مجلة مغرب القانونفي الواجهةأحمد السكسيوي: انهيار الدولة الاجتماعية -قراءة نقدية للمادة التاسعة من مشروع قانون المالية-

أحمد السكسيوي: انهيار الدولة الاجتماعية -قراءة نقدية للمادة التاسعة من مشروع قانون المالية-

أحمد السكسيوي

باحث بسلك الدكتوراه، كلية الحقوق بسلا

جامعة محمد الخامس، الرباط


” الذي يمتلك السلطة هو مساح المدينة: فهو الذي يقيس الارض والأشياء، والثروات، والحقوق، والسلط والناس [1]


 سبق وأن نشرت عدة مقالات ووجهات نظر تدعوا الى تحرير الدرس القانوني من الشكلانية والتقليدانية وفتحه نحو التداولية الابستمولوجية والاتجاه نحو القراءة الحداثية للنصوص القانونية، وبعد أن توقفت عن الكتابة في هذا العالم الإلكتروني، بسبب أني كنت منشغلا أكثر باهتماماتي الأكاديمية حول تحرير العقل القانوني من آفات عدم التفكير وكذا الربط الأساسي بين القانون وأزمة الحداثة وما بعدها (التكامل المعرفي للقانون – ممارسة العقل القانوني للنزعة النقدية – النظام القانوني للحداثة – السلطة الحيوية القانونية – انهيار دولة الرعاية …) كلها مواضيع أسهر على تطويرها إلى جانب اطروحتي الأكاديمية.

واليوم وفي إطار البحث حول انهيار دولة الرعاية ونشوء الدولة – المقاولة (سأنشر ورقة بحثية في الموضوع قريبا)، أحببت أن أساهم بمقال رأي حول مظاهر هذا الانهيار من خلال قراءة نقدية لإحدى النماذج الدالة على ذلك وهي المادة 9 من مشروع قانون المالية بالمغرب والتي تنظم طرق تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد الدولة، لقد نصت على أحكام تشكل لحظة أساسية في إنهيار الدولة الاجتماعية من خلال الصياغة الأولى التي عرضت على مجلس النواب:

” يتعين على الدائنين الحاملين لسندات أو أحكام قضائية تنفيذية نهائية ضد الدولة ألا يطالبوا بالأداء إلآ أمام مصالح الآمر بالصرف للإدارة العمومية.

في حالة صدور قرار قضائي نهائي اكتسب قوة الشيء المقضي به، يدين الدولة بأداء مبلغ معين، يتعين الأمر بصرفه داخل أجل أقصاه ستون 60 يوما ابتداء من تاريخ تبليغ القرار القضائي السالف ذكره في حدود الاعتمادات المالية المفتوحة بالميزانية.

يتعين على الآمرين بالصرف إدراج الاعتمادات اللازمة لتنفيذ الأحكام القضائية في حدود الإمكانات المتاحة بميزانياتهم، وإذا أدرجت النفقة في اعتمادات تبين أنها غير كافية، يتم عندئد تنفيذ الحكم القضائي عبر الأمر بصرف المبلغ المعين في حدود الاعتمادات المتوفرة بالميزانية، على أن يقوم الآمر بالصرف باتخاذ كل التدابير الضرورية لتوفير الاعتمادات اللازمة لأداء المبلغ المتبقي في ميزانيات السنوات اللاحقة.

غير أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخضع اموال وممتلكات الدولة للحجز لهذه الغاية “

حيث تعلن الدولة اليوم انها غير قادرة على رعاية مجتمعها، انها تتحول الى مقاولة كبيرة تجعل المجتمع مستثمرا فيه، ليست الدولة في ظل الحداثة السائلة (ما بعد الحداثة) هيمنة ثقافية فحسب، بل هي سلطة حياتية، تقتحم كل مناحي الحياة، تسيطر على الإنسان، تراقبه عن بعد.

إنها سلطة تتشكل من السيادة بوصفها حالة استثنائية تربط القانون بالحياة، وتعلق العمل بالقانون داخل معترك الحياة، إنها ليست لحظة زمنية ثابتة، بل حالة الاستثناء ممارسة دائمة داخل نظام السياسي من أجل تعطيل القانون واستبداله بقانون حي وغير معياري ، صراع من أجل تشكيل القانون، حيث بني القانون في لامعياريته على الاستثناء، اي على تقنية النبذ، كلما حاولت الدولة-المقاولة ان تكرس منطق السيادة فانها تحتاج الى جسد تطبق عليه منطقها، لأن منطق المقاولة يتحكم في منطق الدولة. والدولة اليوم بحكومتها لا تسطيع مواجهة الحوكمة وهيئات العولمة. ليبقى المواطن منبوذا في ظل سلطة سيادية غير تقليدية تتحكم بحياة عارية.

مقال قد يهمك :   تجريم "الزواج غير الموثق": قراءة في قرار لمحكمة النقض

حيث لجأت الدولة اليوم الى تحكيم منطق السيادة، والانقلاب على احكام القضاء الاداري بوصفها تعبر عن دولة القانون الممكنة، لقد كان تنفيذ الاحكام القضائية في مواجهة اشخاص القانون العام امرا عسيرا خصوصا (أحكام التعويض عن نزع الملكية والاعتداء المادي)، حيث يطرح العديد من الاشكالات السوسيولوجية والقانونية، وقد كان من المفترض ان تجد الدولة بكل مؤسساتها حلا لمأزق تنفيذ الاحكام، والوفاء بالتزاماتها المادية تجاه المتقاضين ضدها (صاحب حق الملكية المنزوعة له)، ما دام انها تجد حلولا قانونية وواقعية لفرض الضرائب ومحاولة توسيع قاعدة التضريب في المجتمع، وتلجأ الدولة الى كل الامكانات التي تساعد على استخلاص وتحصيل الضرائب، حيث إن ” … المالية آلة حرب من أجل الخصخصة التي تحول الحقوق الاجتماعية الى قروض …” (2).

لكنها في المقابل تحاول ان تمارس الاستثناء السيادي على الديون التي في عاتق الدولة جراء احكام قضائية نهائية، تحكم الدولة القبضة على كل محاولات المقاومة القضائية التي انتجها القاضي الاداري من اجل اجبار الدولة على التنفيذ، ويعتبر الحجز الية قانونية نص عليها قانون المسطرة المدنية وقد قاس عليها القاضي الاداري من اجل التنفيذ الجبري لإحكامه.

واليوم تضع الدولة في مشروع قانون المالية 2020 المادة التاسعة التي تضيق على القاضي الاداري بوصفه قاض معياري، لقد تم إحكام صياغة المادة، بما لا يترك للقاضي اي سلطة في تتبع التنفيذ.
تُحوّل هذه المادة الاحكام القاضية الى وثائق محاسبية لا حجية لها الا امام الآمر بالصرف، وتنص المادة ايضا على آجل 60 يوما من أجل صرفه بوصفه زمنا قانونيا سياديا يقضي على المضمون الايجابي للمقررات القضائية الصادرة من طرف القاضي الاداري، ويتعارض ايضا مع احكام تقادم المقررات القضائية.

ان الدولة تفقد دورها الاجتماعي، من خلال مضمون هذه المادة والتي تتيح للدولة صرف الديون الناتجة عن الاحكام في حدود الامكانات المتاحة في الميزانية، تحاول الدولة ان ترشد نفقات الدولة على حساب ضحايا الاعتداء المادي ونزع الملكية وضحايا الصفقات العمومية والاخطاء الادارية والاعمال الادارية التي تنتج ضررا، تستمر مالية الدولة على حساب ضحاياها، انها تمارس منطق التضحية الناتج عن سلطة حيوية تقتحم جل مجالات الحياة، لكنها في المقابل لا تضع حدا لنزع الملكية وللاعتداء المادي، ولا تعمل على توفير الامكانات المادية الكاملة لتعويض الملاك قبل اللجوء الى هذه المسطرة.

تحاول المادة ايضا ان تمنع الحجز على اموال وممتلكات الدولة من خلال استعمال ملفوظات تفيد المنع وتتيح إِحكام النص واغلاقه، واذا ما قبلت هذه المادة كما هي سيصبح المواطن تائها – وهو يحمل المقررات القضائية التي صدرت لصالحه – بين عدم كفاية الاعتمادات وآجل الصرف الضيق وعدم الحجز.

مقال قد يهمك :   د. بنصغير : عوار فاحش يشوب مشروع قانون رقم 13-103 يتعلق بمحاربة العنف ضدّ النساء

ويشيد المشروع موضوع المنفعة العامة على حساب المواطن صاحب الحق وباعتباره تضحية، فيلجأ المواطن لدفع هذه المشاكل امام القاضي الاداري، فيحكم القاضي لصالحه وتبتدأ مسطرة التنفيذ وينتظر صاحب الحق تنفيذ الحكم القضائي دون أي نتيجة واليوم سيواجه بعدم الحجز بملفوظات تفيد المنع المطلق، دون أي احترام لقواعد العدالة والمقاصد وروح القانون.

ولقد عرضت المادة 9 على مجلس النواب بمناسبة تقديم مشروع قانون المالية أمام البرلمان،ولم تكن لأعضائه أي انفعال إيجابي ضد هذه المادة بل فقط حاول أن يكرس نفس المنطق مع تعديلات شكلية وأصبح النص على الشكل التالي:

” يتعين على الدائنين الحاملين لأحكام قضائية تنفيذية نهائية ضد الدولة أو الجماعات الترابية أو مجموعاتها ألا يطالبوا بالأداء إلآ أمام مصالح الآمر بالصرف للإدارة العمومية أو الجماعات الترابية المعنية.

في حالة صدور حكم قضائي نهائي قابل للتنفيذ، يلزم الدولة أو الجماعة ترابية أو مجموعاتها بأداء مبلغ معين، يتعين على الأمر بصرفه داخل أجل أقصاه تسعون 90 يوما ابتداء من تاريخ الإعذار بالتنفيذ في حدود الاعتمادات المالية المفتوحة بالميزانية لهذا الغرض، وفق مبادئ وقواعد المحاسبة العمومية، وإلا يتم الأداء تلقائيا من طرف المحاسب العمومي داخل الآجال الجاري بها العمل في حالة تقاعس الآمر بالصرف عن الأداء بجرد انصرام الأجل.

وإذا أدرجت النفقة في اعتمادات تبين أنها غير كافية، يتم عندئد تنفيذ الحكم القضائي عبر الأمر بصرف المبلغ المعين في حدود الاعتمادات المتوفرة بالميزانية، على أن يقوم الآمر بالصرف وجوبا بتوفير الإعتمادات اللازمة لأداء المبلغ المتبقي في ميزانيات السنوات اللاحقة ودلك في أجل أقصاه أربع سنوات ووفق الشروط المشار إليها أعلاه، دون أن تخضع اموال وممتلكات الدولة أو الجماعات الترابية ومجموعاتها للحجز لهذه الغاية “ 

لم تكن هذه التعديلات سوى دليل على أزمة الديمقراطية التمثيلية، حيث من خلالها يصبح المواطن غير معبر عنه، كما أنها حجة كافية للقول بنهاية الدولة الاجتماعية، لقد نوقشت هذه المادة بشكل غير تفاعلي، حاول مجلس البرلمان أن يمرر المادة لكن مع تعديلات شكلية، من خلال تمعن ملفوظات المادة المعدلة، نجدها قد أخدت منحى يحاول أن يظهر حسن نية المشرع.

مدد المشرع أجل صرف الثمن المعين في الحكم النهائي والقابل للتنفيذ إلى 90 يوم وهو في حقيقة الأمر تأكيد غير مقبول لتحويل الأحكام القضائية لأوراق محاسبية كالسندات والكشوفات والفواتير التي تؤديها الإدارة العمومية وفق قواعد المحاسبة العمومية خاضعة لأجل، حيث يشكل الأجل المذكور تقييدا لحرية الإدارة، أي أنه ضمانة للمنفذ، لكنه سينقلب ضد المواطنين كما هي الكثير من مقتضيات قانون المالية، فلقد جرى العمل في قوانين المالية السابقة على تقييد الالتزام بنفقات الاستثمار داخل أجل ثلاثة سنوات فيلغى الالتزام بعد هذا الأجل وعقوبة للإدارة، لكن لا يتضرر من هذا المقتضى سوى المقاولة التي لم يتم أداء كشوفاتها من قبل الإدارة لإهمال من هذه الأخيرة، مما يدفع المقاولة رفع دعوى قضائية ضد الإدارة، فتتكبد المقاولة كثير من الخسارات، حيث سيصبح أجل التسعون يوما بمثابة معيق جديد للتنفيذ.

مقال قد يهمك :   مشاركة الودادية الحسنية للقضاة بالمؤتمر العالمي 62 للقضاة بكازاخستان وإشادة دولية بالتجربة المغربية

كما أن الجملة الأخيرة التي تمت إضافتها في الفقرة الثانية تطرح إشكالية مدى فعاليتها العملية، ما دام أن أغلب الأحكام المتعلقة بالاعتداء المادي ونزع الملكية لا تصرف مباشرة عن طريق مقرر الأداء بعد الالتزام، بل يتم إيداعها في صندوق الإيداع والتدبير، لذلك لن تكون للمحاسب العمومي أي مراقبة لهذه التعويضات المودعة إن صرفت أم لا،  ولعل القيام ببحث إحصائي في المبالغ المودعة سيتيح للمرء أن يقتنع أنها وسيلة غير فعالة، كما أن تفعيل الأداء التلقائي للمحاسب العمومي لن يكون ممكنا إلا بالتزام الآمر بالصرف بالحكم أمام المحاسب العمومي.

في حين أصر البرلمان على ابقاء المقتضى الذي ينص على إمكانية تشطير التعويض وجوبا إن لم تكن الميزانية كافية داخل أجل  أربع سنوات دون ترتيب أي جزاء على الإدارة اذا ما خرقت هذه القاعدة الآمرة.

عموما تشكل هذه التعديلات وأيضا التعديلات المتوقعة من طرف مجلس المستشارين لحظة تعبر عن أزمة الدولة والديمقراطية، الدولة التي لم تعد ذات سلطة تكرس لما هو اجتماعي، بل فقدتها وتحولت إلى دولة تمتزج بالسلطة الحيوية وبروح البرغماتية الاقتصادية حيث: “… لدينا الآن طبقة عولمية من أثرى الاثرياء تصنع القرارات الاقتصادية الكبرى، وهي تصنعها باستقلال تام عن تشريعات أية دولة، وعن إرادة الناخبين … “[3]،كما أنه:“… يفضي فقدان الدولة للسلطة إلى اضعاف السياسات الاقتصادية، مما ينعكس سلبا على الخدمات الاجتماعية..”[4]،إنها تجعل “الروابط بين الدولة والمواطن يصيبها الوهن، ويفقد المجتمع الترابط ويصبح سائلا”[5].


[1]موريزولازاراتو، صناعة الإنسان المدين، ترجمة: الحسن المصباح، منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، ط 1، 2017، ص. 76.

[2]موريزيولازاراتو، مرجع سابق، ص. 107.

[3]Richard Rorty, Philosophy and Social Hope, London: Penguin, 1999, p. 233.

[4]زيخمونتباومان وكارلو بوردوني، حالة الأزمة،الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019، ص. 26.

[5]Zygmunt Bauman and Carlo Bordoni , State of Crisis, Polity Press, Cambridge , 2014, p. 25.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]