مجلة مغرب القانونالمنبر القانونيالــبيعة: الماهية وأسس الشرعية

الــبيعة: الماهية وأسس الشرعية

بنو حسناء باحثة في القانون العام

إن الدارس للنظام الدستوري المغربي وأصوله، ستعود به بلا شك راهنية الممارسة الدستورية الى ما قبل الاستقلال، عابرا مجالين يوازن بعضهما الآخر؛ فالأول لا يعدو أن يعكس أصول الفقه السياسي الإسلامي فيما يدمج الثاني بين الفكر السياسي والوعي الدستوري الحديث للحضارة الغربية، في معادلة مستمرة لكفتين من القوى السياسية المحافظة والنزعة الحداثوية بنموذج غربي، ولا يختلف اثنان أن المغرب من الدول التي لم تحدث قطيعة مع الماضي، ومازال يتمازج فيها الماضي بالحاضر[1].

من تجليات هذا التكامل؛ الاستمرارية التاريخية “لإمارة المؤمنين” و”البيعة” كركائز شرعية للملكية المعاصرة[2]، وعمل المؤسسة الملكية على الاستثمار فيهما كآليتين تمكناها من الاستئثار بالحقل الديني، باعتبار الملك المحتكر الشرعي والوحيد لتأويل الخطاب الديني في محاولة لتقنينه وتأهيله وفق الثوابت الرسمية[3].

المطلب الأول: مفهوم عقد البيعة

تعد البيعة صورة من صور الحرية في الإسلام، كون الحاكم بموجبها وكيل عن الأمة، خاضع لرقابتها، ولها عليه سلطان التولية والعزل والتوجيه، وبوصفها عقدا تبادليا، ترتب حقوقا لكلا العاقدين[4]، كما تعتبر الضامن التاريخي والشرعي لأحقية الحاكم بالحكم وتؤصل لإرادة الأمة عبر نظام تعاقدي مشروط يعكس الى حد بعيد نظام العقد الاجتماعي، حيث ظهرت في الساحة السياسية المغربية كنزعة تهدف لتنظيم السلطة بمقترحات دستورية، خاصة وأن مشروع دستور 1908 كان امتدادا لبيعة فاس المشروطة التي بويع فيها المولى عبد حفيظ بعد خلع المولى عبد العزيز، والتي قامت على أساس تعاقدي بين الحاكم والمحكوم بوجهين من الحقوق والواجبات.

يشكل عقد البيعة مفهوما مترابطا بين ما هو تاريخي وديني وسياسي، فلا يسعنا تعريفه دون تأصيله وبيان تاريخه، بدأً بظهوره في الفكر السياسي الإسلامي كعقد اجتماعي مشروط، إلى اعتماده كقيمة دستورية ضمنية _إمارة المؤمنين_ في الدساتير المغربية، “محتفظة في ثنايا دلالاتها على مرجعيات تاريخية وأخرى مستعارة داخل قالب دستوري معاصر”[5].

الفقرة الأولى: عقد البيعة في الفكر الإسلامي

البيعة من المبايعة والمعاهدة على الطاعة، حيث يوردها ابن خلدون في المقدمة أنها “العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يديه تأكيدا للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة من مصدر باع، هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع”[6]، و البيعة هي المعاقدة والمعاهدة في قول القلقشندي؛ أي “ان يجتمع أهل الحل والعقد . . . فيعقدوا الإمامة لمن يستجمع شرائطها”[7]، والمقصود بأهل الحل والعقد هم علماء المسلمين وأشراف الأمة وأعيانها، فيما خصها الماوردي بإجماع “أهل العقد والحل للاختيار فيتصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلا وأكملهم شروطا ومن يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون عن بيعته، فإذا تعين لهم من الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها وانعقدت ببيعتهم له الإمامة”[8].

 أصلت العادة لتقاليد الممارسة السياسية في الدول الإسلامية على سبل ثلاث يتم بها تداول السلطة[9]:

_ إجماع أهل الحل والعقد (البيعة).

_ الاستخلاف (العهد أو الوصية).

_ القهر والتغلب أي الذي يعتمد القوة للاستيلاء على الحكم.

ولأهمية عقد البيعة عقد له فقهاء المسلمين خمسة شروط لازمة التحقق، وهي:

_ أن يجتمع في المأخوذ له البيعة شروط الإمامة.

_ أن يكون المتولِّي لعقد البيعة أهل الحلِّ والعقد من العلماء والرؤساء، وسائر وجوه الناس.

_ أن يُجيب المبايَع إلى البيعة؛ حتى لو امتنع لم تنعقد إمامته ولم يُجْبَر عليها.

_ الإشهاد على المبايعة، فيما إذا كان العاقد واحدًا، أما إذا كان العاقد للبيعة جمعًا، فإنه لا يشترط الإشهاد.

_ أن يتَّحِدَ المعقود له، بأن لا تُعقد البيعة لأكثر من واحد.

إذا فالأصل في البيعة عند فقهاء السياسة الشرعية أنها التزام متبادل بين الحاكم والرعية ناشئ عن إرادة حرة واعية باختياراتها[10]، وقد تأسَّى المسلمون برسول الله حيث بايع النبي صحابته أكثر من بيعة: كبيعتي العقبة الأولى والثانية، وكذلك بيعة الرضوان، وكانت كل طوائف المسلمين يُبايعونه، فأضحت البيعة ركنًا لا فكاك منه في المنظومة الإسلامية، ودليلاً على مشاركة الرعية كلها في مبايعة الإمام.

الفقرة الثانية:عقد البيعة عقد اجتماعي

ترتب البيعة باعتبارها عقدا تبادليا حقوقا لكلا العاقدين، حيث تقوم على مبدأ المشاركة حين يلتزم الطرفان المتبايعان على الإيفاء بالتزاماتهما انطلاقا من كون العقد شريعة المتعاقدين، لكن بالرجوع للأعراف السلطانية نجد أن الممارسة التاريخية لمفهوم البيعة أسقطت بُعدها التشاركي وبالتالي غياب المصالح العقدية، حيث باتت قرارا فرديا يخضع لإرادة السلطان[11]، وفي ذلك قال ابن خلدون: “إن الإكراه في البيعة كان أكثر وأغلب”[12]؛ والإكراه هنا لا يحيل على الإجبار والقوة إنما على انفراد السلطان بالبيعة كعادة؛ فكانت ذات طابع صوري في الممارسة السياسية بالمغرب مجردة من الصفة التعاقدية.

مقال قد يهمك :   وسائل إثبات جريمتي الفساد والخيانة الزوجية في ضوء الفصل 493 من القانون الجنائي المغربي

إذا فالبيعة تمثل الأساس القانوني والشرعي الذي تفوض به الأمة صلاحيات واسعة للأمير، والتي حسب قول المغفور له الملك الحسن الثاني لا تحفظ الحياة الدينية للفرد فقط بل تحفظ مصالحه الدنيوية من أمواله وأغراضه وضمان سعادته[13].

هنا نقف أمام إشكالية تحديد طبيعة عقد البيعة ضمن النظريات التعاقدية فيما إذا كان السلطان طرفا في العقد أو أثرا له، والواضح أن عقد البيعة لم يستقر على طبيعة واحدة على مر العصور فقد انتقل من عقد مشروط الى عرف وبروتوكول ملكي.

في إطار العقد الاجتماعي يُنَظِّر جون لوك أساسا لعقد يتنازل فيه الأفراد برضاهم عن جزء من حريتهم الطبيعية للسلطة التي تلتزم بحفظ مصالحهم وحقوقهم، إذا يقوم هذا العقد على مقومات ثلاث؛ عقد قائم بين طرفين (الأفراد والسلطة الحاكمة)، عقد يلزم الأطراف بحقوق وواجبات، عقد يستلزم رضا الأفراد.

قد نجده تصورا مماثلا لعقد البيعة خاصة فيما أورده محمد الحبابي في أطروحته “الحكومة المغربية في فجر القران العشرين” عن البيعة؛ حيث أنها عقد قانوني يعقد بين طرفين متساويين في الحقوق والواجبات يضم شروطا يقبلها الطرفان[14]، ربما بدا هذا التعريف فضفاضا، حيث أن تجليات ممارسة البيعة في المغرب تأخذ أبعاد أخرى فعامة الشعب ليست طرفا في العقد إنما تمثلها فئة تستوجب شروطا معينة؛ وتسمى أهل الحل والعقد أي أن تولية السلطة تنفرد بيها النخبة وتنقسم لعامة وخاصة، فالعامة من “المخزن” ويضم أولا العائلة الملكية التي تسيطر على الأجهزة الأساسية في الدولة (الحاجب والوزراء) وثانيا كبار قواد الجيش، ثم النخبة الخاصة من شرفاء وأعيان وعلماء، وما يسرده التاريخ لا يخفي بدل الأسرة الحاكمة لأنواع العطاء قصد الفوز بمصادقة النخب على من تمت مبايعته، بعد التوافق يكتب نص البيعة بحضور العلماء كشهود ويتم إعلام السلطات المحلية بوفاة السلطان وتولية سلطان جديد، تُقرأ البيعة بعدئذ على العامة في المساجد والأسواق.

فما محل تعريف الدكتور الحبابي لعقد البيعة مادام مجانبا للواقع التاريخي، يمكن الحديث هنا على انحصاره في فترة زمنية وهي بيعة المولى عبد حفيظ سنة 1908، في زمن عرف فيه المغرب تقلبات سياسية واجتماعية عاصرت بدايات الحماية، حيث لم يبادر المولى عبد العزيز بالدفاع عن احتلال مدينة الدار البيضاء ووجدة وقبوله معاهدة “الجزيرة الخضراء”، ما أدى لقيام معارضة سياسية ترأسها الشريف الإدريسي محمد بن عبد الكبير الكتاني، فيما رفع المولى عبد حفيظ “خليفة السلطان” بمراكش شعار “الجهاد في سبيل الله”، على إثر ذلك اجتمع أعيان مدينة فاس على خلع المولى عبد العزيز بعد أن استفتوا فقهاء فاس، حررت البيعة لتولية سلطان مراكش المولى عبد حفيظ خشية إعلان الكتاني نفسه سلطانا كون ذلك خروج للحكم عن الفرع العلوي ولما فيه أيضا من فتنة للأمة، وتوصلوا لتسوية مع زعيم المعارضة مقابل عقد بيعة مشروط يلتزم به السلطان، وقد تمت صياغته ضمنيا كي لا تظهر كمطالب أو أوامر في حضرة السلطان، وتمحورت في غالبيتها حول تحريرالمدن المحتلة، حذف المكوس[15]، إشراك ممثلي الأمة في القرارات المصيرية، حفظ مكانة العلماء والشرفاء ورجال الدين[16].

قد يتساءل البعض هل المولى عبد حفيظ طرف في العقد أم هو تجسيد لأثر التعاقد الاجتماعي عند هوبز؛ حيث ينحصر اختيار الحاكم بين الأفراد دون أن يكون طرفا متعاقدا، وفي ذلك أورد: “يقوم كل الأفراد بإخضاع إرادتهم لإرادته (الحاكم) وأحكامهم لحكمه . . . إنه نوع من وحدة الجميع الفعلية في شخص واحد، قائمة بموجب اتفاقية كل فرد مع كل فرد، كما لو كان كل فرد يقول للآخر: إني أخول هذا الرجل أو هذه المجموعة من الرجال، وأتخلى له عن حقي في أن يحكمني، شرط أن تتخلى له أنت عن حقك وتجيز أفعاله بالطريقة عينها”[17]، فالحاكم إذا في تنظير هوبز هو شخص اصطناعي يملك سلطة التصرف باسم الجميع، يأتي هذا الحاكم المطلق نتيجة اتفاقية بين الأفراد، وليس طرفا في العقد، ثم إن مجموع الأفراد مسؤولون عن جميع أعماله، والتي ليست إلا ترجمة للسلطة المفوضة له في حفظ سلم واستقرار الدولة بالوسائل التي يجدها ملائمة لدفاعهم المشترك.

المطلب الثاني: عقد البيعة ومصادر الشرعية

إن التأصيل التاريخي لعقد البيعة اتخذ انعكاسات ضمنية عديدة في الممارسة السياسية بالمغرب، خاصة في القواعد الدستورية، حيث جاء في إطار “إمارة المؤمنين”[18] كمؤسسة حاضنة للسلطة الحاكمة وكصفة تاريخية لها، فحسب سوتر JF. Suter تعتمد الملكيات دائما في تحديد هويتها السياسية على التاريخ والدين، فهي تستمد تباثها من الزمن والتقاليد وقداسة الأسلاف، لذا فهي تنتج خطابها السياسي بما يواءم تمثلاتها لسياسة المجتمع وبما يضفي على سلطتها القائمة صبغة المشروعية[19].

مقال قد يهمك :   المرصد الوطني للظاهرة الإجرامية: نحو عدالة جنائية متبصرة

الفقرة الأولى:الشرعيةالدينية

تنطلق المشروعية الدينية للمؤسسة الملكية من حقل إمارة المؤمنين، التي تضمن للملكية حضورا متفردا في الحقل الديني، من خلال توظيفها للرموز الدينية في الممارسة السياسية، مستأثرة في اختصاصاتها بتدبير هاد المجال الديني بنص الدستور نتحدث هنا عن الفصل 19 من دساتير 1962، 1972، 1996 وبشكل أكثر وضوحا في الفصل 41 من دستور 2011.

إن المؤسسة الملكية منذ قرون كانت تنهل من الدين مشروعيتها، خاصة من الإسلام السني المعتدل، إذ يعتبر الملك هو المنتج الوحيد للقيم الدينية الرمزية داخل النظام السياسي المغربي، وحسب د. محمد الطوزي فإن التلويح بورقة الشرق والتباهي بالانتماء مباشرة إلى بيت الرسول (يكسب السلطة السياسية خاصية متميزة، مشحونة بالمعاني، تصبح بموجبها علاقات الخضوع والطاعة والوفاء ذات مغزى. .)، فإذا كان الدستور يجعل من الانضباط واجبا مدنيا، والشريعة تجعل من الخضوع للسلطة واجبا شرعيا، فإن الأصل الشريف يحول الخضوع والانضباط إلى مصدر للحصول والاستفادة من البركة” [20].

 أمام هذا المفهوم الخاص للسلطة السياسية القائم على الطابع الشريفي للمشروعية، بالتالي فمن الاستحالة بمكان وجود مبدأ فصل السلط على مستوى المؤسسة الملكية، وذلك مع وجود أجهزة وقواعدهرمية قائمة على وجود الله، فرسوله، فسبطه، فالأمة، فثوابتها، فالناخبين، كون “الإمامة[21] موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم”[22]، حيث تعمل الملكية على عدم السماح بخلق حقول مضادة تنافسها في تأويل الخطاب الديني عبر مجموعة من المؤسسات الرسمية، التي تعمل على إنتاج وإعادة إنتاج المشروعية الدينية للنظام السياسي[23].

تراهن الملكية على البيعة كمورد رمزي في تقوية أسس الإسلام الشعبي، وذلك من خلال تبنيها استراتيجية صارمة في تقنين مجالات الخطاب الديني، وفي ذلك صرح المغفور له الحسن الثاني أن صلاحياته: “تطابق قائمة واجبات وضعها الفقهاء الأسبقون، تتمثل في إبقاء الدين داخل حدود المبادئ التي أقرها المسلمون الأوائل بالإجماع، وفي الدفاع عن الأمة والعمل على ضمان احترام الشريعة وتطبيقها والسهر على الأخلاقيات العامة”[24].

حافظ لقب أمير المؤمنين على استمراريته وتجذره في الوعي السياسي والديني للمغاربة، حتى تمت دسترته سنة 1962، ليخرج من دائرة التعبير على الارتباط الرمزي والأخلاقي بالتقاليد الدينية، ويأخذ أبعادا أخرى تجعل الحامل للقب أمير المؤمنين، أي الملك “يتمتع بسند إضافي يضمن له شرعية دينية بوصفه قائما على أمور الجماعة المؤمنة (..)، واعتمادا على وظيفته الدينية السامية ينصب أمير المؤمنين الملك نفسه راعيا للإجماع بين أفراد وجماعات مكونة لمجتمع مسلم يربط بين مكوناته اعتقاد راسخ بأحادية السلطة وعليه، يتمتع أمير المؤمنين بسلطات لاتحد، لأنها تمارس وفق القرآن والسنة. . “[25].

الفقرة الثانية:الشرعية التاريخية

إن البيعة عبارة عن إعادة إنتاج مستمر لرمزية “بيعة الرضوان” التي عقدها المسلمون لرسول الله يوم “صلح الحديبية”، وبهذا تكون البيعة فأل خير يفتتح به حكم السلطان الجديد، فأل يرجى منه أن يكون هذا الحكم مطابقا لحكم الرسول، خاصة وأن السلطان الشريف هو حفيده وممثله لوجودي[26]، حيث “بمجرد أن يستأثر الله بحياة الملك، ويأذن بوفاته، يبادر أهل الحل والعقد في الأمة، وذوو الحيثيات فيها، والقائمون على أثرها، والمهيمنون على شؤونها، وفي ضمنهم رهط من السراة والشرفاء، والأعيان والوجهاء، فيذهبون توا إلى الاجتماع والإشهاد على أنفسهم أمام العدول بمبايعة الملك المطاع، الذي يقع عليه الاختيار والاجماع، هكذا يجري في كل القبائل والمدائن، والبوادي والحواضر، فلا يتخلف عن عقد البيعة في كامل القطر المغربي أية جمهرة أو فئة، ثم ينادى بذلك نداء يسمعه القريب والبعيد، في صيغة الدعاء للملك الجديد”[27].

تعرف الشرعية كتفويض للسلطة من الشعب إلى الحاكم وعادة ما يتم تغييب هذا التفويض في الأنظمة الملكية كونها قائمة على الوراثة، لكن تعمل البيعة على إحياء هذه الشرعية كتعبير عن تجديد التفويض للملك الجديد، فهي بذلك تقوم بوظيفة التكييف القانوني، وتقيد سلطة الحاكم نظريا.

مرت مؤسسة البيعة من محطات تاريخية في علاقتها بالمؤسسة الملكية، عززت من حضورها كمرجعية تاريخية للحكم، فبعد صدمة الحداثة الناتجة عن الاستعمار، تم إفراغ المؤسسة الملكية من كل سلطة وتم تفويتها للمقيم العام، لكن ظلت شرعيتها المستندة إلى البيعة قائمة طيلة فترة الحماية، من خلال بيعة المولى يوسف وابنه محمد الخامس بعده.

مقال قد يهمك :   المرأة المغربية : مكتسبات قانونية وواقع إداري

في مستوى آخر نلاحظ أن مؤسسة البيعة تم اختراقها تاريخيا خاصة من خلال خرق بنود عقد البيعة وذلك “بقبول المساس بالشرع، والتفريط في التراب، والمس بالدين، وترك الجهاد”، رغم ذلك استمرت “أمارة المؤمنين” في أداء أدوارها التاريخية، ما يعني أنها تعتبر مسألة البيعة مسألة شكلية، حيث كان أمير المؤمنين يرفض باستمرار الحد من سلطاته التي مثلت امتدادا لسلطان الدين ولنا في ذلك مثال السلطان عبد الحفيظ الذي رفض البيعة المشروطة وعلى إثر ذلك سجن الكتاني متزعم المعارضة وواضع الشروط[28].

حيث قال علال الفاسي في بيعة فاس المشروطة: “خرجت بنظام الحكم من الملكية المطلقة إلى ملكية مقيدة دستورية”[29].


الهوامش:

[1]د. عبد العالي حامي الدين، “الدستور المغربي ورهان موازين القوى”، دفاتر وجهة نظر، الطبعة الأولى 2005، ص 11

[2] د. عبد العزيز غوردو، “إمارة المؤمنين: التاريخ السياسي والثقافة الدستورية”، دورية كان التاريخية، العدد الرابع عشر، ديسمبر 2011، ص 139

[3]عبد الله الغمائد، “النظام السياسي المغربي والإسلام السياسي: جدل الديني والسياسي بين الملكية ونخب الإسلام السياسي: بحث في الموارد والاستراتيجيات والرهانات”، مجلة القانون الدستوري والعلوم الإدارية، العدد الثامن، أكتوبر 2020، المركز الديمقراطي العربي، ص 119

[4]د. أحمد فؤاد عبد الجواد عبد المجيد، “البيعة عند مفكري أهل السنة والعقد الاجتماعي في الفكر السياسي الحديث”، دار قباء للنشر والتوزيع، 1998م، ص 11

[5] عبد الإله فونتير، “الحياة الدستورية بالمغرب عبر أبحاث الجامعيين المغاربة”، المجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية – العدد 30، 1993، ص58

[6]عبد الرحمن بن خلدون، “المقدمة” الفصل التاسع والعشرون، الباب الثالث من الكتاب الأول، إعداد محمد الشربيني، فروس للنشر والتوزيع، القاهرة 2016، ص235

[7] أحمد محمود آل محمود، “البيعة في الإسلام”، دار الرازي، ص20

[8] أبو حسن الماوردي، “الأحكام السلطانية والولايات الدينية”، تحقيق أحمد مبارك البغدادي، مكتبة دار ابن قتيبة للنشر_ الكويت، الطبعة الأولى 1409ه _1989م، ص 7_8

[9]د. عبد العالي حامي الدين، مرجع سابق، ص38

[10]مرجع سابق، ص 11

[11]مرجع سابق، ص 11،

[12]عبد الرحمن بن خلدون، “المقدمة” الفصل التاسع والعشرون، الباب الثالث من الكتاب الأول، إعداد محمد الشربيني، فروس للنشر والتوزيع، القاهرة 2016، ص236

[13]د. عبد العالي حامي الدين، مرجع سابق، ص63

[14] د. عبد اللطيف أكنوش، “تاريخ المؤسسات والوقائع الاجتماعية بالمغرب”، افريقيا الشرق-الدار البيضاء، ص112

[15] جمع المَكْس أي الجباية والضريبة

[16]عبد اللطيف أكنوش، مرجع سابق، ص118

[17] توماس هوبز، اللفياثان “الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة”، القسم الثاني: في الحكومة، ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب، “كلمة” هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث\ دار الفارابي، الطبعة الأولى 2011، ص180

[18] الفصل 41 من دستور 2011

[19]د. عبد العزيز غوردو، مرجع سابق، ص139

[20]د. عبد العالي حامي الدين، مرجع سابق، ص58

[21]هنا أصر الماوردي على ضرورة الخلافة وأحقيتها فكرة ومؤسسات دون أن يغفل التأكيد على وحدة الخليفة لتوحيد صفوف الأمة وتجاوز التفرقة، فيما اعتبر أبو منصور البغدادي تطور الخلافة إلى مؤسسة شكلية سنة من السنن الاجتماعية والسياسية، فيما يميل إلى جواز وجود أكثر من إمام (خليفة).

للمزيد أنظر:

الماوردي، “قوانين الوزارة وسياسة الملك”، تحقيق رضوان السيد، دار الطليعة للنشر بيروت، الطبعة الأولى 1979، ص12

أبو منصور البغدادي، “الفرق بين الفرق”، دار الآفاق الجديدة – بيروت، الطبعة الثانية 1977

[22]أبو حسن الماوردي، “الأحكام السلطانية والولايات الدينية” الباب الأول: في عقد الإمامة، تحقيق أحمد مبارك البغدادي، مكتبة دار ابن قتيبة للنشر_ الكويت، الطبعة الأولى 1409ه _1989م، ص3

[23]عبد الله الغمائد، مرجع سابق، ص126

[24]د. عبد العالي حامي الدين، مرجع سابق، ص60

[25] د. عبد العالي حامي الدين، مرجع سابق، ص58

[26] د. عبد اللطيف أكنوش، مرجع سابق، ص117

[27]مولاي عبد الرحمن بن زيدان مؤرخ الدولة العلوية، “العز والصولة في معالم نظم الدولة” الجزء الأول_ باب نظام البيعة، المطبعة الملكية بالرباط 1381ه_ 1961م، ص8-9

[28]د. عبد العزيز غوردو، “إمارة المؤمنين: التاريخ السياسي والثقافة الدستورية”، دورية كان التاريخية، السنة الرابعة، العددالرابع عشر، ديسمبر 2011، ص44

[29]عبد العزيز غوردو، مرجع سابق، ص45

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]