سميح بن شريف: دور النيابة العامة في تنفيذ السياسة الجنائية بين التبعية و الاستقلالية
سميح بن شريف دكتور في القانون الخاص
خريح كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية
جامعة محمد الأول وجدة
السياسة الجنائية هي الأداة الأساسية التي تسخرها الدولة في مكافحة الجريمة والوقاية منها ومواكبة آثارها، تعتبر وبهذه الصفة، علم وفن يسمح بتنزيل قوانين ملائمة اعتمادا على استراتيجيات تتوخى التقليص من معدل الجريمة، وتروم مواجهة السلوكات المنحرفة، دون إهمال حق ضحايا الجريمة في الرعاية وجبر الضرر، الأمر الذي تتحدد معه السياسة الجنائية بأنها شأن يهم الجميع، دولة ومجتمعا و أفرادا.
وتبعا لذلك تعتبر السياسة الجنائية جزء من السياسات العمومية، تخضع وجوبا لتدخل الدولة من أجل وضعها وتحديد وظائفها، التي تجمع بين الوظيفة الفنية والوظيفة القانونية. فالوظيفة الفنية أو التشريعية للسياسة الجنائية فهي تنصرف إلى تحكم المشرع في إصدار القوانين الجنائية، والوظيفة القانونية للسياسة الجنائية، نطاقها وضع قواعد القانون الجنائي وتطبيق القانون الجنائي ([1]).
وعليه وفي هذا الإطار سنتولى دراسة الجهة أو السلطة المعنية بتنفيذ السياسة الجنائية وذلك من خلال طرح التساؤل التالي هل يتعلق الأمر بالسلطة القضائية أم بالسلطة الحكومية، أم هما معا؟ الجواب على هذا الاشكال ، سيكون من خلال معالجة الموضوع من ثلاث نقاط أساسية ، (أولا) موضوعها الجهة المكلفة بتنفيذ السياسة الجنائية قبل استقلال النيابة العامة، (ثانيا) نطاقها الجهة المعنية بتنفيذ السياسة الجنائية بعد استقلال النيابة العامة عن وزير العدل، أما النقطة الثالثة فسنعالجها من خلالها السلطة المعنية بتقييم هاته السياسة.
المحور الأول : السلطة أو الجهة المكلفة بتنفيذ السياسة الجنائية قبل استقلال النيابة العامة عن وزير العدل
من المعلوم أن قانون المسطرة الجنائية، عرف عدة تعديلات كانت تمليها الظروف السياسية والاجتماعية التي ميزت المغرب، ومن أهمها تلك التعديلات التي تم اقرارها بمقتضى القانون رقم:22.01 الصادر بتاريخ: 03 أكتوبر 2002، بموجبها نصت المادة 51، صراحة على إسناد وظيفة تنفيذ السياسة الجنائية إلى وزير العدل، وجاء فيها “يشرف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية و يبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها.
وله أن يبلغ إلى الوكيل العام للملك ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون الجنائي، وأن يأمره كتابة بمتابعة مرتكبيها أو يكلف من يقوم بذلك، أو أن يرفع إلى المحكمة المختصة ما يراه الوزير ملائما من ملتمسات كتابية”.
وهكذا عمد المشرع المغربي، ولأول مرة إلى تقنيين وتحديد من هي الجهة التي تتولى الإشراف على السياسة الجنائية، خلافا لما كان عليه الوضع قبل إصدار القانون رقم: 22.01 بتاريخ: 3 أكتوبر 2002، بحيث نصت المادة 51 من القانون المذكور، بأن وزير العدل هو سلطة الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية، بالإضافة إلى رئاسته للنيابة العامة كما يستخلص من روح المادة أعلاه، أي أن القانون حدد من هي الجهة التي تتبع لها النيابة العامة و حددها في وزير العدل.
وتأسيسا على ذلك، يعتبر تنفيذ السياسة الجنائية من اختصاص السلطة الحكومية المكلفة بالعدل، كما تنص المادة الأولى من المرسوم رقم: 2.10.310 الصادر بتاريخ: 11 أبريل 2011 المتعلق بتحديد اختصاصات و تنظيم وزارة العدل على أنه ([2]) “تناط بوزارة العدل مهام إعداد و تنفيذ سياسة الحكومة في ميدان العدالة.
تمارس وزارة العدل، الصلاحيات المخولة لها وفقا لأحكام النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، و لاسيما فيما يتعلق بالمجالات التالية:
- السهر على………….
– إعداد و تنفيذ السياسة الجنائية، والإشراف على النيابة العامة والإسهام في احترام وتطوير حقوق الإنسان”.
وهكذا، يتضح من مقتضيات المادة 51 من ق.م.ج، التي دخلت حيز النفاذ في فاتح أكتوبر 2003، أنها نصت صراحة على تكليف وزير العدل بالإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية وتبليغها إلى الوكلاء العامين للملك، الذين يسهرون على تطبيقها ([3])، إلى جانب رئاسته للنيابة العامة.
ويعتبر موقف المشرع المغربي المتمثل في إسناد الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية إلى وزير العدل، أمر يتقاسمه مع العديد من الأنظمة القانونية المقارنة كإسبانيا، إيطاليا، البرتغال وفرنسا، التي أخذت جميعها بمبدأ تبليغ وزير العدل السياسة الجنائية إلى الوكلاء العامين، وهو ما يعني بأن التشريع في الدول المذكورة كلف وزراء العدل بمهام الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية.
ولما كان وزير العدل هو الجهة المكلفة بالسهر والإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية، فإنه يتولى تطبيقها بطريقتين تتمثلان فيما يلي: ([4])
– تعليمات عامة تنصب على كيفية تطبيق القانون الجنائي، تباشر عن طريق مناشير ودوريات توجه إلى النيابة العامة من أجل تطبيق النصوص القانونية التي تناولتها السياسة الجنائية.
– تعليمات كتابية توجه مباشرة إلى الوكلاء العامين للملك من أجل تحريك المتابعات في قضايا معينة أو تقديم ملتمسات كتابية كلما تستدعيها قضايا معروضة على القضاء.
المحور الثاني : السلطة أو الجهة المكلفة بتنفيذ السياسة الجنائية بعد استقلال النيابة العامة عن وزير العدل
لقد شكل دستور 2011 ([5])، نقلة نوعية، وحدثا سياسيا بارزا، في إطار بناء دولة القانون وإرساء الديمقراطية بشقيها التمثيلي والتشاركي، وفي هذا الإطار سيحمل دستور 2011، مستجدات لم تكن مألوفة في الدساتير السابقة، شملت معظم السلط عن طريق إعادة عقلنة توزيعها والتأكيد على مبدأ فصل السلط، ودسترة العديد من الحقوق والحريات.
ويصعب التطرق إليها جميعها هنا، بل أن ما يهمنا وبمناسبة الحديث عن السياسة الجنائية، هو من يتولى تنفيذها بعد الشروع في تنزيل مقتضيات الدستور الجديد مع إصدار القوانين التنظيمية ذات الصلة بالقضاء (سلطة و قضاة).
وفي هذا الصدد، سنتطرق إلى مقتضيات الدستور التي تحكم المجلس الأعلى للسلطة القضائية وتلك المتعلقة بالنظام الأساسي للقضاة، وإلى أحكام القانونين التنظيمين رقم: 100.13 و 103.13، وذلك من أجل بلورة قراءة موضوعية وعلمية لمسألة استقلالية النيابة العامة عن وزير العدل، ومن تم استقلالها بتنفيذ السياسة الجنائية دون أن تخضع إلى أي مساءلة مؤسساتيه مباشرة، خلافا لما يقضي به الفصل 1 من الدستور في فقرته الثانية، أي وجوب “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، وهل النيابة العامة غير معنية بذلك؟.
بالرجوع إلى فصول الدستور، نجد بأن الفقرة 1 من الفصل 107 نصت بأن “السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنظيمية”. وجاء في الفقرة 2 من الفصل 110 من الدستور “يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون. كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي ينتمون لها“، كما جاء أيضا في الفقرة 3 من الفصل 113 من الدستور “يصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بطلب من الملك أو الحكومة أو البرلمان، أراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بالعدالة مع مراعاة مبدأ فصل السلط”. وورد في الفقرة 2 من الفصل 113 من الدستور، “يضع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بمبادرة منه، تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ويصدر التوصيات الملائمة بشأنها”.
وتأسيسا على أحكام الدستور، صدر القانون التنظيمي رقم:100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والقانون التنظيمي رقم:103.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة.
ومن أهم المستجدات التشريعية التي وردت في القانونين التنظيمين المذكورين، التنصيص فيهما ولأول مرة في تاريخ المغرب، على استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل، و بتبعيتها للوكيل العام للملك الذي أسندت إليه مهام رئاسة النيابة العامة ([6]).
وهكذا، نصت المادة 110 من القانون التنظيمي رقم: 100.13، المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، أن هذا المجلس يتلقى تقرير الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة حول تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة قبل عرضه ومناقشـته أمام اللجنتين المكلفتين بالتشريع بمجلسي البرلمان.
ولقد دخل القانون المنظم لرئاسة النيابة العامة حيز التنفيذ في: 07 أكتوبر 2017، وتبعا لذلك أصبحت مستقلة وبصفة قانونية و رسمية عن وزارة العدل، وتابعة إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة ([7]).
أنه وبنفس التاريخ أي في 07/10/2017، تاريخ استقلال النيابة العامة عن وزير العدل، أصدر الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بوصفه رئيسا للنيابة العامة أول منشور له تحت رقم: 01 موجه إلى المحامين العامين بمحكمة النقض، والوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف و وكلاء الملك بالمحاكم الابتدائية، أعلن فيه عن أهم ملامح السياسة الجنائية التي سيتولى الإشراف على تنفيذها، ومن أهم عناصرها ترشيد الاعتقال الاحتياطي والإجراءات التي تحد من الحقوق والحريات، التصدي للانتهاكات السياسية لحقوق الإنسان، زيارة أماكن الاعتقال، تفعيل بدائل الاعتقال.
إنه وإن كان الدستور يقضي بوجوب تخليق الحياة العامة وحماية المال العام، وحماية الأمن والنظام العام، فإنه ينص أيضا على استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، وذلك إعمالا لمبدأ فصل السلط.
وتبقى النيابة العامة جزء من السلطة القضائية و ليست بسلطة مستقلة بذاتها، بل هي هيئة من هيئات الدولة يتمثل اختصاصها في تنفيذ السياسة الجنائية ومباشرة سلطة الاتهام في الدعوى الجنائية، وذلك في إطار مبدأي الشرعية و الملائمة.
حقا إن استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية وعن السلطة التشريعية أصبح أمرا واقعا دستوريا وقانونيا، وذلك لكونها جزء من مكونات السلطة القضائية التي نص عليها الفصل 107 من الدستور صراحة، وجاء فيه أن “السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية”، وتبعا لذلك فالدستور لم يقضي بأن النيابة العامة “سلطة” قياسا على السلطات الدستورية الثلاث: التشريعية، والتنفيذية و القضائية، وهو ما يعني بأن التأويل الذي نحاه المجلس الدستوري بمناسبة فحصه مدى دستورية المادة 110 من القانون التنظيمي رقم: 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والمادة 25 من القانون التنظيمي رقم: 103.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، من عدمها، خلص إلى أنه ليس فيهما ما يخالف الدستور.
إن المشكلة التي تستدعي نقاشا، لا تكمن في تصريح المجلس الدستوري بمطابقة المادتين المذكورتين للدستور، وتأكيده على مبدأ استقلال النيابة العامة عن وزير العدل، وإسناد رئاستها إلى السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، والذي يعتبر الجهة المكلفة بالإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية، بل أن الموضوع الذي يبدو مستشكل فيه، هو ذلك المتعلق بالتوسع في تفسير المادتين 110 من القانون التنظيمي رقم: 100.13 والمادة 25 من القانون التنظيمي رقم: 103.13 و إبداء الرأي بصفة ضمنية بشأن “المركز الدستوري للنيابة العامة و لرئيسها” والتوسع في تفسير مفهوم “استقلال النيابة العامة”، علما أن القضاء الدستوري المغربي (الغرفة الدستورية)، سبق وأن صرح بأنه لا يوجد أي فصل في الدستور بمعناه الأخص ولا من القوانين التنظيمية المنبثقة عنه ما يخول للغرفة الدستورية حق إبداء رأيها في المطلب المذكور، وصرحت تبعا لذلك بعدم اختصاصها في الجواب على استشارة الوزير الأول السالفة الذكر ([8]).
وباستقراء القرارين الصادرين عن المجلس الدستوري المشار إليهما أعلاه، واستنادا إلى مقتضيات الفصول 107 و 110 و 116 و 128 من الدستور، يتبين بأن التفسير الذي ارتكن إليه المجلس الدستوري فيه الكثير من “التعسف” على فصول الدستور المذكورة، لأنها لا تقضي صراحة أو قد يستخلص من أحكامها ضمنيا، أن الدستور ينص على وجود سلطة مستقلة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية يخضع لها قضاة النيابة العامة.
ومن المعلوم أنه من المبادئ الدستورية الأساسية يجب أن تكون في الدولة جهة موحدة تتولى ممارسة السلطة القضائية، و لقد نص الدستور المغربي صراحة على هذه الجهة، وهي “السلطة القضائية”، كما هو ثابت من الفصل 107 منه، الذي ينص “السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية و عن السلطة التنفيذية. الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية”.
إنه و تأسيسا على فصول الدستور، فالقضاء يعتبر سلطة دستورية، لكن النيابة العامة لا ترقى إلى مركز “السلطة الدستورية” لكونها جزء من “السلطة القضائية” التي تتولاها المحاكم بمختلف درجاتها و أنواعها، ويمارسها معا كل من القضاء الجالس أي قضاء الحكم و القضاء الواقف أي النيابة العامة.
وبناء عليه، نلاحظ من خلال مقتضيات الدستور، وجود ثلاث محاور لفصل السلط سلطة تشريعية، سلطة تنفيذية، وسلطة القضائية، و هو المبدأ المستمد من التقاليد الدستورية الأمريكية والفرنسية والإنجليزية، تتولى القيام بالوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية بتكليف من الدستور.
وقرار المجلس الدستوري لكي يكون مؤسسا و منسجما مع الدستور، يتعين عليه بيان الفصول القانونية التي يستند إليها، و عرض الوقائع العامة، لأنه بإدراج السند القانوني دون إبراز دواعيه يجعل القرار الدستوري ناقصا ([9])، حتى و لئن كانت قرارات المحكمة الدستورية ملزمة لجميع السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية، ولا تقبل أي طريق من طرق الطعن ([10])، فإن ذلك لا يحول دون مناقشتها وإبداء الرأي بشأنها والتعليق عليها.
وحيث أنه ومهما يكن من أمر التعليل الوارد في قرار المجلس الدستوري رقم: 992/2016، بشأن المادة 25 من القانون التنظيمي رقم 103.13، بقوله “و حيث إنه، تأسيسا على كل ما سبق بيانه، واعتبارا لكون عمل النيابة العامة يعد دستوريا عملا قضائيا، ومع مراعاة الصلاحية المخولة للسلطات الدستورية المختصة في وضع و مراجعة السياسة الجنائية على ضوء الممارسة، فإن رئاسة النيابة العامة ، التي يعد قضاتها جزءا من السلطة القضائية لا يمكن إسنادها إلا لجهة تنتمي إلى هذه السلطة، مما يكون معه ما تضمنته المادة 25 من وضع قضاة النيابة العامة تحت سلطة ومراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، مطابقا للدستور”.
ورغم ذلك فإن هذا التعليل ليس من شأنه أن يعتبر سندا أو مرجعا للقول بأن النيابة العامة سلطة دستورية مستقلة، بل إنها تنتمي إلى “السلطة القضائية” وجزء منها، ولأن استقلال النيابة العامة عن وزير العدل ليس معناه أنها “سلطة قائمة بذاتها”، و ترتب عن الاستقلالية المذكورة، نقل الاختصاصات المتعلقة بالإشراف و تنفيذ السياسة الجنائية التي كانت مسندة إلى وزير العدل.
وفي إطار مراجعة القانون رقم 22.01، المتعلق بالمسطرة الجنائية، وملائمته مع الدستور والمواثيق الدولية، ورد في المادة 51ـ-2 من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية “يقضي بتغيير وتتميم قانون المسطرة الجنائية”، يبلغ وزير العدل كتابة المضامين العامة للسياسة الجنائية، التي تضعها الحكومة، إلى رئيس النيابة العامة، الذي يبلغها بدوره إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها وفقا للقانون، يشرف رئيس النيابة العامة على تنفيذ السياسة الجنائية وفقا للقانون، و يعمل على إحاطة وزير العدل علما بالإجراءات والتدابير المتخذة بشأن تنفيذها.
يحيل وزير العدل إلى رئيس النيابة العامة ما يصل إلى علمه من جرائم ليتخذ بشأنها ما يراه ملائما، ويجب إشعاره بالإجراءات المتخذة في شأنها.
يرفع رئيس النيابة العامة تقريرا سنويا إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وكذا إلى وزير العدل حول تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة.
يمكن أن يوضع هذا التقرير رهن إشارة العموم”.
وهكذا، و مما لا جدال فيه أن النيابة العامة هي من تتولى تنفيذ السياسة الجنائية تحت سلطة رئيسها، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، وذلك استنادا إلى أحكام القانون التنظيمي رقم: 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والقانون رقم: 33.17 المتعلق بنقل اختصاصات وزير العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بخصوص رئاسة النيابة العامة ([11])، ودخلت تلك الأحكام حيز التطبيق بتاريخ: 07 أكتوبر 2017، والإعلان عمليا و رسميا على استقلال النيابة العامة عن وزير العدل.
المحور الثالث: السلطة المعنية بتقييم السياسة الجنائية
بالرجوع إلى أحكام الدستور، يستفاد صراحة من مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 70، أن البرلمان هو السلطة أو الجهة المكلفة بتقييم السياسات العمومية.
لذا فإن تقييم السياسات العمومية يعتبر من مستجدات دستور 2011، وهو المبدأ الذي لم يكن منصوصا عليه في دساتير 1962 و 1970 و 1972 و 1992 و 1996، وهو الاختصاص الذي انضاف إلى البرلمان، الذي كانت من صلاحياته التقليدية التصويت على القوانين وممارسة السلطة التشريعية ومراقبة عمل الحكومة.
ولقد أسند المشرع الدستوري وظيفة تقييم السياسات العمومية إلى البرلمان، لكون الحكومة هي الجهة المعنية بوضع السياسات العامة للدولة قبل عرضها على المجلس الوزاري، وكذا السياسات العمومية والسياسات القطاعية طبقا للفصل 92 من الدستور، وهي من تعمل على تنفيذها.
أنه وإعمالا للمبدأ الدستوري الذي يقضي بوجوب ربط المسؤولية بالمحاسبة ([12])، فإنه لا يمكن للجهة الواضعة للسياسات العمومية أن تتولى القيام بوظيفة تقييمها، الأمر الذي يعتبر معه تصور المشرع الدستوري موفقا لما أوكل مهام تقييم السياسات العمومية إلى البرلمان ([13])، والغاية من ذلك، أن النتائج التي قد تترتب عن التقييم ستؤدي حتما إلى التأثير على توجهات الحكومة من أجل تعديل السياسات العمومية أو إسقاطها أو إلغائها ([14]).
ولما كان الأمر يتعلق بالجهة المعنية بمراقبة السياسة الجنائية التي تعتبر جزء من السياسات العمومية، نتساءل ما إذا كانت النيابة العامة بوصفها الجهة المكلفة بتطبيق وتنفيذ السياسة الجنائية تحت إشراف الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ورئيس النيابة العامة، تخضع لنفس المسطرة؟ أي إخضاعها لتقييم البرلمان، أم أن الأمر غير كذلك لما قد يكون فيه من مساس بمبدأ فصل السلط و تعد على استقلال السلطة القضائية.
إن تقييم السياسة الجنائية قد يفهم منه بأنه يتكامل ويتقاطع مع مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وهو الأمر الذي ينسحب على عمل الحكومة بشكل واضح، بمناسبة تقييم سياساتها العمومية، لكن المجلس الدستوري كان له رأي مخالف لذلك، في قراره رقم: 991/16 بتاريخ: 15 مارس 2016، والذي أكد فيه بأن الدستور لم يشترط عرض الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، عرض تقريره أمام اللجنتين المكلفتين بالتشريع بمجلسي البرلمان، و معنى ذلك أن قيام رئيس النيابة العامة بتقديم التقرير أو حضوره لمناقشته أمام لجنتي البرلمان يعتبر مخالفا للدستور، لأنه يمس بالاستقلالية.
ومما جاء في القرار المذكور، “إن تطبيق المبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة، لا يمكن أن يتم فيما يخص السلطة القضائية المستقلة عن باقي السلط بنفس الكيفية ونفس الأدوات التي يتم بها الأمر في مجالات أخرى، بالنظر لطبيعة السلطة القضائية، واستقلالها وآليات اشتغالها والسبل المقررة لتصحيح أخطائها”.
ويؤخذ من القرار المذكور، أنه أخرج النيابة العامة من مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة المنصوص عليه في الفقرة 2 من الفصل 1 من الدستور ([15])، وهو ما نعتبره من وجهة نظرنا بانتكاسة تشريعية، لأن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة لم يستثني أي سلطة، خلافا للتأويل الذي تبناه المجلس الدستوري.
وفي هذا الإطار، ورد في تقرير رئاسة النيابة العامة لسنة 2017 مستندا إلى القرار المذكور، “أن استقلال النيابة العامة لا يعني إفلاتها من المراقبة و المحاسبة، ذلك أنها تخضع لمراقبة القضاء بالنسبة للقرارات التي تتخذها، وكذا لمراقبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي تقدم له تقارير دورية بشأن السياسة الجنائية، وسير النيابة العامة، وأضاف قرار المحكمة الدستورية أن رئيس النيابة العامة يظل مسؤولا عن كيفية تنفيذه للسياسة الجنائية، وذلك أساسا أمام السلطة التي عينته والمتمثلة في رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو جلالة الملك نصره الله” ([16]).
وهكذا، ووفقا لمقتضيات القانون التنظيمي رقم: 100.13 المتعلق بالسلطة القضائية، الذي خضع للرقابة الدستورية الإجبارية، طبقا لأحكام قرار المجلس الدستوري رقم: 991/2016 يتبين بأن عمل النيابة العامة و خاصة فيما يتصل بتطبيقها و تنفيذها للسياسة الجنائية فهو غير معني بالمحاسبة البرلمانية لما فيها من مساس بمبدأ استقلال القضاء، وتبقى تبعا لذلك الرقابة العاملة هي تلك التي يتولاها كل من قضاء الحكم، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية والملك.
لكن، هذا التأويل يبدو غير مقنع وغير مطابق لمبدأ دستوري يتمثل في ربط المسؤولية بالمحاسبة، لأنه لا يمكن التذرع بمبدأ استقلال القضاء لتبرير عدم إخضاع النيابة العامة لتقييم عملها المتصل بتطبيق و تنفيذ السياسة الجنائية.
الهوامش:
(=) تم تحكيم هذا المقال من طرف اللجنة العلمية لمركز مغرب القانون للدراسات والأبحاث القانونية
[1]– إدريس ساحي، السياسة الجنائية في التشريع الجنائي المغربي ـ دراسة تأصيلية تحليلية ـأطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية، ظهر المهراز، فاس، السنة الجامعية 2016 2017، ص131.
[2]– رئاسة النيابة العامة، تقرير رئاسة النيابة العامة لسنة 2017، التقرير الأول، ص:57.
[3]– لحسن بيهي، “مفهوم السياسة الجنائية في ضوء المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية”، في السياسة الجنائية بالمغرب، واقع و آفاق المجلد الثاني، أشغال ندوة المناظرة الوطنية بمكناس، أيام 9 و 10 و 11 دجنبر 2004، مرجع سابق، ص:515.
[4]– وزارة العدل و الحريات، العدالة الجنائية بالمغرب، “أرقام و معطيات”، مجلة الشؤون الجنائية، عدد خاص بمناسبة الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية و القضائية، العدد: الثاني ، مطبعة اليت،الرباط ، أكتوبر 2012.، ص:98.
[5]– ظهير شريف رقم: 1.11.91 صادر في 27 شعبان 1432 (29 يوليوز 2011)، الجريدة الرسمية عدد: 5964 مكرر بتاريخ: 30 يوليوز 2011، ص: 3600.
[6]– راجع المادة 110 من القانون التنظيمي رقم: 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية و التي جاء فيها “يتلقى المجلس تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ولا سيما تقارير كل من:
– الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للملك لديها، كل في مجال اختصاصه؛
– الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة حول تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة، قبل عرضه ومناقشته أمام اللجنتين المكلفتين بالتشريع بمجلسي البرلمان؛
-الوزير المكلف بالعدل حول سير وأداء الإدارة القضائية، وحصيلة منجزاتها وبرامج عملها، وكذا وضعيات المهن القضائية؛
– المفتشية العامة للشؤون القضائية؛
– مؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة المنصوص عليها في الدستور؛
– الجمعيات المهنية للقضاة؛
– جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية المهتمة بقضايا العدالة والمؤسسة بكيفية قانونية منذ ثلاث (3) سنوات على الأقل. “
[7]– راجع ظهير رقم: 1.17.45، صادر بتاريخ: 30/08/2017 بتنفيذ القانون رقم: 33.17 المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة و بسن قواعد لتنظيم النيابة العامة، الجريدة الرسمية عدد: 6055، بتاريخ: 18/09/2017.
[8]– راجع مقرر الغرفة الدستورية رقم: 66 بتاريخ: 15 شتنبر 1971.
[9]– زكرياء أقنوش، المجلس الدستوري المغربي و ضبط سير المؤسسة البرلمانية، الطبعة الأولى، مطبعة الأمنية، منشورات مجلة العلوم القانونية، سلسلة البحث الأكاديمي 10، 2015، ص: 367.
[10]– راجع الفصل 134 من الدستور.
[11]– راجع القانون رقم: 33.17 المتعلق بنقل اختصاصات وزير العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بخصوص رئاسة النيابة العامة، الجريدة الرسمية عدد: 6605 و تاريخ 18 شتنبر 0172، الصفحة 5155.
[12]– راجع الفصل الأول من الدستور.
[13]– حسن طارق، السياسات العمومية في الدستور المغربي الجديد، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية، سلسلة مؤلفات و أعمال جامعية، 92، سنة 2012، ص: 31.
[14]– عبد الله إدريسي، محاضرات حول دور وحدة السياسات العمومية، جامعة محمد الأول بوجدة، كلية العلوم القانونية والاقتصادية و الاجتماعية، 2017، ص: 6.
[15]– راجع الفقرة 2 من الفصل 1 من الدستور التي تنص “يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، و توازنها و تعاونها، و الديموقراطية المواطنة و التشاركية و على مبادئ الحكامة الجيدة، و ربط المسؤولية بالمحاسبة”.
[16]– رئاسة النيابة العامة، تقرير رئاسة النيابة العامة لسنة 2017، ص:17.