سعاد عاشور : مدى القوة الثبوتية لرسم الملكية
- من إعداد : الأستاذة سعاد عاشور دكتوراه الدولة في القانون الخاص تخصص القانون العقاري، أستاذة بكلية الحقوق السويسي.
تقديم :
إن التحفيظ في بلادنا مبدئيا، أمر اختياري ولذلك تبتدئ عمليته بتقديم الملك أو من ينوب عنه (1) مطلبا بذلك الى الوكالة للمحافظة على الأملاك العقارية المختصة معززا بجميع الوثائق وسندات التمليك التي تؤيد طلبه أو الإشارة اليها. وتخضع مسطرة التحفيظ لوسيلة اشهار واسعة تفتح بمقتضاها باب التعرض بالنسبة لكل شخص يدعي حقا عينيا على هدا العقار، أو ينازع طالب التحفيظ في أحقيته للملكية. وحينما يتأكد المحافظ من سلامة المسطرة يتخذ قرارا بالتحفيظ يترتب عنه إضفاء وضع خاص على العقار ووضع صفحة جديدة له.
فالحقوق العينية والتكاليف العقارية المترتبة على العقار يطهر منها الملك، تعتبر قد تلاشت نهائيا ولم يعد بالإمكان الاعتداد بها أيا كان مصدرها إرث أو وصية أو عقد وأيا كان صاحبها راشدا أو قاصرا أو ناقص الأهلية، وهو ما يسمى بمبدأ التطهير المسبق طبقا لمقتضيات الفصل 2 من ظ. ت.ع.
ويؤول قرار التحفيظ إلى تنظيم رسم الملكية من شأنه تثبيت وضع العقار ماديا وقانونيا بصورة قاطعة ونهائية وإلغاء جميع الرسوم والحقوق السابقة التي لم يجر دكرها في الرسم. (ف 62 ظ.ت.ع). إذ لا يمكن بعد ذلك إقامة أية دعوى في العقار بسبب حق وقع الاضرار به من جراء التحفيظ، ولا يبقى أمام من يهمهم الأمر وفي حالة التدليس فقط، إلا أن يقيموا على مرتكب التدليس دعوى شخصية بأداء تعويضات، مع مراعات القواعد الخاصة بمسؤولية الدولة وموظفيها كما هو منصوص في الفصلين 79 و80 من ق ل ع والفصل 64 من ظ ت ع. ونظرا لما لرسم الملكية المنشأ نتيجة عملية التحفيظ من أهمية، ارتأينا التطرق لنقطتين أساسيتين.
الفرع الأول: طبيعة رسم الملكية: الماهية والخصائص.
سنتولى تقسيم هذا الفرع الى مسألتين: تتعلق الأولى بماهية الرسم العقاري، والثانية بخصائص الرسم العقاري.
1-ماهية الرسم العقاري.
عندما يتأكد المحافظ من أن مسطرة التحفيظ قد تمت بصفة سليمة وصحيحة، بدءا من وضع مطلب التحفيظ ومرورا بالإشهار والتحديد، وعدم ظهور أي متعرض أو صدور حكم نهائي بإلغاء التعرضات، يتخذ قرارا بالتحفيظ ويباشر تأسيس الرسم العقاري أو ما يسمى برسم الملكية.Le titre de propriété طبقا لمقتضيات الفصل 52 من ظ ت ع الذي تم تعديله بمقتضى القانون 14-07.ويجب أن يكون الرسم العقاري ممضى من طرف المحافظ وحاملا الخاتم الرسمي لمكتبه مع بيان تاريخ إنشائه. ويعتبر الرسم العقاري المنشأ على هذا النحو الأصل الذي يرجع إليه لمعرفة حالة العقار المادية والحقوقية (2)وعنه تصدر النسخة أو النظير Duplicataلكون نظير الرسم هو بمثابة حجة على حق الملكية، وهذا بالطبع إذا كانت البيانات التي يشتمل عليها مطابقة للبيانات المضمنة في الرسم الأصلي. وتبعا لذلك أصدر المحافظ العام أوامرا للمحافظين العقاريين بعدم تسليم المعنيين بالأمر أي نظير إلا بعد الإستيثاق بأنه يشتمل على نفس المعطيات الطبوغرافية للملكية، ونفس البيانات المضمنة فييالرسم العقاري وأنها صحيحة وتامة وأن تضاف إليها وجوبا الصور والتصاميم اللازمة(3).
ويعتبر الرسم العقاري المنجز بمناسبة التحفيظ نقطة الانطلاق الوحيدة للحقوق العينية المقيدة فيه، “والدليل الوحيد على صحة الملكية لا يمكن دحض هذه القرينة بأي دليل آخر” (4)،كما تصبح كل الوثائق والمستندات والحجج التي وقع الإدلاء بها تأييدا لمطلب التحفيظ لاغية ولا وجود لها، ولن يصبح بالإمكان التطلع أو البحث عن سبب كسب هذه الملكية وما إذا كان إرث أو هبة أو بيع نظرا لأنه لا يشار الى ذلك في رسم الملك، بل يكتفى بالنص مثلا على أن “العقار قد حفظ في اسم فلان بصفته مالكا”(5).فعملية التحفيظ هي سند قانوني كافي بحد ذاته لاعتبار الشخص المعني بها مالكا بصرف النظر عما إذا كان أو إذا لم يكن مالكا أو صاحب حق في الماضي(6).فقرار التحفيظ يطهر العقار من الحقوق السابقة والغير ظاهرة وقت التحفيظ، ولو كانت مشروعة ويعترف في نفس الوقت بالوجود القانوني للحقوق الظاهرة وقت التحفيظ ويضفي عليها صفة المشروعية ولو كانت غير مشروعة. فمثلا إذا أغفل المالك أن يعلن عن بعض الحقوق أثناء جريان مسطرة التحفيظ، يطهر منها العقار ولا يمكن بعثها بعد التحفيظ. وقد أكد المشرع على الأثر التطهيري للتحفيظ في الفقرة الثانية من الفصل الأول من ظ ت ع حيث جاء فيها ما بلي:
“-تحفيظ العقار بعد إجراء مسطرة للتطهير يترتب عنها تأسيس رسم عقاري وبطلان ما عداه من الرسوم، وتطهير الملك من جميع الحقوق غير المضمنة به.”
لكن ورغم الصفة الشمولية التي يتميز به الأثر التطهيري للتحفيظ، فهو لا يمتد للحقوق التي تطبق على أشخاص القانون العام المتعلقة بعقار محفظ وهذا من بديهيات الملك العام الذي يتميز بخصوصيات، هي عدم قابليته للتفويت ولا للتقادم. وبالتالي يمكن المطالبة بها دون أن يكون مبدأ التطهير حائلا دون ذلك، وهذا ما استقر عليه كذلك القضاء في بلادنا.
2- خصائص رسم الملكية.
الرسم العقاري له صفة نهائية وغير قابلة للطعن، وهو يشكل المنطلق الوحيد للملكية ويثبت الحالة المدنية للعقار.
ومن نتائج ذلك، يستطيع كل شخص أن يثق ثقة كاملة مطلقة في الحقوق المقيدة في السجل العقاري وان يتعامل معها بأمان ولو كان التحفيظ قد جرى لمصلحة شخص سيء النية، وذلك لأن القيمة الإثباتية لتقييدات السجل العقاري الناتجة عن التحفيظ تكتسب حجية ومناعة مطلقة إزاء الكافة (7).
ويعزو الفقهاء الأسباب التي جعلت المشرع يعطي للتحفيظ هذه القوة المطلقة في الاثبات ولا يعطيها للتقييدات اللاحقة الى طبيعة مسطرة التحفيظ-الطويلة والمعقدة-التي يخضع لها العقار قبل انشاء الرسم العقاري (8). وكما يقول المرحوم الدكتور محمد مهدي الجم: “لئن كان التحفيظ ينشئ حقا راسخا، إن مسطرته الطويلة واستنفار كافة الوسائل للوصول الى معرفة حقيقة الحق، حري بإسباغ الصفة القاطعة له”(9)
وقد اعتبر بعض الفقه رسم الملكية المنجز عقب مسطرة التحفيظ في المغرب “أخطر قرار يمكن ان يتخذ، فبنود الدستور نفسه يمكن أن تراجع بواسطة الاستفتاء، والقوانين يمكن أن تلغى أو تعدل بقوانين أخرى من طرف السلطة المختصة، والمقررات الإدارية يمكن أن تكون موضوع طعن بالإلغاء، إلا قرار التحفيظ فهو غير قابل لأي طعن”(10).
فالمشرع بقدر ما حرص على مراعاة مبدأ استقرار الملكية عن طريق وضع حد نهائي للمنازعة بشأن أصل الحق العيني، فإنه لم يفته أن تنبه الى الشخص المتضرر من أعمال التحفيظ، إذ بعد أن منع سماع أي دعوى في العقار بسبب حق وقع الاضرار به من جراء التحفيظ، نص على أنه “يمكن للمتضررين في حالة التدليس فقط أن يقيموا على مرتكب التدليس دعوى شخصية بأداء تعويضات” (ف 64). وفي رأينا، نلاحظ أن إفساح المجال للمتضررين المطالبة بالتعويض المادي لا يمكن أن يعادل أبدا الحرمان من الحق أو العقار…مما دفع بعض الفقه، للتفكير في الأخذ بالنظام المطبق في بعض الدول الأجنبية كإسبانيا وبلجيكا، الذي يمنح طالب التحفيظ “رسما ظرفيا ” يحفظ به حقه، لكن يحدد مهلة سنتين لكل من يرغب الطعن بهذا الرسم، وبعدها يمكن لذوي الشأن أن يطلبوا من المحافظ استبدال هذا الرسم برسمي نهائي(11).
الفرع الثاني: استحقاق التعويض
أجاز المشرع لكل شخص تضرر من جراء عملية التحفيظ المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي أصابه، وفي حالة التدليس فقط، استنادا الى دعوى شخصية، لكنه لا يمكنه في أي حال من الأحوال المطالبة بحقه عينا أيا كانت الأسباب التي دعت الى ذلك وحتى ولو كان مرد ذلك احتيال أو تدليس…(12). وفي حالة إعسار المدلس تؤدى التعويضات من صندوق التأمينات المحدث مع الاحتفاظ للصندوق بحق الرجوع على المعسر. وبهذا ورد النص في الفصل 64 من ظ ت ع. اللهم إذا اكتفى بالمطالبة باسترداد ما دفع مع العطل والضرر عند الاقتضاء.
1.المطالبة باسترداد ما دفع.
استنادا للفصل 70 من ق ل ع، يحق للشخص الذي اشترى عقارا أو اكتسب حقا عينيا على عقار ولكنه فقد هذا الحق نتيجة تحفيظ هذا العقار على اسم شخص آخر، مشتري أو مكتسب الحق العيني أن يطالب باسترداد ما دفع بالتعويض عند الاقتضاء(13). فبمقتضى هذا الفصل، “يجوز استرداد ما دفع لسبب مستقبل لم يتحقق أو لسبب كان موجودا ولكنه زال”. ففي هذه الحالة، فإن السبب الذي دفع المشتري أو مكتسب الحق العيني لدفع الثمن هو الحصول على حق الملكية أو الحق العيني، ولما أصبح الحصول على هذا الحق مستحيلا نتيجة تحفيظ العقار وتطهيره من كل حق عيني سابق بما فيه حق المشتري، فهنا يعتبر سبب دفع الثمن بالضرورة قد زال مما يخول استرداده.
فإذا كان مرد فقدان هذا الحق راجعا الى إهمال أو خطأ صاحب الحق نفسه، كأن يتراخى عن تقديم التعرض للتمسك بحقه أثناء جريان مسطرة التحفيظ رغم علمه بها، ففي هذه الحالة لا يستطيع المتضرر الا استرداد ما دفع(14).
أما إذا كان فقدانه لحقه مرده مناورات احتيالية من طرف طالب التحفيظ، كأن يبيع العقار مثلا تم يسارع بطلب تحفيظه على اسمه أو على اسم شخص آخر مستغلا غياب المشتري. فهذا العمل الذي ارتكبه البائع يعتبر غير مشروع يستوجب المسؤولية التقصيرية ويعطي للمتضرر، علاوة على حق استرداد ما دفع حق المطالبة بالتعويض عما أصابه من ضرر عملا بأحكام الفصل 77 و78 من ق ل ع المتعلقة بالمسؤولية التقصيرية عن الفعل الشخصي(15).
2. مقاضاة المستفيد من التحفيظ في حالة التدليس.(16)
أ.شروط دعوى المطالبة بالتعويض.
لكي يتسنى للمتضرر من عملية التحفيظ المطالبة بالتعويض، وجب عليه أن يقيم البينة على أن هذا التحفيظ قد لحق به ضررا نتيجة تدليس ارتكب، كما يجي توافر علاقة السببية بين التدليس وذلك الضرر.
-يقصد بالضرر في هذا المجال، فقدان المدعي لحقه العيني الذي كان يملكه أصلا والذي يجري قيده على اسم غيره نتيجة لأعمال التحفيظ. فلكي يتسنى للمدعي المطالبة بالتعويض يكفي أن يثبت أنه هو صاحب الحق أساسا.
-أما عن التدليس، فهو في مجال دعوى التعويض له مفهوم خاص يختلف عنه في نطاق عيوب الرضا (17). فهو يؤخذ بالمفهوم الواسع، إذ لا يشترط لتحققه استعمال وسائل احتيالية، بل يشمل كل عمل يكون من نتيجته قيد عقار أو أي حق عيني أخر على اسم غير مالكه الحقيقي مع علم من أجرى التحفيظ لمصلحته بأن هذا الحق ليس ملكا له،بل يكتفي أن يكون المستفيد من التحفيظ سيء النية كأن يكون قد سبق له وباع نصف العقار بعقد عادي، تم عاد وحفظ العقار كله باسمه(18).
-على ضحية التحفيظ أن يثبت أن بين الضرر والتدليس رابطة سببية بمعنى أن يكون هذا التدليس هو السبب الذي أدى الى التحفيظ، وأنه لم يفقد هذا الحق الا بسبب قيده على اسم غيره نتيجة هذا التدليس.
وتجدر الإشارة، أن المشرع وعيا منه بالمشاكل التي يطرحها التعويض في القضايا العقارية، نص بمقتضى الفصل 100 من ظ ت ع، على إنشاء مؤسسة تقوم الى جانب المحافظ العام أو المحافظ الإقليمي، أو الشخص المدلس لتحل محله في الأداء في حالة اعساره. حيث نص على أنه: “يؤسس صندوق للتأمين الغاية منه أن يضمن، في حالة عسر المحافظ العام أو المحافظين على الأملاك العقارية، أداء المبالغ المالية التي قد يحكم بها عليهم لصالح الطرف المتضرر من جراء خطأ في التحفيظ أو في تقييد لاحق..”
كما نص الفصل 64 من نفس الظهير، “…”في حالة إعسار المدلس تؤدى التعويضات من صندوق التأمينات المحدث بمقتضى الفصل 100 من هذا القانون”.
يمول الصندوق باقتطاع نسبة 2 في المائة من مجموع الرسوم المتحصلة للوكالات العقارية بالمملكة. ويكون للصندوق الرجوع على مرتكب التدليس باسترداد ما دفعه إذا زالت عنه حالة العسر وذلك خلال مدة عشر سنوات.
لكن مسألة إدخال صندوق التأمين في دعوى التعويض تطرح عدة صعوبات نظرا لقلة وعي المتضررين من عملية التحفيظ بالمسطرة الواجب اتباعها من جهة، والى الخلط الواقع بشأن حالات اللجوء الى هذا الأخير من جهة ثانية (19).
لا يجوز مقاضاة الصندوق الا بعد تبوث اعسار المحافظ المسؤول، لأن الصندوق يعتبر ضامنا احتياطيا وليس متضامن، الشييء الذي ليس بالسهل حيث يتعين اتباع مسطرة تجريد المحافظ من أمواله وممتلكاته أولا وإثبات أن ليس لديه ما يحجز عليه وذلك بمقتضى محضر. (20)
وتبعا لذلك، يجب رفع دعوى ضد المحافظ بصفة أصلية ومستقلة وأخرى ضد الصندوق بصفة احتياطية أمام المحكمة الابتدائية التي يقع العقار في دائرتها داخل أجل سنة واحدة من تاريخ التحفيظ المتسبب في الضرر.كما على المستفيد من الحكم مطالبة صندوق التأمين بالأداء داخل أجل ستة أشهر من تاريخ صدور الحكم وصيرورته نهائيا.
ب-تقادم دعوى التعويض.
تخضع دعوى التعويض المتولد عن عملية التحفيظ الواقع بالتدليس للتقادم المسقط المنصوص عليه في الفصل 106 من ق ل ع والمتعلق بتقادم دعوى المسؤولية التقصيرية. وقد ورد بهذا المعنى قرار للمجلس الأعلى جاء فيه أن “دعوى التعويض بناء على الفصل 64 من القانون العقاري تفترض تدليسا وبالتالي تتقادم طبقا لمقتضيات الفصل 106 من ق ل ع” (21)
ويجدر التنبيه الى أن محكمة النقض الفرنسية قد ذهبت في قرار لها صادر بتاريخ14 نونبر 1951 الى القول أنه يمكن للشخص الذي حرم من حقه مطالبة المستفيد من التحفيظ بقيمة العقار عن طريق رفع “دعوى الاثراء بلاسبب“، فيقاضيه بوصفه مثري دون حق على حسابه ويطالبه بالتعويض ع له عن الضرر الذي أصابه. وذلك نظرا لكون دعوى الاثراء بلا سبب في القانون المغربي (الفصل 66 ق ل ع) هي دعوى أصلية وليست احتياطية كما هو الشأن عليه في القانون الفرنسي، ويجوز للمتضرر ممارستها سواء كان لديه دعوى أخرى يستطيع اللجوء اليها، أو أنها الوسيلة الوحيدة لديه (22).
وتبرز أهمية دعوى الاثراء بلا سبب في كونها تقوم بغض النظر عن وجود أي خطأ، فيكفي أن يحصل إثراء لشخص-وهذا يظهر جليا عندما يقع تحفيظ عقار باسم المستفيد منه دون وجه حق-ويقابله افتقار المالك الأصلي لهذا العقار(23).لكن ما يقلل من فعالية هذه الدعوى، أن المتضرر لن يستطيع الحصول على تعويض الضرر الذي أصابه من جراء عملية التحفيظ الا في حدود الاثراء الحاصل. بينما في اللجوء الى دعوى التعويض عن الضرر فائدة أكثر من هذه الأخيرة. ففي الدعوى الأولى يشمل التعويض الضرر المتولد عن التحفيظ بالكامل. فمثلا إذا تعلق الأمر ببيع وقع قبل التحفيظ ولم يطالب المشتري بهذا الحق في الوقت المناسب أثناء سريان مسطرة التحفيظ، فلا يمكن لهذا الأخير أن يطالب الا بأداء تمن البيع ولا يستطيع المطالبة بقيمة العقار وقت صدور الحكم (24).
ونتيجة لهذه الأسباب، اعتبر بعض الفقه أن دعوى الإثراء بلا سبب تعتبر خروجا “une entorse” عن المبدأ القائل بعدم جواز مخالفة النصوص العامة للقواعد المنصوص عليها بمقتضى نصوص خاصة، وأن الخاص يقيد العام. فالفصل 64 تحفيظ صريح ويؤكد بأنه لا يمكن إقامة أي دعوى في العقار بسبب حق وقع الاضرار به من جراء تحفيظ وأن هناك استثناء وحيدا وفريدا وهو اللجوء لدعوى شخصية في حالة التدليس. وهذا يظهر أن المشرع ربما أراد إبعاد كل دعاوى أخرى في هذا المجال كيفما كان نوعها(25).
وعلى كل حال، فالمتضرر بسبب التحفيظ قلما يلجأ عمليا الى دعوى الاثراء بلا سبب لان الدعاوى المنصوص عليها بمقتضى المادة 64 تحفيظ كفيلة بإيصال المتضرر الى حقه خاصة وأن دعوى الاثراء بلا سبب في هذا المجال تعتبر دعوى قصوى لا يلجأ اليها الا بعد استنفاذ الدعاوى المنصوص عليها بمقتضى المادة 64 تحفيظ، وتظهر عدم جدواها في حالة الحكم على المثري بالتعويض، فلن يستطيع المضرور –في حالة إعسار المثري-الرجوع على صندوق التأمين وبالتالي لن يحصل على أي تعويض(26).
و في الختام، لعل السبب الذي دفع المشرع لإعطاء رسم الملكية المنجز عقب عملية التحفيظ صفة نهائية وقوة ثبوتية مطلقة (27) هو الرغبة في تصفية الخلافات والمنازعات المتعلقة بالملكية العقارية وتأمين استقرار هذه الأخيرة وإعطائها الثقة التامة، لكن إفساح المجال إمام مدعي الحق للمطالبة بالتعويض المدني طبقا للفصل 64 تحفيظ يجب إعادة النظر فيه، فالتعويض لا يعادل “معنويا” العقار…وتبعا لذلك نقترح إدخال تعديلات على هذا الفصل…بالنص على” إرجاع العقار في حالة التدليس” …
الهوامش :
(1) انظر الفصل 6 من ظ ت ع
(2) د. محمد مهدي الجم، “التحفيظ العقاري بالمغرب”، دار الثقافة للنشر، الدار البيضاء 1983ص 29.
(3) n° 272 du 14 décembre 1976 émanant du conservateur général chef de la division de la conservation foncière.
(4) د. محمد خيري. “الملكية ونظام التحفيظ العقاري بالمغرب” دار الثقافة للنشر، الدار البيضاء 1990. ص 71.
(5) Charles Ambialet : « des effets et de la force probante de l’inscription sur le livre foncier » Edition DomaMonchretien. 1994, p. 43.
(6) د. عفيف شمس الدين، ” القوة التبوثية لقيود السجل العقاري”، مطبعة نمنم، بيروت 1980،ص
(7) د. الطيب بومعيز، “القوة الإثباتية للتسجيل على الرسم العقاري ودور النية في اكتساب الحقوق العينية العقاريةالمترتبة عليه”، مجلة صلة الوصل، العدد 4، دجنبر 1985، ص 15.
(8) د محمد خيري، المرجع السابق، ص 517.
(9) د. محمد مهدي الجم، المرجع السابق، ص 298.
(10)د. شنان محمد. “عبثية الإبقاء على الأثر المطلق لقرار التحفيظ بعد الاستقلال”. طبع ونشر مديرية المحافظة على الأملاك العقارية، غشت 1992، ص 97.
(11)انظر د. أحمد الباتولي، le role du conservateur dans l’immatriculation foncière »mémoire DES rabat 1989, p 129.
(12)د. محمد خيري، نفس المرجع، ص 517، انظر بهذا الخصوص قرار المجلس الأعلى بتاريخ 17 يونيو 1987، مجلة قضاء المجلس الأعلى العدد 41، السنة 13، نونبر 1987. في نفس المعنى انظر د. محمد بونبات، “قوانين التحفيظ والتسجيل والتجزئة العقارية” منشورات كلية القاضي عياض مراكش، سلسلة الكتب، العدد 12، 1996ص 39. د.مامون الكزبري، نفس المرجع، ص 103.
(13) د. محمد بونبات، المرجع السابق، ص 39.
(14) CAR. 4 novembre 1950, Recueil civil, 1952, p.407/ GTM.1951, p39 et 47
(15)انظرPaul Decroux, droit foncier marocain, editionlaporte, 1977, p 128 ;
(16) يجدر التنبيه أن هذه الدعوى مفتوحة في وجه كل شخص تضرر من جراء عملية التحفيظ، وتشمل حتى المتعرضين الذين ردت دعواهم من طرف المحكمة، لأنه لا يحتج في مواجهة المتعرضين بحكم حاز قوة الشيء المقضي به مادام الدعوتين مختلفين: أولى تعتبر دعوى المطالبة فهي دعوى عينية، أما الثانية فهي دعوى التعويض، شخصية.
(17) د. مامون الكزبري، قانون الالتزامات والعقود، ج 1، ص 99.
(18)د. عفيف شمس الدين ، نفس المرجع، ص 134، د. محمد بونبات، نفس المرجع، ص 40.
لكن بيدو أن المحاكم سابقا كانت تأخذ بالمفهوم الضيق للتدليس وتشترط لتوافره اسيتعمال وسائل احتيالية، لكنها فيما بعد وبقصد التلطيف من صرامة الفصل 64 من ظ ت ع أعتبرت أن لفظ التدليس يؤخذ بالمعنى الواسع، ويتحقق بمجرد وقوع فعل ضار تطبيقا لمقتضيات الفصل 77 من ق ل ع. انظر: قرار محكمة الستيناف بالرباط بتاريخ 25 يناير 1945، مجموعة قرارات محكمة الاستيناف بالرباط، تعريب العربي المجبود، 1930-32-44-50، ص 454.
(19) انظردة. سعاد عاشور. “مجال إدخال صندوق التأمين في دعوى التعويض” المجلة المغربية لإدارة المحلية والتنمية، remald، ما –يونيو 2007، العدد 74، ص 101.
(20) لأن إعسار المحافظ يجب أن يكون علانيا وظاهرا ولا يمكن ان يستشف فقط من مجرد ادعاءاته.
(21) قرار المجلس العلى، حكم مدني عدد 178 بتاريخ 27 مارس 1968، مجلة قضاء المجلس الأعلى ع ا، ص 28.
(22) انظر :C ;Cass 20 avril, 1939, GTM ; 1949, p/176, دكره بول دوكرو، نفي المرجع، ص 118.
(23) انظر د. مامون الكزبري، المرجع السابق، ص .336
(24) انظر: civil, 1ere 25 juin 1957, B1, n°301 p. 240 دكره د, المرنيسي: Essai sur la notion de publicité foncière » p. 152.
(25) Gassé, RJPUF. 1953, p.171.
(26) انظر في نفس المعنى : بول دوكرو، نفس المرجع، ص 122.
(27) وذلك خلافا للتقييدات االاحقة. التي لها قوة ثبوتية تتأرجح بين النسبية والمطلق. انظر دراسة مفصلة:
د. سعاد عاشور، “تداعيات المادة 2 من مدونة الحقوق العينية” المجلة المغربية لإدارة المحلية والتنمية، يناير –أبريل 2016، عدد 126-127. ص 77