إبن مسعود ياسين: ونستون تشرشل والمادة 9 من مشروع قانون المالية الجديد
ياسين إبن مسعود مدير موقع مغرب القانون، باحث في العلوم القانونية
يستحضر الكثير منا كلما أثير النقاش حول هيبة القضاء وقدسية أحكامه ما تذكره كتب التاريخ عن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل (1874-1965) ، حيث أنه خلال الحرب العالمية الثانية أقدمت ناظرة إحدى المدارس بالمملكة المتحدة على رفع دعوى قضائية تطالب فيها بنقل مطار حربي كان قد أنشئ بالقرب من المدرسة التي تشتغل فيها نظرا لأن المطار كان مستهدفا من العدو النازي، كما أن إقلاع الطائرات الحربية وهبوطها بشكل دوري ومتكرر يجعل أزيزها سببا لتعطيل الدراسة والإزعاج الدائم للطلبة.
فأصدر القضاء البريطاني قراره النهائي بنقل المطار الحربي إلى جهة أخرى بعيدا عن المناطق السكنية، مع مهلة 7 أيام لتنفيذ الحكم، وهو ما أحرج السلطات البريطانية الحربية التي حاولت إيقاف تنفيذ هذا الحكم بكل الوسائل المتاحة، بل لجأت من أجل ذلك إلى رئيس الوزراء المستر ونستون تشرشل Winston Churchill لإيقاف تنفيذ الحكم بذريعة أن نقل المطار سيضعف الدفاع الجوي البريطاني عن أداء رسالته ضد العدو النازي.
ليضرب تشرشل أبرز مثال على احترام هيبة القضاء البريطاني حين قال قولته الشهيرة : ” أهون أن نخسر الحرب من أن يخسر القضاء البريطاني هيبته “. فكسب تشرشل الحرب واستحق الشعب البريطاني قضاء قويا خالدا يضرب له ألف حساب.
إذا كان هذا قد حصل في المملكة المتحدة خلال منتصف القرن العشرين وإبان الحرب العالمية الثانية، فإن مغرب القرن الواحد والعشرين بدستوره الذي ينص على مبدأ فصل السلط (الفصل1) واستقلالية السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية (الفصل107) يعيش اليوم ردة قانونية وحقوقية من شأنها أن تخرم أساس دولة الحق والقانون وتنسف كل مشتملاته، وفي مقدمتها ما ينص عليه الفصل 126 من الدستور من كون “الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع” دون تمييز بين طبيعة أطراف الدعوى أشخاصا ذاتيين كانوا أو اعتباريين أو مؤسسة الدولة ذاتها.
تأبى السلطة التنفيذية في مغرب فصل السلط إلا أن تعيدها جذعة، فبعد الجدل الذي أثارته المادة 8 مكررة من مشروع قانون المالية لسنة 2017 والذي انتهى بنسفها وإسقاطها بالإجماع من طرف السلطة التشريعية، تعيد حكومة جلالة الملك الذي تصدر الأحكام وتنفذ باسمه جس نبض المغاربة بإعادة توطين ذات المادة في مشروع القانون المالي رقم 70.19 لسنة 2020 في المادة 9 منه والتي تنص على :
“يتعين على الدائنين الحاملين لسندات أو أحكام قضائية تنفيذية ضد الدولة ألا يطالبوا بالأداء إلا أمام مصالح الآمر بالصرف للإدارة العمومية.
في حالة صدور قرار قضائي نهائي اكتسب قوة الشيء المقضي به، يدين الدولة بأداء مبلغ معين، يتعين الأمر بصرفه داحل أجل أقصاه ستون (60) يوما ابتداء من تاريخ تبليغ القرار القضائي السالف ذكره في حدود الاعتمادات المالية المفتوحة بالميزانية.
يتعين على الآمرين بالصرف إدراج الاعتمادات اللازمة لتنفيذ الأحكام القضائية في حدود الإمكانات المتاحة بميزانياتهم، وإذا أدرجت النفقة في اعتمادات تبين أنها غير كافية، يتم عندئذ تنفيذ الحكم القضائي عبر الأمر بالصرف المبلغ المعين في حدود الاعتمادات المتوفرة بالميزانية، على أن يقوم الآمر بالصرف باتخاذ كل التدابير الضرورية لتوفير الاعتمادات اللازمة لأداء المبلغ المتبقي في ميزانيات السنوات اللاحقة.
غير أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخضع أموال وممتلكات الدولة للحجز لهذه الغاية“.
إن القارئ غير المختص –بله المختصين في العلوم القانونية- لأحكام هذه المادة لن يجد أدنى صعوبة في الكشف عن منطق الكيل بمكيالين الذي أثخنت به الأحكام المضمنة فيها، وكأني بمقترح هذه المادة وعبقري زمانه يريد أن يقول للمحكوم لهم من الحاملين لسندات أو مقررات قضائية تنفيذية ضد الإدارة:
“يحق لإدارتنا أن تحصل على كل ديونها في مواجهة الأفراد بالسرعة والإكراه والحجز المباشر على أموالهم من خلال سلوك جميع المساطر القانونية.
تكون جميع الإجراءات المتخذة من الأفراد لمطالبة الإدارة بالأداء حبرا على ورق، إلا إذا قررت الإدارة غير ذلك “.
هذا بالضبط هو لسان حال المادة 9 من مشروع القانون المالي لسنة 2020 دون تعقيدات أهل التشريع وضروب دهائهم ومكرهم.
فنحن في حقيقة الأمر وكما جاء في بلاغ نادي قضاة المغرب الصادر عن اجتماعه الاستثنائي المنعقد يوم الثلاثاء 22 أكتوبر 2019 أمام “آلية تشريعية لإفراغ الأحكام والمقررات القضائية الصادرة في مواجهة الدولة والجماعات الترابية من محتواها وإلزاميتها المنصوص عليها دستوريا”.
وهو ما أكده أيضا بلاغ جمعية هيئات المحامين بالمغرب الصادر عن الاجتماع الطارئ المنعقد بمراكش يوم الإثنين 21 أكتوبر 2019 حيث اعتبر أن المادة 9 هي استغلال للتشريع كسلاح لثني القضاء عن المضي لحماية المشروعية وإلغاء القرارات الإدارية المشوبة في بعض الأحيان بمظاهر الشطط والتعسف في استعمال السلطة.
وخاطب البلاغ الموجه للرأي العام من اعتبرهم متربصين باستقلال القضاء وسيادة أحكامه قائلا :
“(…) لقد قرر واضعوا مشروع المادة التاسعة إشعال حرب ضد مبادئ الدستور والمشروعية، وذلك من جهة أولى بالنص على منع الحجز على أموال الدولة معارضين لقواعد التنفيذ الجبري للأحكام المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية، ومن جهة ثانية صنعوا من المحاسبين العموميين للإدراة شبه قضاة للتنفيذ أو قضاة فوق القضاة ليتصرفوا في التنفيذ وفي الأحكام كيف يشاؤون ليختاروا دون قيد طبيعة وطريقة التنفيذ بما في ذلك تأجيل التنفيذ بل وقتله لسنوات.
مع العلم أن الحجز لا يلجأ إليه من طرف المحكوم له إلا بعد حصوله على مقرر قضائي أصبح قابلا للتنفيذ بعد مسطرة قد تكون طويلة، وبعد تعنت الإدارة المحكومة عليها في التنفيذ وفق الإجراءات العادية”.
إن من يستحضر عواقب إقرار هذا “المسخ التشريعي” وأثره على مؤسسة تنفيذ الأحكام والمقررات القضائية ومؤشرات الأمن القانوني والقضائي لا يمكن إلا أن يعترف أننا أمام خيار سياسي خطير يفتقد للشرعية الدستورية والمشروعية القانونية نظرا لمخالفته الصريحة لأحكام الدستور المغربي الذي تسمو قواعده على سائر القوانين الأخرى سواء كانت تنظيمية أو عادية.
وفي ذلك يقول يونس وحالو أستاذ القانون العام بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بوجدة في مقال له نشر على موقع مغرب القانون تحت عنوان “ ملاحظات حول المادة 9 من مشروع القانون المالي لسنة 2019 المانعة للحجز على أموال وممتلكات الدولة ” :
“(…) كما أن المادة التاسعة موضوع الدراسة خالفت توجه للمحكمة الدستورية (في حالة مشابهة تقريبا) في قرار لها رقم 728.08 سنة 2008 الذي منع الحكومة من سن إجراءات بطبيعتها خارجة عن نطاق اختصاص القانون المالي، بحيث أن سن مسطرة خاصة لتحصيل الغرامات لا يمكن إدراجها ، بحكم طبيعتها ، ضمن الأحكام التي تهدف إلى تحسين الشروط المتعلقة بتحصيل المداخيل المنصوص عليها في المادة 3 من القانون التنظيمي لقانون المالية ، مما يجعلها خارجة عن نطاق اختصاص قانون المالية ؛وحيث إنه ، تأسيسا على ما سبق بيانه ، فإن أحكام البند II من المادة 8 من قانون المالية لسنة 2009 مخالفة للدستور ؛ (…)”.
ولعل أكثر ما يثير استغراب جل الباحثين من إعادة تضمين المادة 8 مكررة من مشروع قانون المالية لسنة 2017 في عباءة المادة 9 من مالية 2020 هو الظرفية الاستثنائية التي أصبحت تميز مرفق القضاء بعد دستور 2011 باعتباره الحامي الأول والأخير لحقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي والحريص على تطبيق القانون، وهو ما تجلى بوضوح في حجم مبالغ التنفيذات المالية المرصودة مع نهاية سنة 2018 للأحكام الصادرة عن مختلف المحاكم الإدارية ضد الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية خلال سنة واحدة، حيث تجاوز المبلغ ثلاث ملايير ومئتان وثلاثة وخمسون مليون درهم ببلوغه 3.253.610.983,83 درهم، وذلك بارتفاع بنسبة 5,5% مقارنة مع سنة 2017 وزيادة أكثر من 180 مليون درهم. وقد سجل أعلى مبلغ على مستوى المحكمة الإدارية بالرباط حيث بلغ مجموع المبالغ المالية المنفذة خلال سنة 2018 ما مجموعه 2.181.492.180,80 درهم بزيادة بنسبة 4,26% مقارنة مع سنة 2017 أي بارتفاع يزيد عن 93 مليون درهم.
وفي بلاغ لوزارة العدل بتاريخ 3 يناير 2019 عطفا على الإحصائيات أعلاه جاء ما نصه: “(…) وتبرز هذه الأرقام المجهودات المبذولة على مستوى المحاكم الإدارية بمختلف ربوع المملكة من قبل السادة المسؤولين القضائيين والإداريين ومختلف المتدخلين على مستوى كتابة الضبط بهذه المحاكم، كما تبرز المجهود الكبير الذي تبذله الدولة للرفع من قيمة التنفيذ وهو ما يكرس مبدأ المساواة أمام القانون. “.
كما أنه من حسن الصدف أن هذا النقاش احتدم بين المختصين والمغرب يحتضن النسخة الثانية من مؤتمر مراكش الدولي حول العدالة تحت عنوان : “العدالة والاستثمار: الرهانات والتحديات” والذي دعى في ختام أشغاله إلى توفير الأمن القانون والقضائي للمستثمرين ورجال الأعمال وهو ما لا يتأت دون الحرص على تطوير مؤسسة تنفيذ الأحكام القضائية لارتباطها الوثيق بهيبة القضاء المغربي واستقلاليته.
ولعل هذا النهج الذي يرفع من قيمة التنفيذ هو بالضبط ما دعى إليه جلالة الملك في الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية في اكتوبر 2016 حين قال :
” كما أن المواطن يشتكي بكثرة، من طول و تعقيد المساطر القضائية ، ومن عدم تنفيذ الأحكام ، وخاصة في مواجهة الإدارة.
فمن غير المفهوم أن تسلب الإدارة للمواطن حقوقه ، وهي التي يجب أن تصونها وتدافع عنها. وكيف لمسؤول أن يعرقل حصوله عليها وقد صدر بشأنها حكم قضائي نهائي؟” .
ونحن بدورنا نتسائل مع جلالة الملك : كيف يعقل أن تعمد السلطة التنفيذية لتعطيل مؤسسة التنفيذ بنص قانوني صريح، في انحراف تام عن التوجيهات الملكية السامية والشرعية الدستورية ؟. هل هناك اختلاف في تأويل التوجيهات الملكية بين وزارة العدل ووزارة المالية فيما يتعلق بمسألة تنفيذ الأحكام القضائية ؟
وعطفا على ذكر وزارة المالية فإن تصريح محمد بنشعبون وزير الاقتصاد والمالية ودفاعه عن المادة 9 بذريعة أنها من التدابير التي توجد في مختلف القوانين المالية المتقدمة كفرنسا وكندا وسويسرا وبلجيكا لا يمكن إلا ان يقال عنه أنه “حق أريد به باطل”، لأن السيد الوزير لم يكشف عن حجم المبالغ المالية المرصودة من طرف هذه الدول المتقدمة لتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد أشخاص القانون العام والتي تتجاوز ما هو مرصود من طرف الحكومة المغربية عشرات المرات، كما أن انصياع الإدارة في هذه الدول لتنفيذ الأحكام القضائية لا يمكن أن يقارن مع ما يحصل عندنا بشهادة مؤسسة الوسيط من امتناع الإدارة العمومية عن تنفيذ أحكام القضاء.
وربما غاب عن السيد الوزير وهو يقارن هذه المادة مع دول متقدمة أن الفقة الإداري حين قرر في بعض الحالات عدم إمكانية القيام بالإجراءات الجبرية ضد الإدارة وخصوصا الحجز على أموالها العامة لأنها بمثابة الرجل الشريف الذي يفي بالتزاماته المالية فلكونه يعتبر الإدارة مليئة الذمة ويعبر عن ذلك لا فريير بقوله ” إن دائن الدولة لن يكون بحاجة أصلا لاستخدام طرق التنفيذ ضدها طالما أن الدولة بحكم تعريفها مليئة الذمة وموسرة كما أنه يجب النظر إليها دائما كرجل شريف” (أنظر مقال يونس ولحلو على موقع مغرب القانون).
وفي الختام إذا كانت كل المؤشرات تشير إلى تراجع الحكومة عن إقرار المادة 9 من قانون المالية- كما أوردت بعض الصحف- وإعادة النقاش الدائر في هذا الموضوع إلى مكانه الطبيعي وهو قانون المسطرة المدنية مع استحضار الشرعية الدستورية والمشروعية القانونية، فإنه من غير المستساغ مستقبلا أن تحاول الحكومة جس نبض المغاربة باقتراح نصوص قانونية ترمي إلى الإخلال بمؤسسة تنفيذ الأحكام القضائية وانتظار رد فعل المختصين كأننا أمام محاولة لتهريب نصوص قانونية.
وأذكر السيد رئيس الحكومة ووزير الاقتصاد والمالية بإحدى بدهيات علم العمران البشري كما وضع معالمه ابن خلدون والتي مفادها أن إصدار الاحكام دون نفاذها هو بداية انحلال الدولة وسقوطها لأنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له كما قال عمر بن الخطاب، فافهموا إذا أدلي إليكم. والسلام.