التجربة المغربية في التقنيات البديلة لفض المنازعات على ضوء المادة الجنائية
ياسين رشاد باحث في العدالة والعلوم الجنائية ، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية-جامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس
تقديم :
عرفت الوسائل البديلة لفض المنازعات الجنائية اهتماما متزايدا سواء على مستوى الدراسات الفقهية والأعمال البحثية أو على صعيد إقرارها بمختلف الأنظمة القانونية والقضائية العصرية، وذلك بالنظر لما توفره هذه الوسائل من مزايا يتمثل أبرزها في المرونة والسرية في البث، وإشراك الأطراف في إيجاد الحلول لمنازعاتهم، هذا فضلا عن كلفتها المتواضعة نسبيا.
لذا سنحاول في هذا المطلب للتطرق لأهم هذه البدائل، وكيفية تبني المشرع المغربي لها، والأهداف التي تسعى لتحقيقها، ونخص بالذكر مؤسسة الصلح الجنائي (الفقرة الأولى)، والوساطة الجنائية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: مؤسسة الصلح الجنائي:
يعتبر الصلح الجنائي من بين أهم الاليات البديلة لتسوية النزاعات، وإحدى أقدم واهم أشكال تسوية وحل الصراعات والمنازعات، والتي كانت تمارس بشكل كبير في جل المجتمعات، باعتبارها الآلية المفضلة في حل الخلافات عوضا عن القضاء، والمتجاوزة عن تعقيداته واجراءاته المعقدة، والتي تهدف إلى حل النزعات بعيدا عن المشاحنات والبغضاء، وهكذا سنتطرق لتجليات الصلح الجنائي (أولا)، ثم سنمر للحديث عن معيقات تفعيل مسطرة الصلح على مستوى القانوني والعملي (ثانيا).
أولا: تجليات الصلح الجنائي:
إن المشرع المغربي نص في الفقرة الأولى من المادة 41 من ق.م.ج. على أنه “يمكن للمتضرر أو المشتكى به من قبل إقامة الدعوى العمومية وكلما تعلق الأمر بجريمة يعاقب عليها بسنتين حبسا أو أقل أو بغرامة مالية لا يتجاوز حدها الأقصى 5000 درهم أن يطلب من وكيل الملك تضمين الصلح الحاصل بينهما بمحضر”.
فمن خلال منطوق هذه المادة يستنتج أن المشرع المغربي الجرائم التي يمكن الصلح بشأنها تعتبر أفعال بسيطة لا تشكل خطورة كبيرة على المجتمع ولا على النظام العام، مع إمكانية تأهيل المعنيين بالأمر وإدماجهم بسهولة داخل المجتمع لممارسة حياتهم بشكل عادي[1]، كما أن الإحصائيات تؤكد أن هذه القضايا تمثل صدارة القضايا المدرجة حاليا أمام المحاكم العادية من قبيل الإيذاء العمدي الخفيف، إهمال الأسرة، السرقة الزهيدة … إلخ[2].
وهكذا كلما تعلق الأمر بالجرائم المنصوص عليها في المادة 41 وتوفرت شروط الصلح المنصوص عليها في المادة فإننا نكون أمام إمكانية مباشرة مسطرة الصلح المنصوص عليها.
ونظرا للدور الأساسي الذي يقوم به الصلح في إنهاء الخصومات والنزاعات ووضع حد للحقد والضغينة والانتقام، والتقليل من انتشار ظاهرة الانحراف والإجرام، واعتبارا لخصوصية بعض الجرائم، سمح المشرع الأطراف النزاع بإجراء مصالحة بشان هذا النوع من الجرائم من أجل وضع حد للمتابعة ومن هذه الجرائم ما يدخل في تنظيم مقتضيات القانون الجنائي، ومنها ما يدخل في تنظيم بعض القوانين الخاصة، فالمشرع مكن النيابة العامة من معيار مضبوط لإمكانية اللجوء إلى مسطرة الصلح كما هو الشأن في الفصل 41 من قانون المسطرة الجنائية وحدد ذلك في جرائم بسيطة، لكنها تشكل الغالبية العظمى للجرائم المحالة من الضابطة القضائية وهذه الجرائم تتسم بعدم خطورتها على النظام العام[3].
كما نستشف من خلال المادة 41 من ق م ج أن مسطرة الصلح لا تنهض إلا بتوافر ثلاث عناصر أساسية: أي أطراف الخصومة الجنائية والنيابة العامة.
والملاحظ أن المشرع استعمل عبارة متضرر دون استعمال بدل كلمة المشتكي لإضفاء طابع الجدية على مسطرة الصلح فاشترط أن يتعلق الأمر بالمتضرر من الجريمة حتى يضع حدا للشكايات الكيدية التي ليس فيها إثبات، فالظاهر من خلال النص أن الأمر يتعلق باعتراف من جانب المشتكى به بالفعل المنسوب إليه وإلا لما كان لهذه المسطرة محل، وهذا ما أكده بعض الفقه[4].
كما تعد النيابة العامة طرفا مهما في إبرام مسطرة الصلح في إطار المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية فهي من ناحية تعتبر الجهة التي تقترح الصلح أو يقدم لها طلب الصلح وبالتالي تقرر الموافقة أو عدمها بفتح مسطرة الصلح، ومن جهة أخرى تعتبر طرفا لأنها تتفاوض مع المشتبه فيه حول الغرامة التي يؤديها لفائدة الخزينة العامة والخيار بين هذه الغرامة وإصلاح الضرر الناتج عن الفعل الجرمي وتوقع على محضر الصلح[5].
كما حدد المشرع من خلال المادة 41 من ق.م.ج جملة من الشروط لابد من توفرها لإمكانية اللجوء إلى هذه المسطرة سواء تلك المتعلقة بالجانب الموضوعي أو الشكلي:
فمن الناحية الموضوعية لابد أن تكون الجريمة قابلة للصلح وثابتة في حق المشتكى به، كما ينبغي توفر التراضي بين الطرفين مع موافقة النيابة العامة على اللجوء لمسطرة الصلح، بالإضافة لمصادقة رئيس المحكمة أو من ينوب عنه على الصلح.
أما من الناحية الشكلية يتعين احترام مجموعة من الشكليات النظامية يبقى أهمها تحرير محضر قانوني للصلح من طرف وكيل الملك بحضور طرفي الخصومة و كذا مؤازريهما ما لم يتنازلا أو يتنازل احدهما عن هذه الأحقية[6].
و بعد ذلك تتم إحالة محضر الصلح على السيد رئيس المحكمة الابتدائية أو من ينوب عنه بغية التصديق عليه بحضور ممثل النيابة العامة والمتخاصمين ودفاعهما بمقتضى أمر قضائي لا يقبل أي طعن[7].
كما تجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي لم يحدد بالضبط الأجل الواجب تنفيذ الصلح خلاله بل ترك ذلك رهينا بالسلطة التقديرية لمؤسسة رئيس المحكمة حسبما يتراءى لها.
كما يترتب عن الصلح أثار قانونية هامة تتمثل في ايقاف الدعوى العمومية في مواجهة الجاني، وينتج عن هذا التوقف محو كل اثار للجريمة بل قد تنهيها اذا تم تنفيد الأمر القضائي الصادر عن رئيس المحكمة الابتدائية ولم تظهر وقائع جديدة لها تأثير على الدعوى[8].
لكن بالرغم من أن الحكم بسقوط الدعوى العمومية بالصلح هو حكم صادر في موضوع الدعوى إلا انه لا يجوز الاحتجاج به امام القضاء المدني في الوقائع التي كانت محل الاتهام في الدعوى الجنائية المنقضية، اذ انه استنادا إلى قانون المسطرة الجنائية فان الأحكام الصادرة في الموضوع والتي تحوز الحجية أمام القضاء المدني هي التي تتعلق بوقوع الجريمة وبوصفها القانوني ونسبتها إلى فاعلها[9].
ثانيا: الصلح الجنائي بين معيقات النص و الممارسة العملية:
إن المقتضيات القانونية لمسطرة الصلح طرحت العديد من الإشكالات القانونية وذلك على مستوى الشكل والصياغة والانسجام مع الأهداف والغايات التي وضعها المشرع لهاته المسطرة حيث جاءت المادة غامضة، لا تستجيب للأهداف المتوخاة منها، فانعكس هذا الجانب على متانة النص القانوني وتماسكه من جهة، ومن الجانب التطبيقي من جهة ثانية، ومن بين الإشكاليات المطروحة نذكر ما يلي:
- محدودية نطاق الجرائم الخاضعة لمسطرة الصلح:
إن المشرع المغربي من خلال المادة 41 من ق.م.ج حصر نطاق الأخذ بتقنية الصلح في الجرائم التي لا تتجاوز عقوبتها سنتين أو غرامة لا تتجاوز 5000 درهم أي أن الجنايات والجنح التأديبية لا تخضع لهذه المسطرة، مع العلم أن جل الجرائم التي تثقل كاهل المحاكم المغربية هي ذات طبيعة جنحية مثل جرائم الشيك التي تجنح اغلب التشريعات نحو عدم اضفاء الصفة الإجرامية عليها، في حين أن المشرع المغربي لازال يحافظ على الطابع الزجري في مواجهتها، وأيضا هناك جرائم العنف المنصوص عليها في المادة 401 من القانون الجنائي ، لكن العقوبات المقررة لهذه الجرائم لا تسمح باللجوء إلى مسطرة الصلح بشأنها لكونها تتجاوز سنتين[10].
ويبدو أن المشرع المغربي قد عمل على تجاوز هذه الانتقادات التي وجهت لمؤسسة الصلح من خلال مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديدة التي جاءت بالعديد من التعديلات طبقا للمادة 41.1 من المشروع، وذلك من خلال توسيع وعاء الجرائم القابلة للصلح.
- إشكالية عدم حضور المتضرر أمام وكيل الملك:
باستقراء الفقرة الثامنة من المادة 41 من ق.م.ج نجدها تطرح العديد من الإشكاليات تتعلق بحضور المتضرر والمشتكى به، فالنيابة العامة سواء تعلق الأمر بمحاضر الضابطة القضائية المنجزة في حالة التلبس أو العادية ملزمة بضرورة استدعاء الطرفين معا، وهذا هو المقصود بعبارة “إذا لم يحضر المتضرر أمام وكيل الملك” واستدعاء الطرفين وحتى في حالة وجود تنازل مكتوب لازم لبيان موقعهما من مسطرة الصلح، إذ كيف يمكن التشبث من عدم التراجع عن الصلح أو وجود تزوير به؟ لذا فإن حضور الطرفين بغرفة المشورة يستبعد مثل هذه التساؤلات، رغم أن المشرع المغربي لم يكن صريحا بهذا الشأن.[11]
- إشكالية طلب الصلح بعد إقامة الدعوى العمومية:
إن المشرع المغربي أغفل التطرق لإمكانية تفعيل مسطرة الصلح بعد إقامة الدعوى العمومية خلافا لبعض التشريعات وعلى رأسهم المشرع المصري، حيث أن ليس هناك أي عائق يحول دون تقديم الطرفين أو أحدهما طلبه إلى المحكمة يلتمس منها قبول الصلح الذي تم بينهما، كما هو معمول به في المدني، طالما أننا نتحدث عن قضايا بسيطة الخطورة، بل لا مانع أيضا من قيام المحكمة بدورها في اقتراح الصلح على الطرفين كلما كانت الدعوى العمومية منصبة على جنحة من الجنح التي أجاز فيها القانون الصلح[12].
- إشكالية الصلح في حالة تعدد الجرائم:
قد يرتكب شخص عدة أفعال إجرامية في حق شخص أو عدة أشخاص، غير أنه أمام مثول الجميع أمام النيابة العامة يتقدم الطرف المضرور أو الطرف المعتدي المشتكى به بطلب إلى وكيل الملك يرمي إلى تضمين في المحضر صلحا أبرم بين الطرفين أو يقترح على خصمه إبرام صلح معه وبعد تضمين وكيل الملك محضرا بما ذكر يحال على الهيئة المختصة للمصادقة عليه، حيث يثور الإشكال حول مضمون الأمر القضائي الذي سوف يصدر في النازلة، كما أن الحكم الصادر عن هيئة الحكم هل يشمل الجريمة التي توصف عقوبتها بالأشد أم لابد من البث في كل حالة بشكل منفصل عن الأخرى؟
إن المشرع المغربي من الفصلين 118 و 119 من ق.ج.م كان صريحا في هذا الصدد، حيث بين أن من بين شروط قيام حالة التعدد هو أن تكون الجرائم المتعددة صادرة عن شخص واحد[13]، وبالتالي فمتى توافرت حالة من حالات تعدد الجرائم فإن الجاني يستفيد من النص الذي وضع لتحديد العقاب اللازم توقيعه عليه، والمشرع في تأسيسه لقاعدة عدم ضم العقوبات في حالة تعدد الجرائم هدفه بالأساس هو عدم المغالاة في توقيع العقاب والإفراط فيه[14].
- إشكالية الاختصاص في مسطرة الصلح:
إن إسناد الاختصاص للمحكمة للمصادقة على مقرر الصلح من شأنه عدم تخفيف العبء على المحاكم لكون القاضي الذي سيصدر حكما بالإدانة أو بالبراءة، سوف يكلف بالمصادقة على محضر المصالحة وفق ما انتهت إليه إرادة الأطراف، مما يفيد استمرار عرض الملفات على المحاكم وبقاء ظاهرة الكثرة والعرقلة وهدر الزمن مستمرين.
- إشكالية تعقب النيابة العامة مآل التنفيذ:
تثير الفقرة الأخيرة من المادة 41 من ق م ج إشكالية تعقب النيابة العامة مآل التنفيذ حيث نصت على أن يتأكد وكيل الملك من تنفيذ الالتزامات التي صادق عليها الرئيس، فتتبع تنفيذ الالتزامات المصادق عليها من شأنه أن يخلق للنيابة العامة عدة متاعب وأشغال إضافية، مما يستدعيه الأمر من تعقب المشتكى به أو المشتبه فيه المعرفة مال التنفيذ، وقد اقترح البعض أن تقدم المادة 41 من ق م ج مسألة التنفيذ على مرحلة المصادقة[15].
الفقرة الثانية: الوساطة الجنائية:
تعد الوساطة الجنائية ألية بديلة لتسوية النزاعات بمنأى عن الإجراءات القضائية وكذا إجراءات المحاكمة التقليدية بالنظر للدور الفعال الذي تلعبه إرادة كل من الضحية والجاني في وضع حد للنزاع ، ونظراً الأهمية الوساطة في المجال الجنائي ، فإنه لابد من تحديد مفهومها (أولا) ثم الانتقال للحديث عن أفاق تفعيل الوساطة الجنائية في قانون المسطرة الجنائية المغربي (ثانيا).
أولا: مفهوم الوساطة الجنائية:
على اعتبار أن الوساطة الجنائية نظام قانوني جديد، يهدف بالأساس الى حل النزاعات الجنائية بأسلوب غير تقليدي أي تحديد وسيلة بديلة عن القضاء لحل النزاع بين الأطراف المتنازعة .
ومن ثم تعتبر الوساطة الجنائية ،”إجراء يتم قبل تصرف النيابة العامة في الدعوى أو الحكم فيها ، وبناءا على اتفاق الأطراف بموجبه يحاول شخص ثالث للبحث عن حل للنزاع المثار بين الجاني والضحية ودون فرض أي قرار عليهم[16]، أو هي ذلك الاجراء الذي بمقتضاه يحاول شخص من الغير ، بناءا على إتفاق طرفي النزاع لوضع حد لحالة الاضطراب التي افرزتها الجريمة عن طريق حصول الضحية عن تعويض كاف عن الضرر الذي لحقه ، فضلا عن إعادة ادماج وتأهيل الجاني [17]. وبالتالي فإن الوساطة الجنائية نظام يهدف الى الوصول لاتفاق أو توفيق بين طرفين عن طريق ادخال شخص ثالث أو اكثر لتسوية النزاع.
وعرفتها المذكرة التوجيهية الصادرة بفرنسا سنة 1992 بشأن الوساطة الجنائية، بأنها : البحث من خلال تدخل طرف ثالث عن حل لنزاع أحدثته الجريمة بطريقة تفاوضية بين الأطراف[18].
وبالرغم من وجود فراغ تشريعي في تعريف وتحديد مفهوم الوساطة الجنائية فإن الفقه قدم مجموعة من التعاريف حسب الزاوية التي ينظر منها للوساطة.
أ-تعريف الوساطة الجنائية من حيث الموضوع :
يمكن تعريف الوساطة الجنائية من حيث موضوعها حسب رأي في الفقه الفرنسي بأنها نظام قانوني يستهدف الوصول الى اتفاق أو مصالحة، أو توفيق بين أشخاص أو أطراف ويستلزم تدخل شخص أو اكثر لحلّ المنازعات بالطرق الودية .
بينما ذهب رأي اخر الى تعريفها بأنها حالة بحث عن حل تفاوضي بين أطراف نزاع متولد عن جريمة بفضل تدخل الغير .[19]
ويتبين من خلال التعريفات السابقة، عنصر الاتفاق على مضمون وموضوع الوساطة ، الذي يقتصر على التوفيق بين أطراف النزاع عن طريق تدخل طرف أجنبي مهمته هي محاولة التوفيق[20].
ب-تعريف الوساطة الجنائية من حيث الغاية :
ذهب راي مجموعة من الفقه الفرنسي الى تعريف الوساطة الجنائية من حيث غايتها او الأهداف المرجوة من تطبيقها بأنها ذلك الاجراء الذي بمقتضاه يحاول طرف ثالث التدخل بين طرفي خصومة جنائية لوضع حد للنزاع القائم بينهم بسبب الجريمة المرتكبة عن طريق تعويض الضحية وتأهيل الجاني . اذن فهذا التعريف يرتكز بالأساس على الأهداف التي تسعى الوساطة الى تحقيقها . [21]
تجدر الإشارة الى أن هناك مجموعة من الاختلافات في تعريف الوساطة حيث منها من ركز على الطبيعة الرضائية للوساطة الجنائية، ومنها من ركزت على منافع الوساطة بالنسبة للطرفين، وهناك أخرى فصلت في دور الوسيط ، ومنها من تعرض الى النطاق الموضوعي لها ، بالإضافة لمن تطرق لمسألة الاشراف القضائي على الوساطة الجنائية.
لكن وبالرغم من وجود هاته الاختلاف على مستوى التعريف الا انها اتفقت عموماً على ضرورة وجود طرف ثالث يسمى الوسيط في الوساطة الجنائية بالإضافة الى هدفها الأساسي المتمثل في إنهاء النزاع .
وعليه ومن خلال كل ما سبق يتضح عدم وجود تعريف شامل للوساطة الجنائية يفي ويكفي .
ثانيا: أفاق تفعيل الوساطة الجنائية في قانون المسطرة الجنائية المغربي:
إن هناك مجموعة من المحطات التي دفعت المشرع المغربي لإقرار الوساطة الجنائية، الشيء الذي ظهرت ملامحه عن طريق تنظيم الوساطة في مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية.
أ-دوافع إقرار الوساطة الجنائية:
إن مساطر العدالة التصالحية بما فيها الوساطة الجنائية تم التنصيص عليها في مجموعة من النظم الجنائية خاصة الأنجلوسكسونية واللاتينية، وذلك راجع لانسجامها مع القواعد القانونية والقضائية الجاري بها العمل في هذه الدول[22].
المفارقة اللافتة هنا أن الوساطة الجنائية توجد بشكل كبير في الوسط المغربي خاصة في النزاعات العائلية و القبلية، بالإضافة إلى أن الشريعة الإسلامية أباحت وحثت على اللجوء إلى مثل هكذا الوسائل التصالحية بغية حل النزاعات بين الأفراد والجماعات، بينما لا نرى لها حظ في التشريع الجنائي المغربي الحالي[23].
بالرغم من ذلك فإن هناك نقطة إيجابية تحسب للمشرع المغربي وذلك من خلال تنظيمه للوساطة الاتفاقية في القانون رقم 95.17 المعدل لقانون المسطرة المدنية في بابه الثاني، وإن كان الأمر يشكل إشارة من طرف المشرع المغربي لجواز لجوء الأطراف إلى الوساطة لحل النزاعات الناشئة بينها، إلا أن المشرع استثنى النزاعات الجنائية، ما دام أنه نص على ذلك في القانون المدني فقط.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن الوساطة الجنائية تم إقرارها من خلال توصية رقم 140 من ميثاق إصلاح منظومة العدالة الصادر في يوليوز 2013 التي دعت المشرع المغربي إلى إدماج الوساطة الجنائية كآلية بديلة للدعوى الجنائية في التشريع الجنائي.
في نفس السياق انصبت جل التوصيات في هذا الشأن إلى ضرورة التفكير بشكل معمق في إدراج بدائل للدعوى العمومية في الترسانة القانونية المغربية لما في ذلك حماية الضحايا ومساعدتهم عن طريق إشراكهم بالمفاوضات مع المتهم بشكل مباشر عن طريق الوسيط[24].
وهذا يشكل التوجه نحو إقرار الوساطة الجنائية على اعتبار أن المشرع المغربي أيضا نظم الصلح في قانون المسطرة الجنائية كأحد المصادر التصالحية، الأمر الذي أدى إلى تقليص القضايا الجنائية التي يتم حلها عن طريق الصلح.
وترجع ضرورة التنصيص على الوساطة الجنائية في قانون المسطرة الجنائية المغربي لما لها من أهمية في التخفيف من حجم القضايا المعروضة أمام المحاكم، بالإضافة إلى الحفاظ على تماسك العلاقات الاجتماعية، دون نسيان الدور المهم للوساطة في المساعدة على تجاوز أزمة العدالة الجنائية.
وبالتالي يجب الالتفاتة إلى التجارب المقارنة في هذا الصدد التي أثبتت نجاعة هذه الوسيلة في فض النزاعات الجنائية تخفيفا من أزمة العدالة الجنائية.
وللتأكيد فإن ضمانات التطبيق الناجع لهاته الوسيلة على أرض الواقع رهين بتوفير الأرضية والوسائل الازمة لتفعيل هاته المسطرة قبل التنصيص عليها من الناحية القانونية، كما هو الحال في التشريع الجنائي الأمريكي و الفرنسي من ناحية التوعية والتحسيس بأهمية العدالة التصالحية في المنازعات الجنائية.
ب-الوساطة الجنائية في مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية:
تعرض المشرع للوساطة الجنائية في مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية صيغة أكتوبر 2022 استجابة لمجموعة من التوصيات في هذا الصدد
بعد اطلاعنا على هذه المسودة [25]، نلاحظ أن المشرع اعتمد الوساطة الجنائية في إطار الصلح المنصوص عليه في المواد 43, 44 من مشروع قانون مسودة المسطرة الجنائية، ومن خلال اطلاعنا على فحوى المواد المذكورة نستنتج أن صور الصلح كما هو مبين في الجدول أسفله:
وعليه فإن المسودة تناولت الوساطة الجنائية في إطار مسطرة الصلح بين الطرفين باقتراح وكيل الملك .
واللافت أن المسودة لم تستخدم لفظ الوساطة الذي يشير إلى مؤسسة قانونية بشروطها وجميع الأبعاد التي تميزها عن غيرها، وإنما تم التعبير عنها بمصطلح الوسيط الذي يعبر عن شخص يقوم بحل النزاع في إطار الوساطة الجنائية[26].
وتجدر الإشارة إلى أن المسودة نصت على أن الوسيط قد يتم اقتراحه من طرف أطراف النزاع أو باختيار وكيل الملك، هذا الوسيط الذي يجب أن يكون شخص مستقل ومحايد ذو كفاءة في حل النزاعات الجنائية، بالإضافة إلى توفره على مجموعة من الشروط المحددة من طرف الجهات الرسمية، حتى يتسنى له ممارسة الوساطة.
وتأسيسا على ما سبق يتبين أن المسودة من خلال المقتضيات التي جاءت بها لم تتحدث عن الوساطة كما هي معروف عليها في التشريعات المقارنة كمؤسسة قانونية دقيقة تركز بالأساس على حل النزاع الجنائي. وفي الأخير يمكن القول على أن المسودة تناولت الوساطة الجنائية بطريقة غير مباشرةً وغير واضحة سواء على المستوى الموضوعي أو الشكلي الأمر الذي يطرح مجموعة من التساؤلات حولها.
الهوامش:
[1] إن القوانين الجنائية كلها من النظام العام ولا يملك الأطراف صلاحية تحديد نطاقها للاضطراب الاجتماعي الذي قد تخلقه، وفي جرائم معينة فإن المشرع، ونظرا للطابع الاجتماعي والأسري الذي يهيمن عليها، سمح للأطراف ب إبرام مصالحة بشأنها يترتب عنها وضع حد للمتابعة ومن أهم هذه الجرائم الواردة في القانون الجنائي قضايا إهمال الأسرة الفصل 481 من ق.ج) ، الخيانة الزوجية الفصل من ق.ج) والسرقة بين الأقارب الفصل 535 من ق.ج).
[2] فؤاد الونسعيدي، الصلح في قانون 22.01 بين النص القانوني والواقع العملي، بحث نهاية التدريب، المعهد العالي للقضاء، الرباط، فترة التدريب 2009/2011، ص 9.
[3] محمد بادن، إشكاليات مسطرة الصلح طبقا لقانون المسطرة الجنائية المغربي، مجلة المناظرة، العدد 10، 2005، ص134.
[4] رجاء الحرشي، مؤسسة الصلح الجنائي على ضوء المستجدات الحديثة للسياسة الجنائية المغربية، رسالة ماستر، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية، جامعة عبد المالك السعدي، طنجة، السنة الجامعية 2015/2016، ص42.
[5] فاطمة بنسعيد، مسطرة الصلح الزجري بين نية المشرع وسلبية التطبيق، بحث نهاية التدريب، المعهد العالي للقضاء، الرباط، فترة التدريب 2009/2011، ص 17.
[6] يتعين أن يتضمن هذا المحضر المقتضيات التالية:
- تسطير مضمون اتفاق الطرفين بخصوص أطوار الصلح وتفاصيله.
- تذييل المحضر بتوقيع وكيل الملك وأطراف الخصومة الجنائية مع الإشارة إلى إشعار هؤلاء وكذا دفاعهم بتاريخ الجلسة و بموعد انعقادها.
- في حالة تخلف المتضرر أمام وكيل الملك وثبت من خلال مستندات الملف وجود تنازل مكتوب فان محضر الصلح يجب أن يتضمن مقترحا كتابيا بأداء المشتكى به و المشتبه فيه صلحا يتمثل في سداد نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة للجريمة أو إصلاح الضرر الناتج عن أفعاله.
[7] المادة 41 من ق.م.ج “…يتضمن الأمر القضائي ما اتفق عليه الطرفان وعند الاقتضاء ما يلي:
- أداء غرامة لا تتجاوز نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة قانونا.
- تحديد أجل لتنفيذ الصلح.
…..”.
[8] زهية بن ختو، الصلح والوساطة في المادة الجزائية، رسالة ماستر، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة قاصدي مرباح، ورقلة، الجزائر، السنة الجامعية 2015/2016، ص21.
[9] أسماء هروال، نظام الصلح الجزائي كبديل للدعوى العمومية في التشريع الجزائري، رسالة ماستر، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة ابن خلدون، ترايت، الجزائر، السنة الجامعية 2021/2022، ص42.
[10] رجاء الحرشي، م.س، ص106.
[11] المرجع نفسه، ص111.
[12] صباح كوتو، فيصل كرمات، الإشكالات التي تعترض مسطرة الصلح الزجري، مقال منشور في مجلة الأعمال والقانون، تاريخ الاطلاع 18/11/2023 على الساعة 10 مساءا.
[13] ينص الفصل 118 من مجموعة القانون الجنائي المغربي “أن الفعل الواحد الذي يقبل أوصافا متعددة يجب أن يوصف بأشدها”، كما جاء في الفصل 119 من نفس القانون على ما يلى “تعدد الجرائم هو حالة ارتكاب شخص جرائم متعددة في آن واحد أو في أوقات متوالية دون أن يفصل بينهما حكم غير قابل للطعن”.
[14] عبد الله الصباغي، مسطرة الصلح في التشريع المغربي بين النص و التطبيق، بحث نهاية التدريب، المعهد العالي للقضاء، الرباط، فترة التدريب 2009/2011، ص21.
[15] محمد أعراب، م.س، ص161.
[16] أشرف رمضان عبد الحميد، الوساطة الجنائية ودورها في إنهاء الدعوى العمومية، الطبعة الأولى، دار أبوالمجد للطباعة، الهرم، 2004، ص18 .
[17] الحسن بويقين ،مدى إمكانية تطبيق نظام الوساطة بالمغرب، مجلة مرافعة،العدد 14 -15 -2004 ،ص16 .
[18] محمد بنيسين ،الوساطة الجنائية كالية بديلة للدعوى العمومية،رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص،كلية الحقوق بفاس ،السنة الجامعية 2015/2016، ص 16 .
[19] أبوضار الحسن، بدائل الدعوى العمومية وتقييمها، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص ،كلية الحقوق بطنجة، السنة الجامعية 2016/2017، ص67 .
[20] ياسر بن محمد سعيد بابصيل،الوساطة الجنائية في النظم المعاصرة ،رسالة مقدمة استكمالا لمتطلبات الحصول على درحة الماجيستير في العدالة الجنائية،جامعة نايف للعلوم الأمنية،الرياض 2011. ص،40 .
[21] أبو ضار الحسن ، مرجع سابق ،ص68 .
[22] إبراهيم العسري، العدالة التصالحية، مبررات بروزها وأفاقها في المغرب “الوسطة الجنائية نموذجا”، المجلة المغربية للدراسات و الإستشارات القانونية، العدد 4، 2016، ص190.
[23] انظر محمد بولمان، العدالة التصالحية بين النص والواقع “قراءة نقدية للمادتين 41 و 371 من قانون المسطرة الجنائية الجديد”، مقال منشور في مجلة المرافعة، العدد 16، 2005، ص120 وما يليها.
[24] وزارة العدل: السياسة الجنائية في المغرب “واقع وآفاق”، المجلد الثالث، أشغال المناظرة الوطنية المنضمة من طرف وزارة العدل بمكناس، أيام 9 و 10 و11 دجنبر 2004، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، سلسلة الندوات و الأيام الدراسية، العدد الرابع، 2005، ص562.
[25] مسودة قانون المسطرة الجنائية منشورة في :www.justice.gov.ma
[26] محمد بنيسين، الوساطة الجنائية كآلية بديلة للدعوى العمومية.، مرجع سابق، ص 136.