عقوبة العمل لأجل المنفعة العامة -نحو تكريس عدالة إصلاحية ذات بعد إنساني-

غزلان مبروك خريجة ماستر المهن القانونية و القضائية
ملخص
العمل من أجل المنفعة العامة عقوبة جزائية مقيدة للحرية, تتمثل بأداء المحكوم عليه عملا بلا أجر للصالح العام, بحث يحدد القاضي في الحكم عدد ساعات العمل و مدة الإنجاز ضمن الحدود التي يرسمها القانون. و هي عقوبة جديدة و فريدة من نوعها تنطوي على معاملة عقابية خارج أسوار السجون أفرزتها ضرورات العدالة التأهيلية لمواجهة أزمة العقوبة السالبة للحرية القصيرة المدة. فالهدف الأساس من عقوبة العمل من أجل المنفعة العامة هو تأهيل المحكوم عليه, لإعادة اندماجه اجتماعيا و هو هدف الذي يحتل المرتبة الأولى من بين أهداف العقوبة في ظل السياسة القابية المعاصرة. و قد تحقق هذه العقوبة في المستقبل نجاحا كبيرا في مجال العدالة الجنائية, لما تنطوي عليه من مزايا تأهيلية و اجتماعية ,و اقتصادية تجعلها تحتل مركز الصدارة في قائمة البدائل العقابية.
Community service constitutes a custodial sentence, expressed through the performance, by the convicted person, of unpaid work for the benefit of the community. The judge determines, in their ruling, the number of hours to be completed as well as the timeframe for execution, within the limits set by law. It is a new and distinctive penal sanction, involving a repressive measure outside the prison setting, established by the demands of rehabilitative justice to address the shortcomings of short-term custodial sentences.
The main objective of the community service sentence lies in the rehabilitation of the offender and their social reintegration, a goal that holds a prominent place among the aims of punishment within contemporary criminal policy. This sentence is likely, in the future, to experience significant growth within the field of criminal justice, due to its advantages in terms of rehabilitation, social cohesion, and economic efficiency—thus placing it at the forefront of alternative sanctions.
مقدمة:
في ظل التحولات العميقة التي تشهدها السياسة الجنائية المعاصرة,لم يعد الهدف من العقوبة مقتصرا على الردع و الزجر, بل أصبح يتجه نحو تحقيق غايات أسمى, تتمثل في الاصلاح,إعادة الإدماج, و الحد من الآثار السلبية للعقوبات السالبة للحرية. فقد أثبتت التجربة أن السجن,رغم ضرورته في بعض الحالات , لا يعد دائما الوسيلة المثلى لتحقيق العدالة, بل قد يسهم في تفاقم الظاهرة الاجرامية, و يكرس التهميش و العزلة الاجتماعية , خاصة بالنسبة للجناة غير الخطيرين .
من هذا المنطلق برزت الحاجة إلى اعتماد العقوبات البديلة[1] كخيار تشريعي و إنساني يوازن بين حماية المجتمع من الجريمة , و ضمان حقوق الفرد المحكوم عليه .
و في مقدمة هذه العقوبات, تبرز عقوبة العمل من أجل المنفعة العامة باعتبارها نمودجا اصلاحيا متقدما يجسد فلسفة العدالة التصالحية, و يعيد تعريف العلاقة بين الجاني و المجتمع , ليس على أساس العقاب بل على أساس الخدمة و التعويض الرمزي.
إن عقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة تعد تدبيرا قانونيا يلزم المحكوم عليه بأداء عمل غير مأجور لفائدة جهة عامة أو مؤسسة ذات طابع اجتماعي أو انساني, و ذلك بدلا من قضاء مدة الحبس. و هي عقوبة لا تطبق إلا في حالات معينة, وفق شروط قانونية دقيقة , و تنفذ تحت إشراف قضائي و إداري يضمن احترام كرامة المحكوم عليه و فعالية الإجراء.
و قد تبني المشرع المغربي هذا التوجه من خلال ادراج هذه العقوبة ضمن قانون 43,22 المتعلق بالعقوبات البديلة و ضمن مشروع اصلاح القانون الجنائي في اطار رؤية شاملة تهدف إلى تحديث المنظومة العقابية, و تكريس مبادئ العدالة الانسانية, و الحد من الاكتظاظ السجني, و تخفيف من الضغظ على القضاء الجنائي .
لكن, ورغم هذه المزيا, فان تطبيق عقوبة العمل للمنفعة العامة يطرح مجموعة من الاشكالات القانونية و العلمية, تتعلق بآليات التنفيذ و ضمانات المحكوم عليه , و مدى جاهزية المؤسسات المستقبلية , فضلا عن ضرورة تغيير النظرة المجتمعية تجاه العقوبة, و تكريس ثقافة الاصلاح بدل الانتقام.
من هنا ,يهدف هذا المقال إلى دراسة عقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة في التشريع المعربي, من خلال تحليل الأساس القانوني لها , و استعراض شروط تطبيقها, و تقييم اثارها على الفرد و المجتمع , ذلك في ضوء التجارب المقارنة , و المبادئ الكونية لحقوق الانسان .
كما يسعى إلى ابراز مدى انسجام هذه العقوبة مع فلسفة العدالة الجنائية الحديثة, و مدى قدرتها على تحقيق التوازن بين حماية المجتمع و ضمان كرامة الجاني.
و من خلال هذا يمكن صياغة اشكالية قانونية مركبة تعكس التوتر بين الجانب التشريعي و الالتحام العلمي و الاجتماعي لهذه العقوبة.و تتمثل هذه الاشكالية على النحو الثالي:
ّ إلى أي مدى تسهم عقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة, باعتبارها عقوبة بديلة في التشريع الجنائي المغربي, في تحقيق العدالة الإصلاحية ذات البعد الإنساني, دون الإخلال بمبادئ الردع العام و الخاص؟
و للإحاطة بجوانب هذه الاشكالية من مختلف زواياها النظرية و العلمية, ارتأيت اعتماد تقسيم ثنائي لبحث , يتوزع على مطلبين رئيسيين:
- المطلب الأول: الاطار القانوني العام لعقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة .
- المبطلب الثاني: الانعكاسات الاصلاحية لعقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة على الفرد و المجتمع.
المطلب الأول: الإطار القانوني العام لعقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة .
سنسلط الضوء في هذا المطلب على تعريف عقوبة العمل من أجل المنفعة العامة في (الفقرة الأولى) و كذا الحديث عن شروطها و خصائصها في (الفقرة الثانية)
الفقرة الأول: التعريف بعقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة و تطبيقها.
يقصد بالعمل, في المفهوم العام , كل جهد انساني يبذله الفرد , سواء كان بذنيا أو فكريا , باستخدام قدراته الذاتية أو بالاستعانة بوسائط تقنية , بما في ذلك تدخل الآلة الحديثة التي تبقى, رغم تطورها , خاضعة لتوجيه الانسان و اشرافه.
أما النفع فهو نقيض الضرر و يرتبط بالنفع العام باعتباره كل مايحقق مصلحة المجتمع ,أما بجلب منفعة له أو بدرء ضرر عنه.
و في هذا السياق , يعرف الأستاذ محمد العروصي عقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة بأنها إحدى بدئل العقوبات التي يصدرها قاضي الحكم, بعد حضور المحكوم عليه و موافقته, ليقوم بتنفيذ عمل غير مأجور لدى إحدى المؤسسات العامة أو ذات الطابع الاجتماعي, وذلك لفائدة المنفعة العامة , و تتمثل غايتها في اصلاح الجاني , تأهيله ,و اعادة ادماجه في المجتمع , بعيدا عن العقوبات السالبة للحرية التي قد تكرس الانحراف و التهيش.[2]
و تعد عقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة من بين البدائل الحديثة للعقوبات السالبة للحرية[3],حيث يلزم المحكوم عليه بأداء عمل غير مأجور لفائدة جهة عامة أو مؤسسة ذات طابع اجتماعي , و ذلك خلال مدة محددة , و وفقا لشروط قانونية مضبوطة. و قد تبنت معظم التشريعات المقارنة هذا النوع من العقوبات , مع تفاوت في شروط اصدارها و آليات تنفيذها,بحسب خصوصية كل منظومة قانونية .
و رغم اختلاف الجهات المكلفة بالاشراف ْعلى تنفيذ هذه العقوبة, فإنها تتفق جميعا على جوهرها, الذي يتمثل في استبدال الحبس بأداء عمل يخدم الصالح العام, بما يحقق أهدافا اصلاحية و اجتماعية, و يعزز فلسفة العدالة التصالحية , دون المساس بكرامة المحكوم عليه أو حقوقه الأساسية .
و من بين البين التشريعات التي عرفت عقوبة العمل لأجل المنفعة العامة نجد القانون الاماراتي في المادة120 من قانون العقوبات التي جاء فيها بأنه “ تكليف المحكوم عليه أداء العمل المناسب في احدى المؤسسات أو المنشات الحكومية التي يصدر تحديدها قرار من وزير العدل,على أن يمنح ربع الأجر المقرر للمحكوم عليه, و لا يكون الالزام بالعمل إلا في مواد الجنح وبديلا عن عقوبة الحبس أو الغرامة على ألا تقل مدة الالزام عن 10 أيام ولا تزيذ على سنة.
في حين عرف المشرع المغربي العمل لأجل المنفعة العامة بأنه عمل غير مؤدى عنه, ينجز لفائدة شخص اعتباري عام أو جمعية ذات منفعة عامة لمدة تتراوح بين 40 و 600 ساعة كما أعطى للمحكمة بتحديد ساعات العمل لأجل المنفعة العامة و نصت الفقرة الثانية من نفس المادة أن كل يوم من مدة العقوبة توازيه ساعتان من العمل مع مراعاة الحد الأقصى لساعات العمل طبقا للفقرة الألى من نفس المادة . [4]
في حين خص المشرع المغربي الأحداث الذين تتراح أعمارهم بين 15 سنة و أقل من 18 سنة, و الذين يحكم عليهم بعقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة , بجملة من الاجراءات الخاصة الواردة في المادة 9-35 من القانون الجنائي . وقد شدد على ضرورة أن يتحقق ٌقاضي الأحداث من مدى ملائمة العمل المكلف به للحدث , سواء من حيت مصلحته الشخصية أو من حيث مساهمة في اعادة ادماجه داخل المجتمع. كما أوجب النص القانوني المحكوم عليه تنفيذ هذه العقوبة البديلة داخل ـأجل لايتجاوز عشرة أشهر من تاريخ صدور المقرر التنفيذي النهائي , مع امكانية تمديد هذا الأجل بناء على طلب يقدمه الحدث , و يبت فيه من طرف قاضي تطبيق العقوبات أو قاضي الأحداث بحسب الحالة المعروضة .
الفقرة الثانية : الشروط القانونية لعقوبة العمل من لفائدة المنفعة العامة و خصائصها.
نعرض في هذه الفقرة لشروط عقوبة العمل من أجل المنفعة العامة (أولا) ثم إلى خصائصها( ُثانيا)
أولا: الشروط القانونية لعقوبة العمل من أجل المنفعة العامة.
ربط المشرع الحكم بعقوبة العمل من أجل المنفعة العامة كعقوبة بديلة بمجموعة من الشروط و هي كالاتي:
- ألا يتعارض تطبيق عقوبة العمل للمنفعة العامة بالمنع المنصوص عليه بمقتضى
المادة 3-35من قانون العقوبات البديلة حيث جاءت المادة 35-3 من مسودة مشروع القانون الجنائي بمجموعة من الجرائم المستثناة من الاستفادة باستبدال العقوبة السالبة للحرية بالبدائل العقابية والتي جاء فيها ما يلي: ” لا تطبق العقوبات البديلة على الجرائم التالية: الاختلاس والغدر والرشوة واستغلال النفوذ، الاتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية الاتجار في الأعضاء البشرية، الإستغالل الجنسي للقاصرين.[5]
- ضرورة بلوغ المحكوم عليه 15 سنة فالمشرع المغربي اشترط لتطبيق عقوبة العمل من أجل المنفعة العامة ضرورة بلوغ المحكوم عليه 15 سنة على الأقل وقت ارتكاب الجريمة، وهو ما أكد عليه في البند الأول من المادة 5-35 من مشروع قانون العقوبات البديلة حيث خول إمكانية تطبيق هذه العقوبة على الأحداث الذين يتراوح سنهم بين 15 سنة و 18 سنة بدل الاقتصار على الرشداء فقط، ويالحظ أن المشرع لم يميز بين الأعمال التي يقوم بها الرشداء من تلك التي يقوم بها الأحداث، على عكس ما نص عليه الباب الخامس من مدونة التجارة إذ عددت مجموعة من الأشغال يمنع على النساء والأحداث مزاولته، وهي نفس الأشغال التي يجب على المشرع الجنائي منع الحدث من مزاولتها حماية لمصلحته الفضلى ، كما يلاحظ أيضا أن المشرع المغربي لم يضع حدا أقصى لسن المحكوم عليه المراد شموله بتدبير العمل لأجل المنفعة العامة، ونتيجة لذلك يجوز تطبيق عقوبة العمل من أجل المنفعة العامة على كل شخص يبلغ من السن 15 سنة فما فوق.
- ألا يكون الجاني في حالة عود حيث تطلب المشرع ألا يكون المحكوم عليه قد سبق الحكم عليه قضائيا، بمعنى أن يكون مجرما مبتدئا لم يسبق الحكم عليه من قبل ، [6]وهذا ما اشترطه المشرع المغربي كشرط عام يقع على جميع العقوبات البديلة في المادة 1_35من مسودة مشروع العقوبات البديلة حيت جاء فيها “… لا يحكم بالعقوبات بما فيها التشريع البديلة في حالة العود …” ، والمالحظ أن جل التشريعات المغربي فتحت المجال لتطبيق هذه العقوبة فقط أمام شخص لم يسبق أن كان في حالة عود، وهذا الأمر مستساغ لأنها نصت على ذلك بصفة مطلقة ولم تراعي في ذلك الأشخاص مرتكبي الجرائم البسيطة التي ألا تلحق ضررا بلي على سواء بالضحية أو المجتمع نفسه، والمحكوم عليهم بعقوبة حبسية قصيرة المدة لاسيما العائدين من الجنح المعاقب عليها بأقل من سنتين حبسا أي الجنح الضبطية هذه الأخيرة التي أبانت عن فشلها في تأهيل المحكوم عليهم، حيث لم تعد فعالة ومجدية في أداء دورها، مما يستحسن معه إعطاء القاضي المختص السلطة التقديرية في الحكم بعقوبة العمل لأجل المنفعة العامة كلما تبين لع عدم خطورة العائد على نفسه أو غيره[7]
- حضور المحكوم عليه لجلسة الحكم وموافقته على الخضوع لبديل العمل لأجل المنفعة العامة فالمشرع الجنائي المغربي أشار إلى ضرورة موافقة المحكوم عليه بالعقوبة البديلة أثناء الجلسة، وبمفهوم المخالفة لنص المادة 4-35 الفقرة 2كل موافقة تتم خارج الجلسة أو بواسطة محام به تعتبر كان لم تكن، وهو ما يفهم بعبارة الالزام الواردة في المادة المشار إليها، ورضا المحكوم عليه مطلوب نفسيا إذ يعد ضماما لتعاونه مع الجهات المشرفة على سلوكه، وتلك التي يعمل لديها، وكما أن الرضا دليل الوفاء بإخالص لاللتزامات المفروضة عليه، و لا سيما أن طبيعة العمل للمنفعة العامة تفترض الاستجابة التلقائية وتأبى الإكراه كما أن فكرة الرضاء بالعمل ألا تتعارض مع كونه إلزاميا ومفروضا.[8]
- إلزام المحكوم عليه بتنفيذ عقوبة العمل لأجل المنفعة العامة داخل أجل ألا يتجاوز سنة واحدة من تاريخ صدور المقرر التنفيذي. ويمكن تمديد هذا لأجل لمدة مماثلة مرة واحدة بقرار صادر عن قاضي تطبيق العقوبات، بناء على طلب من المحكوم عليه أو من له مصلحة في ذلك.[9]
ثانيا: خصائص عقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة
- تخضع عقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة شأنها شأن باقي العقوبات, لمبدأ الشرعية الجنائية: [10]الذي يعد ضمانة أساسية لحماية حقوق الأفراد من أي تعسف قضائي أو تجاوز للحدود التي رسمها المشرع ,و بموجب هذا المبدأ , فانه لا جريمة و لا عقوبة إلا بنص قانوني مما يعني أن المشرع وحده هو الجهة المتخصصة بتحديد :
- القواعد المنظمة لعقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة و الحالات التي يجوز فيها الحكم بهذه العقوبة
- شروط تطبيقها و عدد ساعات الخدمة المفروضة.
- و الجهة التي ينفذ فيها العمل المجتمعي.
ويعد هذا التنظيم القانوني ضمانا لتحقيق العدالة , و تأكيد على أن تطبيق عقوبة العمل للمنفعة العام يتم وفق اطار قانوني واضح و محدد.
2 . خضوع عقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة لمبدأ الشخصية : أي أن العقوبة لا تنفذ إلا على الشخص المذنب , ولا يقوم بتنفيذها إلا المسؤول عن الجريمة , فلا يجوز أن تمتد لغيره من أسرته أو ورثته , فهي لا تفرض الا على من اضطلع بالجريمة , اما بصفته فاعلا أو شريكا أو متدخلا أو محرضا , فالعدالة تقتضي أن يجازي كل شخص على ما قام به من فعل و أن لا تتعدي هذه المجازاة ذات الشخص [11]
- خضوع عقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة لمبدأ المساواة و العدل : و يعني ذلك وجوب تطبيقها على كل من توافرت فيه الشروط و الضوابط اللازمة التي تسمح بتطبيق هذه العقوبة عليه , بحيث لا تتعارض مع مبدأ لمساواة مع ضرورة اختلاف طبيعة العمل و ساعاته بين الجناة حسب ما يتطلب التأهيل من ساعات عمل و مدة [12]
- انطواؤها على معنى الجزاء و الإيلام: و يتحقق عنصر الإيلام في نظام خدمة المجتمع من خلال جانبين , الأول تقييد حريته مدة من الزمن يقوم من خلالها بأداء عمل معين و بهذا تضمن اجباره و ايلامه , و الثاني من خلال حرمانه من المقابل المادي للعمل الذي يقوم به فهو مكلف بلا مقابل.[13]
المطلب الثاني الإنعكاسات الإصلاحية لعقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة على الفرد و المجتمع .
في هذا المطلب,سيتم تناول أبرز الانعكاسات الإيجابية لعقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة
و ذلك من خلال تقسيمه إلى فقرتين رئيسيتين. تخصص (الفقرة الأولى) لتحليل آثار هذه العقوبة على الفرد, بينما تتناول (الفقرة الثانية )انعكاساتها على المجتمع
الفقرة الأول: الإنعكاسات الإصلاحية على الفرد .
أولا عزل المحكوم عليه عن المجتمع: من أبرز الآثار الاجتماعية الناتجة عن العزل النفسي للمحكوم عليه ,خاصة إذا كان من المبتدئين في عالم الجريمة, هي انفصاله عن المجتمع الخارجي. فدخوله إلى السجن يفرض عليه التكيف السريع مع البيئة السائدة داخله مما يؤدي إلى اندماجه في المجتمع عكس السجن الذي يتمتع بقيم خاصة به و غالبا ماتكون هذه القيم مرتبطة بسلوكيات إجرامية تكتسب داخل المؤسسة السجنية, مما يعزز من احتمالية تكوين شخصية إجرامية لدى الفرد[14]
ثانيا.تفادي الضرر الذي سيصيب أسرته. إن المغرب بصفة عامة يركز على الأسرة كخلية أساسية في المجتمع فبالتالي دخول أحد أفرادها إلى السجن يؤثر سلبا على أسرته, و هذا راجع إلى نظرة الاحتقار التي ينظر بها كل من دخل إلى هذه المؤسسةدون مراعات الأسباب و الظروف التي دفعته إلى دخولها, فإن عقوبة العمل من أجل المنفعة العامة تجنب المحكوم عليه الحبس و بالتالي يكون في تواصل دائم مع أسرته و هذا يسمح له بأداء التزاماته اتجاه أسرته خاصة أذا كان هو من يعمل على أسرته.[15]
ثالثا:تفادي احتقار المجتمع له: بالنظر إلى الخصوصيات الثقافية و الاجتماعية التي تميز بعض المجتمعات, فإن المحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية, لاسيما السجناء, غالبا ما يتعرضون لنظرة مجتمعية سلبية تتسم بالنبذ و الاحتقار, مما يؤدي إلى عزلهم اجتماعيا
و حرمانهممن أبسط أشكال التفاعل المدني. و يعزى ذلك إلى الوصمة القضائية التي تلاحقهم حتى بعد إنتهاء مدة العقوبة.
و في هذا السياق تبرز العقوبة البديلة المتمثلة في العمل للنفع العام كآلية قانونية فعالة تضمن للمحكوم عليه الحفاظ على مكانته و كرامته داخل المجتمع,نظرا لعدم دخوله إلى المؤسسة العقابية. إذ تتيح هذه العقوبة إعادة إدماج الفرد اجتماعيا دون المساس بسمعته, و تسهم في تقليص الآثار النفسية و الاجتماعية المترتبة على السجن.
رابعا تقليل احتمالات العودة إلى الجريمة. تعد العقوبة البديلة المتمثلة في العمل من أجل المنفعة العامة من الوسائل الفعالة التي تسهم في الحد من احتمالات العودة إلى الجريمة ,وذلك لما توفره من بيئة إصلاحية غير معزولة عن المجتمع.فالمحكوم عليه بهذه العقوبة يظل مندمجا في محيطه الاجتماعي و المهني[16]
و بالتالي فإن هذه العقوبة لا تقتصر على كونها إجراء تأديبيا فحسب بل تعد أداة فعالة لإعادة الإدماج الاجتماعي و تسهم في بناء شخصية متوازنة قادرة على التفاعل الايجابي مع محيطها, مما يقلل بشكل ملموس من احتمالات الانحراف مجددا.
الفقرة الثانية :الإنعكاسات الإصلاحيةعلى المجتمع
أولا المساهمة من الحد من ظاهرة اكتضاظ السجون : يعد الاكتضاظ داخل المؤسسات السجنية بالمملكة المغربية من أبرز التحديات التي تواجه السياسة العقابية, حيث أضحى هذا الوضع مثار قلق متزايد في السنوات الأخيرة لما له من انعكاسات سلبية على حقوق السجناء و ظروف إيوائهم. [17]
وقد نبهت العديد من الهيئات الحقوقية إلى خطورة استمرار هذا الواقع, و يؤثر على فعالية البرامج الإصلاحية المعتمدة من قبل المندوبية العامة لإدارة السجون و إعادة الإدماج.[18]
و ترتبط هذه المعضلة بشكل مباشر بارتفاع عدد المعتقلين احتياطيا[19] و هو ما يشكل إخلالا بمبدأ قرينة البراءة , و يطرح إشكالات قانونية تتعلق بحق المتهم في محاكمة عادلة و احترام الآجال المعقولة للاعتقال. وتعد هذه الحقوق من المبادئ الأساسية التي كلفتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان و الدستور المغربي و قانون المسطرة المدنية مما يستدعي مراجعة شاملة لآليات الاعتقال الاحتياطي و تدبير المؤسسات السجنية بما يضمن التوازن بين متطلبات العدالة الجنائية و احترام حقوق الإنسان.
وعلى أساس ما تقدم نرى بأن الحاجة إلى عقوبة العمل من أجل المنفعة العامة تبدو ضرورة ملحة بعدما تبن لنا الآثار السلبية النفسية و الاجتماعية الناتجة عن سلب الحرية و عزل المحكوم عليه عن المجتمع ومن ثم اختلاطه مع معتادي الإجرام خاصة, إذا نظرنا إلى اتساع نطاق التجريم و بشكل خاص ما فرضه التقدم التقني و التكنولوجي على المجتمعات و في مختلف مجالات الحياة , فضلا عن أن هناك هدفا أساسيا دفع التشريعات إلى تبني أساليب العقاب المستحدثة ( كعقوبة العمل من أجل المنفعة العامة)[20] ألا و هو جعل أسلوب تنفيذ العقوبة أكثر إنسانية لاسيما إذا نظرنا إلى بدائل العقوبات في مجملها ,و أنها قادرة أكثر من غيرها على تحقيق معظم الأهداف المناسبة و القابلة للتحقيق من وراء تنفيذ العقوبة .[21]
ثانيا الأهداف الاقتصادية :
يقول ميشيل فوكو” السجن ما هو إلا وسيلة باهضة التكاليف لتحويل الأشرار إلى أشخاص أكثر شرا” و يعتبر بقوله هذا عن كونه المؤسسة سجنية بعيدة عن دورها في الإصلاح و التأهيل إضافة إلى كونها تثقل كاهل الدولة بالميزانيات التي تخصص لها. ولا يكاد يختلف اثنان حول الطرح أعلاه فالسجن صار مؤسسة لإعادة إنتاج الجنوح, يدل على نسب العود المهولة التي تعرفها عدة بلدان, وبلادنا واحد منها.
وبهذا إن اعتماد العمل للمنفعة العامة كبديل للعقوبة السالبة للحرية، من شأنه التخفيف من ظاهرة المؤسسات السجنية، والتي تكلف الدولة نفقات كبيرة تصرف من أجل تنفيذ العقوبات كميزانية لتوفير التغذية والرعاية الصحية والتجهيزات المختلفة، فضلا عن ذلك “فإن هذه العقوبة تعين المحكوم عليه على المساهمة في بناء الاقتصاد الوطني، عن طريق استثمار مؤهالته وطاقاته في إنجاز مشاريع ذات النفع العام[22]
” من ناحية أخرى، بتبني هذا البديل، ال يفقد المحكوم عليه مصدر دخله – إن كان له دخل وال يتدهور وضعه الاقتصادي الذي تترتب عليه نتائج سلبية.
كانت هذه أهم الأحكام المنظمة لعقوبة العمل لأجل المنفعة العامة، والتي أبانت الدراسات والتجارب المقارنة على نجاحها في تحقيق أغراض السياسة العقابية، ولعل هذا ما دفع المشرع المغربي إلى اعتماد هذا النظام بالنظر إلى فعاليته في تجاوز سلبيات العقوبات السالبة للحرية. غير أتطبيق آلية العمل من أجل المنفعة العامة كعقوبة بديلة للحبس “وإن كانت توحي لأول وهلة ببساطتها وسهولتها، فإنها في حقيقة الأمر تبدو على خالف ذلك، إذ يتعين بداية تظافر جهود المجتمع بكامله لتهيئ الرأي العام[23]، لتقبل مثل هذه العقوبة، “خاصة وأن المجتمع المدني تعود على الزجر كرد فعل ضد الجاني، وأن الضحية قد يعتبرها وسيلة قانونية لافلات المذنب من السجن بل و مكافأته بتوفير الشغل له [24]
وأخيرا فإن الأمل المنشود من إرساء هذا البديل هو أن يبقى السجن هو الإستثناء والحرية هي الأساس،غير أننا نؤكد على أن نجاح هذه العقوبة ببالدنا ال يتحقق فقط بإقرارها تشريعيا وإنما الأمر رهين بتوفير الظروف الملائمة لتكبيقها وتوفير اإلمكانيات المادية والبشرية العتمادها، فضال عن ضرورة تظافر جهود جميع الفاعلين.
خاتمة:
في ختام هذا الموضوع, يتضح أن عقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة تمثل نقلة نوعية في التشريع الجنائي المغربي, حيث تجمع بين الردع و الإصلاح دون المساس بكرامة الفرد أو عزله عن المجتمع فهي تجسد فلسفة العقوبة الحديثة التي توازن بين حماية النظام العام و إعادة إدماج الجاني في محيطه الاجتماعي. إن اعتماد هذا النوع من العقوبات يفتح آفاقا جديدة لتقليص الاكتظاظ السجني , و تخفيف الضغظ على المؤسسات العقابية, مع الحفاظ على فعالية الردع القانوني.
كما أنها تتيح للمحكوم عليه فرصة حقيقية لإعادة بناء ذاته, و المساهمة في خدمة المجتمع مما يعزز من قيم المواطنة و المسؤولية.و لعل نجاح هذا النمودج رهين بتوسع نطاق تطبيقه و توفير الآليات القانونية و المؤسساتية الكفيلة بضمان حسن تنفيذه. فإن العقوبة من أجل المنفعة العامة ليست مجرد إجراء بديل, بل هي تعبير عن إرادة تشريعية تسعى غلى تحقيق العدالة في ابعادها الأنسانية و الاجتماعية.
الهوامش:
[1] مصطفى حلمي العقوبات البديلة على ضوء مشروع القانون الجنائي قدمت في إطار المناظرة المنعقدة بجامعة الأخوين بإفران بتاريخ17_16_15_14 نونبر 2000 تحت عنوان بدائل العقوبات السالبة للحرية.
[2] محمد العروصي , العمل من أجل المنفعة العامة وفقا لمسودة مشروع القانون الجنائي, مجلة العلوم الجنائي مجلة العلوم الجنائية 2015 العدد 2 ص 111
[3] أنظر الفصل 35/2 من قانون العقوبات البديلة.
[4] أنظر المادة 7-35 من قانون 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة.
[5] دليل استرشادي لقضاة النيابة العامة حول تنفيذ العقوبات البديلة طبقا لقانون رقم 43.22 و المرسوم رقم 2.25.386 الصادر سنة 2025.
[6] فاتن الوزاني الشاهدي، “بدائل العقوبات السالبة للحرية القصيرة المدة”، م.س، ص:169.
[7] دليل استرشادي للممارسين حول قانون العقوبات البديلة الصادر عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية بتاريخ 14/04/2015
[8] – ذ.جمال المجاطي، “بدائل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة في ضوء التشريع المغربي والمقارن”، ص: 187.
[9] د الفتاح لغزايلي، “العقوبات البديلة العمل ألجل المنفعة العامة أنموذجا – دراسة على ضوء بعض القوانين المقارنة ومسودة مشروع القانون الجنائي”، رسالة لنيل دبلوم الماستر في العلوم الجنائية، جامعة القاضي عياض، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، مراكش، السنة الجامعية 2015 -2014، ص
[10] ايمن رمضان الزيني العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة و بدائلها – دراسة مقارنة – الطبعة الأولى سنة 2003 .
[11] Jean Maroc varaut: toutes les solutions sont meilleures que la prison. « Op.cit.p.241.
[12] صبيح علي العمل للمنفعة العامة كعقوبة بديلة في القانون الجزائي الفلسطيني رسالة ماجستير جامعة النجاح الوطنية
2017.
[13] الغامدي شامر العمل للمنفعة العامة كبديل لعقوبة السجن دراسة اجتماعية ميدانية على عينة من المختصين ونزلاء
المؤسسات الاصلاحية بمنطقة مكة المكرمة .جامعة الملك عبد العزيز جدة 2015.
[14] زميل شبيب الركاض, العقوبات البديلة, موقع شبكة القضاة الإلكترونية الرياض مقال منشور في الموقع التالي بتاريخ, 2011/01/21 على الموقع التاليwww.alqodhat.com
[15] محمد لخضر بن سالم. عقوبة العمل للنفع العام في القانون الجزائري, مذكرة التخرج لنيل شهادة الماستر, جامعة قاصدي مرباح ورقلة, كلية الحقوق 2011
[16] لمياء بلمير : بدائل العقوبات السالبة للحرٌة قصٌرة المدة , بحث لنيل شهادة الماستر في العلوم القانونٌة تخصص العلوم الجنائية وحقوق الإنسان, مرجع سابق ص : 90 وما بعدها.
[17] عبد الفتاح لغزايلي , “ العقوبات البديلة لأجل المنفعة العامة أنمودجا_ دراسة على ضوء بعض القوانين المقارنة و مسودة مشروع القانون الجنائي.ص 63.
[18] تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان: الأوضاع بسجون المملكة متأزمة وخطيرة، مقال منشور بالجريدة الالكترونية www.wijhatnadar.com،
[19] بعض الباحثين أعطى رقما صادما عن عدد المعتقلين الاحتياطيين، يتمثل في 47% من عدد السجناء، الذي يتمثل في 70 ألف سجين موزعين على سجون المملكة،
أنظر بهذا الصدد مداخلة الأستاذ، عبد الرحيم الجامعي بعنوان، السجون وتنفيذ العقوبة السالبة للحرية ومتطلبات الإصلاح، ندوة مراكش التي تندرج في إطار برنامج إصلاح منظومة العدالة، يومي23 و 24 نونبر 2012
[20] ذ بوجمعة الزناكي ,” بدائل العقوبات السالبة للحرية _ الشغل من أجل المنفعة العامة .ص89.
[21] هشام العلالي العمل من أجل المنفعة العامة على ضوء مسودة مشروع القانون الجنائي والمسطرة الجنائية”، م.س، ص57
[22] عبد الفتاح لغزايلي , “ العقوبات البديلة لأجل المنفعة العامة أنمودجا_ دراسة على ضوء بعض القوانين المقارنة و مسودة مشروع القانون الجنائي.ص 63.
[23] ذ بوجمعة الزناكي ,” بدائل العقوبات السالبة للحرية _ الشغل من أجل المنفعة العامة .ص89.
23 ابراهيم اشويعر العقوبات البديلة في ضوء مشروع القانون الجنائي وآفاق السياسة العقابية,مقال في مجلة المغاربة للرصد القانوني و القضائي العدد الرابع عشر 2011.