عبد الرزاق عريش : قراءة في قرار المحكمة الدستورية رقم 70/18 م.د
- من إعداد عبد الرزاق عريش باحث أكاديمي في القانون.
- عنوان المقال :قراءة في قرار المحكمة الدستورية رقم 70/18 م.د في شأن القانون التنظيمي رقم 86.15 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون.
تقديم :
بعد تمام المصادقة على مشروع القانون التنظيمي رقم 86.15 يتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون من لدن مجلس النواب بالأغلبية بالجلسة العامة في إطار قراءة ثانية في 06 فبراير 2018،تمت إحالته إلى المحكمة الدستورية لمراقبة مطابقته للدستور طبقا للفقرة الثانية من الفصل 132 من الدستور والمادة 21 من القانون التنظيمي رقم 066.13 المتعلق بالمحكمة الدستورية التي تنص على أنه “يحيل رئيس الحكومة على الفور القوانين التنظيمية التي أقرها البرلمان، بصفة نهائية، إلى المحكمة الدستورية، قبل إصدار الأمر بتنفيذها. قصد البت في مطابقتها للدستور”.
ويعد القانون التنظيمي رقم 86.15 المذكور أول قانون تنظيمي تتم المصادقة عليه في إطار الولاية التشريعية (2016-2021) وأحد القوانين التنظيمية التي لم تعرف طريقها إلى التنزيل تطبيقا لمقتضيات دستور 29 يوليو 2011 وعددها أربعة ؛ إذ فضلا عن القانون التنظيمي رقم 86.15 موضوع قرار المحكمة الدستورية رقـم 70/18 م.د، لا زالت هناك ثلاث قوانين تنظيمية أخرى قيد الدرس باللجان المختصة بمجلس النواب، ويتعلق الأمر ب:
1-مشروع قانون تنظيمي رقم 04.16 يتعلق بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية المحال على مجلس النواب في 30 سبتمبر 2016؛
2- مشروع قانون تنظيمي رقم 26.16 يتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية المحال على مجلس النواب في 30 سبتمبر 2016؛
3- مشروع قانون تنظيمي رقم 97.15 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب المحال على مجلس النواب في6 أكتوبر2016.
كما يعد القانون التنظيمي رقم 86.15 أول قانون تنظيمي يعرض على المحكمة الدستورية في شكلها الدستوري الجديد طبقا للقانون التنظيمي المتعلق بها رقم 066.13، وبذلك فهو يعتبر أول اختبار لهذه المحكمة في مجال ممارسة اختصاصها المتصل بالمراقبة القبيلة لدستورية القوانين، لا تخفى أهميته حيث سيشكل اللبنة الأولى في بناء وتأسيس اجتهاد القضاء الدستوري لهذه المحكمة في حلتها الجديدة.
للإشارة يتكون القانون التنظيمي رقم 86.15 من 27 مادة موزع على خمسة أبواب على النحو الآتي:
- الباب الأول: أحكام عامة (المواد من 1 إلى 3)؛
- الباب الثاني : شروط وإجراءات إثارة الدفع بعدم دستورية قانون أمام محاكم أول درجة ومحاكم ثاني درجة (المواد من 4 إلى 9)؛
- الباب الثالث: اختصاص محكمة النقض بالنظر في الدفع بعدم دستورية قانون( المواد من 10 إلى 13)؛
- الباب الرابع: شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون أمام المحكمة الدستورية والبت فيه(المواد من 14 إلى 24)؛
- الباب الخامس: مقتضيات ختامية(المواد من 25 إلى 27).
فإلى أي حد توفقت المحكمة الدستورية في سبر أغوار هذا القانون التنظيمي وفك مخرجاته وإلى أي مدى استطاعت إخضاعه لمجهر الفحص والتمحيص من أجل مراقبة مطابقة بنوده لروح الدستور وأحكامه؟
هذه الأسئلة وغيرها سأحاول الإجابة عليها من خلال قراءة نقدية لقرار المحكمة الدستورية رقـم 70/18 م.د في شأن القانون التنظيمي رقم 86.15 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون، المحال عليها بمقتضى رسالة السيد رئيس الحكومة، المسجلة بأمانتها العامة في 14 فبراير 2018، وذلك من أجل البت في مطابقته للدستور.
سأعتمد في هذه القراءة التحليلية مقتضيات القانون التنظيمي رقم 86.15 المذكور وقرار المحكمة الدستورية رقـم 70/18 وأحكام الدستور والقانون التنظيمي رقم 066.13 المتعلق بالمحكمة الدستورية والقانون المقارن وآراء الفقه، غايتنا من وراء ذلك إغناء النقاش وتطوير الاجتهاد وتنويع أدوات التحليل، مستلهمين في ذلك قول الرسول (صلعم) لعمرو بن العاص: إن أصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر.
وأقترح مقاربة هذه القراءة التحليلية والنقدية وفق المنهجية التالية:
أولا-المقتضيات التي قضت المحكمة الدستورية بكونها لا تكتسي طابع قانون تنظيمي لأنها مجرد تكرار لأحكام الدستور(المادتان الأولى و23).
ثانيا-المقتضيات التي قضت المحكمة الدستورية بعدم دستوريتها.
أ – خرق المشرع للدستور عند استبعاد النيابة العامة من مدلول الأطراف التي يحق لها إثارة الدفع بعدم الدستورية(المادة 2 (البند “ب”).
ب- خرق المشرع لاختصاص المحكمة الدستورية عند تخويل محاكم الموضوع ومحكمة النقض اختصاص النظر في الدفع من خلال مراقبة بعض الشروط ومراقبة الجدية(المواد5 (فيما نصت عليه من شرطي المقتضى التشريعي والحقوق والحريات و6 و7 الفقرة 2 و10 و11 و12
1- التأكيد على الاختصاص المطلق للمحكمة الدستورية للنظر في الدفع بعدم دستورية القوانين شكلا وموضوعا ورفض نظام التصفية المخول لمحاكم الموضوع ومحكمة النقض.
- الاعتراض على مراقبة بعض شروط مقبولية الدفع المخولة لمحاكم الموضوع والتصريح بعدم دستوريتها(المادة 5 (فيما نصت عليه من شرطي المقتضى التشريعي والحقوق والحريات و6 و7 الفقرة 2)..
- الاعتراض على مراقبة جدية الدفع المخول لمحكمة النقض كمرحلة ثانية في نظام التصفية والتصريح بعدم دستورية هذا المقتضى( المادتان 11 و12).
2 -خرق المشرع لمجال القانون التنظيمي المحدد في الدستور عند تنظيم موضوع الاختصاص الذي لا يندرج ضمن مشمولات القانون التنظيمي( شأن المواد السادسة والعاشرة و11)
ج-عدم دستورية إغفال إدراج مقتضى يضمن لمثير الدفع حق الاستفادة من الأثر المترتب عن قرار المحكمة الدستورية القاضي بعدم الدستورية في حال مواصلة المحكمة نظرها في الدعوى الأصلية( المادتان 8 و13).
د-عدم دستورية الإحالة إلى النظام الداخلي للمحكمة الدستورية من أجل تنظيم بعد شروط و إجراءات الدفع بعدم الدستورية(المادتان 14 و21).
ثالثا-مراعاة المحكمة الدستورية لمتطلبات النجاعة القضائية وحسن سير العدالة.
عدم الاعتراض على تخويل محاكم الموضوع مراقبة بعض الجوانب الشكلية للدفوع (المواد 5 و6 و10 فقرة2).
رابعا– مقتضيات كانت تستلزم تدخل المحكمة الدستورية من أجل تأويلها لغاية مطابقتها للدستور.
أ -عدم مناقشة مدلول المحاكم التي يمكن إثارة الدفع بعدم الدستورية أمامها (المادة3).
ب -عدم تعميق مناقشة الحالات الاستثنائية التي ترد على مبدأ إيقاف البت في الدعوى الأصلية كأهم أثر يترتب عن إثارة الدفع بعدم الدستورية أمام المحاكم (المادتان 8 و13).
1-الآثار المترتبة عن إثارة الدفع بعدم الدستورية أمام المحاكم في النظام القانوني الفرنسي.
2- الآثار المترتبة عن إثارة الدفع بعدم الدستورية وفق القانون التنظيمي رقم 15- 86
أولا : المقتضيات التي قضت المحكمة الدستورية بكونها لا تكتسي طابع قانون تنظيمي
تهم هذه المقتضيات المادتان الأولى و23 من القانون التنظيمي رقم 15- 86 حيث جاء في حيثيات قرار المحكمة الدستورية في شأنهما: “حيث إن المادتين المذكورتين تنصان، بالتتابع، على أنه “تطبيقا لأحكام الفقرة الثانية من الفصل 133 من الدستور، يحدد هذا القانون التنظيمي شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون ساري المفعول، يراد تطبيقه بشأن دعوى معروضة على المحكمة، يدفع أحد أطرافها أنه يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور”، وأنه “يترتب عن القرار الصادر عن المحكمة الدستورية بعدم دستورية مقتضى تشريعي، نسخه ابتداء من تاريخ تحدده المحكمة الدستورية في قرارها، طبقا لأحكام الفصل 134 من الدستور”؛
وحيث إن المواضيع التي جعلها الدستور من مشمولات القانون التنظيمي المتعلق بتطبيق الفصل 133 من الدستور، هي تلك التي تهم شروط وإجراءات الدفع بعدم الدستورية؛
وحيث إن مضمون المادتين، ليس سوى تذكير بما ورد في الفصلين 133 و 134 (الفقرة الأولى) من الدستور، ولا تتضمنان أي شرط أو إجراء متعلق بمسطرة الدفع بعدم الدستورية، مما يجعلهما لا تكتسيان طابع قانون تنظيمي”؛
أكدت المحكمة الدستورية بأن المواضيع التي جعلها الدستور من مشمولات القانون التنظيمي المتعلق بتطبيق الفصل 133 من الدستور، هي تلك التي تهم شروط وإجراءات الدفع بعدم الدستورية، معتبرة أن مضمون المادتين الأولى و23 المذكورتين، ليس سوى تذكير بما ورد في الفصلين 133 و 134 (الفقرة الأولى) من الدستور، ولا تتضمنان أي شرط أو إجراء متعلق بمسطرة الدفع بعدم الدستورية، مما يجعلهما لا يكتسيان طابع قانون تنظيمي؛
لكن الملاحظ أن المحكمة الدستورية لم ترتب أي جزاء قانوني على هذه الملاحظة عن طريق التصريح بعدم دستورية المادتين، لتظل مجرد ملاحظة يتعين على المشرع أخذها بعين الاعتبار من أجل تجويد صياغة هذا القانون التنظيمي من حيث الشكل والمحتوى.
والجدير بالذكر أن المجلس الدستوري السابق لم يثر مثل هذه الملاحظات عند فحصه لمقتضيات القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية. أكثر من ذلك فقد أكد في قراره رقم: 16/991 م. د بتاريخ 15 مارس 2016 ” … وحيث إن القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، المعروض على نظر المجلس الدستوري، يتكون من 120 مادة موزعة على خمسة أقسام، ………
وحيث إنه، يبين من فحص هذه المواد مادة مادة أنها تكتسي طابع قانون تنظيمي وفقا لأحكام الفصل 116 من الدستور” علما أن المقتضيات الواردة في بعض مواده هي مجرد تكرار لبعض أحكام الدستور، وبالتالي لا تكتسي طابع قانون تنظيمي استنادا لما خلصت إليه المحكمة الدستورية من ملاحظات في هذا الشأن. ومن أمثلة ذلك:
المادة 2 فقرة 1 :طبقا لأحكام الفصل 107 من الدستور، تعتبر السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، والملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية.
المادة 3 :طبقا لأحكام الفصل 56 من الدستور، يرأس الملك المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
المادة 6 :تطبيقا لأحكام الفصل 115 من الدستور، يتألف المجلس من:
- الرئيس الأول لمحكمة النقض، رئيسا منتدبا؛
- الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض؛
- رئيس الغرفة الأولى بمحكمة النقض؛
- أربعة ممثلين لقضاة محاكم الاستئناف، ينتخبهم هؤلاء القضاة من بينهم؛
- ستة ممثلين لقضاة محاكم أول درجة، ينتخبهم هؤلاء القضاة من بينهم؛
ويجب ضمان تمثيلية النساء القاضيات من بين الأعضاء العشرة المنتخبين، بما يتناسب مع حضورهن داخل السلك القضائي، وفق مقتضيات المادتين 23 و45 من هذا القانون التنظيمي.
- الوسيط؛
- رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان؛
خمس شخصيات يعينها الملك، مشهود لها بالكفاءة والتجرد والنزاهة، والعطاء المتميز في سبيل استقلال القضاء وسيادة القانون؛ من بينهم عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى.
أضف إلى ذلك فقد حصر الفصل 116 من الدستور مجال القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية في تحديد قواعد انتخابه وتنظيمه والمعايير المتعلقة بتدبير الوضعية المهنية للقضاة، ومسطرة التأديب، غير أن المادة الأولى من القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية تنص على أنه “تطبيقا لأحكام الدستور ولا سيما الفصل 116 منه، يحدد هذا القانون التنظيمي قواعد انتخاب وتعيين أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وكيفيات تنظيمه وسيره واختصاصاته، وكذا المعايير المتعلقة بتدبير الوضعية المهنية للقضاة، ومسطرة التأديب”. وبذلك أضيفت إلى مجال القانون التنظيمي القواعد المتعلقة باختصاصات المجلس و بتعيين بعض أعضائه في مخالفة واضحة وصريحة للفصل 116 من الدستور.
ثانيا : المقتضيات التي قضت المحكمة الدستورية بعدم دستوريتها
أ-خرق المشرع للدستور عند استبعاد النيابة العامة من مدلول الأطراف التي يحق لها إثارة الدفع بعدم الدستورية.
جاء في حيثيات قرار المحكمة الدستورية في شأن المادة الثانية:
“وحيث إنه، من جهة أخرى، فإن الفقرة الأولى من الفصل 133 من الدستور، جعلت الدفع بعدم الدستورية حقا مخولا للأطراف بصيغة العموم؛
وحيث إنه، خلافا لذلك، فإن البند (ب) من المادة الثانية المذكورة، عمد إلى بيان وتحديد الأطراف المخول لهم حق إثارة الدفع بعدم الدستورية وجعله حقا محصورا فيهم، وليس حقا مخولا لكل الجهات التي ينطبق عليها وصف “الطرف”؛
وحيث إنه، لبيان المقصود بأطراف الدعوى، يجب الرجوع إلى قانوني المسطرة المدنية والجنائية وإلى نصوص خاصة أخرى، التي تجعل، من النيابة العامة، إلى جانب أطراف أخرى تتوفر على شرطي الصفة والمصلحة، إما طرفا رئيسيا أو منضما، حسب الحالة؛
وحيث إنه، لئن كانت النيابة العامة، باعتبارها طرفا في الدعوى المدنية، قد يشملها تعبير “مدع أو مدعى عليه”، فإن البند (ب) يستثني النيابة العامة من أطراف الدعوى العمومية المعنيين بمسطرة الدفع، بحصره الجهات المخول لها هذا الحق في المتهم أو المطالب بالحق المدني أو المسؤول المدني؛
وحيث إن ممارسة النيابة العامة للاختصاص الدستوري الموكول لها، والمتمثل في تطبيق القانون(الفصل 110) ، يجب أن يتم في استحضار لما ورد في الفصل السادس من الدستور من أن دستورية القواعد القانونية “تشكل مبدأ ملزما”؛
وحيث إن التقيد بإلزامية دستورية القواعد القانونية، يقتضي من النيابة العامة، بصفتها طرفا، أن تدفع بعدم دستورية قانون، في حال تقديرها أو شكها من أن مقتضياته الواجبة التطبيق، تعتريها شبهة عدم الدستورية؛
وحيث إنه، تبعا لذلك، فإن عدم تخويل النيابة العامة، إلى جانب أطراف أخرى، صفة طرف في دعوى الدفع بعدم الدستورية، يشكل مخالفة لما قررته الفقرة الأولى من الفصل 133 من الدستور؛”
أكدت المحكمة الدستورية على أن عدم تخويل النيابة العامة، إلى جانب أطراف أخرى، صفة طرف في دعوى الدفع بعدم الدستورية (المادة 2 البند “ب” من القانون التنظيمي رقم 86.15) يشكل مخالفة لما قررته الفقرة الأولى من الفصل 133 من الدستور السالف الذكر التي تفيد بأن المشرع الدستوري منح حق إثارة الدفع بعدم دستورية قانون إلى أحد الأطراف في قضية معينة، تاركا المجال مفتوحا للأطراف دون تحديد. غير أن القانون التنظيمي رقم 86.15 المذكور عرًف مفهوم الأطراف في البند (ب) من المادة الثانية منه حيث جعل مدلوله ينصرف، إلى كل مدع أو مدعى عليه في الدعوى المدنية، وإلى المتهم أو المطالب بالحق المدني أو المسؤول المدني في مجال الدعوى العمومية.
وفي إطار التعليق على هذا الموضوع، يمكن القول أنه باستثناء ما نصت عليه المادة 2 في البند ج من إعطاء تعريف ومدلول للدفع بعدم الدستورية-وهو أمر لازم وضروري لتكييف طبيعة هذا الدفع-لم يكن من الملائم و الضروري تحديد مدلول كل من القانون (البند أ)والأطراف(البند ب)؛ إذ لم يضف المدلول المعطى للقانون أي جديد ،كما أن المدلول المعطى للأطراف ينطوي على مخاطر، كان من الملائم تركها للقوانين الإجرائية ولاجتهادات المحاكم، وذلك لتفادي كل تضييق أو توسيع لمدلول هذا المفهوم، وهو ما حصل بالفعل في القانون التنظيمي رقم 86.15؛ إذ تم إقصاء النيابة العامة من مدلول أطراف الدعوى العمومية، الأمر الذي انتبهت إليه المحكمة الدستورية، وصرحت بعدم دستورية البند (ب) من المادة الثانية، علما أنها مرت مرورا سريعا على دور النيابة العامة في الدعوى المدنية حينما فسرت عبارة” مدع أو مدعى عليه” بأنه قد يشمل النيابة العامة، وهو أمر فيه مجازفة بمدلول المفاهيم والمصطلحات قد تنقصه الدقة، مما يجعل هذا التفسير لا يمثل تعبيرا حقيقيا عن إرادة المشرع؛ إذ كيف يمكن القبول بهذا التفسير مع أن إرادة المشرع كانت صريحة في إقصاء النيابة العامة من مدلول الأطراف في الدعوى العمومية؟، بمعنى آخر إذا كان المشرع قد أقصى النيابة العامة من مدلول الأطراف في الدعوى الفرعية المتعلقة بالدفع بعدم الدستورية المرتبطة بالدعوى العمومية الأصلية، فكيف يمكن القبول بها طرفا في الدعوى الفرعية المتعلقة بالدفع بعدم الدستورية المرتبطة بالدعوى المدنية بناء على قراءة تفسيرية؟
لقد بنت المحكمة الدستورية موقفها على أساس الفقرة الأولى من الفصل 133 من الدستور التي جعلت الدفع بعدم الدستورية حقا مخولا للأطراف بصيغة العموم وعلى أساس الفصل 6 منه الذي أكد على إلزامية التقيد بمبدأ دستورية القواعد القانونية التي يجب على قضاة النيابة العامة تطبيقها طبقا للفصل 110 من الدستور.
وإذا كانت الفرصة قد أتيحت للمحكمة الدستورية المغربية لتبدي رأيها في موضوع أحقية النيابة العامة في إثارة الدفع بعدم الدستورية كما سبق بيانه، فإن المجلس الدستوري الفرنسي ساهم في إضفاء المزيد من اللبس على الموقف الغامض للقانون التنظيمي رقم 2009-1523 بشأن تطبيق الفصل 1-61 من الدستور. فبالرغم من أن تقرير البرلمان الفرنسي حول القانون التنظيمي المتعلق بتطبيق الفصل 1-61 من الدستور، يكشف أن آراء البرلمانيين كانت مجمعة على تخويل النيابة العامة صلاحية إثارة وسيلة الدفع بعدم الدستورية إذا كانت طرفا أساسيا في الدعوى، و بدا أن الحكومة الفرنسية آنذاك أيدت هذا الاتجاه. بل ذهب الرئيس الأول لمحكمة النقض الفرنسية آنذاك السيد LAMANDA أبعد من ذلك أثناء تدخله أمام لجنة القوانين بالجمعية الوطنية حيث أبدى مرونة بشأن إمكانية إثارة الدفع بعدم الدستورية من لدن النيابة العامة بصفتها طرفا منضما، وهو الموقف الذي كرسه مقرر اللجنة البرلمانية Warsmann في تقريره.
لكن المجلس الدستوري ومن خلال التفسير الذي بسطه لمقتضيات الفصل 1-61 من الدستور الفرنسي ذهب في اتجاه تضييق نطاق الأطراف التي يحق لها إثارة الدفع بعدم الدستورية عندما خص حق إثارته بكل متقاضي tout justiciable””، الأمر الذي فُهم منه استبعاد النيابة العامة من دائرة الأطراف التي يحق لها إثارة الدفع بعدم الدستورية، لكونها لا ينطبق عليها صفة “متقاضي” وإنما هي طرف في الدعوى تمثل المجتمع إما كطرف رئيسي أو منضم. وقد صاحب هذا التوجه بروز أفكار تريد حصر دور النيابة العامة في الحرص على تطبيق القانون سواء كانت طرفا رئيسيا أو منضما أو بأي صفة تدخلت في الدعوى؛ إذ طرح إشكال حول مدى إمكانية أن توفق النيابة العامة بين دورها الرئيسي المتمثل في السهر على تطبيق القانون، و بين الدور الذي يراد منحه لها بإمكانية إثارة الدفع بعدم دستورية القانون. وأمام تجاذب المواقف يحبذ جانب مهم من الفقه أن تركز النيابة العامة على دورها الأساسي وهو السهر على تطبيق القانون.
لكن هذا التفسير الضيق الذي خرج به المجلس الدستوري لم يؤيده بعض الفقه الذي اعتبر أن الصياغة التي جاء بها الفصل 1-61 من الدستور الفرنسي جاءت مبنية للمجهول ” عندما يتم الدفع بمناسبة دعوى أمام المحكمة بأن مقتضى تشريعي….” وبالتالي لم يتضمن الفصل المذكور أي إشارة ل “الأطراف”. غير أنه يمكن أن نستنتج بشكل ضمني أن الأمر يهم أطراف الدعوى ما دام أنها نصت على “….بمناسبة دعوى …” وأن هذه الدعوى معروضة أمام ” محكمة”. لذا فإنه نظريا يشمل الطرف في الدعوى النيابة العامة إلى جانب المتقاضي.
إن المنطق كان يقتضي القول بأن كل طرف في الدعوى الأصلية له الصفة والمصلحة يمكن أن يكون طرفا أيضا في الدعوى الفرعية المتعلقة بإثارة الدفع بعدم الدستورية، مع ترك تحديد صفة الطرف للقواعد الإجرائية الخاصة بكل دعوى أصلية على حدة، علما أن الإشكال لا يقف عند حدود دور النيابة العامة بل يمتد إلى كافة المتدخلين المحتملين في الدعوى والذين لا تنطبق عليهم بالضرورة صفة مدعي ومدعى عليه وهم كثيرون؛ لذا فإن أي تضييق من نطاق الأطراف قد يمس بالحق في إثارة الدفع بعدم الدستورية. ويبدو من الملائم، انسجاما مع غاية المشرع الدستوري من إقرار الدفع بعدم الدستورية، الأخذ بالاتجاه الواسع في تحديد مفهوم الطرف في الدعوى لا سيما وأن المشرع الدستوري المغربي ذهب في اتجاه تضييق استعمال هذه الوسيلة القانونية عندما ربط إثارتها بوجود نزاع أو قضية بخلاف بعض التجارب الدستورية التي تركت المجال مفتوحا للمواطن لإثارة هذا الدفع مباشرة أمام القضاء الدستوري(بلجيكا، ألمانيا، السودان)، كما أن تضييق استعمال هذه الوسيلة القانونية تكرس من خلال منع قاضي الموضوع من إثارة الدفع بعدم دستورية قانون بشكل تلقائي في حين أن هناك تجارب دستورية خولت له هذا الحق(بلجيكا، ألمانيا)،. فأمام هذه الرزنامة من التقييدات التي تقلص من نطاق استعمال هذه الوسيلة القانونية، يبدو من غير الملائم إضافة تقييدات أخرى عبر تضييق نطاق مدلول الأطراف.
ب- خرق المشرع لاختصاص المحكمة الدستورية عند تخويل محاكم الموضوع ومحكمة النقض اختصاص النظر في الدفع من خلال مراقبة بعض الشروط ومراقبة الجدية.
1-التأكيد على الاختصاص المطلق للمحكمة الدستورية للنظر في الدفع بعدم دستورية القوانين شكلا وموضوعا ورفض نظام التصفية المخول لمحاكم الموضوع ومحكمة النقض.
جاء في حيثيات قرار المحكمة الدستورية في شأن المواد السادسة والعاشرة و11:
في:
“حيث إن المادة السادسة تنص في فقرتيها الأولى والثالثة، على أنه “يجب على المحكمة أن تتأكد من استيفاء الدفع بعدم دستورية قانون، المثار أمامها، للشروط المشار إليها في المادة 5…داخل أجل أقصاه ثمانية أيام من تاريخ إثارته أمامها. يكون مقررها بعدم القبول معللا وغير قابل للطعن، ويجوز إثارة نفس الدفع من جديد أمام المحكمة الأعلى درجة”، وتنص المادة 10 على أنه “يحال الدفع بعدم دستورية قانون، المثار أمام محكمة أول درجة أو محكمة ثاني درجة، حسب الحالة، إلى الرئيس الأول لمحكمة النقض…غير أنه إذا أثير الدفع بعدم دستورية قانون أمام محكمة النقض لأول مرة بمناسبة قضية معروضة أمامها، فإن المحكمة تبت في الدفع مباشرة…”؛
وحيث إن القانون التنظيمي المعروض على المحكمة الدستورية، يكون بهذا قد أرسى نظاما للتصفية، على مرحلتين اثنتين، إذا أثير الدفع أمام محكمتي أول وثاني درجة، وعلى مرحلة واحدة إذا أثير الدفع لأول مرة أمام محكمة النقض، ويرمي هذا النظام إلى التحقق من توافر شروط معينة (المادة 5 والفقرة الثانية من المادة 10)، ويتم في أعقاب ذلك التصريح بقبول أو عدم قبول الدفع، وفي حال قبوله، يحال على هيئة محدثة بمحكمة النقض للبت في جديته (المادة 11) لتصدر مقررا معللا، إما برد الدفع أو بإحالته إلى المحكمة الدستورية؛
وحيث إن القانون التنظيمي، أسند النظر في مقبولية الدفع من عدمها، بما يعنيه ذلك من البت فيه شكلا، لمحاكم التنظيم القضائي للمملكة، دون المحكمة الدستورية، مدعما ذلك الخيار بتحصين قرارات عدم القبول (محكمتي أول وثاني درجة أو محكمة النقض) أو رد الدفع (محكمة النقض) من أي طعن؛
وحيث إن الفصل 132 من الدستور ينص على أنه “تمارس المحكمة الدستورية الاختصاصات المسندة إليها بفصول الدستور، وبأحكام القوانين التنظيمية…”، وأن الفصل 133 منه، ينص على أنه “تختص المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور. يحدد قانون تنظيمي شروط وإجراءات تطبيق هذا الفصل”؛
وحيث إنه، بمقتضى أحكام الفصلين 132 و133 المشار إليهما، فإن الدفع بعدم الدستورية اختصاص موكول للمحكمة الدستورية أصلا بمقتضى الدستور، وليس وفق القانون التنظيمي المتعلق به؛
وحيث إن الفصل 133 المذكور، يميز بين مجال استأثر الدستور بتنظيمه ويتمثل في أن المحكمة الدستورية هي المختصة بالنظر في كل دفع يتعلق بعدم دستورية قانون، وأنه حق للأطراف يثار أثناء النظر في قضية، ويجب أن يطبق موضوعه على النزاع، وأن يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، وبين مجال للقانون التنظيمي محددة مشمولاته في الشروط والإجراءات الكفيلة بتطبيق الفصل المعني؛
وحيث إن اختصاص النظر في كل دفع بعدم الدستورية الموكول للمحكمة الدستورية، هو اختصاص عام، يشمل النظر في الدفوع المحالة عليها شكلا وموضوعا، وليس في الدستور ما يشرع لتجزيء هذا الاختصاص المندرج في ولايتها الشاملة، ولا أيضا ما يبرر نقله لغير الجهة المحددة له دستوريا؛
وحيث إن الدستور حدد حصرا مجال القانون التنظيمي المعني، في موضوع الشروط والإجراءات، بما تتضمنه من شكليات، تتعلق بإقامة الدعوى وآجالها وإجراءات الدفاع والتواجهية وطبيعة الجلسات والعلاقة بين الدعوى الأصلية والدفع الفرعي، ولم يدرج ما يتعلق بالاختصاص ضمن المواضيع الموكول التشريع بمقتضاه؛
وحيث إن التشريع وفق القانون التنظيمي، يتم في نطاق الموضوعات المحددة له، احتراما لسمو الدستور، ولا يجوز، بالتالي، للمشرع أن يتجاوز مشمولاته أو بالأحرى أن ينظم من خلاله قاعدة دستورية بشكل يمس بجوهرها؛
ناقشت المحكمة الدستورية المقتضيات الواردة في القانون التنظيمي رقم 86.15 والتي أسندت، من جهة، لمحاكم التنظيم القضائي للمملكة دون المحكمة الدستورية، المراقبة القبلية للدفوع المثارة أمامها من حيث توفر الشروط المنصوص عليها في المادة 5 تحت طائلة عدم القبول، مع تحصين قرارات عدم القبول(المادة 6) بما يعنيه ذلك من البت فيه شكلا (محكمتي أول وثاني درجة أو محكمة النقض إذا أثير الدفع أمامها لأول مرة بمناسبة قضية معروضة عليها)، ومن جهة أخرى، أسندت لمحكمة النقض من خلال هيئة يعينها الرئيس الأول مراقبة الجدية (المادة 11).
واعتبرت المحكمة الدستورية أنه بمقتضى أحكام الفصلين 132 و133 من الدستور، فإن الدفع بعدم الدستورية اختصاص موكول لها أصلا بمقتضى الدستور، وليس بمقتضى القانون التنظيمي المتعلق به؛ وهو اختصاص عام، يشمل النظر في الدفوع المحالة إليها شكلا وموضوعا، لكون الدستور ليس فيه ما يشرع لتجزيئ هذا الاختصاص المندرج في ولايتها الشاملة، ولا أيضا ما يبرر نقله لغير الجهة المحددة له دستوريا؛ مضيفة بأن الفصل 133 المذكور، يميز بين المجال الذي يستأثر به الدستور وبين المجال الذي يستأثر به القانون التنظيمي؛ فأما المجال الذي استأثر الدستور بتنظيمه يتمثل في:
– أن المحكمة الدستورية هي المختصة بالنظر في كل دفع يتعلق بعدم دستورية قانون؛
– وأنه حق للأطراف يثار أثناء النظر في قضية،
– ويجب أن يطبق موضوع القانون على النزاع،
– وأن يمس القانون بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور.
أما المجال الذي يستأثر به القانون التنظيمي فمشمولاته محددة في الشروط والإجراءات الكفيلة بتطبيق الفصل 133؛ بما تتضمنه من شكليات، تتعلق بإقامة الدعوى وآجالها وإجراءات الدفاع والتواجهية وطبيعة الجلسات والعلاقة بين الدعوى الأصلية والدفع الفرعي. ولم يدرج ما يتعلق بالاختصاص ضمن المواضيع الموكول التشريع فيها بمقتضاه؛
واعتبرت المحكمة أن نظام التصفية على درجتين الموكول لمحاكم الموضوع ومحكمة النقض سيؤدي من جهة، إلى عدم مركزة المراقبة الدستورية، ومن جهة أخرى، إلى انتقاص استئثار المحكمة الدستورية بصلاحية المراقبة البعدية للدستور، وحرمانها من ممارسة اختصاصها كاملا، عبر دفعها لمباشرة النظر في موضوع الدفوع المقبولة، دون رقابة شكلية عليها.
ورغم وقوف المحكمة الدستورية، بعد الاطلاع على الأعمال التحضيرية للقانون التنظيمي، على أهداف المشرع وغايته من اختيار هذا النظام للتصفية والمتمثلة على الخصوص في تجنيب المحكمة الدستورية حالة تضخم عدد القضايا المحتمل إحالتها عليها؛ فهي تعتبر بأن الغايات الدستورية، لكي تكون مبررا مقبولا للتشريع، يجب أن تتم في تلاؤم وانسجام مع قواعد الدستور احتراما لمبدا وحدته؛ مضيفة بأن تلك الأهداف لئن كانت تستجيب للعديد من المبادئ المقررة في الدستور، من قبيل، إصدار الأحكام داخل آجال معقولة وضمان النجاعة القضائية، فإنها تخالف قاعدة جوهرية صريحة تتعلق بالاختصاص المعد من النظام العام؛ كما أنه ورغم اعتراف المحكمة الدستورية للمشرع بحقه في تكييف اختياراته وتفضيلاته مع متطلبات الدستورية، فإنها بالمقابل سوغت لنفسها، بالنظر لاختصاصها في تفسير الدستور بمناسبة إحالة معروضة عليها، وفي حدود ما تقتضيه مراقبة الدستورية، بيان كيفيات تطبيق القواعد والإجراءات الواردة في الدستور بما يتلاءم مع سموه ووحدة أحكامه؛
وبناء على هذه المؤيدات، اعترضت المحكمة الدستورية على النظام المقترح للتصفية القضائية للدفوع المثارة من خلال:
-الاعتراض على مراقبة بعض شروط مقبولية الدفع المخولة لمحاكم الموضوع والتصريح بعدم دستوريتها.
– الاعتراض على مراقبة جدية الدفع المخول لمحكمة النقض كمرحلة ثانية في نظام التصفية والتصريح بعدم دستورية مقتضياته.
- الاعتراض على مراقبة بعض شروط مقبولية الدفع المخولة لمحاكم الموضوع والتصريح بعدم دستوريتها.
لاحظت المحكمة الدستورية أن القانون التنظيمي خول لمحاكم الموضوع مراقبة بعض الشروط المطلوبة من أجل قبول الدفع بعدم الدستورية، ولا سيما الشرطين الواردين في المادة 5 وهما:
أن تتضمن مذكرة الدفع بعدم الدستورية:
-المقتضى التشريعي موضوع الدفع بعدم الدستورية، الذي يعتبر صاحب الدفع أنه يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور؛
-بيانا لأوجه الخرق أو الانتهاك أو الحرمان من الحق أو الحرية المذكورة في البند أعلاه.
و اعتبرت بأن البت في الطبيعة التشريعية للمقتضيات القانونية موضوع الدفع وتحديد ما هو مندرج في الحقوق والحريات المضمونة دستوريا من عدمه (المادة الخامسة والفقرة الثانية من المادة 10 التي تحيل عليها)، يعد توسعا في الشروط الواجب التحقق منها من قبل القاضي المثار أمامه الدفع بمناسبة قضية معروضة عليه، ومن شأن ذلك أن يحول مرحلة التحقق من استيفاء الدفع لبعض الشروط المتمثلة، في اتصال الدفع بالدعوى الأصلية ومدى تضمينه للبيانات المتطلبة في أي دعوى وأدائه للرسم القضائي، إلى مراقب أولي للدستورية؛ إذ أن الحسم في الطبيعة التشريعية للمقتضى القانوني المعني، وتحديد قائمة الحقوق والحريات المضمونة دستوريا، يعد من الاختصاصات التي تنفرد المحكمة الدستورية بممارستها.
في الواقع، أعطت المحكمة الدستورية لمسألة تحقق المحكمة من استيفاء مذكرة الدفع للبيانين المذكورين أعلاه، تفسيرا لا يحتمله المعنى الظاهر للبندين، ذلك أن القانون التنظيمي لم يمنح للمحكمة مثل هذا الدور الذي يبقى من اختصاص المحكمة الدستورية، وإنما يقتصر دورها على التأكد من تضمين هذين البيانين في مذكرة الدفع وهو دور مقبول يجب عليها أن تقوم به على اعتبار أنه ينصب على المراقبة الشكلية لمذكرة الدفع فقط ولا يمتد إلى أي تقدير أولي للدستورية؛ إذ ليس من حسن إدارة العدالة أن تحيل محكمة الموضوع مذكرة للدفع لا تتضمن بيانا للمادة أو المواد من القانون التي يدعي صاحبها أنها تخرق حقا من الحقوق أو حرية من الحريات التي يضمنها الدستور، ولا تبين أوجه هذا الخرق. فالذي يهم المحكمة في مرحلة أولية هو أن يبين مثير الدفع هذه النقط في مذكرته بشكل واضح، وليس من اختصاصها أن تقدر مدى وجاهة دفعه أو قانونية المقتضى التشريعي أو تقييم مدى خرقه للحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور. فتقدير هذه الأمور يفترض التصدي لموضوع الدفع وهو ما يندرج في الاختصاص الحصري للمحكمة الدستورية.
على هذا الأساس، يبدو أن المحكمة الدستورية بالغت في تكييف المراقبة الشكلية التي تباشرها المحكمة لمذكرة الدفع المثار أمامها عندما وصفتها بأنها “مراقبة أولية للدستورية”، وذلك في محاولة منها لتجريد محكمة الموضوع من ممارسة أي اختصاص له علاقة بالدفع المثار ولو كان شكليا استنادا إلى أحكام الفصل 133 من الدستور الذي يخول للمحكمة الدستورية اختصاص البت في الدفع بعدم الدستورية، وهو اختصاص عام يشمل النظر في الدفوع المحالة إليها شكلا وموضوعا بدون تجزيئ، وبالتالي لا يمكن للقانون التنظيمي أن يقلص من مداه أو أن ينقله لغير الجهة المحددة له دستوريا؛
غير أن هذه الصرامة التي أبانت عنها المحكمة الدستورية في الدفاع عن اختصاصها المطلق بالبت شكلا وموضوعا في كل دفع بعدم دستورية قانون، لم يمنعها من التأكيد في حيثيات قرارها على أن التوفيق بين احترام هذا الاختصاص وبين متطلبات النجاعة القضائية وحسن سير العدالة وسرعة البت في الدفوع وإصدار قرارات بشأنها داخل أجل معقول، يقتضي من المشرع حصر نطاق الشروط التي يتحقق القاضي من استيفائها بمناسبة إثارة الدفع، في تلك التي لا تشكل عناصر تقدير أولي للدستورية، لا سيما إذا تم الأخذ بعين الاعتبار، ما ينص عليه الفصل 133 فقرة 2 من الدستور على أنه “يحدد قانون تنظيمي شروط وإجراءات تطبيق هذا الفصل” ما يفيد أن القانون التنظيمي لن يشرع فقط لإجراءات تطبيق الدفع بعدم دستورية قانون وإنما أيضا لشروط تطبيقه، ومن بين هذه الشروط بطبيعة الحال شروط قبول الدفع من لدن المحكمة المثار أمامها.
فإذا كان يحق للمحكمة الدستورية أن تراقب شروط مقبولية الدفع من لدن محكمة الموضوع الواردة في القانون التنظيمي، بحيث ما يكتسي منها طابعا شكليا محضا لا يوجد مانع من تركه للمحكمة من قبيل: تحقق القاضي من استيفاء مذكرة الدفع للشروط المتعلقة بالكتابة والاستقلالية وتحديد المقتضيات القانونية موضوع الدفع بعدم الدستورية، ومدى اتصالها بالدعوى المعروضة على المحكمة، وبيان أوجه خرقها للحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور؛ إذ أن مراقبة مدى توفر مذكرة الدفع على هذه الشكليات لا تشكل بتاتا عناصر تقدير أولي للدستورية.
أما الشروط التي يمكن أن تؤدي مراقبتها إلى إقحام محكمة الموضوع في مناقشة عناصر موضوعية لها تأثير مباشر على البت في موضوع الدفع الذي تختص به حصريا المحكمة الدستورية، فلا جدال أن هذه الأخيرة يحق لها أن تعترض عليها. وقد وردت بالفعل مثل هذه الشروط في القانون التنظيمي رقم 86.15 المصادق عليه من لدن البرلمان، من قبيل الشرط المتعلق بألا يكون المقتضى التشريعي محل الدفع بعدم الدستورية سبق البت بمطابقته للدستور، ما لم تتغير الأسس التي تم بناء عليها البت المذكور. فمثل هذا العنصر، لا يمكن فصله عن موضوع الدفع المثار والتي يؤول اختصاص البت فيه للمحكمة الدستورية حصرا، ومن حقها أن تدافع عن هذا الاختصاص لأنه من النظام العام ومن شأن المساس به خرق إحدى القواعد الجوهرية في الدستور.
- الاعتراض على مراقبة جدية الدفع المخول لمحكمة النقض كمرحلة ثانية في نظام التصفية والتصريح بعدم دستورية هذا المقتضى.
في هذا الإطار اعتبرت المحكمة الدستورية أن تقدير الجدية الموكول للهيئة المحدثة بمحكمة النقض، سيحول الهيئة المذكورة إلى مراقب سلبي للدستورية بالنظر لصعوبة تحديد العناصر المشكلة للجدية، وارتباط تقديرها بالموضوع وليس بالشكل. وأكدت أن الغاية التي يستهدفها المشرع من إقرار نظام التصفية، لئن كانت تستجيب للعديد من المبادئ المقررة في الدستور، من قبيل إصدار الأحكام داخل آجال معقولة وضمان النجاعة القضائية، فإنها تخالف قاعدة جوهرية صريحة تتعلق بالاختصاص المعد من النظام العام.
ورغم إقرار المحكمة الدستورية بحق المشرع في تكييف اختياراته وتفضيلاته مع متطلبات الدستورية، فقد سوغت لنفسها، بالنظر لاختصاصها في تفسير الدستور بمناسبة إحالة معروضة عليها، وفي حدود ما تقتضيه مراقبة الدستورية، بيان كيفيات تطبيق القواعد والإجراءات الواردة في الدستور بما يتلاءم مع سموه ووحدة أحكامه؛
إذا خضنا في مناقشة وتقييم نظام التصفية كخيار، وبعد الاطلاع على الأنظمة القانونية المقارنة ولا سيما النظام القانوني الفرنسي والأردني، يمكن القول أن خيار التصفية الموكول للمحكمة الأعلى درجة(محكمة النقض ومجلس الدولة في فرنسا، محكمة التمييز في الأردن،) لا يمكن الأخذ به في نظامنا القانوني المغربي وذلك لتباين المرجعيات الدستورية الضابطة له؛ ذلك أن نظام التصفية القضائي المعمول به في فرنسا والأردن يجد سنده القانوني في دستور كلا البلدين؛ إذ ينص الفصل 1-61 من الدستور الفرنسي على أنه “عندما يثار، بمناسبة دعوى جارية أمام محكمة، بأن مقتضى تشريعي يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، يمكن للمجلس الدستوري أن يبت في هذه المسألة بناء على إحالة من مجلس الدولة أو محكمة النقض التي تبت في أمر إحالتها داخل أجل محدد.
“Lorsque, à l’occasion d’une instance en cours devant une juridiction, il est soutenu qu’une disposition législative porte atteinte aux droits et libertés que la Constitution garantit, le Conseil constitutionnel peut être saisi de cette question sur renvoi du Conseil d’État ou de la Cour de cassation qui se prononce dans un délai determine”.
وتنص المادة 60 بند 2 من الدستور الأردني على ما يلي: “2 .في الدعوى المنظورة أمام المحاكم يجوز لأي من أطراف الدعوى إثارة الدفع بعدم الدستورية وعلى المحكمة إن وجدت أن الدفع جدياً تحيله إلى المحكمة التي يحددها القانون لغايات البت في أمر إحالته إلى المحكمة الدستورية. وتطبيقا لهذه المادة الدستورية نصت المادة 11 من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2012 “إذا وجدت محكمة الموضوع أن الدفع جدي أوقفت النظر في الدعوى وأحالت الدفع الى محكمة التمييز لإحالته الى المحكمة الدستورية.
تصدر محكمة التمييز بهيئة من ثلاثة أعضاء على الأقل، قرارها بشأن الدفع خلال ثلاثين (30) يوما من تاريخ إحالة الدعوى إليها”.
من هنا يتضح أن التأسيس لنظام التصفية القضائي في النظامين الفرنسي والأردني له سند دستوري، لذا، لم يكن هناك خيار أمامهما لتخطي أو تجاوز هذا الضابط الدستوري. أما في الحالة المغربية، فالمرجعية الدستورية مختلفة تماما؛ إذ لم تتضمن مقتضيات الفصل 133 من الدستور ما يفيد إلزام المشرع الفرعي على الأخذ بنظام التصفية. نفس التوجه أخذ به النظام القانوني التونسي استنادا إلى مرجعيته الدستورية الصريحة المعبر عنها في الفصل 120 من الدستور التونسي، الذي ينص على أنه تختص المحكمة الدستورية دون سواها بمراقبة دستورية القوانين التي تحيلها عليها المحاكم تبعا للدفع بعدم الدستورية بطلب من أحد الخصوم في الحالات وطبق الإجراءات التي يقرها القانون.
تطبيقا لهذا المقتضى الدستوري الصريح، نص الفصل 56 من القانون الأساسي عدد 50 لسنة 2015 المتعلق بالمحكمة الدستورية على أنه “على المحاكم عند الدّفع أمامها بعدم دستوريّة القوانين إحالة المسألة فورا على المحكمة الدستوريّة، ولا يجوز الطعن في قرار الإحالة بأي وجه من أوجه الطعن ولو بالتعقيب”. بذلك يكون المشرع التونسي قد تبنى الإحالة المباشرة والفورية للدفع بعدم الدستورية من لدن المحكمة المثار أمامها إلى المحكمة الدستورية، دون المرور عبر المحكمة الأعلى درجة كقناة تصفية للمراقبة الشكلية أو الجدية للدفع. لكنً المشرع التونسي سن شيئا جديدا وهو إحداث لجنة خاصة لدى المحكمة الدستورية بقرار من رئيسها تتركب من ثلاثة أعضاء توكل إليها مهمة التثبت في مدى احترام مذكّرة الدفع بعدم الدستورية لموجباتها الشكلية والإجرائية، وترفع لرئيس المحكمة الدستورية اقتراحاتها القاضية إما بقبول الإحالات من الناحية الشكلية والإجرائية أو رفضها، وهو الخيار الذي ينسجم مع روح الدستور التونسي ومنطوقه.
لعل هذا الخيار هو الذي اهتدت إليه المحكمة الدستورية المغربية عندما اقترحت على المشرع في حيثيات قرارها رقـم 70/18 م.د إحداث آلية كفيلة بإرساء نظام للتصفية بالمحكمة الدستورية، يحدد قانون تنظيمي تركيبتها وضوابط عملها، لكن المحكمة الدستورية لم تجرد قاضي الموضوع من صلاحية التحقق من استيفاء مذكرة الدفع لبعض الشروط الشكلية، وهي الصلاحية التي يبدو أنها غير متوفرة للقاضي التونسي بعد أن ألزمه القانون بإحالة الدفع المثار أمام المحكمة فورا إلى المحكمة الدستورية؛ فهو يقوم بدور ساعي بريد لا أقل ولا أكثر.
إذا كان المشرع التونسي قد حدد مهمة اللجنة الخاصة المحدثة لدى المحكمة الدستورية التونسية في التثبت من مدى احترام مذكّرة الدفع بعدم الدستورية لموجباتها الشكلية والإجرائية-وهي المهمة التي يمكن أن تقوم بها محكمة الموضوع المثار أمامها الدفع في الحالة المغربية والتي لم تعترض عليها المحكمة الدستورية على نحو ما أوضحنا في السابق-فإن السؤال يثار بشأن المهمة التي ستوكل للآلية المقترح إحداثها بالمحكمة الدستورية المغربية: هل سينصب عملها على إعادة مراقبة الشروط الشكلية للدفع أم سيضاف إليه التحقق من جدية الدفع؟ علما أن المحكمة الدستورية أكدت في حيثيات قرارها على صعوبة تحديد العناصر المشكلة للجدية، وارتباط تقديرها بالموضوع، وليس بالشكل؛
2 -خرق المشرع لمجال القانون التنظيمي المحدد في الدستور عند تنظيم موضوع الاختصاص الذي لا يندرج ضمن مشمولات القانون التنظيمي.
جاء في حيثيات قرار المحكمة الدستورية في شأن المواد السادسة والعاشرة و11:
“وحيث إن الدستور حدد حصرا مجال القانون التنظيمي المعني، في موضوع الشروط والإجراءات، بما تتضمنه من شكليات، تتعلق بإقامة الدعوى وآجالها وإجراءات الدفاع والتواجهية وطبيعة الجلسات والعلاقة بين الدعوى الأصلية والدفع الفرعي، ولم يدرج ما يتعلق بالاختصاص ضمن المواضيع الموكول التشريع بمقتضاه؛
وحيث إن التشريع وفق القانون التنظيمي، يتم في نطاق الموضوعات المحددة له، احتراما لسمو الدستور، ولا يجوز، بالتالي، للمشرع أن يتجاوز مشمولاته أو بالأحرى أن ينظم من خلاله قاعدة دستورية بشكل يمس بجوهرها؛
وحيث إنه، باستثناء القانونين التنظيميين المتعلقين بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المخول لهما، طبقا للفصلين الخامس و153 من الدستور، تحديد صلاحيات المجلسين المذكورين، فإن باقي القوانين التنظيمية، المنصوص عليها دستوريا، ينحصر مجال التشريع بمقتضاها على بيان كيفيات تطبيق أو تفعيل الصلاحيات أو الاختصاصات المخولة دستوريا للمؤسسات المعنية”.
يتضح من خلال هذه الحيثية أن المحكمة الدستورية وضعت قاعدة عامة تحدد مشمولات التشريع بالنسبة لمجمل القوانين التنظيمية المحدثة للمؤسسات الدستورية الواردة في الدستور، حيث أكدت على أنه “باستثناء القانونين التنظيميين المتعلقين بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المخول لهما، طبقا للفصلين الخامس و153 من الدستور، تحديد صلاحيات المجلسين المذكورين، فإن باقي القوانين التنظيمية، المنصوص عليها دستوريا، ينحصر مجال التشريع بمقتضاها على بيان كيفيات تطبيق أو تفعيل الصلاحيات أو الاختصاصات المخولة دستوريا للمؤسسات المعنية”. لكن الملاحظ أن هذه القاعدة تمت مخالفتها من لدن المشرع عند وضع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية المنصوص عليه في الفصل 116 من الدستور؛ إذ تم تحديد مشمولاته في انتخاب وتنظيم وسير المجلس الأعلى للسلطة القضائية والمعايير المتعلقة بتدبير الوضعية المهنية للقضاة، ومسطرة التأديب؛ غير أن المشرع أضاف، إلى هذه المشمولات، القواعد المتعلقة باختصاصات المجلس و بتعيين بعض أعضائه؛ إذ نصت المادة الأولى من القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية على أنه: “يحدد هذا القانون التنظيمي قواعد انتخاب وتعيين أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وكيفيات تنظيمه وسيره واختصاصاته، وكذا المعايير المتعلقة بتدبير الوضعية المهنية للقضاة، ومسطرة التأديب” ومرت هذه الإضافة أمام أعين المجلس الدستوري السابق دون أن يبدي بشأنها أي ملاحظة أو تعليق.
ج- عدم دستورية إغفال إدراج مقتضى يضمن لمثير الدفع حق الاستفادة من الأثر المترتب عن قرار المحكمة الدستورية القاضي بعدم الدستورية في حال مواصلة المحكمة نظرها في الدعوى الأصلية.
جاء في حيثيات قرار المحكمة الدستورية في شأن المواد السابعة (الفقرة الأولى) والثامنة و13:
“وحيث إنه، عملا بذلك، فإن المحكمة المثار أمامها الدفع بعدم دستورية قانون، تواصل نظرها في الدعوى المعروضة عليها إذا تعلق الأمر بحالات تستجيب للاستثناءات المذكورة، دون اعتبار مآل الدفع وقرار المحكمة الدستورية بخصوصه، إذا اعتبرت، أن المقتضى التشريعي المطبق في الدعوى أو المسطرة أو يشكل أساس المتابعة، غير دستوري؛
وحيث إن حجية قرارات المحكمة الدستورية الملزمة طبقا للفقرة الأخيرة من الفصل 134 من الدستور، تقتضي من المشرع أن يدرج ضمن الإجراءات المتعلقة بمسطرة الدفع بعدم الدستورية، أحكاما تخول للمتقاضين، تقديم دعوى جديدة، تسمح بترتيب آثار قرار المحكمة الدستورية في الموضوع، في حال مواصلة المحكمة نظرها في الدعوى الأصلية وصدور قرار من المحكمة الدستورية بعدم الدستورية؛
وحيث إنه، يترتب عن عدم التنصيص على الأحكام المشار إليها، عدم التقيد بإلزامية حجية قرارات المحكمة الدستورية، ومس بحق الأطراف المعنية في الاستفادة من الأثر المترتب عن تلك القرارات، مما يتعين معه التصريح، من هذا الوجه، بعدم دستورية المادتين 8 و13”.
ركزت المحكمة الدستورية على مناقشة الإشكالية المتعلقة بكيفية التوفيق بين مواصلة المحكمة البت في الدعوى بناء على الحالات الاستثنائية، وضمان تفعيل القرار اللاحق الصادر عن المحكمة الدستورية في شأن الدفع بعدم الدستورية المثار، القاضي بعدم دستورية المقتضى التشريعي المطبق في الدعوى أو المسطرة أو يشكل أساس المتابعة. والذي يتمتع بالحجية وإلزامية التطبيق على الجميع طبقا للفقرة الأخيرة من الفصل 134 من الدستور.
فغياب مقتضيات في القانون التنظيمي لحل هذه الإشكالية، اعتبرته المحكمة الدستورية مسا بحق الأطراف المعنية في الاستفادة من الأثر المترتب عن قراراتها، مما أدى بها إلى التصريح بعدم دستورية المادتين 8 و3، و دعوة المشرع إلى أن يدرج ضمن الإجراءات المتعلقة بمسطرة الدفع بعدم الدستورية، أحكاما تخول للمتقاضين، تقديم دعوى جديدة، تسمح بترتيب الآثار القانونية لقرار المحكمة الدستورية في الموضوع.
فعلا لقد كانت المحكمة الدستورية على صواب في إثارة الانتباه إلى هذه الإشكالية، غير أن هناك ملاحظة لا بد من تسجيلها بخصوص إدراج “أحكام تخول للمتقاضين، تقديم دعوى جديدة، تسمح بترتيب آثار قرار المحكمة الدستورية في الموضوع” مفادها أن تمكين مثير الدفع من تقديم دعوى جديدة قد لا يكون ضروريا إلا إذا أصبح الحكم أو القرار الصادر عن المحكمة المثار أمامها الدفع حائزا لقوة الشيء المقضي به، عدا ذلك فيمكن لمثير الدفع أن يستفيد من ترتيب آثار قرار المحكمة الدستورية من خلال استعمال وسائل الطعن ضد الأحكام المتاحة قانونا(الاستئناف، النقض) وذلك من أجل استدراك الأمر وتصحيح الحكم أو القرار القضائي.
د- عدم دستورية الإحالة إلى النظام الداخلي للمحكمة الدستورية من أجل تنظيم بعد شروط و إجراءات الدفع بعدم الدستورية.
تنطبق هذه الملاحظة على المادتين 14 و21 من القانون التنظيمي رقم 86.15 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون.
تنص المادة 14 من القانون التنظيمي رقم 86.15 على أنه “تحدد مسطرة البت في الدفع بعدم دستورية قانون أمام المحكمة الدستورية بموجب النظام الداخلي لهذه المحكمة والمنصوص عليه في المادة 43 من القانون التنظيمي رقم 066.13 المتعلق بالمحكمة الدستورية، مع مراعاة القواعد الخاصة الواردة بعده”. وجاء في حيثيات قرار المحكمة الدستورية بشأن المادة المذكورة: “وحيث إن إحالة القانون التنظيمي، على نظام داخلي للمحكمة الدستورية، تحديد قواعد تتعلق بالدفع المثار أمام المحكمة المذكورة، بخصوص المنازعة في انتخاب أعضاء البرلمان، يعد تخليا من المشرع عن ممارسة اختصاص موكول له حصرا، بمقتضى الدستور؛
وحيث إن غياب أحكام من ذات القبيل المرتبطة بتطبيق حقوق وضمانات دستورية لاسيما ما يتعلق منها بإجراءات التقاضي وحق الدفاع، يشكل إغفالا تشريعيا يتعين معه التصريح بعدم دستورية المادة 14″؛
يتضح من حيثيات قرار المحكمة الدستورية المشار إليها أعلاه، أن هذه الأخيرة استنتجت من مقتضى المادة 14 السالفة الذكر ما مفاده أن النظام الداخلي للمحكمة الدستورية المحال إليه سيتولى تحديد القواعد المتعلقة بالدفع بعدم الدستورية المثار أمام المحكمة الدستورية، بمناسبة نظرها في الطعون الانتخابية المتعلقة بأعضاء البرلمان، الأمر الذي اعتبرته المحكمة الدستورية-عن صواب- بمثابة تخلي من المشرع عن ممارسة اختصاص موكول له حصرا بمقتضى الدستور.
إذا كانت النتيجة التي خلصت إليها المحكمة الدستورية لا تثير أي جدل أو نقاش ، فإن ما ذهبت إليه من تأويل يحصر نطاق تدخل النظام الداخلي في تحديد القواعد المتعلقة بالدفع بعدم الدستورية المثار أمام المحكمة الدستورية، بمناسبة نظرها في الطعون الانتخابية المتعلقة بأعضاء البرلمان، هو تفسير لا يحتمله مضمون النص الذي جاء مطلقا بما يفيد أن النظام الداخلي المحال إليه سيحدد أيضا المسطرة المتعلقة ببت المحكمة الدستورية في الدفوع بعدم الدستورية المحالة إليها من محكمة النقض.
كما لاحظت المحكمة الدستورية أنه، باستثناء ما نصت عليه المادة 15 من إيقاف البت في منازعة الطعون الانتخابية إلى حين البت في الدفع المرتبط بها، تمة غياب لمقتضيات في القانون التنظيمي تنظم موضوع الدفع المذكور من حيث الشكل الذي يتخذه، وهل يقدم بمذكرة مستقلة أم في صلب عريضة الطعن أو في المذكرة الجوابية بالنسبة للمطعون في انتخابه، ومدى إلزامية الاستعانة بمحام من عدمها، كما لاحظت غياب أي مقتضى سواء في القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية أو في القانون التنظيمي المتعلق بالمحكمة الدستورية، يفيد تطبيق القواعد والأحكام الواردة فيهما، على الدفع بعدم الدستورية المثار بمناسبة المنازعة الخاصة بانتخاب أعضاء البرلمان؛ الأمر الذي اعتبرته المحكمة الدستورية “إغفالا تشريعيا” يتعين معه التصريح بعدم دستورية المادة 14؛
فضلا عن إشكالية تأويل نطاق المجال الذي سينظمه النظام الداخلي المحال إليه، يلاحظ بأن المحكمة الدستورية لم تنتبه إلى بعض الفراغات التشريعية التي اعترت القانون التنظيمي وهي:
- عدم وجود أي مقتضى في القانون التنظيمي المصادق عليه من لدن البرلمان يضمن لمثير الدفع أمام المحكمة الدستورية بمناسبة بتها في المنازعات الانتخابية البرلمانية، إمكانية الاستفادة من مسطرة إنذار مثير الدفع من أجل تصحيح المسطرة داخل الأجل المحدد، المنصوص عليها في المادة 6 فقرة 2، والتي يستفيد منها مثير الدفع أمام المحاكم، باعتبارها حقا من حقوق التقاضي التي ينبغي أن يستفيد منها مثير الدفع سواء أمام المحاكم أو أمام المحكمة الدستورية تحقيقا لمبدأ المساواة أمام القانون.
- غياب أي مقتضى في القانون التنظيمي المذكور يحدد الكيفية التي بموجبها تتخذ المحكمة الدستورية قراراتها الباتة في الدفوع بعدم دستورية القوانين سواء تعلق الأمر بالدفوع المثارة أمامها بمناسبة نظرها في الطعون الانتخابية المتعلقة بانتخاب أعضاء البرلمان أو بالدفوع المحالة إليها من لدن محاكم الموضوع وهو موضوع تُرك أمر تنظيمه في رأيي للنظام الداخلي المحال إليه المنصوص عليه في المادة 14 من القانون التنظيمي، ما يقودنا إلى استنتاج مفاده أن النظام الداخلي المحال إليه المذكور سيحدد مسطرة البت في الدفع بعدم دستورية القوانين من لدن المحكمة الدستورية بشكل عام، وليس فقط تنظيم مسطرة البت في الدفوع المثارة أمام المحكمة الدستورية بمناسبة نظرها في الطعون الانتخابية البرلمانية كما اعتقدت ذلك المحكمة الدستورية في حيثيات قرارها.
وتعتبر الإحالة إلى النظام الداخلي خرقا لمجال القانون التنظيمي وفق ما خلصت إليه المحكمة الدستورية عن صواب، سواء كان محتواه ضيقا حسب تأويل المحكمة الدستورية أو واسعا تبعا لما أوضحنا ذلك سابقا.
في هذا السياق، تجب الإشارة إلى أن الأحكام العامة المنظمة لكيفية اتخاذ المحكمة الدستورية لقراراتها المتعلقة بالمطابقة أو عدم المطابقة مع الدستور، تم تنظيمها بمقتضى المادتين 16 و17 من القانون التنظيمي رقم 066.13 يتعلق بالمحكمة الدستورية. و يكفي التنصيص، في القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون، على مقتضى يحيل إلى هذه الأحكام من أجل سد هذا الفراغ التشريعي.
2-تنص المادة 21 من القانون التنظيمي رقم 86.15 على أنه “تكون الجلسة أمام المحكمة الدستورية علنية، ما عدا في الحالات التي تقرر فيها المحكمة الدستورية سرية الجلسات طبقا لنظامها الداخلي”. وجاء في حيثيات قرار المحكمة الدستورية في شأن هذه المادة :
“وحيث إن الفقرة الأخيرة من الفصل 133 من الدستور، تنص على أنه “يحدد قانون تنظيمي شروط وإجراءات تطبيق هذا الفصل”، بما يعنيه ذلك من أن مسطرة الدفع بعدم الدستورية، سواء بمناسبة إثارته أمام المحكمة المعنية أو إحالته إلى المحكمة الدستورية، يجب أن تأتي وفق قانون تنظيمي؛
وحيث إن تحديد حالات سرية الجلسات يندرج ضمن “الشروط والإجراءات” المشكلة لمشمولات القانون التنظيمي المذكور؛
وحيث إن الدستور اعتبر علنية الجلسات إحدى حقوق المتقاضين، مما يجعل تنظيمها موكولا للمشرع طبقا للفصل 71 منه، الذي ينص على أن القانون يختص بالتشريع في الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور؛
وحيث إن الفصل 123 من الدستور، بنصه على أنه “تكون الجلسات علنية ماعدا في الحالات التي يقرر فيها القانون خلاف ذلك”، يكون قد جعل تحديد حالات سرية الجلسات، من اختصاص المشرع، حسب الحالة، وفق قانون تنظيمي أو قانون؛
وحيث إنه، تبعا لذلك، فإن ما نصت عليه المادة 21 المذكورة من إحالة تحديد حالات سرية الجلسات إلى نظام داخلي للمحكمة الدستورية، غير مطابق للدستور”.
فاستنادا إلى الفقرة الأخيرة من الفصل 133 من الدستور التي تنص على أنه “يحدد قانون تنظيمي شروط وإجراءات تطبيق هذا الفصل”، بما يعنيه ذلك من أن مسطرة الدفع بعدم الدستورية، سواء في شقها المتعلق بشروط وإجراءات إثارته أمام محاكم الموضوع أو في شقها المتعلق بمسطرة البت فيه من لدن المحكمة الدستورية، يجب أن تأتي وفق قانون تنظيمي، بما في ذلك تحديد حالات سرية الجلسات التي تندرج ضمن “الشروط والإجراءات” المشكلة لمشمولات القانون التنظيمي المذكور؛
واستنادا إلى الدستور الذي اعتبر علنية الجلسات إحدى حقوق المتقاضين، مما يجعل تنظيمها موكولا للمشرع طبقا للفصل 71 منه، الذي ينص على أن القانون يختص بالتشريع في الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور؛
كما أن الفصل 123 من الدستور ينص على أنه “تكون الجلسات علنية ماعدا في الحالات التي يقرر فيها القانون خلاف ذلك”، جاعلا بذلك تحديد حالات سرية الجلسات، من اختصاص المشرع، حسب الحالة، وفق قانون تنظيمي أو قانون؛
وبناء على ذلك خلصت المحكمة الدستورية عن صواب إلى أن ما نصت عليه المادة 21 المذكورة من إحالة تحديد حالات سرية الجلسات إلى نظام داخلي للمحكمة الدستورية، غير مطابق للدستور؛
ثالثا : مراعاة المحكمة الدستورية لمتطلبات النجاعة القضائية وحسن سير العدالة.
رغم أن المحكمة الدستورية كانت حازمة في التأكيد على اختصاصها المطلق للبت في الدفوع المتعلقة بعدم دستورية القوانين، فإنها حاولت أن تراعي أيضا متطلبات النجاعة القضائية وحسن تصريف العدالة من خلال، قبولها بإمكانية مراقبة محاكم الموضوع بعض الجوانب الشكلية للدفع،
أ-عدم الاعتراض على تخويل محاكم الموضوع مراقبة بعض الجوانب الشكلية للدفوع.
جاء في حيثيات قرار المحكمة الدستورية في شأن المواد السادسة والعاشرة و11:
“وحيث إنه، فضلا على ما تقدم:
– من جهة، فإن البت في الطبيعة التشريعية للمقتضيات القانونية موضوع الدفع وتحديد ما هو مندرج في الحقوق والحريات المضمونة دستوريا من عدمه (المادة الخامسة والفقرة الثانية من المادة 10 التي تحيل عليها)، يعد توسعا في الشروط الواجب التحقق منها من قبل القاضي المثار أمامه الدفع بمناسبة قضية معروضة عليه، ومن شأنه أن يحول مرحلة التحقق من استيفاء الدفع لبعض الشروط المتمثلة، في اتصال الدفع بالدعوى الأصلية ومدى تضمينه للبيانات المتطلبة في أي دعوى وأدائه للرسم القضائي، إلى مراقب أولي للدستورية، إذ أن الحسم في الطبيعة التشريعية للمقتضى القانوني المعني، وتحديد قائمة الحقوق والحريات المضمونة دستوريا، يعد من الاختصاصات التي تنفرد المحكمة الدستورية بممارستها،
……………………………………………………
…………………………………………………………..
وحيث إن التوفيق بين الحق في إثارة الدفع بمناسبة قضية معروضة على محكمة ما، واختصاص المحكمة الدستورية بالبت شكلا وموضوعا في الدفوع الدستورية المحالة عليها، وبين متطلبات النجاعة القضائية وحسن سير العدالة وسرعة البت في الدفوع وإصدار قرارات بشأنها داخل أجل معقول، يقتضي من المشرع حصر نطاق الشروط التي يتحقق القاضي من استيفائها بمناسبة إثارة الدفع في تلك التي لا تشكل عناصر تقدير أولي للدستورية، وفي إحداث آلية كفيلة بإرساء نظام للتصفية بالمحكمة الدستورية، يحدد قانون تنظيمي تركيبتها وضوابط عملها، وذلك تحقيقا للمرونة المتطلبة الكفيلة بالوصول إلى الغايات التي سبق عرضها”؛
إن هاجس التوفيق بين ضرورة احترام اختصاص المحكمة الدستورية بالبت شكلا وموضوعا في الدفوع الدستورية المثارة أمام المحاكم المحالة إليها، وبين متطلبات النجاعة القضائية وحسن سير العدالة وسرعة البت في الدفوع وإصدار قرارات بشأنها داخل أجل معقول، يقتضي من المشرع حصر نطاق الشروط التي يتحقق القاضي من استيفائها بمناسبة إثارة الدفع في تلك التي لا تشكل عناصر تقدير أولي للدستورية، و المتمثلة في اتصال الدفع بالدعوى الأصلية ومدى تضمينه للبيانات المتطلبة في أي دعوى وأدائه للرسم القضائي.
بناء على ذلك، يمكن القول أن دور قاضي الموضوع يقتصر، عند توصله بمذكرة الدفع بعدم الدستورية، على التحقق الشكلي مما يلي:
-أن تكون موقعة من لدن مثير الدفع شخصيا أو وكيله أومن لدن محاميه بحسب الشكل الذي قدمت به الدعوى الأصلية طبقا للقوانين المسطرية؛
-بيان الاسم الشخصي والعائلي لمثير الدفع ومهنته وموطنه؛
-بيان رقم ملف الدعوى الأصلية وأطرافها؛
-بيان المقتضى أو المقتضيات القانونية موضوع الدفع بعدم الدستورية؛
-بيان ما يفيد اتصال المقتضى القانوني موضوع الدفع بعدم الدستورية بالدعوى المعروضة على المحكمة؛
-بيان الوسائل القانونية التي تبرر أوجه خرق المقتضى القانوني لحق من الحقوق أو حرية من الحريات المنصوص عليها في الدستور؛
-بيان ما يفيد أداء الرسم القضائي.
عند مقارنة هذه البيانات بالبيانات الواردة في المادة 5 من القانون التنظيمي، يمكن القول أنه باستثناء الشرط المتعلق بمراقبة سبقية البت بمطابقة المقتضى التشريعي محل الدفع للدستور، ما لم تتغير الأسس التي تم بناء عليها البت المذكور المشار إليه في المادة 5 المذكورة، والذي يتعلق بمراقبة الموضوع أكثر مما يتعلق بالشكل، فإن باقي الشروط الأخرى تتصل بالشكل.
رابعا : مقتضيات كانت تستلزم تدخل المحكمة الدستورية من أجل تأويلها لغاية مطابقتها للدستور.
-عدم مناقشة مدلول المحاكم التي يمكن إثارة الدفع بعدم الدستورية أمامها المنصوص عليها في المادة 3 من القانون التنظيمي رقم 86.15؛
-عدم تعميق المناقشة في الحالات الاستثنائية التي ترد على مبدأ إيقاف البت في الدعوى الأصلية كأهم أثر يترتب عن إثارة الدفع بعدم الدستورية أمام المحاكم المنصوص عليها في المادة 8 من القانون التنظيمي رقم 86.15؛
أ-عدم مناقشة مدلول المحاكم التي يمكن إثارة الدفع بعدم الدستورية أمامها.
جاء في حيثيات قرار المحكمة الدستورية في شأن المواد الثالثة (الفقرة الأولى):
“حيث إن الفقرة الأولى من المادة الثالثة تنص على أنه “يمكن أن يثار الدفع بعدم دستورية قانون أمام مختلف محاكم المملكة، وكذا أمام المحكمة الدستورية مباشرة بمناسبة البت في الطعون المتعلقة بانتخاب أعضاء البرلمان”،
وحيث إن الفصل 133 من الدستور، الذي أوكل اختصاص البت في الدفع بعدم الدستورية إلى المحكمة الدستورية، لم يحدد الجهة القضائية التي يمكن أن يثار أمامها، عبر جعل إثارة الدفع تتم بمناسبة النظر في قضية، مما يسمح بإمكانية إثارة الدفع أمام محاكم التنظيم القضائي للمملكة بمختلف درجاتها، وأيضا أمام المحكمة الدستورية في الاختصاص المخول لها في شكل “قضية”؛
لقد مرت الحكمة الدستورية مرورا سريعا على مقتضيات المادة 3 من القانون التنظيمي رقم 86.15 الذي تنص فقرته الأولى على أنه “يمكن أن يثار الدفع بعدم دستورية قانون أمام مختلف محاكم المملكة، وكذا أمام المحكمة الدستورية مباشرة بمناسبة البت في الطعون المتعلقة بانتخاب أعضاء البرلمان”. واكتفت بالقول ” إن الفصل 133 من الدستور، الذي أوكل اختصاص البت في الدفع بعدم الدستورية إلى المحكمة الدستورية، لم يحدد الجهة القضائية التي يمكن أن يثار أمامها، عبر جعل إثارة الدفع تتم بمناسبة النظر في قضية، مما يسمح بإمكانية إثارة الدفع أمام محاكم التنظيم القضائي للمملكة بمختلف درجاتها، وأيضا أمام المحكمة الدستورية في الاختصاص المخول لها في شكل “قضية”. فبالرغم من تأكيد المحكمة الدستورية بأن الفصل 133 من الدستور ربط إمكانية إثارة الدفع بعدم الدستورية “بالقضية” دون تحديد للجهة القضائية التي يمكن أن يثار أمامها، فقد اكتفت باستنتاج مفاده أن ذلك “يسمح بإمكانية إثارة الدفع أمام محاكم التنظيم القضائي للمملكة بمختلف درجاتها، وأيضا أمام المحكمة الدستورية في الاختصاص المخول لها في شكل قضية”. وباستثناء التوضيحات والإضافات والتفسيرات التي حاولت بسطها فيما يخص الدفع بعدم الدستورية الذي يمكن إثارته أمام المحكمة الدستورية مباشرة بمناسبة البت في الطعون المتعلقة بانتخاب أعضاء البرلمان- والتي سأعود للتعليق عليها في مكان آخر-فإن المحكمة لم تقدم أي تفسير أو توضيح بشأن المقصود بعبارة “ مختلف محاكم المملكة” التي يمكن أن يثار الدفع بعدم دستورية قانون أمامها ” الواردة في المادة 3 ما يستشف منه أنها فسرت العبارة المذكورة السالفة الذكر بكونها تعني ” محاكم التنظيم القضائي للمملكة بمختلف درجاتها”، وهي مسألة أعتقد أن المحكمة الدستورية كان ينبغي عليها أن تقف عندها مليا، وتقوم بتوضيحها ,وإعطائها التفسير الملائم الواضح الذي يبدد كل غموض أو إبهام. فتحديد الجهات القضائية التي يمكن أن يثار أمامها الدفع بعدم الدستورية أمر في غاية الدقة والأهمية لأنه يؤثر في نطاق استعمال هذه “الوسيلة الدستورية الجديدة” إما في اتجاه التضييق أو التوسيع.
لذا يحق لنا أن نتساءل هل تشمل عبارة” مختلف محاكم المملكة” الواردة في المادة 3 من القانون التنظيمي رقم 15-86 أو عبارة “محاكم التنظيم القضائي للمملكة بمختلف درجاتها” الواردة في قرار المحكمة الدستورية، المحاكم الآتية:
-المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية للحسابات باعتبارها محاكم مالية طبقا للقانون رقم 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية كما وقع تغييره وتتميمه ولاسيما بالقانون رقم 55.16 الصادر بتنفيذه الظهير المؤرخ في 25 أغسطس 2016؛
– المحكمة العسكرية المحدثة بموجب القانون رقم 108.13 المتعلق بالقضاء العسكري الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.14.187 المؤرخ 10 ديسمبر 2014؟.
فاستنادا إلى الفصل الأول من الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.74.338 بتاريخ 24 جمادى الثانية 1394 (15 يوليوز 1974) يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة كما وقع تغييره وتتميمه، يشمل التنظيم القضائي المحاكم التالية:
1- المحاكم الابتدائية؛
2- المحاكم الإدارية؛
3- المحاكم التجارية؛
4- محاكم الاستئناف؛
5- محاكم الاستئناف الإدارية؛
6- محاكم الاستئناف التجارية؛
7- محكمة النقض”.
ووفقا للمادة الأولى من مشروع القانون رقم 38.15 يتعلق بالتنظيم القضائي المصادق عليه من لدن الغرفة الأولى بالبرلمان في 7 يونيو 2016، يشمل التنظيم القضائي:
أولا – محاكم أول درجة، وتضم:
1- المحاكم الابتدائية؛
2- المحاكم الابتدائية التجارية؛
3- المحاكم الابتدائية الإدارية.
ثانيا – محاكم ثاني درجة، وتضم:
4- محاكم الاستئناف؛
5- محاكم الاستئناف التجارية؛
6- محاكم الاستئناف الإدارية.
تعين مقار محاكم أول درجة ومحاكم ثاني درجة وتحدد دوائر اختصاصها المحلي بمرسوم، بعد استطلاع رأي المجلس الأعلى للسلطة القضائية والهيئات المهنية المعنية.
ثالثا – محكمة النقض، ويوجد مقرها بالرباط”.
فضلا عن ذلك، يتضح من مقتضيات القانون التنظيمي رقم 86.15 السالف الذكر، أن المحكمة المثار أمامها الدفع بعدم الدستورية لا تخرج عن نطاق مشتملات التنظيم القضائي المحددة سابقا، مثال ذلك:
– “الباب الثاني: شروط وإجراءات إثارة الدفع بعدم دستورية قانون أمام محاكم أول درجة ومحاكم ثاني درجة”.
– “المادة 8:استثناء من أحكام الفقرة الأولى من المادة 7 أعلاه، لا توقف المحكمة البت في الدعوى في الحالات الآتية:
- إجراءات التحقيق في المجالين المدني والجنائي؛
- …………………………………………”
-“الباب الثالث: اختصاص محكمة النقض بالنظر في الدفع بعدم دستورية قانون
-المادة 10:يحال الدفع بعدم دستورية قانون، المثار أمام محكمة أول درجة أو محكمة ثاني درجة، حسب الحالة، إلى الرئيس الأول لمحكمة النقض طبقا لأحكام المادة 6 أعلاه، ويشعر فورا الوكيل العام للملك لدى هذه المحكمة بالإحالة المذكورة.
غير أنه إذا أثير الدفع بعدم دستورية قانون أمام محكمة النقض لأول مرة بمناسبة قضية معروضة أمامها، فإن المحكمة المذكورة تبت في الدفع مباشرة، وذلك وفق الشروط المنصوص عليها في المادة 5 أعلاه، ولا يمكنها إثارته تلقائيا”.
استنادا إلى هذه المؤشرات الدالة، يمكن القول أن كلا من المشرع والمحكمة الدستورية ذهبا في اتجاه تضييق نطاق المحاكم التي يمكن إثارة الدفع بعدم دستورية قانون أمامها وذلك بحصرها في محاكم التنظيم القضائي للمملكة والمحكمة الدستورية مع العلم أن الفصل 133 من الدستور ربط إمكانية إثارة الدفع بعدم دستورية قانون “بالنظر في قضية” وأحد الأطراف” و”القانون الذي سيطبق في النزاع” و”يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور” دون أن يحدد الجهة القضائية التي يمكن أن يثار أمامها الدفع بعدم الدستورية. ورغم أن المحكمة الدستورية توصلت إلى هذا الاستنتاج في إحدى حيثيات قرارها ( الحيثية رقم 3 الواردة في عنوان “في شأن المواد الثالثة (الفقرة الأولى) و 14 و15،صفحة 3 من قرار المحكمة الدستورية). فإن موقف المشرع، الذي كرسته الفقرة الأولى من المادة 3 من القانون التنظيمي رقم 15-86، لم يثر لديها أي تحفظ ولم تتصد له بنفس الحزم والصرامة والشدة التي تعاملت بها عند إقدام المشرع، من جهة، على إقرار نظام تصفية على درجتين لكل من محاكم الموضوع ومحكمة النقض، و من جهة أخرى، على إقصاء النيابة العامة من مدلول الأطراف في الدعوى العمومية؛ حيث استندت المحكمة الدستورية، في كلا الحالتين، إلى مطلق مقتضيات النص الدستوري(الفصل 133من الدستور) لكي تدافع بقوة عن اختصاصها المطلق للنظر في الدفع بعدم الدستورية شكلا وموضوعا من ناحية، ولتقر بأحقية النيابة العامة في الدفع بعدم الدستورية كطرف سواء في الدعوى المدنية أو الدعوى العمومية.
بناء على هذه العطيات ومراعاة لنص الفصل 133 من الدستور الذي جاء مطلقا دون تقييد كان من الملائم أن تقدم المحكمة الدستورية تفسيرا لعبارة “مختلف محاكم المملكة” بما يسمح بتوسيعها لتشمل إلى جانب محاكم التنظيم القضائي بالمفهوم الضيق، المحاكم المالية والمحكمة العسكرية، فلا يعقل أن يتم حرمان الأشخاص، الذين يضعهم القانون بحكم مركزهم ووظيفهم تحت اختصاص هذه المحاكم، من حق الاستفادة من إمكانية إثارة الدفع بعدم دستورية قانون أمامها، لأن ذلك من شأنه أن يمس بحقوق المتقاضين ويخرق قواعد سير العدالة ولا سيما حقوق الدفاع والحق في محاكمة عادلة المضمونين دستوريا بموجب الفصل 120 من الدستور.
على خلاف واقع الحال في النص الدستوري المغربي، حدد الدستور الفرنسي في المادة 1-61 نطاق الجهات ذات الطبيعة القضائية التي يمكن أن تثار أمامها المسألة الأولية للدفع بعدم الدستورية(QPC) عندما ربط القضية “بالمحكمة” JURIDICTION” سواء كانت تابعة لمحكمة النقض أو لمجلس الدولة، و ذلك ما يستشف مما ورد في الفصل المذكور الذي نص على أن إحالة المسألة الأولية للدفع بعدم الدستورية إلى المجلس الدستوري تتم عن طريق مجلس الدولة أو محكمة النقض، الأمر الذي سمح، بصورة تلقائية لا تحتاج إلى تفسير، بإدراج المحاكم المالية في فرنسا ضمن الجهات القضائية التي يمكن أن يثار أمامها الدفع بعدم الدستورية بحكم تبعيتها قضائيا لمجلس الدولة.
وتجب الإشارة إلى أن هذا الضابط الدستوري في التجربة الفرنسية والذي خضع له القانون التنظيمي المتعلق بتطبيق المسألة الأولية للدفع بعدم الدستورية، أثار غموضا ولبسا حول مدى إمكانية إثارة المسألة الأولية للدفع بعدم الدستورية أمام المجلس الدستوري بصفته قاضي الطعون الانتخابية المتعلقة بنواب وشيوخ البرلمان ؛ حيث لم يستطع المشرع الفرنسي إقحام المجلس الدستوري بصفته هاته ضمن المحاكم التي يثار أمامها الدفع المذكور بحكم أنه هيئة دستورية مستقلة غير تابع قضائيا لا إلى محكمة النقض ولا إلى مجلس الدولة، مما خلق جدلا وإشكالا قانونيا بشأن ما سيكون عليه موقف المجلس الدستوري فيما لو عرضت عليه حالة من هذا النوع. وقد كان موقفه إيجابيا منذ صدور قراره الشهير رقم 2011-4538 SEN المؤرخ في 13 يناير 2012 حيث قبل النظر في الدفع المذكور. وبذلك يكون المجلس الدستوري الفرنسي قد أسس لإمكانية إثارة الدفع بعدم الدستورية أمامه بمناسبة نظره في الطعون الانتخابية لنواب وشيوخ البرلمان عن طريق الاجتهاد القضائي للمجلس الدستوري، في حين تم التأسيس لهذه الإمكانية عن طريق القانون في الحالة المغربية.
ب – عدم تعميق المناقشة في الحالات الاستثنائية التي ترد على مبدأ إيقاف البت في الدعوى الأصلية كأهم أثر يترتب عن إثارة الدفع بعدم الدستورية أمام المحاكم.
جاء في حيثيات قرار المحكمة الدستورية في شأن المواد السابعة (الفقرة الأولى) والثامنة و13:
“حيث إن الفقرة الأولى من المادة السابعة تنص على أنه “توقف المحكمة، التي أثير أمامها الدفع، البت في الدعوى كما توقف الآجال المرتبطة بها، ابتداء من تاريح تقديم الدفع، مع مراعاة الاستثناءات الواردة في المادة 8…”؛
وحيث إن المادة الثامنة نصت على الاستثناءات التي ترد على وقف البت في الدعوى الأصلية، والتي حددتها في حالات “إجراءات التحقيق في المجالين المدني والجنائي، اتخاذ التدابير الوقتية أو التحفظية الضرورية، اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة متى تعلق الأمر بتدبير سالب للحرية، عندما ينص القانون على أجل محدد للبت في الدعوى أو البت على سبيل الاستعجال، إذا كان الإجراء يؤدي إلى إلحاق ضرر بحقوق أحد الأطراف يتعذر إصلاحه”؛
وحيث إن المادة 13 تنص على أنه “توقف محكمة النقض البت في القضية المعروضة أمامها…غير أنها لا توقف البت في الحالات الآتية: إذا تعلق الأمر بحرمان شخص من حريته في القضية التي أثير بمناسبتها الدفع، إذا كان القانون ينص على أجل محدد للبت في القضية المعروضة على النقض، أو كانت محكمة النقض ملزمة بالبت فيها على سبيل الاستعجال، إذا كان من شأن وقف البت في القضية إلحاق ضرر بحقوق أحد الأطراف يتعذر إصلاحه”؛
وحيث إن الاستثناءات المذكورة تراعي، إما قواعد جوهرية أو آجالا مقررة قانونا، أو أنها تأخذ في الاعتبار وضعيات تتعلق بالمنع من الحرية أو تلك التي يترتب عنها ضرر في حال توقف البت في الدعوى الأصلية، مما يجعلها استثناءات مشروعة ومبررة”؛
من أجل حسن فهم الآثار القانونية المترتبة عن إثارة الدفع بعدم الدستورية وفق القانون التنظيمي رقم 15- 86،ينبغي أولا دراسة هذه الآثار في النظام القانوني الفرنسي باعتباره المصدر الأساسي الذي استمد منه المشرع المغربي مقتضياته.
2-الآثار المترتبة عن إثارة الدفع بعدم الدستورية أمام المحاكم في النظام القانوني الفرنسي
باستقراء القانون التنظيمي رقم 1523-2009 بتاريخ 10 ديسمبر 2009 المتعلق بتطبيق الفصل 1-61 من الدستور، فيما يخص كيفية معالجته للآثار القانونية المترتبة عن إثارة المسألة الأولوية للدفع بعدم الدستورية، يلاحظ أن هناك مبدئين عامين يحكمان هذه الآثار: الأول أساسي والثاني مكمل له. فالمبدأ العام الأساسي مفاده أن إثارة الدفع بعدم الدستورية توقف البت في موضوع الدعوى، أما المبدأ المكمل له فيكمن في أن إثارة الدفع بعدم الدستورية لا يؤثر بأي حال من الأحوال على اتخاذ المحكمة أي إجراء من الإجراءات الوقتية أو تدبير من التدابير التحفظية الضرورية.
وترد على المبدأ العام الأساسي استثناءات، يمكن تصنيفها حسب مقتضيات القانون التنظيمي الفرنسي بحسب الحالات على النحو الآتي:
- حالتان يحق فيهما للمحكمة المثار أمامها الدفع بعدم الدستورية، بحسب تقديرها لموضوع الدعوى وللدفع المثار، أن توقف أو لا توقف البت في الدعوى، إلى حين صدور موقف المحكمة الأعلى درجة(محكمة النقض أو مجلس الدولة) أو صدور قرار المجلس الدستوري في شأن الدفع المثار، و هما:
1-إذا حدد القانون للمحكمة أجلا معينا للبت في الدعوى أو نص على ضرورة البت باستعجال؛
2-إذا كان إيقاف البت في الدعوى سيؤدي إلى إلحاق أضرار بليغة بحقوق أحد الأطراف أو يتعذر إصلاحها.
- حالة لا يمكن فيها للمحكمة أن توقف البت في موضوع الدعوى المعروضة عليها، إذا وجد شخص محروما من حريته بسبب هذه الدعوى، أو إذا كانت الدعوى المذكورة تهدف إلى وضع حد لتدبير سالب للحرية. وهذه الحالة لا تترك للمحكمة أي هامش للتقدير فهي مطالبة بمواصلة البت في الدعوى مادام هناك شخص مسلوب الحرية.
وقد لفت المجلس الدستوري الفرنسي الانتباه إلى المشكلة التي ستطرح فيما لو قامت المحكمة، المثار أمامها الدفع المقبول من لدنها والمحال إلى محكمة النقض أو مجلس الدولة، بالبت في موضوع الدعوى دون انتظار صدور موقف المحكمة الأعلى درجة (محكمة النقض أو مجلس الدولة) أو صدور قرار المجلس الدستوري في شأن الدفع المثار، وذلك بناء على تقديرها أو بصفة إلزامية حسب الحالات التي سبق بيانها؛ إذ كيف يمكن التوفيق بين حسن إدارة العدالة – والتي تتجسد في مواصلة المحكمة البت في الدعوى-من جهة، وبين ضمان تفعيل القرار الصادر في شأن الدفع بعدم الدستورية القاضي بعدم دستورية المقتضى القانوني؟ وأجاب المجلس بأن حل هذا الاشكال يوجد في وسيلتي الطعن بالاستئناف أو النقض المتاحتين للطرف مثير الدفع بعدم الدستورية؛ إذ يمكنه الاستفادة من مفاعيل قرار المجلس الدستوري المذكور في مرحلة الاستئناف أو في مرحلة النقض.
لكن هذا الحل قد لا يجدي نفعا لترتيب الأثر القانوني لقرار المجلس الدستوري القاضي بعدم دستورية القانون إذا أثير الدفع لأول مرة أما م محكمة النقض ، وذلك في الحالة التي تكون فيها هذه الأخيرة ملزمة بالبت في النقض دون انتظار القرار المذكور إذا وجد شخص محروما من حريته بسبب هذه الدعوى وألزم القانون محكمة النقض بالبت في أجل محدد. هنا ولغاية إيجاد حل لمثل هذه الفرضية، تدخل المجلس الدستوري الفرنسي في قراره الصادر في 3 ديسمبر 2009 تحت رقم 595-2009 ليبدي تحفظه إزاء إمكانية صدور قرار نهائي عن محكمة النقض لا يأخذ في الاعتبار منطوق قرار المجلس الدستوري اللاحق، و يؤكد على أن القرار النهائي لمحكمة النقض لا يمكن أن يحرم الطرف المثير للدفع من إمكانية رفع دعوى من جديد إلى المحكمة لترتيب الآثار القانونية لقرار المجلس الدستوري.
بعد استعراض موقف التشريع الفرنسي ومخرجات قرار المجلس الدستوري بشأنه، نعرج على دراسة الآثار القانونية المترتبة عن إثارة الدفع بعدم الدستورية، وفق القانون التنظيمي رقم 86.15 و مخرجات قرار المحكمة الدستورية بشأنه.
2-الآثار المترتبة عن إثارة الدفع بعدم الدستورية وفق القانون التنظيمي رقم 15- 86
نص القانون التنظيمي المذكور على أن إثارة الدفع بعدم دستورية قانون أمام المحكمة توقف البت في الدعوى وتوقف الآجال المرتبطة بها كمبدأ عام (المادة 7 من القانون التنظيمي رقم 15-86)، وأورد استثناءات على هذا المبدأ في حالات معينة، توقف المحكمة البت في الدعوى عند تحققها (المادتان 8 و13 من القانون التنظيمي رقم 15- 86) .
فالمادة 8 تتعلق بالآثار المترتبة عن إثارة الدفع بعدم الدستورية أمام المحاكم الابتدائية أو محاكم الاستئناف وهي إيقاف البت في الدعوى الأصلية كمبدأ عام مع إيراد استثناءات عليه لا توقف فيها المحكمة البت وذلك في الحالات الآتية:
1.إجراءات التحقيق في المجالين المدني والجنائي؛
2 اتخاذ التدابير الوقتية أو التحفظية الضرورية؛
3.اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة متى تعلق الأمر بتدبير سالب للحرية؛
- عندما ينص القانون على أجل محدد للبت في الدعوى أو البت على سبيل الاستعجال؛
5.إذا كان الإجراء يؤدي إلى إلحاق ضرر بحقوق أحد الأطراف يتعذر إصلاحه.
أما المادة 13 فتتعلق بالآثار المترتبة عن إثارة الدفع بعدم الدستورية أمام محكمة النقض وهي إيقاف البت في الدعوى الأصلية كمبدأ عام مع إيراد استثناءات عليه لا توقف فيها المحكمة البت وذلك في الحالات الآتية:
1.إذا تعلق الأمر بحرمان شخص من حريته في القضية التي أثير بمناسبتها الدفع؛
- إذا كان القانون ينص على أجل محدد للبت في القضية المعروضة على النقض، أو كانت محكمة النقض ملزمة بالبت فيها على سبيل الاستعجال؛
3.إذا كان من شأن وقف البت إلحاق ضرر بحقوق أحد الأطراف يتعذر إصلاحه.
فالحالات الواردة في المادة 8 تجد مصدرها في المادة 3-23 من القانون التنظيمي رقم 1523-2009 المؤرخ في 10 ديسمبر 2009 المتعلق بتطبيق الفصل 1-61 من الدستور الفرنسي، غير أنه تمت صياغتها بشكل مختلف أفقدها المعاني والأهداف التي رسمها لها المشرع الفرنسي؛ وهكذا تم إدراج الحالتين الواردتين في البندين 1 و2 ضمن الحالات الاستثنائية التي توقف البت في الدعوى، في حين اعتبرها المشرع الفرنسي من المبادئ المكملة للمبدأ العام، والتي تفيد بأن إيقاف البت في الدعوى، بناء على إثارة الدفع بعدم الدستورية، لا يؤثر بأي حال من الأحوال في مواصلة المحكمة القيام بإجراءات التحقيق في الدعوى واتخاذ أي إجراء من الإجراءات الوقتية أو تدبير من التدابير التحفظية الضرورية؛ لذا فشتان بين هذا المعنى وذاك.
فيما يخص الحالتين الواردتين في البندين 4و5 فيختلفان عن نظيريهما كما وردا في القانون التنظيمي الفرنسي من حيث هامش التقدير والإمكانية المتاحة للمحكمة الفرنسية في إيقاف البت في الدعوى أو عدم إيقافها، وهو ما يستفاد من استعمال المشرع الفرنسي لفعل “يمكن”. في المقابل فإن الصياغة التي وردت في المادة 8 من القانون التنظيمي رقم 15-86، لا تترك للمحكمة المغربية أي هامش للتقدير والاختيار بين إيقاف البت في الدعوى أو مواصلتها بعد أن استعمل المشرع المغربي العبارة التالية: “استثناء من أحكام الفقرة الأولى من المادة 7 أعلاه، لا توقف المحكمة البت في الدعوى في الحالات الآتية:….”.
بخصوص الحالة الواردة في البند 3 وإن كانت تتحد مع مثيلتها الواردة في القانون التنظيمي الفرنسي من حيث الحكم وهو عدم إيقاف البت في الدعوى عند تحققها، فهما يختلفان من حيث صياغة مضمونهما؛ إذ يستفاد من الحالة الفرنسية أن المحكمة مطالبة بمواصلة البت في الدعوى مادام يوجد شخص مسلوب الحرية إما بسبب هذه الدعوى أو لكونها تهدف إلى وضع حد لتدبير سالب للحرية. بينما في الحالة المغربية جاءت الصياغة غير واضحة في القانون التنظيمي المغربي.
أما الحالات الواردة في المادة 13 فتم استنباطها من المادة 5- 23 ( الفقرة 4) من القانون التنظيمي رقم 1523-2009 المؤرخ في 10 ديسمبر 2009 المتعلق بتطبيق الفصل 1-61 من الدستور الفرنسي، لكن تمت صياغتها بشكل مغاير أفقدها المعاني التي رُسمت لها من لدن المشرع الفرنسي، وأضاف إليها المشرع المغربي حالة أخرى جديدة لم ينص عليها القانون التنظيمي الفرنسي.
فالمشرع الفرنسي أوجب على محكمة النقض من حيث المبدأ إيقاف البت في الدعوى الأصلية حين إثارة الدفع بعدم دستورية قانون أمامهما، وأورد استثناءين على هذا المبدأ في حالتين هما:1-الحالة التي تكون فيها محكمة النقض ملزمة بمواصلة البت في الدعوى إذا وجد شخص محروما من حريته بسبب هذه الدعوى وألزم القانون محكمة النقض البت في أجل محدد. 2-الحالة التي يكون فيها لمحكمة النقض هامشا من التقدير للاختيار بين مواصلة البت أو إيقافه وذلك إذا كانت ملزمة بالبت في القضية باستعجال. ويبدو أن الاختلاف واضح في صياغة هذه الحالات.
الملاحظ أن المحكمة الدستورية لم تعمق النقاش في الحالات الاستثنائية الواردة في المادتين 8 و13 لتقف على عناصر اللبس والغموض الذي يعتريها، والتي قد تطرح مشاكل وصعوبات عند التطبيق من الناحية العملية؛
بحيث اكتفت بتبريرها وإضفاء الشرعية عليها عندما قالت: “وحيث إن الاستثناءات المذكورة تراعي، إما قواعد جوهرية أو آجالا مقررة قانونا، أو أنها تأخذ في الاعتبار وضعيات تتعلق بالمنع من الحرية أو تلك التي يترتب عنها ضرر في حال توقف البت في الدعوى الأصلية، مما يجعلها استثناءات مشروعة ومبررة”. وكان بإمكان المحكمة الدستورية تذكير المشرع بما يقع عليه من التزام بأن تكون الأثار القانونية المترتبة على تقديم الدفع بعدم دستورية قانون واضحة لا لبس أو غموض فيها حتى يتيسر فهمها من لدن المحاكم لضمان حسن تطبيقها.