس المسطري لأطراف الخصومة ، والكل حتى يشتغل الجميع في أريحية، متقاضين وقضاة وهيئة دفاع ، فهذا المشروع ولئن وفق في تغطية بعض هذه المنافد من قبيل تقرير العنوان الوارد في بطاقة التعريف الالكترونية كعنوان له حجيته في التبليغ و بصرف النظر عن مصير هذا التبليغ ، فإنه أغفل التعامل مع نفس المنطق بالنسبة للأشخاص المعنوية الخاصة فكثير من الشركات التجارية تورد عنوانا لمقرها في سجلها التجاري وحينما تغير عنوانها لا تحين ذلك في هذا السجل مع ان المادة 61 من مدونة التجارة تكرس حجية البيانات الواردة في السجل التجاري ، وقس على ذلك باقي الأشخاص المعنوية الخاصة وهو ما يترتب عنه هدر كبير للزمن القضائي ، وبالتالي المفروض في مثل هذه الحالة إلزام الشركة التجارية بالعنوان الوارد في السجل التجاري واعتبار التبليغ الواقع بهذا العنوان تبليغا تاما كيفما كانت النتيجة المترتبة عليه وسلوك نفس النهج مع الجمعيات والتعاونيات وباقي الأشخاص المعنوية الخاصة.
كما انه من المفروض التقعيد لنظرية ” الحرص المسطري ” في مشروع قانون المسطرة المدنية، وترتيب الاثار القانونية اللازمة عنها، مع التقعيد للتبليغ الالكتروني وجعله هو الأصل ومصاحبة هذا الصنف من التبليغ بضمانات قانونية قوية لتحصينه من أي تلاعب كيفما كان ، ومن أي مصدر جاء .هذه الإجراءات وغيرها كفيلة في حدود معينة ان تقلص من هذر الزمن القضائي، وبالتبعية الرفع من جودة الأحكام القضائية وهو ما من شانه ان يوفر ويكرس فعليا المعنى الحقيقي ل ” الأمن القضائي “.
الآجال الاسترشادية …سيف ديموقليس
لا يمكن لأحد أن يشك في نبل الغاية المرجوة من “منشور الآجال الاسترشادية ” والغايات السامية التي يسعى لتحقيقها فهذه مسألة ليست محل جدال أو تشكيك ، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية كما سلف التوضيح أوجز في بيان اصداره على أنه ياتي ترجمة للنص الدستوري الذي يقرر في فصله 120 أن ” لكل شخص الحق في محاكمة عادلة ، وفي حكم يصدر داخل أجل معقول “
إنما المؤكد أن أي قارئ لفحوى المنشور سيتضح له أن الاجال المذكورة ليست فعلا استرشادية لأنه مقرونة بجزاء مهني ، ومضمون المنشور أشار إلى ذلك في في ص 2 من المنشور حينما استدل بالمادة 75 من القانون التنظيمي رقم 13-100 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية التي كرست حرض القاضي على إصدار الأحكام في أجل معقول واعتباره معيارا من المعايير التي يراعيها المجلس عند ترقية القضاة .
فالأجل الاسترشادي إذن سيتم اعتماده في التفتيش القضائي وفي تقيم الأداء المهني للقاضي وفي مراقبة الأداء الوظيفي له بما يعني أن هذه الآجال لا تهم في الواقع فقط “أطراف الخصومة ” بل تهم أيضا ” المسار المهني للقاضي “
وبصرف عن هذه الملاحظة، فإننا نعتقد أن هناك ملاحظة دالة في الفصل 120 من الدستور المغربي تكمن في ان هذا المقتضى الدستوري قدم ضمان المحاكمة العادلة على الأجل المعقول، وأقدر بأن هذا له دلالة قوية وهو انه قبل البحث عن الأجل المعقول، يجب أن توفر أولا الظروف المناسبة لمحاكمة عادلة ومن مقتضيات المحاكمة العادلة توفير الظروف المناسبة لإصدار “حكم بجودة جيدة”
وبمعنى اخر فلا يمكن الذهاب مباشرة للبحث عن استصدار حكم في أجل معقول والقفز على ما هو أهم وهو مضمون هذا الحكم القضائي نفسه الذي يتعين ان يحقق الأمن القضائي لأطراف الخصومة ، وإلا فإن الذي سيقع هو نيل عكس الغاية من الآجال الاسترشاديه وهذا هو الحاصل فعليا فتحت ضغط الملفات وتعقد العديد منها وتسلط سيف ديمقواطيس على رقاب القضاة بناء على المادة 75 من القانون التنظيمي رقم 13.100 يجد الكثير منهم نفسه مرغما بالتضحية بجودة الحكم في مقابل اصدار مقرر قضائي في أجل محدد ، لهذا كثيرا ما نسمع في دهاليز ودواليب المحاكم عبارة تتردد وتبين حجم الضغط الذي يشتغل فيه القضاة “من لم يروقه الحكم فهناك وسائل للطعن فيه وانتهى الكلام ” والحال أن المسألة أخطر من أن تدخل في نطاق ” التذمر ” و” الشكوى ” فهي تمس بمبدأ خطير وهو ” الأمن القضائي ” والذي من المفروض ضمانه من خلال رفع أثقال الضغط على كاهل القضاة لا سيما تقيدهم “بآجال استرشاديه ” وتسليط سيف ديمقراطيس عليهم في حال عدم الالتزام بها .
المشكل هنا ان الأجل الاسترشادي لا يثقل كاهل القضاة وحدهم ، بل يثقل كاهل جهاز الدفاع أيضا ومن شأنه بشكل أو باخر أن يقتل ما تبقى من روح الإبداع والاجتهاد لدى هيئة الدفاع ، فهناك علاقة جدلية بين جودة الأحكام وجودة مرافعات ومذكرات هيئة الدفاع ، فكثير من المبادئ القضائية الرائدة يقف ورائها اجتهادات وتأملات قانونية عميقة لمحامين جهابذة ، لا يظهرون في مسرح الحكم القضائي ، وهي اجتهادات تنعكس في النهاية على مضمون الوثيقة القضائية ، إذ مناقشات السادة المحامون إما ان ترقي بالحكم القضائي ليكون وثيقة اجتهادية رصينة ، أو تردى به إلى هوة سحيقة تجعل من الحكم القضائي مجرد وثيقة رسمية بلا روح ولا معنى .
هذه العلاقة الجدلية يمكن ان تتأثر في الاتجاه السلبي ، لأن المحامي الذي يرى دفوعاته واجتهاداته وحرصه على إعطاء معاني أكثر عمقا للنص القانوني في اتجاه تكريس التطبيق العادل له ، تتوارى للخلف لفائدة منهجية البت السريع في المنازعات فيما يشبه fast judgment وتغليب منطق “الابائية في صياغة المقررات والأحكام القضائية ” أي ” منطق ما وجدنا عليه ابائنا وما جرى به العمل في المحكمة” وعدم الجرأة للخروج عليه وخط اجتهادات تتلمس التطبيق السليم والعادل للقانون وما يتطلبه ذلك من وقت وتأني ، سيؤدي بالمحامي للبحث عن وسائل أخرى لكسب ملفه طالما يرى بأم عينيه أن اجتهاداته وافراغ الجهد الذي يبدله في صياغة أوجه دفاعه ودفوعاته تذهب ادراج الرياح أمام قوة المنطق القائم على ” انتاج الأحكام ” وليس ” الاجتهاد في صياغتها” وهو ما عبر عنه منشور ” الآجال الاسترشادية بعبارة ” التحكم في مخزون القضايا في المحاكم “.
جماع القول ، أنه لا يمكن حل مشكل ” الوقت” عن طريق خلق مشكل ” الرداءة” ، لأن الأول يمكن في كل وقت وحين ابداع حلول سواء تشريعية او تنظيمية لحله لكن مشكل ” الرداءة” إذا تكرس وتجدر في العمل القضائي فإنه سيصعب اجتثاثه بسهولة لأنه كالسرطان ينتقل بسهولة مهددا الجسم القضائي بالسكتة الدماغية ، وما يستتبع ذلك من المساس ” بالأمن القضائي ” و” الأمن القانوني ” داخل الدولة ، ومن شانه ان يمس بصورة مرفق العدالة وسمعته وقوته وجلال قدره ، والتي لا يمكن حفظها وصونها والدود عنها إلا من خلال أحكام جيدة وقوية ومقنعة تكرس فعلا مفهوم ” التطبيق العادل للقانون” المنصوص عليه في الفصل 110 من الدستور ، وتتيح للقاضي هامشا واسعا للاجتهاد والابداع بدون خوف ولا وجل .
وما ندين به بهذا الخصوص أن ” الأمن القضائي ” لا يعني في المحصلة النهائية سوى بت ” روح الاقناع والاقتناع” لدى اطراف الخصومة بأن روح العدالة تحققت في الملف ، وهي الروح لا يمكن نيلها بأحكام دبجت بسرعة فيما يشبه الفكاك من ملف للانتقال الي اخر ، فقط من اجل ” التحكم في مخزون القضايا بالمحاكم “
“دليل المتقاضي ” بديلا عن دليل ” الآجال الاسترشادية “:
كما سلفت الإشارة فإن جزء كبير من ضياع الزمن القضائي مرده في الواقع لباقي المتدخلين في الإجراءات والمساطر القضائية من محامين ومفوضين قضائيين وخبراء وكتاب ضبط ، وبالتالي فإنه كان حريا بدل التفكير في الآجال الاسترشادية التفكير في تقنين العمليات التي تتم من طرفي باقي المشتغلين والمتدخلين في الخصومة المرفوعة أمام القضاء من قبيل تقنين المهل القضائية الممنوحة للمحامين ، وتقنين إخراج الملف من المداولة بوجود مسوغات قانونية قوية ، والمعالجة الحاسمة لمشكل التبليغ بحلول ثورية تقطع من أساليب الماضي ، وتكريس أساليب تنظيمية لتوحيد الإجراءات القضائية التي تتم أمام أجهزة كتابة الضبط على صعيد المملكة ، والتفكير جديا في تقنين كل الإجراءات القضائية عبر منصة الكترونية ، وإخراج مدونة الأخلاقيات الخاصة بكتاب الضبط .
ولهذه الغاية نعتقد أن التعاطي مع ترشيد الزمن القضائي يكون من خلال استراتيجية تقوم على ” اغلاق منافذ هدر هذا الزمن القضائي ” وليس من خلال” تقنين اجال البت في القضايا ” لأن سلوك هذا المسلك الأخير يقوم مقام معالجة الأعراض وترك سبب الداء والمرض.
ولهذه الغاية نرى أنه حفاظا على الزمن القضائي من الأساسي التفكير في “دليل للمتقاضي” يجمع بين دفتيه توحيد الحلول الإجرائية المعمول بها لدى مختلف محاكم المملكة ويجمع بين دفتيه كل المسائل المسطرية التي تعرف تضاربا بين محكمة أخرى وذلك قصد توحيدها ضمانا للنجاعة القضائية ، ويمكن أيضا تضمينها ما انتهت إليه الممارسة العملية من تنزيل بعض النصوص القانونية ، دون المساس باستقلالية السلطة القضائية ، ويمكن التفكير في عرف تنظيم ” ندوة رؤساء كتابات الضبط” تعقدها وزارة العدل بشراكة مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية ويجتمع بها رؤساء كتابات الضبط على صعيد محاكم المملكة ، ويكون مجالا لاستعراض كافة الصعوبات العملية التي تواجهها هذه الأخيرة في تصريف الإجراءات والمساطر القضائية في مختلف المحاكم والتي يمكن اعتماد التوصيات التي ستتقدم بها في تنقيح الدليل المذكور وإغنائه بكل المقترحات المفيدة التي من شأنها تسريع سبيل إجراءات التقاضي تيسيرا لعمل المحامين وبالتبعية المتقاضين ، بما يجعل من شعار ” العدالة في خدمة المواطن ” حقيقة ملموسة وليس مجرد شعار للاستهلاك الخارجي .
وهذا الدليل مفيد وعملي إذ ما معنى مثلا أن الممارسة الإجرائية المتعلقة بإجراء واحد، هب مثلا هو تسليم النسخة التنفيذية، يمارس بكيفية مختلفة من محكمة لأخرى، ويجد المحامي نفسه معلق بين اجتهادات مختلفة بخصوص الاجراء الواحد، كل محكمة تتخذ بشأنه موقفا مغايرا لمحكمة أخرى.