الدفع بعدم الاختصاص النوعي و فكرة النظام العام
هشام العماري عضو نادي قضاة المغرب
باحث في قانون الأعمال
بصدور قانون إحداث المحاكم الإدارية رقم 90-41 بتاريخ 10 شتنبر 1993و قانون إحداث المحاكم التجارية رقم 95-53 بتاريخ 12 فبراير 1997عرف التنظيم القضائي بالمملكة مبدأ تنوع المحاكم و تخصصها بعد أن عمرت المحاكم العادية لوحدها منذ سنة 1974.
و إذا كان إحداث المحاكم الإدارية قد مثل في بدايته خطوة نحو تأسيس القضاء المزدوج أي لإيجاد قضاء إداري مستقل عن القضاء العادي فإن إحداث المحاكم التجارية كان منذ البداية مندرجا ضمن مبدأ تخصص المحاكم لا ضمن مبدأ ازدواجية القضاء، إذ كانت الغاية منه تشجيع الاستثمار و ضمان البت في القضايا التجارية بكيفية سريعة و من طرف قضاة متخصصين في المجال التجاري.
و غني عن البيان أن الدفع بعدم الاختصاص النوعي لا يتصور إلا في ظل نظام قضائي يعرف تعدد أنواع المحاكم. و إذا كان قانون المسطرة المدنية الصادر سنة 1974 هو النص المرجعي العام لتنظيم شكل و مسطرة الدفع بعدم الاختصاص النوعي فإنه بصدور قانوني إحداث المحاكم الإدارية و التجارية أدخل المشرع تعديلا على التنظيم القانوني لهذا الدفع آخذا بعين الاعتبار خصوصية المحاكم المحدثة.
الإطار القانوني للدفع بعدم الاختصاص النوعي:
نظم قانون المسطرة المدنية الدفع بعدم الاختصاص النوعي بمقتضى المادتين 16 و 17. أما بالنسبة لقانون إحداث المحاكم الإدارية فقد نظم هذا الدفع بمقتضى المادتين 12 و 13 في حين نظم قانون إحداث المحاكم التجارية الدفع المذكور بمقتضى المادة 8. ومن خلال تعدد القوانين المنظمة للدفع بعدم الاختصاص النوعي و صدورها في أوقات مختلفة نفهم لماذا لم تكن أحكام هذا النظام موحدة و منسجمة خاصة فيما يتعلق بفكرة النظام العام.
و قبل البحث في علاقة الدفع بعدم الاختصاص النوعي بفكرة النظام العام لا بد من التذكيربخصائص فكرة النظام العام في القانون المسطري.
نظام الدفوع و فكرة النظام العام.
إن اعتبار مقتضىمسطري معين من النظام العام يترتب عنه بالضرورة النتائج التالية:
- 1 ـ إمكانية إثارته في أية مرحلة من مراحل التقاضي و لو أمام محكمة النقض.
- 2 ـ وجوب إثارته من طرف المحكمة تلقائيا و في جميع مراحل التقاضي.
- 3 ـ إمكانية إثارته من لدن أي طرف و لو كان هو المدعي.
- 4 ـ وجوب إحالة القضية على النيابة العامة للإدلاء بملتمسها بخصوص الدفع المثار.
- 5 ـ وجوب الحكم في الدفع بشكل مستقل و عدم ضمه إلى الجوهر.
- 6 ـ عدم إحالة الملف على المحكمة المختصة إلا بعد البت في الدفع بشكل نهائي.
- 7 ـ عدم جواز اتفاق الأطراف على مخالفة قواعد الاختصاص النوعي.
انطلاقا من هذه السمات هل يمكن القول بأن الدفع بعدم الاختصاص النوعي في التنظيم القضائي المغربي يكتسي صبغة النظام العام؟
قبل الجواب على هذا التساؤل لا بأس من الإشارة إلى رأي الفقه المغربي في الموضوع.
اتجاهات الفقه المغربي.
انقسم الفقه المغربي حول هذا الموضوع إلى اتجاهين: الاتجاه الأول يتبنى فكرة ارتباط الدفع بعدم الاختصاص النوعي بالنظام العام و الاتجاه الثاني ينفي ذلك.
و من مؤيدات الاتجاه الأول أن توزيع القضايا بين المحاكم هو تنظيم لمرفق القضاء و لا يد للأطراف فيه. و هو الاتجاه الذي نصت عليه المادة 12 من قانون إحداث المحاكم الإدارية بشكل صريح. و بالرغم من أن هذا الحكم ورد في قانون إحداث المحاكم الإدارية فقط فإن هذا الاتجاه اعتبره هو القاعدة العامة. و من أنصار هذا الاتجاه الأستاذ نور الدين لوباريس و الأستاذ عمر أزوكار.
و من مؤيدات الاتجاه الثاني أن قانون المسطرة المدنية في المادة 16 ساوى بين الدفع بعدم الاختصاص النوعي و الدفع بعدم الاختصاص المحلي في الأحكام باستثناء ما تعلق بإمكانية محكمة أول درجة إثارة الدفع بعدم الاختصاص النوعي تلقائيا. و من مناصري هذا الاتجاه الأستاذ عبد الكريم الطالب.
على أن الاختلاف بين التوجهين يذوب في حالة ما إذا تعلق الأمر بالمادة الإدارية لصراحة المادة 13 من قانون إحداث المحاكم الإدارية لتبقى صفة النظام العام مثار خلاف فقط عندما يحصل تنازع في الاختصاص بين المحاكم العادية ذات الولاية العامة و المحاكم التجارية.
رأي شخصي في الموضوع.
في رأينا إن الدفع بعدم الاختصاص النوعي ليس له صبغة النظام العام إلا إذا تعلق الأمر بالمنازعة في قضية لها علاقة بالمجال الإداري بصراحة نصوص قانون إحداث المحاكم الإدارية التي لا تترك مجالا للاجتهاد في هذا الأمر. أما في العلاقة بين اختصاص المحاكم العادية و المحاكم التجاريةفيجب التمييز في نظرنا بين النزاعات التجارية الصرفة التي لا يمكن للقضاء العادي أن يبت فيها كما لو تعلق الأمر بمساطر معالجة صعوبات المقاولة و النزاعات الحاصلة بين الشركاء في الشركات التجارية فهذه لا يمكن للمحاكم الابتدائية ذات الولاية العامة البت فيها و لو لم يدفع أحد الأطراف بعدم اختصاصها و إنما يجب أن تثير عدم اختصاصها تلقائيا. و بالمقابل فإن النزاعات المدنية الصرفة كالنزاعات العقارية و قضايا الأحوال الشخصية و القضايا الاجتماعية و الزجرية لا يمكن للمحاكم التجارية ان تبسط يدها للبت فيها مطلقا لأن اختصاص المحاكم التجارية حصري مثله مثل اختصاص المحكمة الإدارية لا يجوز التوسع فيه. في حين أن النزاعات التجارية ذات الطبيعة المختلطة كالعقود المبرمة بين المستهلكين و التجار فهذه النزاعات يمكن للمحاكم الابتدائية ذات الولاية العامة و كذا للمحاكم التجارية البت فيها إلا إذا دفع المدعى عليه بعدم اختصاص المحكمة المرفوع إليها النزاع للنظر فيها. و هنا نطبق ما درج عليه الاجتهاد القضائي من كون العبرة في الاختصاص النوعي تكون بصفة المدعى عليه و مركزه القانوني ،و أن الطرف المدني يمكن أن يجر الطرف التجاري لمحكمته الطبيعية و هي الأصل .و العكس غير صحيح بمعنى أن الطرف التجاري لا يمكن أن يجر الطرف المدني إلى القضاء التجاري إلا إذا تنازل الطرف المدني عن هذا الأمر.
و نعتقد أنه يتعين على المشرع أن ينص على قواعد مشتركة بين مختلف أنواع المحاكم لتنظيم الدفع بعدم الاختصاص سواء من حيث توقيت و شكل إثارته أو من حيث مسطرة البت فيه أو من حيث جهة الطعن في الحكم الصادر بشأنه أو من حيث تنظيم الإحالة على المحكمة المختصة حتى لا يبقى هناك تضارب بين المحاكم بهذا الخصوص. فعلى سبيل المثال نلاحظ على مستوى العمل أن المحاكم الابتدائية العادية و كذا محاكم الاستئناف العادية تقوم بالإحالة تلقائيا على المحاكم التجارية عندما تقبل الدفع بعدم اختصاصها النوعي استنادا إلى المادة 16 من ق م م. في حين أن المحاكم التجارية متضاربة في هذا الموضوع فبعضها يقوم تلقائيا بالإحالة على المحاكم العادية استنادا إلى نفس المادة و البعض الآخر يكتفي بالتصريح بعدم الاختصاص دون أن يأمر بالإحالة بعلة أن قانون إحداث المحاكم التجارية لا ينص على مقتضى من هذا القبيل. هذا من جهة، و من جهة أخرى نتساءل عن ما هو السند القانوني الذي يلزم محكمة مستقلة عن محكمة أخرى قبول قرار الإحالة الصادر عن هذه الأخيرة؟ و ماذا لو أن المحكمة المحال عليها حكمت بدورها بعدم اختصاصها للبت في النزاع و هو ما يسمى بالتنازع السلبي للاختصاص هل إن اللجوء إلى مسطرة تنازع الاختصاص أمام محكمة النقض طبقا للمادة 388 من ق م م تعتبر حلا ناجعا أم أنه سيساهم في تعقيد المسطرة و تأجيل البت في القضايا ؟
لذلك، و بالنظر إلى الغاية الدستورية الهادفة إلى إصدار الأحكام القضائية داخل أجل معقول أعتقد أن المشرع ملزم بالتدخل في أقرب وقت لإعادة تنظيم مسطرة الأحكام غير الفاصلة في الموضوع و منها الأحكام الصادرة بشأن الاختصاص حتى لا تكون سببا في بطء العدالة او تعطيلها. وحتى يساهم في الحد من استغلال هذه المساطر بشكل تعسفي أو للتقاضي بسوء نية.
و من بين الأمور الواجب إعادة تنظيمها مسألة الإثارة التلقائية لعدم الاختصاص من طرف المحكمة. أعتقد أنه في هذه النقطة أنه يتوجب على المحكمة أن تثير عدم اختصاصها بمجرد تسجيل مقال الدعوى دون انتظار تبليغه للخصم. فبمجرد الاطلاع على المقال الافتتاحي بما يتضمنه من وقائع و أسباب و ملتمسات و ما أرفق به من وثائق يمكن للمحكمة أن تحسم في مسألة اختصاصها النوعي من عدمه. و ليست هناك أية جدوى من إدراج الملف بعدة جلسات أو اتخاذ إجراءات للتحقيق قد تطيل أمد النزاع دون فائدة، خاصة إذا علمنا بأن إجراءات التحقيق التي تأمر بها محكمة معينة لا تكون ملزمة للمحكمة التي يحال عليها النزاع في إطار الاختصاص النوعي لأن هذه الأخيرة مستقلة في قرارها و في قناعتها و لها كامل السيادة في إدارة ملف القضية وفق الشكل الذي تراه مناسبا.
كذلك فيما يتعلق بالمادة 17 من ق م م ـ التي تسمح للمحكمة الابتدائية العادية البت في الدفع بعدم الاختصاص بشكل مستقل أو ضمه إلى الجوهر ـ لا أعتقد بأنها اصبحت ذات فائدة . فقد ينتج عن إعمال مبدأ تأجيل البت في الدفع إلى حين القضاء في الجوهر تأخير في البت في القضية من دون موجب. هكذا قد يطول النزاع بالمحكمة الابتدائية سنة أو سنتين لتقضي برفض الدفع بعدم الاختصاص و تفصل في الجوهر لنفاجأ بإلغاء نفس الحكم على مستوى محكمة الاستئناف العادية التي تأمر بإحالة النزاع من جديد على المحكمة التجارية للاختصاص النوعي بعد إبطال الحكم الأول الذي قضى في الجوهر. فتقوم المحكمة التجارية بالبت في النزاع من جديد و كأن الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية لم يكن. اللهم فيما يتعلق بالحجية التي يعطيها القانون لجميع الأحكام فيما يتعلق بإثبات الوقائع استنادا إلى الفصل 418 من ق ل ع.
خلاصة القول إن التدخل التشريعي في هذا الموضوع أصبح واجبا ملحا و طلبا مستعجلا، فبدونه ستستمر عدالتنا في إهدار الزمن القضائي و سنساهم بشكل غير مباشر في ضياع حقوق المتقاضين في عالم متطور يحتل فيه الوقت أهمية قصوى. لذا على المشرع أن يتبنى إجراءات مسطرية عملية ترسيخا لنجاعة قضائية فعالة و تدبيرا للزمن القضائي. وأن يتخلص من الفكر القانوني التقليدي الذي أثر في تنظيم هذا الموضوع لعدة عقود.