محكمــــة النقض و حقوق الإنسان و فق دستور 2011
- الدكتور حســن فتــوخ : مستشار بمحكمة النقض و أستاذ بالمعهد العالي للقضاء و الكاتب العام للمرصد القضائي المغربي للحقوق والحريات.
في إطار النهج الملكي الرشيد ، وبمناسبة الذكرى الثالثة على الدستور المغربي الجديد الذي يشكل بحق ميثاقا للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، ارتأينا أن نقف وقفة تأمل بشأن آثارها من حيث التطبيق والممارسة العملية، لا سيما وأن كونية هذه الحقوق توحي بأنها كل غير قابل للتجزئة، مما يفترض لزوما عدم التمييز داخل منظومة حقوق الإنسان، إذ ينبغي حماية كافة الحقوق والحريات مجتمعة بالنظر لأهميتها في تحقيق الكرامة البشرية، وبعدم إمكانية تفضيل حق على آخر، أو العمل على تحقيق وضمان بعض الحقوق دون حقوق أخرى. فحقوق الإنسان بكل أجيالها وأنواعها وتجلياتها وصلت الآن إلى أكثر من 150 حقا هي حقوق غير قابلة للتجزئة، حيث يكمل بعضها البعض، وإذا مس حق معين فلا شك أنه سيؤثر سلبا على ممارسة العديد من الحقوق الأخرى.
واعتبارا من كون السلطة القضائية هي الوجه الآخر لحقوق الإنسان المثبتة في المواثيق الدولية وفي التشريعات الوطنية، فإن القرارات والأحكام الصادرة عنها هي التي تبت الحركة في النصوص القانونية الجامدة، وتجسد الحماية القضائية في الواقع على أساس أنها عنوانا للحقيقة، لأنها تدعم حقوق وحريات المواطنين المكفولة دستوريا، وتعتمد على تفسير النصوص بما يحقق العدل والإنصاف والاستقرار داخل المجتمع.
وإذا كانت رسالة محكمة النقض تتمثل في إرساء النص القانوني وسلامة تطبيقه تكفي وحدها لتعظيم دورها وإجلال قدرها، فإن دورها يزداد علوا عندما لم تكتف بتطبيق النصوص القانونية، وإنما تعمد إلى تطويع تلك النصوص بالتأويل أو التفسير أو القياس لزيادة الحماية المقررة لحقوق الإنسان وتجسيد الضمانات التي تكفل صون أو صيانة حريته وماله، وهو ما يتجلى بشكل ملموس من خلال العديد من اجتهاداتها القضائية التي نعرض لبعضها على سبيل المثال لا الحصر كما يلي:
أولا : حقوق الانسان المضمنة في الاتفاقيات الدولية
لقد تم التنصيص في الفقرة ما قبل الأخيرة من ديباجة دستور 2011 على
” جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة “.
كما أن التطبيق العملي لهذا المقتضى الدستوري من طرف محكمة النقض يظهر بجلاء في أحد قراراتها التي اعتبرت من خلاله بأن :
” اعتداء المدرس على تلميذه بالضرب يشكل خطأ جسيما وخرقا لاتفاقية حقوق الطفل المؤرخة في 1989.11.20 والمصادق عليها من طرف المملكة المغربية بمقتضى الظهير الشريف بتاريخ 1996.11.21 المنشور بالجريدة الرسمية عدد 4440 وتاريخ 1996.12.19، و أن المشغل إن كان ملزما بسلوك مسطرة الفصل المنصوص عليها بالمادة 62 وما يليها من مدونة الشغل فإن ذلك رهين بتمسك الأجير بوجوب تطبيقها وبإصدار المشغل مقررا بالفصل وهو ما لم يتم في النازلة لثبوت مغادرة الأجير عمله تلقائيا إثر ارتكابه الخطأ المذكور.”
ذلك أن مسؤولية الدولة عن الإخلال بحق المواطن في الصحة كما هو منصوص عليه في الاتفاقيات الدولية سبق أن أكدت بشأنه محكمة النقض على ضرورة أن تكون الاتفاقيات المحتج بها نافذة فوق التراب المغرب تبعا للحيثيات التالية:
” إن محكمة الموضوع بما قضت به في الدعوى المرفوعة في مواجهة الدولة الرامية إلى تحميلها مسؤولية عدم تقديم العلاج المناسب للمريض وإلزامها بذلك على نفقتها، لم تبن قرارها على أساس، لأنها من جهة لم تقم بالتثبت من كون الاتفاقيات الدولية المستند إليها في تقرير مسؤولية الدولة بهذا الشأن نافذة فوق التراب الوطني بمصادقة المغرب عليها، ومن جهة ثانية أقرت مسؤولية الدولة بهذا الخصوص دون تقديرها لجسامة الواجبات الملقاة على عاتقها، وما تتوفر عليه من وسائل وإمكانات فعلية، إذ من المعلوم أن الدولة لا تكون مسؤولة عن خطأ إذا كان لا يمكن لها تفاديه، إلا باتخاذها إجراءات استثنائية تتجاوز قدرتها الفعلية “.
ثانيا : الحدود الفاصلة بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية.
كرس الدستور المغربي الجديد صراحة مبدأ الفصل بين السلط من خلال الفصل 107 الذي يجري سياقه على ما يلي:
” السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية.
الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية “.
كما أضاف الفصل 113 من نفس الدستور على أن ” المجلس الأعلى للسلطة القضائية يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ولاسيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم “.
إن الوظيفة الإيجابية لمحكمة النقض جديرة بالاعتبار بالنسبة لتقويم اختلالات الإدارة والارتقاء بثقافة الديمقراطية وتحسين علاقة الإدارة بموظفيها وحماية الموظف والقاضي من الشطط وخلق جو ملائم لاستقراره يدفعه لخدمة الشأن العام دون خوف من الانتقال، من خلال اشتراط عدم التعسف وعدم الانحراف في استعمال السلطة والمساس بمبدأ المشروعية أثناء ممارسة الإدارة لسلطتها التقديرية.
وفي هذا الصدد اعتبرت محكمة النقض أن ” سلطة الانتداب المخولة لوزير العدل هي استثناء من القاعدة التي تقضي بأن القضاة لا ينقلون ولا يعزلون إلا بظهير وهذا الاستثناء مقرون بشرط الحاجة وملئ الفراغ وعلى الإدارة أن تثبت قيام الشرطين والا اعتبر تصرفها تجاوزا للسلطة يستلزم الحكم بإلغاء القرار لعدم مشروعيته “.
وفي إطار مراقبة سلطات وزير العدل في علاقته بالنيابة العامة اعتبرت محكمة النقض في أحد قراراتها ما يلي:
” السلطة الرئاسية المخولة لوزير العدل تقتصر صلاحيتها على إعطاء التعليمات، ولا تتجاوز ذلك إلى إبطال ما قد يقوم به رئيس النيابة العامة من الإجراءات المخالفة لتعليمات وزير العدل، كما أن قرارات الحفظ المتخذة من طرف النيابة العامة ليست بقرارات قضائية ونهائية بل هي إدارية. يحق التراجع عنها كلما ظهر دليل جديد أو حتى بدون ظهور عنصر جديد.”
وفي إطار العلاقة بين الاختصاصات الممنوحة للجهات الإدارية ونطاق صلاحيات القضاء الإداري في مراقبة قرارات هذه الأخيرة من خلال الطعن فيها بسبب الشطط في استعمال السلطة، نشير إلى أن المشرع خول للإدارة حق حماية المزروعات من الفطريات الفتاكة، وذلك بممارسة سلطات الضبط الإداري المتجلية في إجراءات التفتيش الصحي ومراقبة الأغراس والنباتات عند دخولها للتراب الوطني أو خلال عبورها منه.
لذلك فقد اعتبرت محكمة النقض بأن عيب التجاوز في السلطة يتحقق كلما خرج القاضي الإداري عن حدود اختصاصه وتطاول على اختصاصات السلطة التشريعية أو التنفيذية ولو عرضا.
وأضافت نفس المحكمة بأنه إذا كان من اختصاص القضاء الإداري البت في طلب إلغاء قرارات السلطة الإدارية بسبب تجاوز السلطة، وكذا فحص شرعية القرارات الإدارية فإنه ليس من صلاحياته منح ترخيص لإخراج القمح المحجوز بمطامير ميناء الدار البيضاء والإذن بطحنها قبل أن يستصدر في هذا الشأن قرار من الجهة الإدارية المختصة.
ثالثا: حقوق المواطنين تجاه الإدارة وتكريس مبدأ المساواة بين الجنسين.
تنص ديباجة الدستور الجديد على” أن المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة “.
كما أضاف الفصل السادس من نفس الدستور التنصيص على أن ” القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاصا ذاتيين واعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له.
تعمل السلطات العمومية على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية… “.
وفي إطار مراقبة القضاء لعلاقة الإدارة بالمواطنين والموظفين ومدى تقيدها بمبدأ المساواة اعتبرت محكمة النقض ما يلي:
- الإدارة ملزمة بالتقيد بمبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، وأن قيام الإدارة بمنح رخص البناء لبعض المالكين على الشياع، ورفض منح نفس الرخص للبعض الآخر من المالكين على الشياع، يشكل خرقا لمبدأ مساواة المواطنين أمام القانون المنصوص عليه دستوريا.
- تعلل الإدارة بكون قرارها بعدم أحقية المستفيد من الأقدمية لعلمه اليقيني بها قد تحصن بمرور الوقت لعدم مطالبته بها منذ سنتين، يشكل إخلالا بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين الموظفين الذين هم في نفس وضعيته.”
رابعا: إجبار الإدارة على تنفيذ الأحكام القضائية
ينص الفصل 126 من الدستور الجديد على ما يلي:
” يجب على الجميع احترام الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء.
يجب على السلطات العمومية تقديم المساعدة اللازمة أثناء المحاكمة، إذا صدر الأمر إليها بذلك، ويجب عليها المساعدة على تنفيذ الأحكام “.
إذا كان القضاء هو ملاد الناس في تأمين حقوقهم، وملاد المظلومين في رفع الظلم عنهم، فإن هذه الصلة المتصلة بين المواطنين والسلطة القضائية، وهذا الأمل في الحصول على الحق، من شأنه توطيد الثقة التامة في توزيع العدل بين الناس، ووضع السلطة القضائية موضوع المهابة والقدسية والجلال، وجعل بابه مفتوحا للجميع يلجه كل راغب في التماس العدل مهما كان مركزه أو موقعه.
غير أن ما يتوخاه المتقاضي من دعواه، ليس فقط صدور حكم لمصلحته، وإنما ترجمة منطوقه على أرض الواقع، أي عن طريق تنفيذه دون أدنى نكول من جانب الإدارة، سواء كان المحكوم عليه شخص من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص.
وفي هذا الصدد كرست محكمة النقض مجموعة من المبادئ كما يلي:
- يمكن الحكم بغرامة تهديدية في مواجهة الإدارة الممتنعة عن تنفيذ حكم قضى عليها بالقيام بعمل أو بالامتناع عن القيام بعمل استنادا إلى الفصل 448 من قانون المسطرة المدنية والمادة السابعة من القانون رقم 90-41 المحدث للمحاكم الإدارية التي تنص صراحة على تطبيق المحاكم الإدارية للقواعد المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية.
- تماطل الإدارة في تنفيذ حكم يقضي بتسوية وضعية إدارية ومالية ورفضها يعتبر خطأ مرفقيا يرتب مسؤوليتها ويعطي المعني بالأمر حق المطالبة بالتعويض عن حرمانه من الاستفادة من الترقية المحكوم له بها.
خامسا : حرية الصحافة والحق في التعبير
إن تطبيق محكمة النقض للفصل 28 من الدستور وباقي القوانين الموضوعية ذات الصلة بحرية التعبير يفرض عليها التقيد بقواعد التفسير التي تدعم الحريات وتساهم في تعزيز مناخ الأمن والثقة والانفتاح كما يظهر من بعض قراراتها كالتالي:
- إن الأصل هو حرية طبع ونشر الكتب والجرائد والنشرات بعد القيام بالإجراءات القانونية، وأن المنع هو الاستثناء، وكل استثناء على الأصل يجب أن يكون مدعما بما يبرره. وإذا كانت الإدارة غير ملزمة بتعليل قرارتها عند صدورها، فإنها تكون بالمقابل ملزمة بعد الطعن فيها أمام القضاء ببيان الأسباب والدواعي التي حدت بها إلى اتخاذ قرار إيقاف صحيفة أو حجزها أو منعها من الصدور لتمكين القضاء من بسط رقابته.
- القذف لا يتحقق إلا بنسبة أمر واقعة معينة إلى الشخص المقذوف على سبيل التأكيد، أما مجرد انتقاد شخص دون توجيه اتهام له بما يشينه فلا يعتبر قذفا، إذ هو مجرد ممارسة لحرية التعبير.
سادسا : الحقــوق السياسيــة
وفي هذا السياق وعلى سبيل المثال لا الحصر أشير إلى أن محكمة النقض ومساهمة منها في تخليق الحياة السياسية ولسد الباب أمام مجموعة من الممارسات التي تمس مصداقية الانتخابات وبالثقة في العمل المؤسساتي والسياسي، استقر عملها واجتهادها على أن ” التنازل عن الطعن في صحة نتائج العملية الانتخابية يبقى غير مقبول لتعلقه بحق عام وليس بحق شخصي يملك الطاعن التنازل عنه. “
كما أن محكمة النقض ومساهمة منها في تخليق الحياة السياسية اعتبرت أنه :
” لا يجوز لشخص منتخب باسم حزب معين في إحدى غرفتي البرلمان أن يترشح باسم حزب آخر غير الحزب الأول الذي زكاه – للانتخابات الجماعية، ما لم يتم انسحابه من حزبه الأول كما تقضي بذلك المادة 26 من قانون الأحزاب السياسية، وفي ذلك مسايرة للمادة الخامسة منه التي تمنع الترحال الحزبي، ولديباجته التي جعلته وسيلة لإضفاء الشفافية على تشكيل الأحزاب السياسية وتسييرها والارتقاء بها وتأهيلها للتداول على تدبير الشأن العام، على اعتبار أن القانون المذكور يندرج ضمن القوانين الانتخابية. ”
سابعا: الحقــوق الاجتماعيــة
نشير إلى أن محكمة النقض وفي إطار مراقبتها لشروط العقد المخالفة للنظام العام المغربي أكدت أن ” التزام المضيفات في النقل الجوي ببقائهن في حالة عزوبة بناء على عقد العمل يؤدي إلى التمييز بين المرأة والرجل وإلى المساس بالحقوق الثابتة للإنسان، ورتبت على ذلك بطلان الشرط وأبقت على الالتزامات الأخرى في العقد صحيحة “.
واحتراما لحرية الأجيرة في ارتدائها للحجاب داخل مقر العمل اعتبرت محكمة النقض بأن مطالبة الأجير لها بإزالته يعد مساسا بحريتها الشخصية حسب الحيثيات التالية:
” لئن كان نظام العمل داخل المقاولة يفرض على العاملين وضع قبعة واقية على الرأس، فإن تقيد الأجيرة بما فرض عليها، مع ارتدائها أيضا سترة للرأس التزمت بها كطريقة خاصة في لباسها، لا يشكل إخلالا بذلك النظام ، ومن تم فإن مطالبتها من طرف المشغل بإزالة الحجاب الموضوع على رأسها يعد مساسا بحريتها الشخصية ، مادام لم يثبت أن لباسها على النحو المذكور يحول دون قيامها بعملها على الوجه المطلوب، أو أنه يعرقله بأي شكل من الأشكال. وأنه أمام تمسك الأجيرة بممارسة حريتها في لباسها فإن مغادرتها لعملها، إن تمت من قبلها ، أمام إصرار المشغل على موقفه تعتبر طردا مقنعا من عملها تستحق معه التعويضات التي يخولها قانون الشغل عن الفسخ التعسفي لعقد الشغل “.
ثامنا : الحقوق الاقتصادية.
أكدت محكمة النقض بأن :
” وجود حوادث او ظروف طبيعية او اقتصادية او من عمل جهة أخرى غير الجهة الإدارية المتعاقد معها لم تكن في حساب المتعاقد عند ابرام العقد ولا يملك لها دفعا من شأنها أن تنزل به خسائر فادحة تختل معها اقتصاديات العقد اختلالا جسيما، من شانه ان يلزم الجهة الادارية المتعاقدة بان تشارك المتعاقدة معها في تحمل نصيب من الخسارة التي لحقت به طوال فترة قيام الظرف الطارئ … ثبوت ذلك يجعل من حق المتعاقد المتضرر المطالبة من الادارة ان تشاركه في هذه الخسارة بتعويضه عنها تعويضا جزئيا “.
تاسعا: حق المرأةفي المناصفة و علاقته بمبدأ المساواة
تعززت مكانة المرأة المغربية بعد صدور الدستور الجديد الذي كرس آليات ومؤسسات دستورية لحمايتها من كافة أشكال التمييز ضد النساء، وتدعم وصولها إلى مواقع صنع القرار، وتسمو بثقافة المساواة كقيمة في بعدها الإنساني، وحق المناصفة كممارسة واقعية لتجسيد الصورة الإيجابية لمشاركة المرأة على قدم المساواة مع الرجل داخل المجتمع، بدليل أن النساء يشكلن نسبة تفوق 40% في السلك القضائي.
وفي هذا السياق ينص الفصل 19 من دستور 2011، على أن :
“يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها.
تسعى الدولة إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء.
وتُحدث لهذه الغاية، هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز “.
إن تفعيل محكمة النقض لحق المرأة في المشاركة الإيجابية إلى جانب الرجل، يندرج ضمنحرصها على التطبيق السليم للقانون، والعمل على تأويله وتكييفه مع التطور الاقتصادي والاجتماعي، وإثراء ثقافته بما يجعلها تساهم بشكل ملموس، في تطوير الفقه القانوني المغربي، من خلال حكامة قضائية جيدة، ووفق خطة استراتيجية مضبوطة تعتمد أدوات المقاربة التشاركية، العصرية والمسؤولة، لرفع التحديات والارتقاء بدور المرأة إلى المكانة التي دعا إليها القاضي الأول للمملكة صاحب الجلالة الملك محمد السادس دام له العز والتمكين – قبل الدستور الجديد- حسبما ورد في خطابه السامي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة للبرلمان بالرباط يوم الجمعة 10 – 10 – 2003 :
“.. إلى متى سنستمر في اللجوء إلى التمييز الإيجابي القانوني، لضمان مشاركة واسعة للمرأة في المؤسسات ؟ لا ريب أن الأمر يتطلب نهضة شاملة، وتحولا عميقا في العقليات البالية والوعي الجماعي، وفتح المجال أمام المرأة، بما يناسب انخراطها في كل مجالات الحياة الوطنية، لما أبانت عنه من جدارة واستقامة وتفان، في خدمة الصالح العام..”. انتهى النطق الملكي.
وفي هذا الصدد قضت محكمة النقض في أحد قراراتها بما يلي:
” الدستور لا يميز الرجل والمرأة في تولي منصب القضاء، وكذا الظهير الشريف المكون للنظام الأساسي لرجال القضاء لا تميز مقتضياته بين الجنسين للانخراط في سلك القضاء.
بمقتضى الفصل 6 من الظهير المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة يمكن لكل غرفة من غرف محاكم الاستئناف وهي مكونة من قاضيات أن تحكم في كل القضايا المعروضة عليها أيا كان نوعها وإن تعلق الأمر بقضايا الأحوال الشخصية “.
ومن جهة أخرى، فإن السياق العام للظرفية الحالية والمتميزة في المجال الحقوقي يفضي بكل تفاعلاته إلى انتهاج محكمة النقض لبعد جديد يتجاوب مع هذا النوع من الحقوق على المستوى الجهوي والوطني والدولي، والاجتهاد في إقامة معايير قضائية لتبيان الخيط الرفيع بين حق المرأة في المناصفة ومبدأ المساواة مع الرجل، وعلاقتهما معا بالمصلحة العامة حسبما هو ثابت من خلال حيثيات أحد قراراتها كما يلي:
” إن العمل على تجنيب الاناث المدرسات المشاق والانشغالات التي تعرضهن لها عند تعيينهن في المناطق النائية , وجعل هذا التعيين مقتصرا على المدرسين الذكور لا يمس بمبدأ المساواة وانما يخدم المصلحة العامة المتمثلة في رفع المردودية … “.
كما أن الغرفة الإدارية بنفس المحكمة قد عملت على التوفيق بين مبدأي تكافؤ الفرص ومساواة المواطنين أمام التكاليف وضرورة خضوع جميع الأطباء نساء ورجالا لعملية القرعة للتعيين في مستشفيات المملكة معتبرة في حيثيات أحد قراراتها ما يلي:
” إن تكافؤ الفرض ومساواة المواطنين أمام التكاليف يعتبران مبدئين أساسيين يحكمان النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية دون حاجة للنص عليهما قانونا . وان هذين المبدئين يقتضيان معاملة جميع الموظفين على قدم المساواة . وان عملية القرعة التي قررت وزارة الصحة إجراءها لتعيين أطباء بمختلف مستشفيات المملكة لم تخضع لها كافة الأطر الطبية كما عللت بذلك المحكمة قرارها المطعون فيه بما أوردته في تعليلها. من أن البحث الذي تم إجراؤه في المرحلة الابتدائية تبين منه أن بعض الطبيبات وقع استثناؤهن من عملية القرعة واستخلصت من ذلك ان مبدأ تكافؤ القرض لم يطبق بكيفية صحيحة وألغت المقرر المطعون فيه تكون عللت قرارها تعليلا سليما “.
عاشرا : الحق في العناية الصحية والعلاج.
لا شك أن مسؤولية الطبيب الجنائية والمدنية والتأديبية الناتجة عن ممارسة مهنته تؤطرها نصوص تشريعية عامة وقوانين خاصة بمهنة الطب، إضافة إلى مجموعة من المبادئ المتعارف عليها في إطار العمل الطبي. أي بعبارة أخرى، أن كل تحركات الطبيب بمناسبة عمله تتحرك معها تلك النصوص عند إثارة مسؤوليته الناتجة طبعا عن إخلاله بالتزام قانوني أو بأحد مبادئ أصول مهنة الطب. ومن هذا المنطلق، فإن العلاج كحق دستوري يستفاد من صياغة الفصل 31 من الدستور الجديد الذي أشار إليه ” كواجب على الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، يفرض عليهم العمل على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات، على قدم المساواة، من الحق فيالعلاج والعناية الصحية “.
وفي غياب أي نص تشريعي ملزم للطبيب بوجوب مسايرته للتطور العلمي على المستويين الفني والتقني نجد محكمة النقض قد كرست في أحد قراراتها مسؤولية الطبيب عن إخلاله بواجب الرقي بعمله إلى مستوى الوسائل الحديثة المتوصل إليها في ميدان الطب حسبما يتضح من صراحة الحيثيات التالية:
” لكن حيث إن مسؤولية الطبيب عن عمله في علاج المريض المعروض عليه تتجلى في بذل العناية اللازمة واستعمال وسائل الكشف والعلاج الناجعة المتوفرة في وقت تدخله الطبي وهو ما يتطلب منه مواكبة التطور العلمي في هذا المجال والرقي بعمله إلى مستوى الوسائل الحديثة المتوصل إليها في ميدان الطب فنيا وعلميا تحت طائلة مسؤوليته عن كل استعمال لوسائل تقنية قد يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمريض الخاضع لإشرافه في عملية الفحص والعلاج والحال أن وسائل تقنية أحدث منها كفيلة بتجاوز العقابيل التي قد تنتج عن استعمال وسائل تقليدية رقى الطب علميا وفنيا عنها إلى وسائل أحدث منها وأنجع لتفادي المضاعفات المحتملة منها والمحكمة لما ثبت لديها أن حالة المريضة (المطلوبة) التي آلت إليها من جراء فحص رحمها من طرف الطبيب ( … ) المحكوم عليه بسبب استعماله المنظار الداخلي ونفخه بدلا من استعمال السائل الخاص بذلك مما أدى إلى انسداد أوعية دموية لرحمها تركت لديها مضاعفات عصبية ونفسية حسب الخبرة التي اعتمدتها وتقرير المشرفة على التخدير والذي لها الأخذ به في نطاق سلطتها التقديرية في تقييم وسائل الإثبات ركزت قضاءها على أساس ولم تخرق أي مبدأ قانوني والوسيلة لذلك على غير أساس “.
حادي عشر : حقوق الدفاع.
قضت محكمة النقض في أحد قراراتها بأن : ” محكمة الاستئناف التي تصدت للبت في القضية، بعد إلغائها الحكم المطعون فيه، بعد معاينتها لخرق قانوني في تشكيل هيئة الحكم أمام محكمة أول درجة، يتمثل في بت قاض منفرد في طلبين أحدهما أصلي بالنفقة يرجع له حق النظر فيه، والثاني طلب مضاد بإسقاط الحضانة يخرج عن اختصاصه، تكون قد خرقت مبدأ التقاضي على درجتين، إذ كان يتوجب عليها أن تعيد الأطراف إلى المحكمة الابتدائية للبت في القضية من جديد من طرف هيئة جماعية “.
ثاني عشر: بيانات الحكم القضائي.
انسجاما مع مقتضيات الدستور الجديد اعتبرت محكمة النقض بأن ” القرار المطعون فيه ولئن لم يتضمن الإشارة إلى صدوره “طبقا للقانون” ملاءمة مع ما تنص عليه مقتضيات الفصل 124 من الدستور الجديد، فإن ذلك لا يقلل من شرعيته مع وجود الصيغة التي استهل بها صدوره “باسم جلالة الملك” طبقا للمادة 365 من قانون المسطرة الجنائية، طالما أن إيراد العبارة المضافة “وطبقا للقانون” بالحكم القضائي ليس إلا عملا كاشفا للأمر المفترض بقوة الدستور نفسه وليس منشئا له “.
خاتمــة :
من خلال ما سبق، أخلص إلى القول بأن :
الاجتهادات القضائية لنساء ورجال السلطة القضائية داخل وطننا العزيز، تشكل تراثا قضائيا وعلميا رصينا، ومرجعا عمليا لكل ممارس ومتتبع للمسار القضائي المغربي في استنباط الحلول المناسبة للقضايا التي يفرزها واقع المجتمع،
ومرآة حقيقية للفكر النير والتأصيل المتحضر المنسجم مع غاية المشرع وروح العصر، مما يعكس حتما سمو ونبل وأخلاق الشرفاء والفضلاء في تقلد رسالة العدل لتحقيق العدالة بين الخصوم وإقناع الجميع بجودة أحكامهم وتكريس مصداقية السلطة القضائية واطمئنان المواطنين إليها وثقتهم فيها.
وإذا كانت جرأة الاجتهاد القضائي المغربي وجودة أحكامه تشرف السلطة القضائية من خلال تأسيسها وترسيخها لبعض المبادئ والمفاهيم التي تهدف إلى تحقيق عدالة أفضل، فإنها تجعل من السلطة القضائية فعلا أن تكون مؤتمنة على سمو دستور المملكة، وسيادة قوانينها، وحماية حقوق والتزامات المواطنة بنفحة حقوقية وحمولة كونية وقيم وطنية.
كما أشير في الختام إلى أن تباين المواقف القضائية في بعض المسائل الخلافية لا يمكن اعتباره اضطرابا في الاجتهاد، وإنما هو تنوع في التأصيل والتفسير، والاجتهاد في الرأي والابتكار في التكوين المنفتح داخل مدارس فقه القضاء بمحكمة النقض، وذلك من أجل استكمال النقص أو استيضاح الغموض الذي يطال النص التشريعي عن طريق إعمال ضوابط الاجتهاد وأدلة أصول الفقه الإسلامي في التأويل، والرقي بالاجتهاد القضائي المغربي من دوره التقليدي المتمثل في تحقيق التوازن الطبيعي بين أفراد المجتمع إلى اعتباره رافعة للتنمية وجعله قريبا من المتقاضين في بعده الإنساني بكل تجلياته ومعانيه