سلمى مبتكر: إثبات النسب خارج إطار الزواج بين الواقع والقانون
سلمى مبتكر، طالبة باحثة بسلك الدكتوراه في القانون، جامعة ابن زهر، أكادير.
إن من أشرف الروابط الإنسانية التي تربط بين الأفراد، رابطة البنوة والنسب التي تجمع الولد بأبويه، ولسموها وأهميتها، عملت الشريعة الإسلامية السمحة على الحفاظ عليها وصيانتها من الضياع والعبث، وجعلت النسب حقا للولد يحمي به نفسه من المذلة والتحقير، وحقا لوالدته تدفع به عن نفسها الفضيحة والخزي، وحقا للوالد يحفظ به نسله وسلالته. فالحق في النسب إذن، تشريف للفرد وتمثيل سام لهويته، وهو أول ما يصون به الفرد كرامته داخل المجتمع الإنساني، وتتعاظم قيمة هذا المعطى في المجتمعات ذات المرجعية الدينية المحافظة.
والبنوة لغة[1] مصدرها ابن، وفي الاصطلاح حسب المادة 142 من مدونة الأسرة[2] هي: ” تنسل الولد من أبويه معا…”، وبذلك هي نتيجة طبيعية لاتصال جنسي بين رجل وامرأة، ينتج عنها ابن لطرفي العلاقة، وتردف المادة 142 أن البنوة إما أن تكون شرعية أي محددة في إطار شرعي وقانوني هو الزواج، أو غير شرعيةحيث يكون الطفل ثمرة لعلاقة جنسية خضعت لقانون الطبيعة القائم على الاستجابة إلى الغرائز دون تنظيمها ووضعها في إطار شرعي أو قانوني محدد.
وبالرجوع إلى المشرع المغربي، نجده قد أولى اهتماما متميزا بمؤسسة الأسرة بكل مكوناتها، وحرص من خلال ترسانته القانونية على حماية النسب وحفظه سواء من خلال القانون الجنائي الذي يعاقب على الفساد والاغتصاب وقدف المحصنات والإجهاض، ثم القانون رقم [3]24.03 المتعلق بتعزيز الحماية الجنائية للطفل والمرأة، وأيضا من خلال القانون رقم 70.03 بمثابة مدونة الأسرة والتي عنيت بتنظيم البنوة والنسب من خلال المواد من 142 إلى 162 من مدونة الأسرة، ثم القانون رقم 37.99[4] بشأن الحالة المدنية للأفراد، بالإضافة إلى مجموعة من الاتفاقيات الدولية [5]التي صادق عليها المغرب وألزمته بإجراء تعديلات على مستوى مدونة الأسرة يبقى من أهمها إلحاق نسب الولد بأبيه إذا نتج عن علاقة خطبة، وبالتالي أصبح للخطبة آثار قوية بالنسبة للخاطب وفق المادة 156 من مدونة الأسرة.
وإذا كان من الثابت شرعا وقانونا أن البنوة الشرعية هي الأصل ولا إشكال فيها، فإن البنوة غير الشرعية خروج عن الأصل، وواقع الأمر أن مسألة البنوة غير الشرعية تثير جدلا واسعا بل صراعا محتدما بين الثوابت الدينية والقانونية، وبين الدعوة إلى جعل الفقه والقانون أكثر مرونة بشكل يقبل الاعتراف بالنسب خارج إطار الزواج.
والواقع أن ” الابن الطبيعي” أو الابن الناتج عن علاقة خارج إطار الزواج، لطالما عومل بجفاء وازدراء، فلم يعترف له التشريع الإسلامي ولا التشريعات السماوية الأخرى بأي حق إزاء والده البيولوجي، فلا نسب ولا نفقة ولا إرث، وأقصى ما يناله الطفل هو ثبوت نسبه لأمه بمجرد ولادته.
وهكذا، فإن وضعية الطفل غير الشرعي في التشريع المغربي وضعية مشوبة بكثير من الالتباس وغياب الاستقرار، وهو أمر يدعو للقلق لاسيما أن العديد من التشريعات الوضعية تحاول جاهدة إزالة الفروق بين الأبناء أيا كان الإطار الشرعي أو القانوني الذي ولدوا فيه، والغريب في الأمر أنه بإجراء مقارنة بسيطة مع مدونة الأحوال الشخصية المغربية الملغاة نجدها قد تضمنت في الفصل 89 أنه يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الأب أو بشهادة عدلين أو بينة السماع بأنه ابنه ولد على فراشه من زوجته فلانة، إلا أن المشرع قد تخلى عن الجملة الأخيرة في مدونة الأسرة، فقد نصت المادة 158 من م أ على أنه :” يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الأب، أو بشهادة عدلين، أو ببينة السماع، وبكل الوسائل الأخرى المقررة شرعا بما في ذلك الخبرة القضائية.”، فهل من الجائز الاعتقاد بأن المشرع المغربي قد اعترف ضمنيا بالأطفال الناتجين عن علاقة خارج إطار الزواج؟، وإذا كان الأمر كدلك، فلماذا لازالت وضعية هده الفئة مسكوتا عنها ؟ ولماذا لا يزال القضاء محتشما في مسألة إثبات النسب خارج إطار الزواج؟
واستطرادا لما تقدم، وعلى خلفية الحديث عن الاجتهاد القضائي بالمغرب، نجد من اللازم إيراد القرار الذي أصدرته محكمة النقض[6] في قضية ثبوت النسب خارج إطار مؤسسة الزواج، والذي جاء في حيثياته “أن محكمة الاستئناف تكون قد عللت قرارها تعليلا سليما حين قررت بأن ابن الزنا لا يلحق بالفاعل ولو ثبت بيولوجيا أنه تخلق من نطفته، لأن علاقة الفساد لا يترتب عنها أثر يذكر، وأن البنت تعتبر أجنبية عن المطلوب في النقض ولا تستحق أي تعويض لأنها ناتجة عن فعل غير مشروع، وبأن القواعد القانونية وقواعد الفقه المعمول به، وهي بمثابة قانون، والتي تقرر بـأن ولد الزنا يلحق بالمرأة لانفصاله عنها، وبغض النظر عن سبب الحمل هل هو وطء بعقد شرعي أو شبهة، أو زنا ويكون منقطع النسب من جهة الأب ولا يلحق به بنوة ولا نسبا.”
كان صدور هذا القرار فتيلا أوقد نار التضارب بين الاتجاه المحافظ، وبين الجهات الداعية إلى حماية المرأة والطفولة والتي تعتبر أن لحوق النسب حق طبيعي للطفل يتجاوز كلالثوابت، ونعتبر بدورنا أنه من المشروع التساؤل حول المساواة في المسؤولية عن الإنجاب، والتساؤل حول مصلحة الطفل المولود خارج إطارالزواج.
فبالاطلاع على وقائع هده النازلة يتبين أن المدعية تقدمت بطلب بشأن إثبات نسب ابنتها للمدعى عليه، والذي ثبت من خلال إجراء الخبرة الطبية أنه الأب البيولوجي للطفلة، ولكن دفع المدعى عليه بالحكم الذي أدانه من أجل جنحة الفساد جعل المحكمة تقرر عدم ثبوت النسب لانتفاء أسبابه الشرعية والقانونية اللازمة. وعليه تقرر حرمان الطفلة من النسب ذلك أنه لا يتأتى “من طريق محرم”وهي المقولة التي تنهض على قول الرسول الكريم إن الولد للفراش وللعاهر الحجر[7]، واستنادا على نص المادة 148 من مدونة الأسرة التي تنص على أنه” لا يترتب عن البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية”، ويستلحق بالتالي الابن مجهول النسب، ولا يبقى له إلا اللجوء إلى الفصلين 77 و78 من ق ل ع المتعلقين بالمسؤولية التقصيرية من أجل المطالبة بالتعويض عن الضرر لأنه تسبب في ولادته بطريق غير شرعي.
وفي سياق متصل، سبق أن عرضت قضية مماثلة على أنظار القضاء المغربي، ويتعلق الأمر بقضية ثبوت النسب التي عرضت على ابتدائية الرباط[8] منذ عام 2004 وكان لها السبق في الحكم بثبوت نسب الطفل لأبيه خارج مؤسسة الزواج باعتماد إجراء خبرة الخلايا الوراثية، وهو الحكم الذ يأيدته استئنافية الرباط بتاريخ 28/06/2006. وتتلخص وقائع هده النازلة في كون سيدة كانت على علاقة منذسنة 1994 دون عقد زواج بشخص متزوج وله أبناء من زوجة أولى، وأثمرت هذه العلاقة عن إنجاب طفل بتاريخ 01/01/1996، إلا أنه عندما أصبح الطفل في سن التمدرس فاتحت الأم والده في أمر مستقبله الدراسي، غير أن هذه الدعوة قوبلت بالتغاضي وعدم الجدية إلى أن هجرها هي وابنها.
ورغم ما يبدو من تشابه بين أحداث النازلتين يقضي حسب المنطق الحصول على نفس الحكم، غير أن الأمر لم يجر على هذا النحو، حيث تم رفض طلب إثبات النسب في النازلة الأولى، في حين تم قبوله في النازلة الثانية على الرغم من وحدة المرتكز والأساس، وهو الأمر الذي يجعلنا نطرح التساؤل التالي هل الحكم بإثبات النسب يخضع للسلطة التقديرية للقاضي؟ أم أن الفصل ينبني على أحكام قانونية وعلمية محكمة؟
وبالاطلاع على فقه القضاء التونسي، نجده قد تعامل مع المسألة بجرأة تحسب له، فأمام عدم اعتراف التشريع التونسي اعترافا صريحا بالابن غير الشرعي، اتجهبعض من فقه القضاء التونسي إلى استنباط حل ينصف هده الفئة من الأطفال، فاعتبر أنه إذا نشأت علاقة جنسية بين رجل وامرأة نتيجة لوجود وعد بالزواج، فإن هذا الوعد بالزواج يعد زواجا باطلا لإبرامه خلافا للصيغ القانونية الواردة في الفصلين 36 و 36 مكرر من القانون عدد 3 لسنة 1957 المؤرخ في أول أوت 1957 المتعلق بالحالة المدنية.
فقد قضت محكمة الاستئناف بصفاقس[9] بإثبات نسب طفل رغم عدم وجود عقد زواج محرر طبقا للصيغ الشكلية اللازمة، فتمسك الوالد المزعوم بأن العلاقة التي جمعته بوالدة الطفل كانت علاقة فساد. بينما تمسكت الوالدة المذكورة بأنّها قد مكنته من نفسها بناء على وعده لها بالزواج. وطعن المدعى عليه بالتعقيب في القرار الاستئنافي ناسبا له الخطأ في تطبيق الفصل 21 من مجلة الأحوال الشخصية على أساس أن القرار المذكور قد بني على أن الاتصال الجنسي يعتبر زواجا فاسدا ويترتب عليه إلحاق النسب ، في حين أن الاتصال قد تم قبل وقوع الإشهاد فيعتبر زنا، ولا يترتب عليه إلحاق النسب . لكن محكمة التعقيب قضت برفض مطلب التعقيب و اعتبرت أن الاتصال الجنسي قد تم إثر تراضي الطرفين على الزواج. وهو ما من شأنه أن يقوم مقام الزواج الباطل على معنى الفصل 36 من قانون الحالة المدنية. والذي جاء فيه بالخصوص : “حيث أن الطاعن يحاول أن يجعل علاقته بالمعقب عليها أثناء الحمل والوضع هي علاقة خنائية لا تجبره على قبول نسب مولودتها طالما لم يكن مرتبطا معها بعقد شرعي كما يجب. وحيث أثبت القرار أن اتصال الطاعن جنسيا بالمعقب عليها وازدياد المولودة الناتجة من ذلك الاتصال، كلّ ذلك وقع بعد الاتفاق بين الطرفين والتراضيعلى الزواج وقبل تحرير الحجة الرسميّة بالصفة القانونية. وحيث أن الزواج ينعقد فعلا بمجرد رضى الزوجين حسب أحكام الفقرة الأولى من الفصل 3 من مجلة الأحوال الشخصية أما تحرير الحجة الرسمية …فإنما هو شرط لصحّة عقد الزّواج. وحيث أن عدم إتمام ذلك الشرط يجعل الزواج غير صحيح. لكن من جهة أخرى يترتب عنه ثبوت النسب حسب أحكام الفصل 36 مكرّر من القانون عدد 3 لعام 1957 المؤرخ في غرة أوت 1957.”
كما نستشهد بقرار بليغ لمحكمة التعقيب التونسية فيما يخص وسائل إثبات النسب، وتتلخص وقائع النازلة في أن شخصا تقدم بدعوى لإثبات النسب مستندا في دلك إلى شهادة أربعة من الشهود حققوا أنه ابن فلان المتوفى من المرأة فلانة، فقضت محكمة البداية بعدم سماع دعواه، فاستأنف دلك الحكم، فقررت محكمة الاستئناف رفض الحكم الابتدائي، وإثبات رفض نسب المدعي استنادا إلى ما أفادت به البينة، فتعقب ورثة الهالك القرار الاستئنافي ناسبين إليه خرق أحكام الفصل 68 من م.أ.ش باعتبار أن محكمة الاستئناف قضت بثبوت النسب، في حين أن الزوجية بين من يدعي المعقب عليه أنهما والداه لم تثبت بصفة شرعية ، والمتعقبين يعتبران الشهادة الوارد بها الفصل 68 من م.أ.ش لا تكفي بذاتها لإثبات النسب بل يجب أن تتضمن ما يفيد وجود زواج بين والذ يالشخص المراد إثبات نسبه سواء أكان الزواج المذكور صحيحا أم باطلا.غير أن محكمة التعقيب لم تجار المتعقبين فيما ذهبوا إليه من فهم لمعنى الشهادة كوسيلة من وسائل إثبات النسب وارتأت أن الشهادة وسيلة مستقلة لإثبات النسب وعللت قرارها هدا بأنه : “حيث يتضح بمراجعة الفصل 68 من م.أ.ش أن ثبوت النسب لا يتوقف على ثبوت الزوجية بل اقتضى النص المذكور أنه يثبت بالفراش أو بإقرار الأب أو بشهادة شاهدين من أهل الثقة فأكثر.وحيث استندت محكمة الاستئناف لما قضت لصالح الدعوى إلى شهادة أربعة شهود سالمين من القدح حقّقوا أن المعقّب عليه هو ابن لجارهما … ولد له و لأمه …”[10].
وعلى صعيد آخر، فقد تم إدراج العمل بالخبرة القضائية في مدونة الأسرة، وخلافا لما أقره الاجتهاد القضائي خلال سريان مدونة الأحوال الشخصية القديمة، فمن الثابت لدى كثير من فقهاء الإسلام اعتمادهم على وسيلة أشبه بالخبرة الطبية من حيث القواعد والشروط، وهي ” القيافة”، وتعني قيام ” القائف” بتحقيق قيام علاقة بنوة ونسب بين الأب والولد، بناء على وجود تشابه في جسديهما وأقدامهما خصوصا، ولا يمارسها إلا ذوو الخبرة في المجال، وقد تم الأخذ بهذه الوسيلة في عهد الرسول ( ص([11]، وذلك من خلال أحادث نبوية صحيحة، كما أخد بها الخلفاء الراشدون، والفقه المالكي، وإن اعتماد الكثير من فقهاء الإسلام للقيافة كإحدى وسائل الخبرة، يبرر اللجوء إلى الخبرة الطبية للفصل في مسألة النسب.
وفضلا عن المبررات المستقاة من فقه السلف، هناك مبررات أخرى يفرضها الواقع، تعضد اعتماد الخبرة الطبية، لاسيما الهندسة الوراثية، ومن هده المبررات كثرة النزاعات المعروضة على القضاء بصدد إثبات النسب ونفيه، خاصة ما يتعلق بعقود الزواج غير الموثقة في المغرب، إذ لا زالت مدونة الأسرة ترفض الاعتداد بهذه العقود، وهذه الثغرة القانونية تشجع الآباء ذوي النية السيئة على إنكار نسب أبنائهم في كثير من الأحيان.
وإنه في ظل التطور المطرد والمهم الذي شهده العلم والطب في وقتنا الراهن، يبدو من غير المستساغ عدم الأخذ بالخبرة الطبية التي تساعد القاضي على تكوين قناعة راسخة وقاطعة فيما يخص تحديد النسب.
وقد أخد المشرع المغربي بعين الاعتبار ما تقدم من مبررات، وهو ما يتضح من خلال نص المادتين 153 و158 من م أ، فالمشرع قد أورد السند القانوني الذي يسعف القاضي في الاستعانة بالخبرة الطبية المرتكزة على البصمات الجينية الوراثية، وهو ما أكد عليه الدليل العملي لمدونة الأسرة بصدد تفسير المادة 153 من م أ، لكن هل يمكن اللجوء إلى الخبرة الطبية في جميع الحالات ؟ وهل الخبرة الطبية تلزم القاضي باعتمادها بناء على طلبات الأطراف أو من تلقاء نفسه؟ وما هي سلطات القاضي في هذا المجال؟
بالاطلاع على القانون الفرنسي، نجده قد كرس العمل بهده الوسيلة في الفقرة 11 من المادة 16 من القانون المدني الفرنسي، ونص عليها بكثير من التفصيل، ووفق التعديل الذ يجاء به القانون 22 يوليوز لسنة 1994 والذ يربط اللجوء إلى هذه الوسيلة بصدور أمر قضائي في دعوى جارية متعلقة بإثبات النسب أو نفيه، أو أداء النفقة، أو التحلل منها. وفي حالة رفض الأطراف اللجوء إلى الخبرة الطبية، يملك القاضي ممارسة صلاحياته في اتخاد كافة المستنتجات المترتبة عن هذا الرفض.
أما التشريع المغربي، فلم يدرج التفاصيل العملية المتعلقة باللجوء إلى الخبرة، لأنه لم يعتمدها صراحة من حيث الأصل.وبالرجوع إلى الاجتهاد القضائي نجده قد أقر اللجوء إلى الخبرة الطبية، وهو ما يتضح من خلال عدة قرارات قضائية، من بينها قرار المجلس الأعلى[12]) محكمة النقض حاليا( الذي جاء في إحدى حيثياته ” إنه كان على المحكمة أن تبحث في وسائل الإثبات المعتمدة شرعا ومنها الخبرة التي لا يوجد نص قانوني صريح يمنع المحكمة من الاستعانة بها…”، غير أن القضاء المغربي يمارس سلطته التقديرية في هذا المجال، ولا يعتمد دائما هده الخبرة، كما يلاحظ من خلال الكثير من القرارات أن القضاء المغربي حاول السير على منهج المشرع الفرنسي من خلال ترتيب نتائج رفض الرجل الخبرة الجينية أو التخلف عن موعد إجرائها، فأقر لحوق النسب، ومن ذلك ما جاء في قرار الاستئناف بالدار البيضاء أن” عدم حضور المستأنف لدى الجهة المكلفة بإنجاز الخبرة الجينية المأمور بها رغم استدعائه ودون إدلائه بأي عذر مقبول يعتبر إقرارا منه بنسب الابن”[13].
لكن رغم الشجاعة التي تتسم بها هده القرارات، إلا أن الملاحظ أنها لا تبين في حيثياتها، كما هو مقرر في التشريع الفرنسي، موافقة الأب من عدمها، وتنتظر عدم الامتثال العملي للأب لإجراء الخبرة، فهذا الشرط الذي أورده القانون الفرنسي على قدر كبير من الأهمية لأنه يسرع وثيرة الفصل في النزاع، والغريب في الأمر أنه حتى في هاذ النوع من الخبرات القطعية، يظل القرار خاضعا للسلطة التقديرية للقاضي، الذي يقيم قيمتها الإثباتية بناء على قناعاته الخاصة، فله أن يأخذ بها أو يتركها.
وبعيدا عن الاجتهادات القضائية والتفسيرات الفقهية، يبدو من الضروري والعاجل تعديل المقتضيات التي جاءت بها النصوص القانونية المتعلقة بمسألة إثبات النسب، وترسيخ مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة[14] في تحمل مسؤولية العلاقة خارج إطار مؤسسة الزواج، وملاءمة القانون للواقع مع العلم أن الأحكام الثابتة لم تعد تسعف في إحقاق العدل في ظل المجتمع الراهن، كما أن المنطق الإنساني والأخلاقي يقتضي إثبات نسب الولد لأبيه البيولوجي ما دام الأب معلوما غير مجهول.
وحري بالذكر أنه بسبب رفض القانون والقضاء إقرار إثبات النسب في حق المولود خارج إطار الزواج، أصبحت الأمهات تلجأ إلى مسطرة الإهمال والإقرار بجهل هوية الأب تيسيرا للحصول على حق تسجيل الطفل، ولا يخفى على أحد ما لهذه الإجراءات من تداعيات على الحالة النفسية، والمكانة الاجتماعية والوضعية المادية لكل من الطفل والأم التي تجد نفسها أمام ضريبة هي ملزمة بتأديتها دون الأب الذي ساهم بشكل مباشر في ولادة هدا الطفل.
وتعزيزا لهذا الطرح، نورد مقترح القانون الذي تم تقديمه بمجلس النواب[15]، والذي يدعو إلى تعديل بعض المقتضيات المنصوص عليها في مدونة الأسرة لإتاحة إمكانية إلحاق نسب الابن بأبيه البيولوجي خارج إطار الزواج.
ومن أهم التعديلات التي دعا إليها هذاالمقترح، نسخ المادة 148 من مدونة الأسرة من خلال حذف جملة ” لا يترتب عن البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية”، كما يقترح النص كذلك التأكيد في المادة 155 من مدونة الأسرة على إثبات النسب الناتج عن الشبهة بجميع الوسائل المقررة شرعا و”قانونا”. ويشدد المقترح على أن الكل في وضعية تواطؤ على تكريس وضع يصادر فيه حق الطفل في النسب والاسم.
ولا شك أن مسألة إثبات النسب خارج إطار الزواج، من أشد المسائل إثارة للحساسية والحرج، لا سيما أنه يمس ثوابت دينية ” لا تقبل النقاش”، وأحكام قانونية لها احترامها وخصوصيتها ومرجعيتها الراسخة، التي تقتضي الثبات تحقيقا للأمن المجتمعي، غير أن مصلحة الطفل تبقى في اعتقادنا أجدر وأولى بالرعاية والتفضيل، فنحن أمام إنسان كرمه الله تعالى، ومن أبسط حقوقه التي أجمعت عليها جميع المواثيق الحقوقية الدولية[16]، حق الاعتراف به، وحق الرعاية، والحضانة، والإنفاق، والحفاظ على كرامته وصيانتها، وليس من الإنساني الزج بكل هذه الحقوق ومصادرة حق الطفل فيها، بسبب التصلب والجمود في القواعد والآراء.
وندعو في الختام إلى ضرورة استحضار مبادئ العدل والإنصاف والمساواة في تحمل نتائج ما يؤتي الفرد من أفعال، وضرورة تحكيم الوعي والمنطق، والانتصار للمصلحة الفضلى المتمثلة في حماية الطفل، واللجوء إلى العلم للفصل في هذه المسائل، لأن إثبات النسب بالوسائل العلمية مثل البصمة الوراثية والخبرة الجينية… من شأنه أن يحصن المجتمع ويضع والد الطفل أمام مسؤوليته، و يحقق الردع ، كما من شأنه التقليص من تكريس ثقافة المجتمع الذكوري، ولكناحتشام القضاء المغربي في الأخذ بالخبرة الطبية لإثبات النسب وضبط قواعدها، وجعل اللجوء إليها رهينا بالسلطة التقديرية للقاضين، من شأنه الحد من فعالية هذه الوسيلة العلمية القاطعة التي لها الكلمة الفصل في الوصول إلى الحقيقة، وبالتالي سينشأ لا محالة جيل يعاني من مشاكل نفسية نتيجة لتخلي آبائهم عنهم ورفضهم الاعتراف بهم استنادا على حكم القانون، وهو أمر غير مستساغ ولا ينبغي التساهل فيه، إذليس من المنطقي إصلاح غلط بغلط أفظع منه، كما ندعو التشريع المغربي إلى اللحاق بركب التشريعات المقارنة التي تقدمت بأشواط مهمة في هده المسألة الحساسة وانتصرت للأطفال الذين لا ذنب لهم في ما اقترف الوالدان.
الهوامش:
(*) تم تحكيم هذا المقال من طرف اللجنة العلمية لمركز مغرب القانون
للدراسات والأبحاث القانونية
[1]معجم المعاني https://www.almaany.com/ اطلع عليه بتاريخ 18/04/2021 على الساعة العاشرة صباحا.
[2]ظهير شريف رقم 1.04.22 صادر في 12 من ذي الحجة 1424 ( 3 فبراير 2004 ( بتنفيذ القانون رقم 70.03 بمثابة مدونة الأسرة.
[3]ظهير شريف رقم1.03.207 صادر في 16 من رمضان 1424( 11 نوفمبر 2003 ) بتنفيذ القانون رقم 24.03 المتعلق بتغيير وتتميم مجموعة القانون الجنائي.
[4]القانون رقم 99.37 المتعلق بالحالة المدنية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 239.02.1 المؤرخ في 25 من رجب 1423 ) 3 أكتوبر 2002(.
[5] مثل الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل لسنة 1993.
[6] قرار عدد 275/1 بتاريخ 29/09/2020 ملف شرعي عدد 365/2/1/2018.
[7]رواه البخاري (6750) و(6818) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8]حكم صادر بتاريخ 13/04/2006 ملف 10/1291/2003 منشور بمجلة قضاء الأسرة العدد الثالث دجنبر 2006.
[9]قرار مؤرخ في 14/11/1972 تحت عدد 7900.
[10]القرار التعقيبي المدني عدد 2000 المؤرخ في 05/12/1963 –قرار غير منشور- أورده الأستاذ المنصف بوقرة اثبات نسب ابن الخطيبين في فقه القضاء التونسي، ص 160.
[11]فمن إقراره صلى الله عليه وسلم قوله لأمنا عائشة (ألم تريْ أن مجزَّزًا المُدْلِجي نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامها فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) رواه البخاري، وهذا يدل على إقراره صلى الله عليه وسلم للقيافة وحاشاه أن يسمع باطلًا فيقره.
[12]قرار عدد289 /05 بتاريخ 9 مارس 2005 غير منشور.
من ذلك أيضا القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء عدد 448/05 الصادر بتاريخ 29 ماي 2006، غير منشور.
[13]قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء عدد 462/06 بتاريخ 20/02/2006، غير منشور.
[14] ولا أدل على ذلك من قوله تعالى: ” الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ ” سورة النور الآية 2.
فالله تعالى ساوى بين الرجل والمرأة في العقاب وعليه لزم أن يتحملا معا وزر ما اقترفا.
[15] مقترح تقدم به حزب الأصالة والمعاصرة مستندا إلى اتفاقيات حقوق الطفل وقراءات منفتحة للأحكام الفقهية لفائدة مصلحة الطفل.
منشور بالموقع الالكتروني www.hespress.com اطلع عليه بتاريخ 17/04/2021 على الساعة الثامنة ليلا.
[16] فقد جاء في الفقرة الأولى من المادة الثانية من الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل والتي صادق عليها المغرب أنه: ” تحترم الدول الأطراف الحقوق الموضحة في هذه الاتفاقية وتضمنها لكل طفل يخضع لولايتها دون أي نوع من أنواع التمييز، بغض النظر عن عنصر الطفل أو والديه أو الوصي القانوني عليه أو لونهم أو جنسهم أو لغتهم أو دينهم أو رأيهم السياسي أو غيره أو أصلهم القومي أو الإثني أو الاجتماعي، أو ثروتهم، أو عجزهم، أو مولدهم، أو أي وضع آخر.”