رشيد وهابي: في الحاجة لتجريم عدم تطبيق القانون
منذ عدة سنوات والمغرب يقوم بعملية متواصلة لتحديث قوانينه وجعلها متناسقة ومتناغمة مع القوانين العالمية والمواثيق الدولية، وفي سبيل إرساء التوجهات العالمية الجديدة في حقوق الإنسان ومحاربة الفساد الإداري وإنفاذ القوانين وترسيخ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، انكب المسيرون لأمور المملكة على إحداث مجموعة من المؤسسات التي قد تكون راعية وعاملة على ترسيخ التوجهات الجديدة، وجعلوا بعض هذه المؤسسات تحظى بغطاء دستوري، وكان دستور 2011 بما عرفه من تنصيص في تصديره على أن المملكة المغربية اختارت بلا رجعة بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل بعزم مسيرة توطيد وتقوية مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة.
وهدف تكوين دولة يحترم فيها القانون نجده واضحا كذلك في المادة 6 من دستور 2011 التي تنص على ما يلي: (القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له). وتكررت الإشارة إلى أهمية التقيد بالقانون في المادة 37 من الدستور التي تنص على ما يلي: (على جميع المواطنات والمواطنين احترام الدستور والتقيد بالقانون. ويتعين عليهم ممارسة الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة، التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بالنهوض بأداء الواجبات).
ومن خلال المواد التي تم سردها أعلاه وفي دستور 2011 لاحظنا سعي الدستور المكثف والمتكرر إلى تربية المغاربة على احترام القانون والامتثال له وتطبيقه، لكن في الوقت نفسه نلاحظ كذلك كيف تواتر انتهاك النصوص القانونية وعدم الامتثال لتطبيقها والعمل على احترامها والسير على نهجها من طرف بعض من افترض فيهم القانون تطبيقها والعمل بها، نصوص قانونية كما نعرف جميعا، لم تخرج إلى الوجود وإلى الممارسة العملية إلا بعد مرورها من مجموعة من المراحل الكثيرة داخل مجلس النواب ومجلس المستشارين، وبعد رحلة المجلسين الطويلة والشاقة والتي قد تنتهي بإقرارها والموافقة والتصويت على جاهزيتها لتدخل خزانة قوانين الدولة المغربية، لتنظر في بعض الأحيان أمام المحكمة الدستورية التي تراقب مدى احترام مقتضيات القانون المنتظر للمبادئ العامة للدستور وعدم تعارضها معه، قوانين تمر من كل ما مرت منه ليتم بعد ذلك إرسالها إلى الأمانة العامة للحكومة التي تواكب مشاريع النصوص القانونية منذ بداية إعداده إلى غاية إصداره بالجريدة الرسمية لتتكفل بباقي رحلتها التي ستخرجها للوجود، هي إذن رحلة طويلة ومعقدة، قد تستمر لعدة سنوات ليخرج النص القانوني وينشر بالجريدة الرسمية ويبدأ العمل به في حياتنا اليومية والعملية.
كل هذا المجهود الذي بذل لإخراج النص القانوني، يمكن أن يصبح والعدم سواء ويكون هباء منثورا حين يسعى شخص معين إلى طلب تطبيق نص قانون معين أمام موظف بسيط أو مدير كبير أو رئيس مصلحة معينة ممن تطبق في حظيرة عملهم هذه النصوص، فيرفض أحدهم تطبيقه دون وجود نص قانوني آخر يمنع تطبيقه، وقد يتعنت في تطبيقه بمبررات متنوعة لا تستند في غالبها إلى القانون بل أحيانا قد تلتحف فقط بمزاجية الموظف الذي يطلب منه تطبيق النص القانوني على نازلة معينة، فيصبح النص القانوني الذي نفخ فيه المشرع روح الحياة، جثة بلا روح، وتزداد الصورة سوءا حين يستفيد من فوائد النص القانوني موضوع طلب التطبيق مواطن محظوظ ويحرم من نسيمه ومن ريحه الطيبة ومن فوائده مواطن آخر.
ففي هذه الحالة قد يطلب من المتضرر أن يتقدم بشكاية إلى مسؤول الموظف، وقد يتم نصحه كذلك بالتقدم بطعن أمام المحكمة الإدارية لطلب إلغاء قرار الموظف، والذي في غالب الأحيان لا يكون مكتوبا بل شفويا والتشكي للمسؤول قد يستمر انتظار الجواب عليه لعدة أشهر، وقد يجيبك المسؤول إجابة في الغالب لا تفي بالمراد، ولكن في غالب الأحيان لا يكلف نفسه عناء الجواب على مثل هاته الشكايات، كما أن التوجه إلى المحاكم الإدارية قد يستغرق سنوات من التقاضي، وقد يرد طلبك القاضي الإداري بعلة أن القرار المتخذ لا يكتسي صبغة القرار الذي يمكن الطعن فيه إداريا أو لسبب آخر مرتبط بالعلم اليقيني أو ما شابه ذلك، وحتى لو صدر الحكم الإداري لمصلحتك، قد يتعذر تنفيذه، وتصبح ملزما بطلب الغرامة التهديدية التي قد يستجاب لها وقد ترفض، وتدخل في نفق لا ينتهي من المساطر المكلفة زمنيا وماديا، لمجرد أنك طلبت تطبيق نص قانوني معين أخرجته إلى الوجود الدولة التي تعيش بين ظهرانيها وأصبح يحق الاستفادة من تنصيصاته وواجب التطبيق من طرف الجميع بعد نشره رسميا.
ما هو الحل إذن أمام نصوص دستورية تؤكد أن المغرب بلد يجب أن يحترم فيه القانون وتدعوا الجميع إلى الالتزام به بمساواة لا تفرق بين عمر وزيد، ونص قانوني مر من مراحل عديدة ومن بين أيدي مختصين كثر وسافر بين مؤسسات دستورية متنوعة قبل أن يخرج إلى الوجود القانوني، وانتقل من مؤسسة إلى أخرى قبل أن يصبح ساري المفعول، نص وصل به المطاف بين يدي موظف قد يكون صغيرا يرفض بكل تعنت تطبيق النص القانوني ويستصغر عمل كل الشخصيات والمؤسسات التي ساهمت في إخراج القانون المراد تطبيقه.
أعتقد ونحن نعمل بكل تفان وجد واجتهاد ودون عجلة على إرساء بنيان دولة القانون والعدالة الاجتماعية بكل تفاصيلها، وجعل كل من عليها متساوون في الالتزام بتعاليم القانون والاستفادة من هداياه، أن تجريم عدم تطبيق القانون أو النص القانوني هو الحل الجدي والصارم لمعالجة مثل هذه الحالات المتعلقة بعدم تطبيق القانون أو التعنت في تطبيقه متى طلب من له حق ذلك، وقد جرني البحث في هذا الموضوع إلى التنقيب في مجموعة من القوانين المقارنة العربية منها والغربية (المصرية الجزائرية، الأردنية، الفرنسية، الأمريكية) علني أجد نصا قانونيا يجرم عدم تطبيق القانون أو النص القانوني، لكن حسب ما وصل إلى علمي وتنقيبي لم أجد لمثل هذا النوع من التجريم مكانة وحظوة بين تلك القوانين.
لذلك فأعتقد دائما حسب علمي المتواضع والمحدود أن المغرب إذا ما أقر نصا قانونيا يجرم عدم تطبيق القانون، سيكون أول بلد يجرم أفعال عدم الالتزام بتطبيق القانون، وسنفتخر ونقول إن تطبيق النص القانوني في المغرب أصبح يحظى بحماية جنائية تنزل العقاب على كل من لم يمتثل له ولم يطبقه. وسيصبح المغرب أول دولة بالعالم تصبغ الحماية الجنائية على تطبيق القوانين والعمل بها بنص عام يخاطب ضرورة احترام وتطبيق كل النصوص القانونية وليس بنص خاص يمكن أن تجده يحمي نصا خاصا معينا ولا يحمي كل القوانين.
والحقيقة التي نحس بهزاتها من طرح فرضية تجريم عدم تطبيق القانون أو النص القانوني هو أمر ليس بالسهل والأمر الهين، فهي تحتاج إلى أن تتم دراسة جميع جوانبه وتجلياته بشكل كبير حتى لا يصبح هذا المقتضى مطية لكل من يريد أن يتعسف على موظف أو من كفل له القانون النظر في ذلك القانون أو تطبيقه بالتقدم بشكايات كيدية ضده مستندة على هذا المقتضى الموصى به في هذا المقال.
فالشكاية مثلا لا يمكن تقديمها إلا بعد أن تتم مراسلة الموظف المعني بالأمر كتابة بالمقتضى القانوني المراد تطبيقه، وينتظر الطالب مدة شهر أو شهرين، فإذا لم يتم الجواب على طلبه أو كان جواب الموظف غير مقنع، يتقدم المتضرر بشكايته أمام وكيل الملك ضد المعني بالأمر من أجل جريمة عدم تطبيق القانون، ووكيل الملك يراسل الموظف المعني بالأمر، طالبا منه تبريرا لعدم تطبيقه للنص القانوني المطلوب منه تطبيقه، ويمنحه مهلة شهر أو شهرين للجواب فإن كان جوابه مقنعا يمكن لوكيل الملك أن يحفظ الشكاية، ويكون من حق الموظف المشتكى به تقديم دعوى لجبر الضرر اللاحق به جراء الشكاية في الحالة التي يجيب فيها المشتكي الذي تقدم بطلبه أمام الموظف وبرر له الموظف سبب رفضه وكان سبب الرفض مقنعا ومع ذلك توجه طالب تطبيق النص القانوني، وقدم به شكاية إلى وكيل الملك، أما في الحالة التي لا يجيب فيها الموظف عن طلب طالب تطبيق القانون، فلا حق للموظف لطلب التعويض لأن طالب تطبيق القانون لم يكن له خيار سوى التوجه بشكايته أمام وكيل الملك بعد عدم جواب الموظف، ولوكيل الملك إن كان جواب الموظف الذي رفض تطبيق النص القانوني غير مقنع وغير مبرر أن يتابع الموظف بجريمة عدم تطبيق القانون، ويحيله على المحاكمة دون إحالة الشكاية للبحث إذا ظهر منها توفر جريمة عدم تطبيق القانون في حق الموظف من خلال الوثائق الموجودة بين يديه، ويمكنه أيضا أن يحيل الشكاية على الضابطة القضائية لتبحث فيها بالاستماع للأطراف، وبعد البحث يمكن لوكيل الملك إن توفرت مقتضيات الفصل المجرم لعدم تطبيق القانون أن يتابع به الموظف أو المعني بأمر عدم تطبيق النص القانوني ويحيله إلى المحاكمة بجريمة عدم تطبيق القانون أو النص القانون أو يحفظ الشكاية.
ونقترح أن يكون النص القانوني المجرم لفعل عدم تطبيق القانون رغم طلب ذلك وفق الصياغة التالية:
(كل من رفض تطبيق نص قانوني بعد توصله بطلب مكتوب دون مبررات قانونية أو واقعية أو وجود تعارض بين نصوص قانونية أو وجود نقص في الوثائق المطلوب الإدلاء بها من طرف الطالب، بعد مرور ثلاثة أشهر من تاريخ الطلب المذكور، يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر، وبغرامة مالية ما بين 2000 درهم 10000 درهم، مع حق المتضرر في الحصول على تعويض عن الضرر الذي قد يكون أحدثه رفض تطبيق القانون من الموظف أو من المعني بأمر تطبيق القانون شخصيا أو من الدولة المغربية في حالة عسر الممتنع).
ونختتم بالقول إن دولة القانون واحترام القانون من طرف الجميع مطبقين له ومخاطبين به تحتاج إلى جرعات جزائية تطال كذلك الممتنعين عن تطبيقه ممن أوكل لهم المشرع تطبيقه ولا تبقى سارية فقط على المخاطبين به.