حاتم إيوزي : مدى فعالية الملتمسات في مجال التشريع في ترسيخ الديمقراطية التشاركية
- من إعداد : حاتم إيوزي باحث في العلوم السياسية و القانون الدستوري.
ساهمت العديد من العوامل والمتغيرات،و المؤثرات الداخلية والإقليمية والدولية في التعجيل بإقرار إصلاحات سياسية ودستورية بالمغرب، و كذا الاستجابة لبعض المطالب الواردة في المذكرات المرفوعة للجنة الاستشارية المكلفة بمراجعة الدستور من طرف الهيئات السياسية والنقابية والجمعوية وتضمينها في دستور سنة 2011. ومن أهم هذه المطالب، المطلب القاضي بوضع آليات لتجسيد وترسيخ الديمقراطية التشاركية، التي أخذت حيزا مهما في هندسة الوثيقة الدستورية من خلال عدد من الفصول[1]، أهمها ما يتعلق بتمكين المواطنات والمواطنين من الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع.
فبعد أن ظلت المبادرات التشريعية في كل دساتير المملكة منذ دستور 1962 إلى دستور 1996 مجالا محفوظا للسلطة التشريعية إلى جانب كل من الملك والحكومة، نص الفصل 14 من الوثيقة الدستورية الجديدة على أنه” للمواطنات والمواطنين، ضمن شروط وكيفيات يحددها قانون تنظيمي، الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع”. ولتفعيل هذا المبدأ صادق البرلمان على القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق[2].
إن الهدف الذي توخاه المشرع الدستوري من إقرار الحق في تقديم توصيات واقتراحات تهم قواعد قانونية جديدة أو تعديل أخرى قائمة أو إلغائها في تكامل مع المبادرات في التشريع المخولة لكل من البرلمان والحكومة،هو تحقيق مطلب دسترة الديمقراطية التشاركية الذي تضمنته أغلب المذكرات الموجة للجنة الاستشارية المكلفة بمراجعة الدستور، وتوسيع مجال المشاركة المواطنة في مسارات القرارات والسياسات العمومية ومحاصرة تداعيات ما يسمى بأزمة الدمقراطية التمثيلية، عبر خلق آليات للتعاون والتكامل بين هذه الأخيرة والديمقراطية التشاركية، التي أخذت بها العديد من الدساتيرالأجنبية التي كانت سباقة إلى إزالة كل “العوائق” القانونية والعملية التي تحول دون ممارسة المواطنات والمواطنين للحق في صنع القرارات والمشاركة في إدارة الشؤون العامة كما هو متعارف عليها في القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ويتكون القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع من 13 مادة موزعة على أربعة أبواب، خصص الباب الأول للأحكام العامة (المادتان الأولى والثانية)، والباب الثاني لشروط تقديم الملتمسات (المواد من 3 إلى7) والباب الثالث لكيفيات تقديم الملتمسات (المواد من 8 إلى 12) والرابع الأخير للأحكام الختامية (المادة 13).
ومن أجل تناول هذا الموضوع بالدراسة والتحليل ارتأينا قراءة المقتضيات التي تضمنها هذا القانون التنظيمي مقارنة مع ما راكمته بعض الدول من تجارب وممارسات فضلى،وما أثاره هذا القانون من نقاش وجدل كبيرين حول مدى تأويله السليم لمنطوق الفصل 14 من الدستور المؤطر لمبدأ الديموقراطية التشاركية.
و قبل قراءة مقتضيات هذا القانون التنظيمي على ضوء ما سبق، لا بد من إبداء ملاحظتين أساسيين :
الملاحظة الأولى: تتعلق بمسار المشاورات والنقاش العمومي الذي سبق إحالة هذا المشروع قانون تنظيمي على مجلس النواب، عندما انصرفت الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني في العديد من المناسبات إلى “إقحام” المجتمع المدني (الجمعيات) كفاعل معني بشكل مباشر بالفصل 14 من الدستور،الذي نص صراحة على إسناد هذا الحق للمواطنات والمواطنين دون الحاجة إلى إطارات مدنية مهيكلة، مما يوضح جليا انحراف النقاش العمومي الذي أطرته الحكومة والذي استند على تأويل خاطئ لمنطوق الفصل 14 من الدستور، وذلك خلافا لما نصت عليه بعض فصول الدستور كالفصل 12 و الفصل13،والفقرة الثانية من الفصل139 التيأشارت بشكل مباشر وصريحإلىتمكين الجمعيات إلى جانب المواطنات والمواطنين من الحق في تقديم العرائض عند التعامل مع الجماعات الترابية، بحيث جاءت صياغة هذه الفقرة على الشكل التالي: “يمكن لمواطنات والموطنين والجمعيات تقديم عرائض الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله”
وفي هذا السياق فقد تعددت تجارب العديد من الدول التي اختارت إشراك المجتمع المدني في عملية صناعة القوانين بشكل مباشر أو غير مباشر،وبدرجات متفاوتة كما هو الشأن بالنسبة ل:
- البرلمان النيوزيلندي : يوجه دعوة مفتوحة لتلقي ملاحظات المواطنين من جميع الجهات المعنية، أفرادا ومنظمات، من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل الإعلام.
- البرلمان التركي : يعمل على توجيه الدعوة مباشرة إلى هيئات المجتمع المدني المعنية بموضوع التشريع المطروح للنقاش.
- البرلمان التشيكي : يداوم على عقد ما يسمى عادة “بجلسات الاستماع” التي تعتبر إحدى أكبر أشكال المشاركة المدنية شيوعا، هذه الجلسات التي تخصص للاستماع لممثلين عن القطاعات المدنية والمهنية المعنية بمشاريع القوانين المدروسة.
- أما برلمانات سلوفينيا وروسيا البيضاء، حرص كل منهما على مأسسة التواصل المدني البرلماني، عن طريق إحداث مكتب اتصال مع المنظمات غير الحكومية، ومجالس استشارية مكونة من ممثلين للمجتمع المدني ولبعض الخبراء، تشتغل بالموازاة مع اللجان دائمة، وفي بعض الحالات لا يقدم البرلمان فقط ضمانات لتلقي ملاحظات المجتمع المدني، بل يسمح بتلقي آراء مكتوبة من قبل المواطنين.
واتخذت المشاركة المدنية في العمل البرلماني في بعض الدول شكلا أكثر قوة، كما هو الحال في الجمهورية اللبنانية وروسيا الاتحادية، ففي لبنان تأسس منذ سنة 1999 منتدى الحوار البرلماني وهو منظمة غير حكومية تهدف إلى نقل آراء واقتراحات المجتمع المدني إلى البرلمان وضمان توفير المعلومات للبرلماني حول برنامج المنظمات غير الحكومية وتنظيم أنشطة متبادلة بين هذه المنظمات واللجان البرلمانية، أما في روسيا الاتحادية فقد أقر مجلس الدوما خلال سنة 2005، قانونا ينظم “المجلس الشعبي لروسيا الاتحادية” باعتباره وسيطا بين المجتمع والسلطة التشريعية، يتألف من منظمات المجتمع المدني ويتولى مهمة تقييم المبادرات التشريعية من منطلق ما تحققه من مصلحة عامة[3].
الملاحظة الثانية: تتعلق بعدم التفصيل في بعض المقتضيات، وعدم التنصيص على إخراج النصوص التنظيمية المكملة لهذا القانون التنظيمي، التي تحدد كيفيات تطبيق وتنفيذ بعض المواد على سبيل المثال، كيفيات تنظيم الفقرة الأخيرة من المادة الثانية المتعلقة بتكوين لجنة تقديم الملتمس، والمادة السادسة المتعلقة باجتماعات هذه اللجنة، وكذا المادة الحادية عشر التي تتحدث عن إمكانية سحب الملتمس، وذلك اعتبارا لما يمكن أن تثيره هذه المواد من إشكالات ذاتية وموضوعية، قد تؤثر بشكل سلبي على مسار الملتمسات، ما لم يتم تنظيمها والتفصيل فيها بنصوص تنظيمية، لتحديد الصفة القانونية للجنة تقديم الملتمس التي ستصبح بحكم الواقع على شكل جمعية أو مكتب مسير يوزع المهام بين أعضائه (وكيل اللجنة، مكلف بالتوثيق والمحاضر، مكلف بالشؤون المالية….)، بالإضافة إلى مآل هذه اللجنة وبالتالي مآل الملتمس في حالة انسحاب بعض أو أكثر من نصف أعضائها….، وكيفية اتخاذ بعض القرارات المهمة من قبيل سحب الملتمس، إلى غير ذلك من المشاكل المفترضة.
وتقتضي معالجة هذا الموضوع التطرق في البداية إلى الشروط الشكلية الواجب توفرها لقبول الملتمسات (الفرع الأول)، ثم الشروط الواجب توافرها في الملتمس نفسه (الفرع الثاني).
الفرع الأول : الشروط الشكلية لقبول الملتمسات
بالرجوع إلى الأعمال التحضيرية التي سبقت المصادقة على الشروع قانون التنظيمي رقم 14. 64 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع، وخلاصات ومخرجات الحوار الوطني حول المجتمع المدني والأدوار الدستورية الجديدة، ومذكرات جمعيات المجتمع المدني ذات الصلة، وكذا رأي المجلس الوطني لحقوق الإنسان[4]، يُمكن الوقوف على العديد من الملاحظات والإشكالات التي أثارها الباب الثاني الذي حدد الشروط الازم توفرها في مقدمي وداعمي ملتمسات التشريع (أولا)، وعتبة التوقيعات المطلوبة (ثانيا).
أولا: الشروط القانونية لاكتساب صفة مدعمي الملتمس
نص القانون التنظيمي على مجموعة من الشروط من أجل اكتساب صفة مدعمي الملتمس،فإلى جانب ضرورة التمتع بالحقوق السياسية والمدنية، اشترط القانون التنظيمي رقم 64.14 في مدعمي ملتمسات التشريع القيد في اللوائح الانتخابية[5]، وبالرغم من أن العديد من الباحثين والمهتمين وجهوا سهام النقد لهذا القانون واعتبروا هذا الشرط تعجيزيا لكونه يتناقض مع روح الفصل 14 من الدستور، وينزع صفة المواطنة عن الغير المسجلين في اللوائح الانتخابية.
إلا أنه وبالنظر لكون العديد من اجتهادات القضاء الدستوري أخذت بمبدأ ” تطابق القواعد القانونية مع الهدف المتوخى منها ” كما هو الشأن بالنسبة للقرار رقم 937 بتاريخ 29 مايو 2014 الذي اعتبر فيه المجلس أن ” مراقبة دستورية القوانين، شكلا و جوهرا، تستلزم استحضار المقاصد التي ابتغاها الدستور”، و القرار رقم 817 بتاريخ 13 أكتوبر 2011 الذي أشار في إحدى حيثياتهإلى أن ” الدستور متكامل في مبادئه و أهدافه “، فإن اشتراط التقييد في اللوائح الانتخابية يجد سنده في العديد من فصول الدستور، خاصة الفصل 37 الذي أكد على تلازم ممارسة الحقوق بالنهوض بالواجبات[6]، و الفصلين 11 و 30 الذين نصا على اتخاذ السلطات العمومية للوسائل الكفيلة للنهوض بمشاركة المواطنات و المواطنين في الانتخابات، و تشجيع الولوج للوظائف الانتخابية[7].
ولم يخرج المجلس الدستوري لاحقا عن هذا التوجه في قرارهتحت رقم 1009/16 المؤرخ في يوم الثلاثاء 7 من شوال 1437، الموافق لــــ12يوليوز 2016 بمناسبة مراقبة مدى مطابقة القانون التنظيمي رقم 64.14 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع للدستور، الذي اعتبرفيه أن الجهات التي توجه إليها الملتمسات في مجال التشريع كما العرائض منبثقة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن الانتخابات، وأن ممارسة الديمقراطية المواطنة والتشاركية التي هي من مقومات النظام الدستوري للمملكة يجب أن تتم في نطاق ما كرسه الدستور من تلازم ممارسة الحقوق بأداء الواجبات، باعتبار أن التسجيل في اللوائح الانتخابية شرط لممارسة حق التصويت الذي هو أيضا واجب وطني.
وإذا كان شرط التقييد في اللوائح الانتخابية لا يمكن اعتباره شرطا تعجيزيا، فنرى أنه من الضروريأن يرافق هذا الشرط تعديل الفقرة الأولى من المادة الثالثة من القانون المتعلق باللوائح الانتخابية العامة[8] بشكل يصبح معه القيد في اللوائح الانتخابية العامة تلقائيا، أو التنصيص على إجبارية التصويتالذي يترتب عنه القيد في اللوائح الانتخابيةكما هو معمول به في العديد من الدول التي تفرض الجزاءات أو الغراماتأو العقوبات القانونية.
فقد يتعرض الناخب البلجيكي الذي لا يقوم بالتصويت بشكل متكرر إلى حرمانه من حق التصويت. بينما في سنغافورة يتم حرمان الناخب الذي لم يصوت في الانتخابات العامة أو الرئاسية من حق التصويت، ولا يمنح له الحق مرة أخرى إلا بدفع غرامة أوتقديم سبب مقنع. أما في البيرو واليونان، قد يحرم الناخب الذي لا يقوم بالتصويت من الخدمات والبضائع التي تقدمها الجهات الحكومية. وفي البرازيل، يحرم من يتخلف عن التصويت من إصدار جواز سفر إلى أن يقوم بالتصويت في آخر عمليتي انتخاب. في بوليفيا، قد يحرم من يتخلف عن التصويت من سحب مرتبه من البنك لمدة ثلاثة أشهر.
ثانيا : عتبة التوقيعات المطلوبة لتقديم الملتمسات
من بين الشروط التي كانت موضوع نقاش وجدلكبيرين ودفعت إلى التشكيك في مدى إرادة الحكومة صاحبة مشروع القانون التنظيمي والبرلمان الذي صادق عليه، في إشراك المواطنات والمواطنين في التشريع، وإعمال مبدأ المساواة بين الأفراد والجماعات في استعمال هذا الحق الدستوري، تلك الواردة في المادة السابعة التي اشترطت دعم الملتمس بتوقيعات 25000 ناخب على الأقل مع إرفاقها بنسخ من بطائقهم الوطنية للتعريف.
و في هذا الإطار إذا ما استحضرنا بعض التجارب الدولية كالقانون التنظيمي الإسباني الذي يتطلب 500 ألف ناخب، والدستور الإيطالي الذي وضع عتبة 50 ألف ناخب، والقانون البرتغالي للمبادرة التشريعية الذي حدد العتبة في 35 ألف ناخب،فإن اشتراط عتبة 25 ألف ناخب المطلوبة لقبول الملتمسات في مجال التشريع في القانون التنظيمي رقم 14.64 والتي تمثل ما يقارب0،17 %من الكتلة الناخبة، يُمكن اعتبارها مقبولة في هذا القانون المؤسس للديمقراطية التشاركية، إذا ما تم التنصيص على إمكانية تجميع التوقيعات بطريقة إلكترونية ووضعت آليات أخرى لتبسيط المساطر، وتحقيق التكامل مع المقتضيات الواردة في العديد من النصوص خاصة القوانين التنظيمية المتعلقة بالجهات والجماعات ومجالس العمالات والأقاليم في الجانب المتعلق بالديمقراطية التشاركية.
وفي نفس السياق تقاسمت خلاصات الحوار العمومي وتعديلات بعض الفرق النيابية بمجلس النواب، وتوصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان المطالب القاضية بتبسيط المساطر الشكلية وتسهيل شروط ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع، وتكريس حق أصحاب الملتمس في الاستفادة من الدعم التقني والاستشارة القانونية والتقنية والدعم في مجال الترافع، إلى جانب إلزام السلطات العمومية بتقديم الدعم المالي واتخاذ كلالإجراءات والتدابير الضرورية لتيسير ممارسة هذا الحق.
وإذا كان اشتراط عتبة 25 ألف ناخب فقط لتدعيم الملتمس،والتراجع عن شرط انتسابهم إلى ثلث جهات المملكة على الأقل كما ورد في الصيغة الأولى للمشروع القانون التنظيمي، والاحتفاظ بهذا الشرط فقط بالنسبة لأعضاء لجنة تقديم الملتمس كما نصت على ذلك المادة 2،قد اعتبرته الحكومة عند دراسة ومناقشة هذا المشروع قانون بمجلسي البرلمان قدخفف من القيود على الراغبين في تقديم ملتمسات في مجال التشريع، فإننا نرى أن هذا التوجه قد صاحبه ولازمه في المقابل، التوجه نحو التقليص الغير المبرر لمجال الملتمسات وتوسيع الاستثناءات بالمقارنة مع مجال القانون الذي يشرع فيه البرلمان، الأمر الذي يزكي التساؤل حول مدى صواب هذا الاختيار ونجاعته، وقدرته على ترسيخ الديمقراطية التشاركية، ومدى واقعية مقتضيات هذا القانون التنظيمي، وانسجام هذا الاختيار مع مرتكزات الوثيقة الدستورية، وتحقيقه لمطلب تكريس الممارسة المدنية بالمغرب؟
الفرع الثاني : الشروط اللازم توفرها في الملتمس
من خلال قراءة المقتضيات الواردة في القانون التنظيمي القاضي بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع، خاصة ما يتعلق بالشروط الازم توفرها في الملتمسات تحت طائلة عدم القبول سنحاول إبداء الملاحظات التالية:
أولا : إن الصيغة التي وردت بها المادة الرابعة من هذا القانون التنظيمي والتي اعتبرت أن الملتمسات تقع تحت طائلة عدم القبول إذا ما تتضمن اقتراحات أو توصيات،” تمس بالثوابت الجامعة للأمة، والمتعلقة بالدين الإسلامي أو بالوحدة الوطنية أو بالنظام الملكي للدولة أو بالاختبار الديمقراطي أو بالمكتسبات التي تم تحقيقها في مجال الحريات والحقوق الأساسية كما هو منصوص عليها في الدستور”، جعلت هذه المادة عرضة لمخاطر تأويل ” الثوابت الجامعة للأمة ” التي وردت في الفقرة الثالثة من الفصل الأول من دستور 2011، لذا فقد اقترح المجلس الوطني لحقوق الإنسان بمناسبة إبداء رأيه حول هذا القانون استبدال صيغة ” تمس بثوابت الأمة ” بصيغة ” الأحكام المستثناة من المراجعة الدستورية بمقتضى الفصل 175 من الدستور، وبالتالي إعادة تحديد مكونات الفئة الأولى من أسباب عدم قابلية التلقي المادي، حسب الصيغة التالية “تعتبر غير مقبولة الملتمسات التي تتضمن اقتراحات أو توصيات يكون موضوعها الأحكام المستثناة من المراجعة الدستورية بمقتضى الفصل 175 من الدستور”.
ثانيا : بالإضافة إلى الفقرة الثانية من المادة الرابعة التي كانت موضوع توصية من المجلس الوطني لحقوق الانسان، و بالرغم من أن المجلس الدستوري في قراره تحت رقم 1009/16 المؤرخ في يوم الثلاثاء 7 من شوال 1437، الموافق لــــ12يوليوز 2016 قضى بدستورية هذه المادة التي نصت في بندها الثاني على أن الملتمسات في مجال التشريع تكون غير مقبولة إذا كانت تتضمن اقتراحات أوتوصيات تتعلق بمراجعة الدستور أو القوانين التنظيمية أو قانون العفو العام أوالنصوص المتعلقة بالمجال العسكري، أو تخص الأمن الداخلي أو الدفاع الوطني أوالأمن الخارجي للدولة؛ و أقر بأن للمشرع السلطة التقديرية لاستثناء بعض المواد المندرجة في مجال القانون، لاعتبارات يقدرها، ما دام الاستثناء المذكور لا يمس في طبيعته ومداه بجوهر هذا الحق المخول دستوريا للمواطنات والمواطنين، إلا أننا نرى أنالتقليص من مجال اختصاص هذا القانون التنظيمي، والتنصيص على استثناء القوانين التنظيمية يشكل تضييقاعلى حق المواطنات والمواطنين في تقديم ملتمسات تشريعية،وعائقا في وجه تكريس وترسيخ الديموقراطية التشاركية، واستثناء غير مبرر، للعديد من الاعتبارات أهمها:
1- رفع المنع على أحقية البرلمان في تقديم مقترحات القوانين التنظيمية بعد لجوء الحكومة إلى التأويل السياسي لمقتضيات الفصل 86 من الدستور عوض التأويل الدستوري، وتدخل القضاء الدستوري بشكل ضمني للفصل في التنازع حول أحقية المبادرة البرلمانية بخصوص مقترحات القوانين التنظيمية، بمناسبة النظر في مدى مطابقة النظام الداخلي لمجلس النواب للدستور، بحيث أن المجلس الدستوري لم يصرح بعدم مطابقة المادة 122 من النظام الداخلي لمجلس، التي استندتعلى الفقرة الأولى من الفصل 178 من الدستورلإعطاء الحق لمجلس النواب في تقديم مقترحات القوانين التنظيمية.
لذا، فإننا نرى أن توسيع مجال القانون الذي يختص البرلمان في التشريع فيه، ورفع القدسية عن القوانين التنظيميةبإعطاء للبرلمان الحق في تقديم مقترحات القوانين،يجب أن يقابله تمكين المواطنات والمواطنين بشكل مباشر من المساهمة في تفعيل الوثيقة الدستورية و مراجعة تفعيلها،
عبر تمكينهممن تقديم الاقتراحات والتوصياتلأعضاء مجلسي البرلمان من أجل تبنيها وفق المساطر المحددة في هذا القانون.وما يثير الاستغراب هو تعليل الحكومة لأسباب رفضها للتعديل المقدم بشأن الفقرة الثانية منالمادة الرابعة من هذا القانون التنظيمي، حيث صرح الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني أن الحكومة ترفض حذف استثناء القوانين التنظيمية على اعتبار أن مرحلة تأسيس للديموقراطية التشاركيةتقتضي أن يكون مجال تدخل الملتمسات مضبوطا[9].
2- أثارت المادة 5 من القانون التنظيمي التي اشترطت تحت طائلة عدم القبول أن يكون ملتمس التشريع يحقق المصلحة العامة، القلق والمخاوف من تحويل لحظة تنزيل الفصل 14 من الدستور، من لحظة التأسيس إلى لحظة التراجع، على اعتبار أن مفهوم المصلحة العامة ظل يتسم بعدم الوضوح، بحيث يكاد يجمع الفقه والقضاء على صعوبة تحديد مفهوم للمصلحة العامة سواء في مضمونها أو محتواها أو مدلولاتها.
وبالرجوع لاجتهادات القضاء الدستوري بالمغرب، يمكن الوقوف على تعدد أوجه استعمال المصلحة العامة لتعليل بعض القرارات وما أثارته من جدل ونقاش كبيرين إذ اعتبرها بعض الباحثين والمهتمين أنها قد جانبت الصواب،وعلى سبيل المثال وليس الحصر سنتناول القرار رقم 01.467 الصادر بشأن قانون المالية رقم 01.44لسنة 2012 حينما اعتبر المجلس الدستوري في أحد حيثياته المادة 6 من هذا القانون غير مخالفة للدستور بحجية المصلحة العامة.
“وحيث إن المادة 6 المحالة ، بنصها على إعفاء القوات المسلحة الملكية من الرسوم والضرائب عند الاستيراد بأثر رجعي يسري من فاتح يناير 1996 ، فإن رجعيتها تكون قد استندت في النازلة إلى معيار الصالح العام لتصحيح وضعية محددة، الأمر الذي تكون معه المادة 6 من قانون المالية لسنة 2002 غير مخالفة لأحكام الفصل 4 من الدستور”،وبالتالي فإن القانون المالي غير خاضع لقاعدة عدم رجعية القانون طبقا لأحكام الفصل الرابع من دستور 1996، بالرغم من هذه القاعدة وردت في الفصل الرابع على سبيل الإطلاق وتطبق على جميع القوانين[10].
ويمكن الاستنتاج مما سبق أن اشتراط المصلحة العامة في الملتمسات فيه تضييق على ممارسة آلية من آليات الديمقراطية التشاركية، لما تحمله من مخاطر رفض الملتمسات التي ستكون خاضعة للسلطة التقديرية للجهة المخول لها ذلك.
ثالثا : أما بخصوص مسطرة البت في الملتمسات، فإنها منظمة بالباب الثالث من القانون التنظيمي رقم 14.64، والباب الأول من النظام الداخلي لمجلس النواب (في انتظار ملائمة وتعديل النظام الداخلي لمجلس المستشارين) كيفيات تقديم الملتمسات لمكتبي مجلسي البرلمان، ومسطرة دراستها والبت فيها، إذ تخضع الملتمسات التي يتم ايداعها مقابل وصل يسلم فورا أو عن طريق البريد الإلكتروني، لنفس المبدأ في توزيع الاختصاص الذي تخضع له مقترحات ومشاريع القوانين المقدمة من طرف الحكومة وفقا للمادة 8من هذا القانون التنظيمي.
وبعد التأكد من توفر الملتمس على الشروط المنصوص عليها والبت فيه داخل الآجال المحددة في المادة 10 وتبليغ وكيل لجنة تقديم الملتمس بقرار القبول، يتم إحالته على اللجنة البرلمانية المعنية حسب موضوع الملتمس لدراسته ومناقشته وفق الشروط المنصوص عليها في المادة 307 من النظام الداخلي لمجلس النواب، وللنظر كذلك في إمكانية تبنيه من طرف أحد أعضاء اللجنة واعتماده كأساس لتقديم مقترح قانون وفقا للمساطر التشريع المنصوص عليها في النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان.
ولا شك أن مرحلة تبني الملتمسات المقبولة واعتمادها كأساس لتقديم مقترح قانون، طبقا للمسطرة التشريعية المنصوص عليها في النظام الداخلي للمجلس المعني، تعتبر أهم مرحلة يتم من خلالها التنزيل الفعلي والعملي للفصل 14 من الدستور.
غير أن حصر الفقرة الثانية من المادة 12 من القانون التنظيمي رقم 14.64 من لهم الحق من أعضاء مجلسي البرلمان في تبني الملتمس، في أعضاء اللجنة البرلمانية المعنية قد جانب الصواب للأسباب التالية:
- تعارض هذا المقتضى مع مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 78 من الوثيقة الدستورية التي منحت الحقلكل البرلمانيين في التقدم بمقترحات القوانين؛
- حصر تبني الملتمسات في أعضاء اللجنة المعنية من شأنه أن يقلص من إمكانية تبنيه واعتماده كمقترح قانون؛
- اعتماد قاعدة التمثيل النسبي فيتشكيل اللجان الدائمة بالنسبة لمجلس النواب(المادة 85 من النظام الداخلي لمجلس النواب)، [11]وفي تشكيل اللجان الدائمة بالنسبة لمجلس المستشارين (المادة 55 من النظام الداخلي لمجلس المستشارينتمنع النوابغير أعضاء اللجنةوالنواب الغير المنتسبين والمجموعات النيابية التي يقل عدد أعضائها عن عدد اللجان، من إمكانية التجاوب والتفاعل مع الملتمساتوتبنيها.
الهوامش :
[1]– يتعلق الأمر الفقرة الثالثة من الفصل 12 التي تنص على: “تُساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها. وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة، طبق شروط وكيفيات يحددها القانون”
والفصل 13 الذي ينص على ” تعمل السلطات العمومية على إحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها.”
و الفصل 14 ينص على أن ” للمواطنات والمواطنين، ضمن شروط وكيفيات يحددها قانون تنظيمي، الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع”.
والفصل 15 الذي يقضي ب “للمواطنات والمواطنين الحق في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية.
ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق”.
و كذلك الفصل 139 من الدستور الذي ينص على ” تضع مجالس الجهات، والجماعات الترابية الأخرى، آليات تشاركية للحوار والتشاور، لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها.
يُمكن للمواطنات والمواطنين والجمعيات تقديم عرائض، الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله”.
[2]– القانون التنظيمي رقم 14. 64 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع والذي صدر الظهير الشريف بتنفيذه رقم 1.16.108 بالجريدة الرسمية عدد 6492 بتاريخ 18 غشت 2016.
[3]– د. حسن طارق “المجتمع المدني والبرلمان”: أية تقاطعات وظيفية؟ ملاحظات أولية حول مساهمة المجتمع المدني في العمل التشريعي.
[4]– رأي المجلس الوطني لحقوق الإنسان بخصوص مشروع القانون التنظيمي رقم 14. 64 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع، ومشروع القانون التنظيمي رقم 44.14 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية الذي تقدم به بناء على طلب إبداء الرأي الموجه من طرف رئيس مجلس المستشارين، بتاريخ دجنبر 2015.
[5]– المادة 2 من القانون التنظيميرقم 14. 64 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع ،
[6]– ينص الفصل 37 من الدستور على ما يلي: “على جميع المواطنات والمواطنين احترام الدستور والتقيد بالقانون. ويتعين عليهم ممارسة الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة، التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بالنهوض بأداء الواجبات ».
[7]– تنص الفقرة الأخيرة من الفصل 11 من الدستور على أن”تتخذ السلطات العمومية الوسائل الكفيلة بالنهوض بمشاركة المواطنات والمواطنين في الانتخابات.”
أما الفقرة الأولى من الفصل 30 من الدستور فتنص على “لكل مواطنة و مواطن، الحق في التصويت، وفي الترشح للانتخابات، شرط بلوغ سن الرشد القانونية، والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية. وينص القانون على مقتضيات من شأنها تشجيع تكافؤ الفرص بين النساء والرجال في ولوج الوظائف الانتخابية.”
[8]– القانون رقم 11.57 المتعلق باللوائح الانتخابية العامة، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.171بتاريخ 30 ذي الحجة 1432 (28 أكتوبر 2011)المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5991 بتاريخ 3 ذو الحجة 1432 (31 أكتوبر2011)صفحة 5227.
[9]– الجلسة السادسة والتسعين بعد المئتين بتاريخ 27 يناير 2016 المخصصة للدراسة والتصويت على هذا المشروع قانون التنظيمي. أنظر مداولات مجلس النواب-2015، دورة أكتوبر: محضر الجلسة السادسة والتسعين بعد المائتين.
[10]– حجاجي امحمد باحث “في القانون الدستوري” الرقابة على السلطة التقديرية للمشرع في اجتهادات القضاء الدستوري المغربي.
[11]– حسب المادة 81 من النظام الداخلي لمجلس النواب لا يتجاوز عدد أعضاء اللجن الدائمة التسعة بمجلس النواب 44 عضوا.