القاضي وردي يرد على المحامي الجامعي بخصوص “إنتاج العدالة” في المغرب
- من إعداد : حكيم وردي عضو نادي قضاة المغرب.
مستمتعا بتفاهتي على شط بحر تطوان الهادئ تلقيت مقال السيد النقيب الأستاذ عبد الرحيم الجامعي حول أزمة إنتاج العدالة (أخبار اليوم العدد 2662 يومي السبت والأحد 4-5 غشت 2018 ص 6) ردا على مقالي حول أزمة تلقي العدالة، وبلهفة المشتاق التهمت مكتوب السيد النقيب، الذي سبق أن بشرني بالرد ولم يخلف الوعد. كعادته طيلة ما يربو على النصف قرن من التنسك في محراب المحاماة، ظل رجلا أصيلا من زمن الفروسية، منذورا للتوشح بالسواد في اللحظات القاسية، ومتوجا بالتفرد في معانقة القيم الكبرى للإنسانية. ولذلك أعتبرها لحظة تاريخية مشرقة في مساري المبتدئ أن أحظى بشرف النقاش العمومي الماتع مع قامة قانونية وأخلاقية من حجم السيد النقيب عبد الرحيم الجامعي.
ولسبب ما، وبمجرد ارتواء عطشي من محتوى مقال السيد النقيب، وحتى قبل أن أحدد محاور هذا التعقيب، واستحضارا للمرجعية، أعدت قراءة ما كتبه صاحب “نقد العقل العربي” المفكر محمد عابد الجابري في مقال حول “أخلاق الحوار عند ابن رشد” (منشور بـــ http://www.aljabriabed.net).
ذلك أنه عندما أخذ الغزالي في مناقشة آراء الفلاسفة (ابن سينا) في كتابه “تهافت الفلاسفة” صرح بأن غرضه ليس تقديم البديل، فقال: “وإنما غرضنا أن نشوش دعاويهم وقد فعلنا”. ويرد عليه ابن رشد في كتابه “تهافت التهافت” قائلا: “إن هذا لا يليق بالعلماء، لأن العالم بما هو عالم إنما قصده طلب الحق، لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول”.
ومع وجوب إعلان التواضع عن قصور في العلم وقصر في النظر أمام موسوعية وتشعب قضايا الجدال بين ابن رشد والغزالي، فإن ذلك لن يمنعنا من نشدان فضيلة التحلي بالأخلاق الرشدية في الحوار، لا سيما أن رد السيد النقيب – رغم ما فيه من قراءة موجهة وتأويل متعسف– حافل بقضايا إشكالية جديرة بالمناقشة، ليس لحسم الجدل السرمدي حولها، ولكن للمساهمة في توفير عناصر فهم موضوعي، واقعي، لبعض من جوانبها على النحو الذي قد يبدد أوهاما حقيقية وعوائق معرفية أنتجت آراء مؤدلجة، منحازة، عاطفية، حافلة بالشعارات الحماسية العاجزة عن الفعل في الواقع لانفصالها التاريخي عنه، انفصالا أرداها أسيرة الاسترجاع النمطي للعديد من الكليشيهات الجامدة في قراءة واقع دائم الحركة.
اختار السيد النقيب أن يستنطق مقالي ليقوّلني ما لم أقله، وليحشرني ضمن “المولعين بمساطر البحث البوليسي عشاق الاعتقال” من أعضاء النيابة العامة التي لا يحاسبها أحد على 40 ألف معتقل زجت بهم في السجون، معتبرا أن الأزمة ليست في المستهلكين، ولكن في القضاة منتجي أحكام طافحة بظلم وقفت عليه هيئة الانصاف والمصالحة.
ومن الاستنتاج إلى الاستبطان يخلص السيد النقيب إلى قراءة النوايا والمشاعر، مؤكدا أن إحساسي بالمسؤولية عن تداعيات الحكم الصادر في ملف أحداث الحسيمة من موقعي كممثل للنيابة العامة داخل الجلسة هو ما دفعني إلى الكتابة بصفتي الجمعوية بدلا من صفتي القضائية عن مسألة هامشية هي أزمة التلقي بدل أزمة إنتاجها، متأسفا عن عجزي البين في خوض مناقشة مفتوحة مع المرتفقين حول الحكم الصادر في القضية أسوة بقضاة دول العالم.
وبعيدا عن أي رد انفعالي، يدعوني رد السيد النقيب الجامعي إلى التأمل في مدى تماسك الأحكام المبسطة التي أصدرها على الأقل حول ثلاث قضايا معقدة نوجزها في العناوين التالية :
- أولا: شروط إنتاج العدالة في المغرب.. العوائق الموضوعية والتضحيات المؤلمة.
- ثانيا: حدود مسؤولية النيابة العامة عن الاعتقال الاحتياطي.. التباسات المفهوم والأرقام.
- ثالثا: حق القضاة في التعبير.. قيود القانون وثقل الأعراف.
ومع التسليم بداية بأنني لا أزعم الحديث باسم النيابة العامة، ولا أملك تفويضا للكلام بلسان السادة القضاة، فإنني أيضا لا أتوفر على جرأة كافية للكتابة بوثوقية في قضايا خلافية لا يستقيم التعاطي معها إلا في سياق منطق مقبول ومعقول من النسبية. ويبقى منتهى الطموح من وراء المساهمة في النقاش العمومي هو رفع سوء الفهم، الذي يضعف في كثير من الأحيان ثقة المواطن في السلطة القضائية.
أولا : شروط إنتاج العدالة في المغرب.. العوائق الموضوعية والتضحيات المؤلمة
لا يمكن الحكم على جودة المنتوج القضائي في غياب تقييم موضوعي وشامل لشروط ووسائل الإنتاج المادية والبشرية لمختلف الفاعلين في المنظومة. فللأسف، لا ينسجم التصور المثالي للعدالة كفكرة فلسفية في المغرب مع الواقع المزري لظروف تصريفها، فإلى عهد قريب كانت المحاكم عبارة عن بنايات متداعية، بقاعات ضيقة، ومكاتب مهترئة، ولا شك أن السيد النقيب، بحكم تجربته الطويلة، يعرف أن جلسات كانت تعقد في كراجات مفتوحة على الشارع الضاج بصراخ الباعة المتجولين، وأن قضاة كثرا لا يتوفرون على مكاتب تؤويهم، ولا على أعوان يساعدونهم على حمل الملفات الثقيلة، التي يضطرون إلى شحنها في حقائب مجرورة لتحرير أحكامها في منازلهم، وأن موظفين يتكدسون وسط أكوام من الأوراق المشبعة بالرطوبة في أقبية مظلمة بأضواء خافتة، وبنقص خطير في التهوية.
ورغم الجهود المبذولة في الآونة الأخيرة، ظلت الميزانيات المرصودة غير قادرة على استيعاب حجم الخصاص المهول على كافة المستويات، إذ لا تتعدى ميزانية وزارة العدل 2 في المائة من الميزانية العامة للدولة (للوقوف على هذه الإحصائيات يرجى الرجوع إلى موقع وزارة العدل http://www.justice.gov.ma/lg-1/statistiques/graphes). أما مشاكل التبليغ، وطبع الأحكام، وعدم المساواة في الاستفادة من الملفات بالنسبة إلى الزملاء في مهنة المحاماة (وغيرها من المشاكل التي وقف عليها السيد النقيب الجامعي، بمناسبة عضويته في اللجنة العليا لإدارة الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة) فتلك معضلات لا يبدو أن هناك أفقا لحلها.
وبمعايير دولية (تقرير لجنة أوربا للعدل سنة 2018 منشور على الموقع الالكتروني: ec.europa.eu) لا يتوفر المغاربة على المعدل المطلوب من القضاة. (على الأقل 20 قاضيا لكل 100 ألف نسمة. في المغرب قاضٍ واحد لكل 9000 نسمة). ولا يتوفر هؤلاء على الشروط المادية المناسبة لعمل يليق بمركزهم الدستوري كسلطة قضائية لا تكتمل استقلاليتها إلا بتوفرها على الموارد المالية الكافية.
وإذن، فالسيد النقيب عبد الرحيم الجامعي يجافي الصواب حين يحصر أزمة إنتاج العدالة في القضاء كمؤسسة، والقضاة كأفراد، ويلتبس حكمه بشبهة التجني حين يجتهد في استنطاق الذاكرة لاستحضار أحكام ضمخها بالظلم والدموع ليحسم بكل وثوقية غير علمية على تراثنا القضائي (الذي ساهم من موقعه كمحام مبرز في إنتاج جزء منه) خلال الفترة الفاصلة بين 1956 و1999 وفيه الملايين من الأحكام الفاصلة في أقضية متنوعة (مدنية، شرعية، تجارية، اجتماعية، إدارية، جنائية…)، بأنها ملطخة بخطيئة الانبطاح للسلطة النافذة. ولست أدري ما دخل السلطة في نزاعات الأكرية، والحالة المدنية، وقضايا الزواج والطلاق، والنسب والإرث، ومنازعات التجار وأعمالهم التجارية، ونزاعات العمال وحوادثهم…، فإذا كان سند السيد النقيب في الحكم على القضاء المغربي ملفات جنائية محدودة ومعدودة طيلة أكثر من نصف قرن، فإن الحكم فاسد بالمنطق العقلي/ الرياضي، وباطل بالمعيار الأخلاقي، لأن فيه الكثير من سوء الظن، بله الظلم والتشنيع.
أما إذا كان المرجع ما انتهت إليه هيئة الإنصاف والمصالحة، فإن تقريرها الختامي، لا سيما الكتاب الثاني منه، لم يخلص إلى ما ذهب إليه السيد النقيب من مسؤولية كبيرة للقضاء في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، علما أنه، للأسف، لم تتح الفرصة للقضاة المجبولين على الصمت، والمطوقين بواجب التحفظ للإدلاء برأيهم فيما انتهت إليه العدالة الانتقالية من خلاصات حول دور القضاء في بعض الملفات التي اعتبرها من كان في نزاع مع القانون الجنائي أو من كان يؤازرهم بأنها ذات صبغة سياسية، فضلا عن أن كل ما جرى ويجري ترديده قيل بالأمس أمام المحكمة في شكل دفوع وطلبات صدرت في شأنها أحكام وقرارات، مهما اتفقنا أو اختلفنا حول تعليلاتها، فإنها تبقى عنوانا للحقيقة كما استخلصتها وأبرزتها المحكمة وقتذاك في تنصيصات قراراتها. وليس من الإنصاف في شيء أن نعمم انطباعاتنا وإسقاطاتنا الذاتية على اتجاهاتها لتشمل مجموع أحكام المحاكم أنى كان الزمان وأنى كان المكان، خصوصا أن في تعقيب السيد النقيب الجامعي انتصار لواجب احترام القضاء وأحكامه، والذي لا يحتاج، في نظره، إلى تنبيه ولا إلى بيان.
ومع ذلك يبقى الثابت في خطاب السيد النقيب هو إهدار البعد التاريخي وقراءة الحاضر بتراكماته ومنجزاته على مستوى توسيع دائرة الحقوق والحريات متنا وممارسة بنفس النظارة القاتمة والعبارة الناقمة.
والدليل على ذلك أن دعوة السيد النقيب إلى تفاعل القضاء مع المرتفقين وتقبل انتقاداتهم وملاحظاتهم، بعلة أن القضاء ليس للنخبة، تتجاهل معطى واقعيا بكون القضاة في المحاكم يستقبلون يوميا مئات الآلاف من المواطنين، بهمومهم ومشاكلهم وأقضيتهم وشكاواهم واحتجاجاتهم وصراخهم أحيانا، وبعجزهم في كثير من الحالات عن فهم المساطر القانونية، فيستمعون إلى زفراتهم، ويقرؤون ملفاتهم، ويبثون في نزاعاتهم في جلسات قد تمتد إلى ساعات متأخرة من الليل، ويواصلون العمل في منازلهم لتحرير ملايين الأحكام سنويا (4026 قاضيا واجهوا فقط خلال 2017 حوالي ثلاث ملايين قضية فصلوا في 70 في المائة منها (خطاب السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض بمناسبة افتتاح السنة القضائية في 25/01/2018، كما أن المعدل الوطني لإنتاج كل قاض سنويا هو 1200 قضية، في حين وصل عدد الإجراءات المنجزة بالنسبة إلى كل قاض من قضاة النيابة العامة سنويا إلى 3670 إجراء، رغم أن عددهم لا يتعدى 970 قاضيا/ تقرير رئاسة النيابة العامة لسنة 2017). ولم يكن لهذا الإنتاج الاستثنائي أن يمر دون أن يخلف جروحا أليمة في الجسد والروح، فكثير من القضاة اليوم صرعى أمراض الضغط والسكري والسرطان، ولاشك أن السيد النقيب الجامعي يستحضر معي بألم صرخة قاضي التحقيق باستئنافية الرباط الأستاذ الكوهن، الذي فارق الحياة بعدما عجز ماديا عن توفير الدواء.
القضاة هم بشر لا يتألمون فقط للمآسي التي تعرض عليهم بكرة وعشيا، ولكنهم يتحسرون في كثير من الملفات عن أخطاء قانونية فادحة يرتكبها أطراف الدعوى في المقالات والمذكرات، فتنقلب وبالا على مراكزهم القانونية، ولا يمكن للقاضي، مهما بلغت إنسانيته من رقي، أن يخرق القانون (المادة 3 من قانون المسطرة المدنية) ليحكم بأكثر مما طلب منه.
ولا يخلو حكم السيد النقيب من تعسف عندما أقحم مقالي عنوة ضمن ما اعتبره مرجعية غير مقبولة سياسيا وثقافيا ومجتمعيا لكونها تسعى إلى قمع نقد القضاء بالقانون الجنائي، علما أن مقالي المنشور شاهد على نفي ذلك، بل حتى واقع الممارسة يثبت أن النيابة العامة لم يسبق لها أن تابعت، حسب علمي، شخصا انتقد حكما قضائيا، بل حتى موقف محكمة النقض أكثر تشددا في الرقابة على أحكام الإدانة من أجل تحقير مقرر قضائي، بصرف النظر عن كون السيد النقيب، وهو يحيل على التجربة الفرنسية المقارنة، فاتته الإشارة إلى ما ينبغي أن يرقى إليه النص المغربي (الفصل 263 من القانون الجنائي ) من تعديل حتى تستثنى صراحة من العقاب الانتقادات ذات الصبغة التقنية أو تلك التي ترد في المذكرات والأقوال الرامية إلى نقض أو تعديل قرار قضائي (الفقرة الثانية من المادة 435-25 من القانون الجنائي الفرنسي).
وتبقى الرقابة المفروضة على القضاة الأكثر تشددا بالمقارنة مع باقي المهن، فعمل القاضي هو الوحيد الذي يخضع للنقد والملاحظة والطعن والنقض، ولكن في إطار منظم بإجراءات مسطرية صارمة، فللأطراف دائما إمكانية إبداء أوجه دفاعهم داخل الجلسة ويشهد عليهم في ذلك كاتب الضبط، كما أن كل قضية ينبغي أن يصدر فيها حكم مكتوب ومعلل، وأن مجرد النقصان في التعليل ينزل منزلة انعدامه، وأن هذا الحكم يخضع لطرق الطعن من استئناف وتعرض ونقض وإعادة النظر ومراجعة، وأن أقوى العبارات المستعملة في انتقاد الأحكام تتضمنها قرارات النقض التي تتحدث عن فساد التعليل وخرق القانون، والخرق الجوهري للإجراءات وشطط القضاة في استعمال سلطاتهم… أفبعد هذا يسوغ الحديث عن تكميم أفواه المنتقدين؟؟
وعلى الإجمال، لا خلاف مع السيد النقيب في أن أزمة التلقي هي جزء من أزمة الإنتاج، ولكن كان على السيد النقيب أن يستدعي تجربته الممتدة لأكثر من أربعة عقود في المحاكم، وعضويته في اللجنة العليا لإصلاح منظومة العدالة ليشرح بكل موضوعية الظروف الصعبة المحيطة باشتغال القضاة وكتاب الضبط والمحامين، فللعدالة تكلفة مادية لا يبدو أن أحدا مستعد لتأديتها ولا الدفاع عن توفيرها، مثلما حصل في فرنسا عندما اختار المحامون والقضاة وكتاب الضبط توحيد صفوفهم يوم الجمعة 30 مارس 2017 للاحتجاج في مختلف محاكم فرنسا على مشروع قانون أعدته حارسة الأختامNICOLE BELLOUBET رأى فيه ممثلو العدالة قتلا لحق المواطن الفرنسي في الولوج إلى القضاء، الذي لا يمكنه أن يوزع العدل وهو مكبل بقيود الظلم المادي والمعنوي.( فرنسا مثلا مصنفة في الرتبة 37 من حيث الميزانية المرصودة لوزارة العدل من أصل 47 دولة داخل الاتحاد الأوروبي blogs.mediapart.fr)
ثانيا : حدود مسؤولية النيابة العامة عن الاعتقال الاحتياطي.. التباسات المفهوم والأرقام
يلزمني حسن الظن بالسيد النقيب الجامعي ألا أعتبر وصفه لي بـ”عاشق الاعتقال المحب لأحكام السجن” سوى زلة قلم غير مقصودة، وعبارات إنشائية قد تظهر لمن لا يعرف شخصه البشوش مزحة غير محمودة. فلست محتاجا إلى المزايدة في القول بأن حريات المغاربة مسيجة بضمانات دستورية، حيث لا يتصور الحد منها إلا وفق إجراءات قانونية صارمة، وأن الاعتقال ليس مسألة شخصية تخضع للسلطة التقديرية حتى تستبد بها نوازع الشر، التي من تمظهراتها عشق الاعتقال والالتذاذ المازوشي بعذابات المواطنين، وهي سمات لا تهدم مبدأ الحياد المفروض على كل قاض، ولكنها مركبات حقد مرضي لا تليق بإنسان متزن، فبالأحرى بشخص يفترض أن يوزع العدل بين الناس.
وينبغي الاعتراف بأن الحديث عن الاعتقال الاحتياطي يشوبه الكثير من الغموض، ليس لدى المواطن البسيط الذي ينادي بمزيد من الصرامة في توفير الأمن وزجر الإجرام، ولكن لدى أولئك الذين يلومون النيابة العامة عن إسرافها في الاعتقال، والحال أن أغلبهم لا يعرف الميكانيزمات القانونية والعملية التي يتم الاعتماد عليها في إيداع المشتبه بهم في السجون.
فالنسبة الغالبة من المعتقلين، اليوم، لا يمكن للسيد النقيب لو كتب له أن يشتغل يوما واحدا في دراسة مساطر التقديم أن يجد لهم بديلا آخر غير الاعتقال، فقضايا القتل العمد والضرب والجرح المفضي إلى الموت دون نية إحداثه، والضرب والجرح المفضي إلى عاهة مستديمة، والاغتصاب، وهتك عرض القاصرين، والاختطاف والاحتجاز، وإضرام النار، وتكوين عصابة إجرامية، والتزوير في المحررات الرسمية، والقتل الخطأ، والاتجار بالمخدرات، والسرقة، والضرب والجرح بالسلاح، والنصب وعدم توفير مؤونة شيكات، وغيرها من الجنايات والجنح الماسة بالأشخاص أو الأموال التي توافر فيها الإثبات الكافي، والخطورة الظاهرة، لا يمكن لعاقل أن يجد بديلا عن اعتقال المتورطين فيها مادام الحل القانوني الوحيد المتوفر اليوم أمام النيابة العامة لمواجهة خطورة الظاهرة الإجرامية هو الحد من الحرية.
ولعله من المفارقات التي قد لا يستوعبها المواطن اليوم هو كيف أن شخصا معروفا بسوابقه الإجرامية قد يسرف في السكر، ويروع ساكنة الحي بعبارات فاحشة، وقد يلحق خسائر جسيمة بممتلكاتهم، فيلقى عليه القبض ويودع في الحراسة النظرية، ويعتقد جيرانه أن السجن أراحهم من أذاه ليظهر بعد مرور يومين متجولا بينهم، متحديا أمنهم، ولا أحد يتطوع لإخبارهم أن النص القانوني لا يسعف النيابة العامة في متابعته في حالة اعتقال.
لم يكن السيد النقيب الجامعي موفقا ولا دقيقا وهو يتحدث عن أربعين ألف معتقل احتياطي أودعتهم النيابة العامة في السجون، ولست أدري من أين جاء بهذا الرقم، والحال أن الإحصائيات الرسمية، كما هي موثقة عقب استقلال النيابة العامة، في تقريرها الأول برسم سنة 2017، تؤكد أن قضاة النيابة العامة درسوا أكثر من 1.346.753 محضرا، وقُدم أمامهم 615.306 أشخاص، 15 بالمائة منهم توبعوا فقط في حالة اعتقال.
إن المسكوت عنه بالنسبة إلى الاعتقال الاحتياطي هو أن منتقدي الظاهرة يسوقون لغير المتخصصين مفهوما ملتبسا عن المقصود بالمعتقل الاحتياطي بأنه المسجون الذي لم يصدر في حقه حكم قضائي، والحال أن المادة 618 من قانون المسطرة الجنائية تعرف المعتقل الاحتياطي بأنه كل معتقل لم يصدر في حقه حكم حائز لقوة الشيء المقضي به، بمعنى أنه حتى لو صدر حكم سالب للحرية ابتدائيا وأُيد استئنافيا وطعن فيه بالنقض، فإن الشخص المعتقل على ذمة القضية يعتبر في معنى المادة 618 ق م ج معتقلا احتياطيا. فبأي منطق تحاسب النيابة العامة على ذلك؟؟. ولو أردنا أن نحتكم إلى معيار تأخذ به بعض الدول، يحصر المعتقل الاحتياطي في الشخص الذي لم يصدر عليه حكم قضائي لما يتجاوز عدد المعتقلين الاحتياطيين 12.390 معتقلا، أي بنسبة 14.91 بالمائة (إلى غاية دجنبر 2017) بدلا من 33.791 معتقلا.
إن مناقشة الاعتقال الاحتياطي لا يمكن أن تتحول في كل مناسبة إلى مطية للمزايدات الشعبوية، والاتهامات المجانية للنيابة العامة أو لغيرها، فهي أكبر من تنابز بالأرقام لارتباطها بأسئلة مركبة حول الإنسان والجريمة والمجتمع والاقتصاد والسياسة والقانون، واختبارها الدائم لحدود وفعالية الأجوبة، التي تقدمها المؤسسات الرسمية والأسرة وجمعيات المجتمع المدني للظاهرة الإجرامية.
ثالثا : حق القضاة في التعبير.. قيود القانون وثقل الأعراف
فاجأني السيد النقيب الجامعي حين جازف بغير دليل ليسجل في ملاحظاته الخامسة والأخيرة ما اعتبره منطلقا لحديثي عن أزمة تلقي العدالة، متمثلا في مشاركتي ضمن الهيئة القضائية، التي أصدرت حكمها في ملف أحداث الحسيمة، مضيفا، بلغة الواثق من حقيقة مشاعري، أن إحساسي بالمسؤولية عن الأدوار التي قمت بها داخل المحاكمة وتداعياتها هي من حرك قلمي، معتبرا أنه كان من المفيد أن أبدي رأيا في الملف بعد الحكم، كما هو حال قضاة الدول الأخرى، الذين يثيرون نقاشا منظما ومؤطرا مع متلقي العدالة، وهذا أمر سيتم عندنا بالمغرب – حسب السيد النقيب – في المقبل من القرون، وأنه لما اكتفيت بطرح جانب غير ذي صلة بجوهر المحاكمة اقترفت عيبا غير مقبول.
والذي يدعو إلى الاستغراب في حكم السيد النقيب ليس فقط المداخل الموضوعية التي اعتمدها في التأكد من طبيعة مشاعري، ولا كيف استطاع اسقاط رؤيته الخاصة على مقال نأى عن الخوض في ملف أحداث الحسيمة، ولكن عن الطرح الجديد الذي دافع عنه ولم أجد له سندا في القانون الوطني أو الدولي حول واجب دخول القضاة مع المواطنين في نقاش عمومي حول الأحكام الصادرة عنهم.
وإذا كان دستور 2011 قد سمح للقضاة لأول مرة بحرية التعبير، إلا أن لهذه الحرية حدود مرسومة بالقانون ومحدودة بالأعراف، فيجب دائما على القاضي قبول القيود المفروضة على أنشطته. وإذا كنا قد ناضلنا داخل نادي قضاة المغرب – الذي تأسس تحت الشمس ضد المنع بمساندة مشهودة من السيد النقيب عبد الرحيم الجامعي – على مفهوم متقدم لحرية التعبير، وأدى العديد من قضاة النادي ضريبة باهظة تحت سياط التأديب باسم خرق واجب التحفظ، إلا أننا لا يمكن أن نسوغ باسم حرية التعبير خرق القانون. فالمادة 49 من القانون التنظيمي رقم 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة تمنع على القاضي إبداء رأيه في قضية معروضة على القضاء، كما لا يجوز الإشارة إلى الصفة القضائية في مقال أو مصنف إلا بإذن من الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية (المادة 47).
حقيقة، أنه يتملكني الأسف للمغالطات الكثيرة، التي تم ترويجها حول ملف أحداث الحسيمة، وأنه لو كان بودي لأجبت بالدليل عن العديد من الدفوعات والتساؤلات والانفعالات العاطفية، مثلما فعلت طيلة أكثر من ثمانين جلسة داخل قاعة المحكمة، ولكن القيود القانونية والأعراف الراسخة تلجمني عن الخوض مع الخائضين في قضية لا زالت منشورة على منصة القضاء (ملف أحداث الحسيمة صدر فيه فقط قرار جنائي ابتدائي مطعون فيه بالاستئناف).
وإذن، فعندما يعتبر السيد النقيب الجامعي استنكافي عن النقاش العمومي في ملف أحداث الحسيمة عيبا غير مقبول، يكون حكمه مشوبا بخرق فاضح، ليس فقط للقانون الوطني، ولكن وأساسا لمبادئ بانغالور، التي تعد مدونة كونية تحكم السلوك القضائي، والتي صاغها وعلق عليها رؤساء المحاكم العليا وكبار القضاة في جنيف بدعوة من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة ابتداء من أبريل سنة 2000 في إطار البرنامج العالمي لمكافحة الفساد، والتي تمنع على القاضي أن يدافع عن حيثيات حكمه في قضية معينة بشكل علني في وسائل الإعلام، كما تمنعه من إبداء أي تعليق علني من المرجح أن يؤثر في نتيجة دعوى جارية أمامه أو من شأنها أن تؤثر على تحقيق محاكمة عادلة لأي شخص أو في أي موضوع. فمن أراد من الناس معرفة رأي القاضي في القضية، فما عليه إلا أن يراجع الحكم الصادر علنيا في موضوعها، حيث يحظر عليه بعد ذلك الكلام.
وفي الأخير لا أملك غير التوجه بالشكر العميق إلى السيد النقيب الأستاذ عبد الرحيم الجامعي، الذي أجبرني برده على التعقيب، مع الاعتذار المسبق عن ضيق المقام على استيعاب ما حفل به مقاله من أفكار غنية غنى تجربة صاحبها، والتي يحتاج تفكيكها إلى وقت لا أملكه الآن بعد انتهاء العطلة السنوية، وحتما ستكون لي معها وقفة أخرى إن أنسأ الله في العمر خلال القادم من الأيام، ليس من باب إعطاء الدروس لأي كان، فزمن الأستاذية ولى مع الأساتذة الكبار، ولكن من منطلق الإحساس بقيم المواطنة، التي نتقاسمها جميعا كمغاربة في حاجة إلى معرفة الحقيقة في قضايا العدل والعدالة التي تعرضت لتشويه ممنهج في وعيهم الجمعي.