حجية الأمر المقضي به في المنازعات الضريبية
المسك آسية باحثة في العلوم القانونية
حرصت جل التشريعات على التكريس القانوني لحجية الأمر المقضي، الأمر الذي يعكس حجم الأهمية التي تحضى بها هذه المسألة، من أجل ضمان إرساء معالم دولة الحق والقانون، وتكريس مبادئ الثقة لدا المواطنين في القضاء خاصة وفي منظومة العدالة عموما.
ومن أجل التوضيح أكثر، فيقصد بالحجية في ميدان الأحكام حسب الدكتور عبد المنعم عبد العظيم؛ هي أن الأحكام التي يصدرها القضاة تكون حجة بما فصلت فيه، بما لايجوز معه مناقشة أو مناقضة موضوع الحكم في قضاء لاحق،[1] وبالتالي عندما يقال عن قرار قضائي بأنه يتمتع بحجية القضية المقضي بها، فمعنى ذلك أن هذا القرار قد بث القضايا المعروضة على القاضي الذي أصدره وفقا للحقيقة وبالقوة التي تتمثل فيها.[2]
وحتى تتضح الفكرة أكثر، دعونا نفترض على أن الأحكام لا تكتسب بصدورها للحجية، في هذه الحالة يمكن للمحكمة أن تنظر لمرات عديدة في نفس القضية، حتى وإن تم الحسم فيها بموجب حكم قضائي صادر عن نفس المحكمة، الأمر الذي يتمخض معه عدم تحقيق القضاء الموضوعي للغاية الأساسية من إحداته أول مرة، ألا وهي اليقين القانوني، وبالتالي فالحجية هي تلك الحماية أو الضمانة التي يكفلها الحكم لفائدة المحكوم لصالحه، بحيث لا يمكن رفع نفس المطالبة التي صدر بشأنها حكم قضائي، مرة أخرى أمام نفس المحكمة ولا حتى أمام محاكم أخرى من نفس الدرجة، وإلا قوبلة تلك المطالبة بعدم القبول.
وفي هذا السياق يجب الإشارة إلى مسألة مهمة، وهي كون حجية الأمر المقضي لا تعد من النظام العام، وبالتالي لا يسوغ للقاضي أن يأخد بها من تلقاء نفسه، بل يجب التمسك بها من قبل من له مصلحة في إثارتها ( شأنها في ذلك شأن التقادم ).
ومن أجل التوسع أكثر في موضوع الحجية في الميدان الضريبي سوف أنطلق من الإشكال التالي:
إلى أي حد عمل المشرع المغربي على تنظيم الحجية وتحديد شروط الدفع بها أمام المحاكم في المنازعة الضريبية؟
ومن أجل حصر دائرة إشتغالي اعتمدت المقاربة الأنجلوسكسونية في تقسيم الموضوع، وذلك تفاديا لمسألة الثنائية في التقسيم، بحيث إعتمدت خطة البحث التالية:
- المطلب الأول: أنواع الحجية
- المطلب الثاني: التمييز بين الحجية والمفاهيم المشابهة
- المطلب الثالث: شروط الدفع بحجية الأحكام والقرارات في المنازعة الضريبية
المطلب الأول: أنواع الحجية
قد تتخد الحجية أشكال متعددة فإما أن تكون نسبية أو تكون مطلقة، كما يمكن أن تلعب دورا إيجابيا فتكون بذلك حجية إيجابية، أو في حال العكس تكون حجية سلبية، كما يمكن أيضا أن تكون حجية شكلية فقط أو أن تتجاوز المضهر الخارجي للحكم فتكون بذلك حجية مادية، وسنعمل من خلال هذا المطلب على الوقوف عند كل نوع على حدى.
الفرع الأول: الحجية النسبية والحجية المطلقة
تعد الحجية النسبية هي تلك التي يقتصر أثرها على الخصوم في الدعوى التي صدر بشأنها الحكم، وعلى النزاع ذاته الذي فصل فيه محلا وسببا، ويشترط لإعمال هذه الحجية إتحاد الخصوم واتحاد الموضوع واتحاد السبب،[3] ومن تم فيترتب على جميع أشخاص القانون العام والخاص، أن يلتزمو بهذه الحجية شرط أن يكون المتقاضون قد أتاروها إدعاء أو دفاعا، لكون هذه الحجية لا تتعلق بالنظام العام، وأثرها نسبي ينحصر ما بين الخصوم أنفسهم في الدعوى التي صدر فيها الحكم،[4] وبالتالي لايجوز للقاضي أن يثيرها تلقائيا طبقا للمادة 452 من ظهير الالتزامات والعقود.
أما فيما يخص الحجية المطلقة فهي لا تخضع أعمالها لأي شرط من الشروط السابقة، فأثر الحكم يمتد بحجيته إلى الكافة، أي الخصوم وغير الخصوم في الدعوى، ونظرا لكون الحكم الحائز للحجية المطلقة متحررا من شرط اتحاد السبب، فإن الحكم يعمل أثره ويحق التمسك به في أي دعوى، ولو اختلفت في سببها عن الدعوى التي صدر بشأنها الحكم الحائز للحجية المطلقة،[5] ولعل الغاية الأساسية من الحجية المطلقة هذه، هي إلزام القضاء بعدم اصدار أحكام متعارضة ومتناقضة، ومن تم فإنها تخول لصاحب العلاقة التمسك بالحكم السابق، واتخاده أساسا لطلباته الجديدة، فالمحكمة المنظور أمامها الدعوى الجديدة التي تسند في طلبها لدعوى سابقة، يجب عليها أن تلتزم بعدم بحث أو مناقشة ما سبق وأن قضى فيه بحكم سابق، أو أن تتخد من هذا الحكم أساس لقضائها في الدعوى الجديدة.
الفرع الثاني: الحجية الإيجابية والحجية السلبية
تلعب حجية الأمر المقضي دورين إثنين، الأول إيجابي ويتمثل في احترام مضمون الأحكام، والتقيد بها من طرف القضاء، عند الفصل في موضوع دعوى أخرى يثار فيها مضمون ما سبق البث فيه بموجب حكم قضائي، بحيث وجب التعامل مع مضمون ذلك الحكم السابق بمنطق الحقيقة المطلقة والمسلم بها، أما الدور السلبي للحجية فيتمثل في عدم إمكانية الفصل في المطالبة التي سبق أن صدر بشأنها حكم سابق حائز لحجية الأمر المقضي به، لا أمام نفس المحكمة ولا أمام المحاكم الأخرى من نفس الدرجة، حتى وإن ضهرت أدلة واقعية جديدة في القضية لم تتم إثارتها من قبل أمام القضاء.
الفرع الثالث: الحجية الشكلية والحجية المادية
بالاضافة إلى التصنيفات التي سلف ذكرها بخوص أنواع الحجية، فهناك من الفقه من يقر بوجود تصنيف ثالث لأنواع الحجية، وهو الحجية الشكلية والحجية المادية، بحيث تفيد الحجية الشكلية أن الحكم قد استنفد طرق الطعن فيه أو انقضاء مددها وبهذا فالحكم أصبح مبرما (أي غير قابل للطعن)، والحجية بهذا المفهوم نجدها تتفق مع مفهوم قوة الأمر المقضي، بحيث لا ينظر فيها إلا للمنظر الخارجي للأحكام، أما الحجية المادية فهي احترام ما جاء في مضمون الحكم في كل خصومة لاحقة، ولا يجوز مخالفته أو معارضته، حتى لا نكون بذلك أمام أحكام متعارضة.
المطلب الثاني: التمييز بين الحجية والمفاهيم المشابهة
و بعد أن عرجنا ولو بشكل مبسط على مفهوم الحجية، وذلك من خلال الوقوف عند الأنواع أو الصور التي يمكن أن تتخدها هذه الحجية، سوف نعمل الآن على التمييز بين حجية الأمر المقضي وبعض المفاهيم المشابهة، والتي قد يبدو للباحث من الوهلة الأولى على أنها مرادفة للحجية، إلا أنها مستقلة في معناها عن هذه الأخيرة، وهذا ما سنحاول إيضاحه من خلال هذا المطلب.
الفرع الأول: الفرق بين حجية الأمر المقضي وقوة الأمر المقضي
كثيرا ما يقع الخلط بين حجية الأمر المقضي وقوة الشيء المقضي، ولعل السبب في هذا الخلط هو استعمال المشرع في بعض الأحيان لإحدى هاتين العبارتين، ويكون المقصود بها هو العبارة الأخرى، وهو الأمر الذي نستشفه من خلال المواد 451 و 452 من ظهير الالتزامات والعقود، بحيث يستعمل المشرع عبارة قوة الشيء المقضي للدلالة على حجية الشيء المقضي، وكأن العبارة الأولى مرادفة للثانية.
ولعل مرد هذا اللبس هو التقارب في التركيب اللغوي بين لفض l’autorité و la force والذي ساهم في هذا التداخل، إذ يفيد كلاهما معنى القوة، فيبدو أنه أثناء الاقتباس الفقهي والقانوني عن فرنسا تمة ترجمة لفظ l’autorité في الشرق العربي بالحجية، وهي تقريبية لا تفيد المراد لأنها لا تحتوي على معنى الحجة، التي أضيفت إلى الحكم القضائي، كما فيها مدلول القوة الثبوتية la force probante، أما المقابل الدقيق للفظ الحجية هو القوة la force التي تتار إذا طعن في حكم حائز لها بطريق عادي.[6]
وفي هذا الصدد سوف نعمل على التمييز بين كل من حجية الأمر المقضي وقوة الشيء المقضي، بحيث تعد الأولى حسب الفصل 450 من ظهير الالتزامات والعقود، بمثابة قرينة مقررة بمقتضى القانون لا تقبل إثبات العكس،[7] وبعبارة أكثر وضوحا فإن الحكم الحائز على حجية الأمر المقضي هو حكم صدر صحيحا من الناحية الشكلية وعلى حق من الناحية الموضوعية، وبالتالي فإن جميع الأحكام تكون عند صدورها حائزة على الحجية، سواء كانت تلك الأحكام نهائية أو ابتدائية، حضورية أو غيابية، ولا يزال طابع الحجية على الأحكام إلا بزوال تلك الأحكام، إما بإلغائها بالاستئناف أو بالتعرض أو بنقضها، أما قوة الشيء المقضي أو المحكوم به، ما هي إلا وصف لدرجة من درجات الأحكام، وهي وصف يفيد التعبير عن الأحكام التي لا تقبل الطعن بالطرق العادية من تعرض واستئناف، وتقبل الطعن فيها فقط بالطرق غير العادية كإعادة النظر، وتعرض الغير الخارج عن الخصومة، والنقض، ومن تم فإن كل الأحكام سواء كانت حائزة على قوة الشيء المقضي أم لا، فهي مكتسبة للحجية والعكس غير صحيح، بحيث لا يمكن اعتبار كل حكم مكتسي للحجية بمثابة حكم حائز على قوة الشيء المقضي به.
ومنه فإن الحكم القضائي يحوز الحجية بمجرد صدوره ولو كان يقبل الطعن فيه، فالحجية أثر يترتب على صدور الحكم أيا كانت قابليته للطعن، أما إذا كان الحكم لايقبل الطعن فيه بطرق الطعن العادي أي الإعتراض أو الإستيناف فإنه سوف يحوز إلى جانب حجية القضية المقضية قوة الأمر المقضي.
الفرع الثاني: الفرق بين حجية الأمر المقضي والقوة التنفيذية للأحكام
تعتبر القوة التنفيذية مرحلة لاحقة لحجية الشيء المقضي به وليست معاصرة لها،[8] وتفسير ذلك أن حجية الحكم تتبث للحكم منذ صدوره بصفة مستقلة عن أي إجراء آخر، بخلاف القوة التنفيذية إذ يستلزم فضلا عن اتخاد مقدمات التنفيذ أن لايكون للطعن في الحكم أثر موقف، أو أن يكون قد تم الطعن في الحكم أو فاتت مواعيده.
كما أن حجية الشيء المقضي به تنتج أثرها في مواجهة القضاء والخصوم معا، ويتمثل هذا الأثر في ضرورة احترام الخصوم لمضمون الحكم الصادر في النزاع، أما القوة التنفيذية فتنتج أثرها في مواجهة المحكوم عليه، حيث تفرض عليه واجب تنفيذ الحكم ما دامت قد توافرت شرائطه، وفضلا عن هذا الأثر فإن القوة التنفيذية تنتج مفعولا آخر في مواجهة رجال الإدارة، إذ تفرض عليهم الصيغة التنفيذية التزام التدخل لتقديم المعونة إلى من صدر الحكم لصالحه حتى يتمكن من اقتضاء حقه، ويشكل الامتناع عن ذلك إذا لم يستنذ إلى ضرورة حفظ النظام العام، قرارا سلبيا يخول للمحكوم له أن يطعن فيه بالإلغاء، وأن يطالب بالتعويض عن الضرر الحاصل جراء الإمتناع.
وهكذا فإن غاية القوة التنفيذية متميزة عن حجية الشيء المقضي به، وحتى عن قوة الأمر المقضي به، إذ تستهدف تحقيق نتيجة إيجابية وهي تنفيذ ما قضى به الحكم وإعمال جميع آثاره، غير أن للحجية مفعول إيجابي على نحو ضيق وذلك في حالة ما إذا استند المحكوم له على الحكم السابق في دعوى جديدة، كأن يستند على الحكم المقرر لحق معين في رفع دعوى إلزام بأداء هذا الحق.[9]
كما لا ترتبط حجية الأمر المقضي به إلا بالأحكام القضائية، أما القوة التنفيذية فتثبت فضلا عن هذه الأحكام للمحررات الموثقة، ومحاضر الصلح التي تصدق عليها المحاكم، والأوراق الأخرى التي يعطيها القانون هذه الصفة، كما أن حجية الأمر المقضي به هي أثر الحماية القضائية التي يحصل عليها الشخص بواسطة الدعوى التي تنتهي بحكم قضائي، أما القوة التنفيذية فهي صفة في الحكم أو في غيره من السندات تخول الحصول على الحماية القضائية بواسطة التنفيذ الجبري.[10]
الفرع الثالث: الفرق بين الحجية والقوة التبوثية للحكم
إذا كان للحكم حجية كعمل قانوني تجعله واجب الإحترام، فإن له أيضا كورقة رسمية قوة في إثبات الوقائع المادية التي حققها القاضي، وكان من وظيفته أن يحققها، والفارق بين الأمرين أن الحجية نسبية الأثر، بحيث لاتسري إلا بالنسبة إلى من كان طرفا في المحاكمة التي إنتهت بصدور الحكم، بينما القوة التبوثية للحكم هي سند رسمي تسري أيضا بالنسبة للغير.
وأخيرا فإنه إذا كانت حجية الحكم تلحق الفقرة الحكمية أساسا، فإن قوته التبوتية تكون لجميع الوقائع المادية التي أتبثها القاضي وكان يدخل في وظيفته التحقق منها.[11]
الفرع الرابع: الفرق بين الحجية واستنفاذ القاضي لولايته
إستنفاذ القاضي لولايته هو مبدأ يحول بين القاضي الذي أصدر الحكم، وبين المساس به أثناء سير المحاكمة إذا لم تكن قد انتهت به أو حتى بعد انتهائها، ولا يسري بالنسبة إلى المحاكم الأخرى، وبالتالي فإنه إذا كان الحكم نهائيا ولم يفصل في أصل النزاع فإنه يرفع يد المحكمة عن المسألة، بحيث لايجوز لها أن تعاود الفصل فيه رغم أنه لا يحوز الحجية، فمبدأ استنفاد الولاية هنا هو الذي سيعطل فاعليته للحكم وليس مبدأ الحجية، وبالمقابل فإنه إذا أثيرت المنازعة التي فصل فيها الحكم النهائي أمام محكمة أخرى، فإن عدم جواز إعادة النظر في هذه المسألة سوف يستند إلى مبدأ الحجية وليس استنفاذ الولاية.
ومنه فإذا كان الحكم غير صادر في الموضوع، فإنه يستنفذ فقط ولاية القاضي، ولكنه لايحوز الحجية لعدم وجود موضوع تم حسمه، ومن تم لا تعمل الحجية مفاعيلها وآثارها عليه.[12]
كما تجد الحجية أهميتها في أنها تمنع الأطراف ذاتهم من إعادة طرح النزاع ذاته، بالإستناد إلى السبب ذاته، كي لا تتكدس المحاكم بالقضايا التي كانت قد فصلت فيها بالأمس، ولكي لا تكون الدعوى وسيلة في يد بعض الأطراف يستخدمونها نكاية بالأطراف الآخرين، ويمنعونهم من الاطمئنان إلى ما حكمت به المحاكم بالأمس، بحيث إن الأطراف لا يكون لهم المساس بالأحكام وحجيتها إلا عبر استعمال طرق الطعن المقررة في القانون، ومنه يمكن القول على أن الحجية تثبت للحكم القضائي بحيث تمنع الخصوم من إعادة النزاع نفسه، بالإستيناد إلى الأسباب ذاتها فيما بينهم، وإذا أرادوا التعرض للحكم القضائي، فإن ذلك يتم عبر طرق الطعن.
المطلب الثالث: شروط الدفع بحجية الأحكام والقرارات في المنازعة الضريبية
لا يكفي للدفع بحجية الأحكام؛ بمعنى الدفع بعدم قبول الدعوى لسبق الفصل فيها، وجود حكم بات حائز للشروط القانونية، بل وجب توفر ثلاثة شروط أساسية قد تم التنصيص عليها في المادة 451 من ظهير الالتزامات والعقود، وهي وحدة الخصوم، وحدة الموضوع، ووحدة السبب.
وقبل الخوض في الحديث عن شروط الدفع بالحجية، وجب أن نميز أولا بين الدفع بالحجية والتمسك بها، بحيث يستفاد من التمسك بحجية الأمر المقضي، تمسك المعنيين بالأمر المقضي بحجيته كقرينة في دعوى أخرى، كأن يتمسك المحكوم لصالحه في دعوى المسؤولية الجنائية بحجية ذلك الحكم في الدعوى الموازية، أما الدفع بحجية الأمر المقضي، فهو دفع المدعى عليه بعدم قبول دعوى جديدة، يكون الشيء المطلوب فيها هو نفس ما سبق طلبه في دعوى سابقة تم البث فيها، شريطة أن تكون الدعوى مؤسسة على نفس السبب وقائمة بين نفس الخصوم، ومرفوعة منهم وعليهم بنفس الصفة، وهذا ماسنتحدث عنه بالتفصيل.
الفرع الأول: شرط وحدة الخصوم للدفع بالحجية
يقصد بوحدة الخصوم أن الدعوى التي يدفع بسبق الفصل فيها أو التمسك بحجية الحكم فيها قائمة بين خصوم الدعوى التي صدر فيها ذلك الحكم،[13] وفي هذا الصدد يمكننا اعتبار الإدارة سواء كانت المديرية العامة للضرائب في حال تعلقت المنازعة بالوعاء، أو الخزينة العامة للمملكة في حال تعلقت المنازعة بالتحصيل، هي طرف أو خصم تابث في الدعوى الضريبية لا يتغير، أما الطرف الثاني في الدعوى الضريبية فهو الملزم، وهو عادة متغيير من دعوى إلى أخرى.
إلا أنه يشترط للدفع بحجية الأحكام أمام القضاء الضريبي أن يتعلق الأمر بنفس الملزم في الدعويين، كما يجب أن يتعلق الأمر بنفس الإدارة، بحيث في حال تمت هناك منازعة في الوعاء بين الملزم والادارة وانتهت هذه المنازعة بصدور حكم قضائي لصالح الادارة، إلا أن هذا الحكم صدر بعد مرور أربع سنوات من تاريخ الشروع في التحصيل، ولم يقم المحاسب المكلف بالتحصيل خلال هذه الفترة بأي إجراء من شأنه قطع التقادم، في هذه الحالة يمكن للملزم التمسك بتقادم حق الادارة في التحصيل، ولا يمكن للإدارة الدفع بحجية الحكم الأول، ولو أن الشيء المطلوب في الدعوى الثانية هو نفس ما سبق طلبه، كما أن الدعوى مؤسسة على نفس السبب، إلا أن الدعوى ليست قائمة بين نفس الخصوم، فالخصوم في الدعوى الأولى المتعلقة بالوعاء هم الملزم ضد مديرية الضرائب، بينما الدعوى الثانية فهي قائمة بين الملزم والخزينة العامة، وبالتالي فهناك انتفاء للشرط الثالث المطلوب من أجل الدفع بالحجية والمنصوص عليه في الفصل 451 من ظهير الالتزامات والعقود.
الفرع الثاني: شرط وحدة الموضوع للدفع بالحجية
يشترط أيضا لصحة الدفع بحجية الشيء المحكوم فيه وحدة الموضوع بين الدعويين، الدعوى التي حسمت بحكم بات فاصل في موضوعها، والدعوى التي يراد الدفع فيها بحجية ذلك الحكم، ويترتب على ذلك عدم إمكانية الدفع بحجية الشيء المحكوم فيه، إذا اختلف موضوع تلك الدعويين حتى وإن كان هناك إتحاد في الخصوم وفي السبب فيهما.
وبالتالي حتى يمكن الدفع بحجية الأمر المقضي أو المحكوم به، يجب أن يكون موضوع الواقعة أو الدعوى الثانية هو بعينه موضوع الواقعة أو الدعوى المحكوم فيها، والحكم بالشيء يسري على ملحقاته وعلى ما يتفررع عنه، كما أن الحكم بالكل يسري على الجزء، كما لو تمت منازعة ضريبية في الصفة وحكمة المحكمة بعدم إستحقاق الإدارة للضريبة، في هذه الحالة لا يمكن للإدارة أن تطالب مرة أخرى المحكوم له بجزء من تلك الضريبة أو بفوائد التأخير المترتبة عن نفس الضريبة مثلا، والعكس غير صحيح أي أن الحكم بالجزء لايتضمن حتما الحكم بالكل.
ولا يعتبر الموضوع متحدا بمجرد تعلق النزاع في الدعويين بموضوع واحد بل العبرة لموضوع النزاع، وللتوضيح أكثر فإن الحكم الصادر في دعوى الملكية مثلا ليس من شأنه المنع من رفع دعوى وضع اليد.
الفرع الثالث: شرط وحدة السبب للدفع بالحجية
للحديث عن شرط السبب وجب التمييز أولا بين سبب الدعوى وبين وسائل الدفاع، و الحجج القانونية التي توصف فيها الواقعة القانونية الواحدة، فنجد على سبيل المثال؛ دعوى المطالبة بالتعويض عن الضرر الواحد، فإن إقامة الدعوى على أساس المسؤولية العقدية يمنع من إقامتها مرة ثانية لذات الضرر على أساس المسؤولية التقصيرية، في حين لو أنه عاد وتقدم بدعوى يطالب بالتعويض عن النواقص التي وجدت في المبيع أو العيب فيه، فلا حجية للحكم الأول المتعلق بطلب التعويض عن التأخير في التسليم على هذه الدعوى لتغيير السبب بين الدعويين.
ومنه فإن السبب كشرط للدفع بالحجية؛ هو ذلك الأساس القانوني الذي من شأنه أن ينتج أثرا قانونيا، فالسبب هنا هو المصدر الذي يتولد عنه موضوع الدعوى،[14] ويجب أن يكون السبب متحدا في الدعويين حتى يمكن الدفع بحجية الأمر المقضي فإذا تغير السبب فلا يمكن الدفع بحجية الشيء المحكوم به ولو كان الموضوع واحد والخصوم أنفسهم.[15]
وفي النهاية يمكننا القول على أن كل حكم قضائي قطعي يفصل النزاع في منطوقه، فهو متمتع بحجية الأمر المقضي، وبالتالي يمكن الدفع أو التمسك بهذه الحجة في أي دعوى لاحقة، شريطة إتحاد الدعويين والأسباب وكذا الخصوم، كما أن الحجية في ميدان المنازعات الضريبية تخضع للمبادئ العامة المحددة في ظهير الالتزامات والعقود، شأنها في ذلك شأن باقي المنازعات الأخرى.
الهوامش:
[1] – عبد لمنعم عبد العظيم، حجية الأمر المقضي، بحث منشور في مجلة العدالة، العدد 16 أبو ظبي، 1977، ص 41
[2] – يوسف سعد الله الخوري، القانون الاداري العام، الجزء الثاني، القضاء الاداري مسؤولية السلطة العامة، 2001، ص 270.
[3] – أشرف اسماعيل عزب، حدود رقابة القاضي في الشريعة الاسلامية، الطبعة الأولى، جامعة القاهرة كلية الحقوق، 2011، ص 250.
[4] – آلاء مهدى مطر، حجية أحكام وقرارات القضاء الدستوري، الطبعة الأولى، مكتبة زين الحقوقية و الأدبية، 2019، ص 150.
[5] – عزيزة الشريف، دراسة في الرقابة الدستوريةا التشريعية، مطبعة الفيصل، 1995، ص 106.
[6]– مصطفى درويش. التمييز بين حجية الأمر المقضي وقوة الأمر المقضي . مجلة مغرب القانون. أبريل 2018. تم الاطلاع 7/9/2021 على الساعة 17:15.
[7] – الفصل 450 من ظهير 9 رمضان 1331 ( 12 أغسطس 1913 ). بمثابة قانون الالتزامات والعقود.
[8]– محمود سيد عمر التحيوي، النظرة العامة لأحكام القضاء، ملتقى الفكر، الاسكندرية، 2000، ص 79.
[9] – حسن سيد بسيوني، دور القضاء الجزائري في المنازعة الإدارية دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراه في القانون العام، كلية الحقوق،جامعة القاهر، 1982، ص 404.
[10] – آلاء مهدي مطر، المرجع السابق، ص 153.
[11] – أحمد السيد خليل، أصول المحاكمات المدنية، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2001، ص 428.
[12] – عمر نبيل اسماعيل، أصول المرافعات المدنية والتجارية، الطبعة الأولى، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1986، ص 429.
[13] – عبد الوهاب حومد، أصول المحاكمات الجزائرية، الطبعة الرابعة، المطبعة الجديدة، دشق، 1987، ص 1147.
[14] – تركي عابد الحربي، الدفع لسبق الفصل بالدعوى والأمر المقضي، ورقة بحثية تحث إشراف الدكتور هشام موفق عوض، جامعة الملك عبد العزيز، كلية الحقوق، من دون ذكر السنة، ص 14.
[15] – بدون إسم المؤلف، حجية الأمر المقضي به، مقال منشور بمجلة جوريسبيديا، نسخة إلكترونية، تم الإطلاع 23/09/2021 على الساعة 19.12.