مجلة مغرب القانونالقانون الخاصفلكي لمياء: وضعية حكم بطلان مقرر التحكيم الدولي أمام قاضي التنفيذ

فلكي لمياء: وضعية حكم بطلان مقرر التحكيم الدولي أمام قاضي التنفيذ

فلكي لمياء باحثة في العلوم القانونية

  مقدمة(*):

إن التدخل القضائي في التحكيم له صور متعدد، ويتم ذلك بناءا على الهدف من ذلك التدخل، فقد تكون الغاية من ذلك التدخل مراقبة حكم التحكيم أثناء الطعن فيه، وقد يكون الهدف من ذلك التيقن من مراعاة حكم التحكيم للشروط التي يتطلبها القانون الوطني من أجل الاعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه وذلك بمناسبة الطلب المقدم من المحكوم لصالحه بإصدار الأمر بتنفيذ حكم التحكيم، وقد يكون الهدف من ذلك التدخل القضائي مراقبة حدود وظيفة هيئة التحكيم ومدى احترام الأطراف وهيئة التحكيم للقواعد القانونية المتصلة سواء باتفاق التحكيم أو حكم التحكيم أو النظام العام، وذلك أثناء الطعن بالبطلان ضد حكم التحكيم باعتباره طعن خاص[1].

والطعن بالبطلان ضد الحكم التحكيمي يعتبر وسيلة خاصة للتظلم تهدف إلى التحقق من عدم خرق حكم المحكمين للقواعد القانونية، ولهذا يوصف هذا الطعن بأنه طعن مختلط، ذلك أن هذا الطعن ليس كطعن بالاستئناف، ولا كالطعن بالنقص حتى وإن كان يتمتع ببعض خصائص هاذين الطعنين[2].

وبهذا إذا كان القرار التحكيمي يقبل الطعن ببعض وسائل الطعن العادية وغير العادية كالحكم القضائي إلا أنه يتميز عن هذا الأخير بالطعن عن طريق دعوى البطلان الذي حظيت باهتمام كبير سواء على صعيد التشريعات الوطنية رغم اختلاف مواقفها بخصوص هذه النقطة وكذا على صعيد الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم التجاري الدولي التي اهتمت بصفة خاصة بهذا الموضوع. هذا ناهيك على أن تنفيذ أحكام التحكيم التي قضي ببطلانها في دولة صدورها تعتبر من أهم المواضع التي تواجه الممارسون للتحكيم التجاري الدولي وهذا ما سوف أعالجه بنوع من التفصيل في هذا الموضوع.

حيث تتجلى أهمية الموضوع في تحديد مدي إمكانية فك الارتباط بين الجهة القضائية المختصة بمنح الصيغة التنفيذية لمقرر التحكيم دولي و الجهة التي صدر فيها الحكم التحكيمي الدولي أو التي يطلق عليها دولة المنشأ.

و يطرح هذا الموضوع إشكالية رئيسية تتمحور كالأتي: إلى أي مدى يصبح حكم التحكيم الذي قضي ببطلانه في دولة صدوره مازالت له قيمته ومن ثم يكون من الممكن تنفيذه في دولة أخرى؟.

انطلاقا من خلال هذه التوطئة لقد ارتأيت تقسيم هذا الموضوع  وفق التصميم التالي:

  • المبحث الأول: رصد لأهم القضايا التي عرضت على القضاء المقارن
  • المطلب الأول: موقف الأنظمة المقارنة المرتبطة بالعائلة الرومانية الجرمانية و الانكلوساكسونية
  • المطلب الثاني: موقف الأنظمة المقارنة المرتبطة بالتجارة الدولية العربية (القضاء المغربي نموذجا)
  • المبحث الثاني: تراجع الأثر الدولي للحكم الصادر ببطلان مقرر التحكيم التجاري الدولي
  • المطلب الأول:تأكيد الأثر الدولي لإبطال المقرر التحكيمي
  • المطلب الثاني:الجدل الفقهي حول الأثر الدولي لبطلان مقرر المحكمين

المبحث الأول: رصد لأهم القضايا التي عرضت على القضاء المقارن

عرضت على القضاء المقارن عدة قضايا صدر فيها حكم ببطلان مقرر التحكيم التجاري الدولي وعليه سوف أتطرق إلى هذه المواقف القضائية للوصول إلى الخطوط العريضة التي تجمع أو تفرق بين هذه الأحكام وذلك على الشكل التالي:

– موقف الأنظمة المقارنة المرتبطة بالعائلة الرومانية الجرمانية و الأنجلوساكسونية .

– موقف الأنظمة المقارنة المرتبطة بالتجارة الدولية العربية .

المطلب الأول : موقف الأنظمة المقارنة المرتبطة بالعائلة الرومانية الجرمانية و الأنجلوساكسونية  

1-موقف الأنظمة المقارنة المرتبطة بالعائلة الرومانية الجرمانية:

سوف أتطرق في هذه النقطة للقضاء الفرنسي (أ)، ثم القضاء البلجيكي (ب).

 أ- القضاء الفرنسي

من بين القضايا التي عرضت على القضاء الفرنسي قضية norsolor (أولا) و قضية polish acean line (ثانيا) وأخيرا قضية putrabali (ثالثا)

أولا: قضية Norsolor

تعتبر قضية Norsolor  أولى القضايا التي أثيرت أمام القضاء الفرنسي بتاريخ 4/2/1980، حيث أبرمت شركة Norsolor الفرنسية مع شركة pabalk التركية عقد وكالة تجارية، ثم نشأ نزاع بين الشركتين نتيجة إنهاء عقد الوكالة، وعلى إثر هذا الإنهاء لجأت Pabalk إلى المحكمة المختصة بموجب شرط التحكيم ممثلة في غرفة التجارة الدولية، مطالبة Norsolor بسداد العمولات غير المدفوعة، وكذلك تعويضها عن الأضرار التي أصابتها من جراء إنهاء عقد الوكالة. ولما كان عقد الوكالة لا يتضمن القانون الواجب التطبيق على العقد بدأت هيئة التحكيم بالبحث لتحديد هذا القانون، فتوصلت إلى تطبيق مبدأ حسن النية باعتباره مبدأ من مبادئ القانون التجاري الدولي ناهيك عن مبدأ التعامل العادل (مبدأ العدالة)، وبذلك اعتبرت سلوك شركة Norsolor يتنافى مع هذا المبدأ وانتهت إلى الحكم لصالح الشركة التركية Pabalk. [3]

وقد تم إبطال مقرر التحكيم جزئيا بمقتضى حكم صادر عن محكمة استئناف فيينا بتاريخ 29 يونيو 1982، وذلك تأسيسا على أن الهيئة التحكيمية قد طبقت المبدأين السابقين وهو ما اعتبرته محكمة الاستئناف تطبيقا لقواعد عبر دولية وهو مالم يتفق عليه الأطراف ونتيجة رفض محكمة استئناف باريس الأمر بتنفيذ مقرر التحكيم الذي تم إبطاله جزئيا في النمسا، استنادا إلى نص المادة 5/2 من اتفاقية نيويورك 1958، ثم الطعن أمام محكمة النقض الفرنسية التي قامت بنقض هذا الحكم وإلغائه، وذلك إعمالا لنص المادة 7 من نفس الاتفاقية، ناهيك على الفصل 12 من ق.م.م الذي كان يتعين وفقا له على محكمة استئناف باريس أن تبحث عند نظرها طلب في تنفيذ حكم المحكمين الذي سبق إبطاله في الضوابط التي يتضمنها القانون الفرنسي وحده لتبين ما إذا كانت تجيز أو لا تجيز تنفيذ الحكم المذكور[4].

ثانيا: قضية polish ocean line

وتتعلق هذه القضية بعقد وكالة تجارية، بين شركة بولندية polish ocean line وشركة فرنسية jolarsy، وأثناء تنفيذ العقد ثار نزاع بينهما، شكلت للفصل فيه هيئة تحكيمية إعمالا لشرط التحكيم المدرج في العقد، حيث أصدرت مقررها بتاريخ 17 مارس 1995 بإلزام الشركة البولندية بدفع تعويضات للشركة الفرنسية نتيجة إخلال الأولى بتنفيذ العقد. وفي أعقاب ذلك، تقدمت الشركة البولندية بتاريخ 12 أبريل 1995 بطلب للمحكمة الاقتصادية في جدانسك لإبطال المقرر التحكيمي الصادر ضدها، وبالفعل قضت المحكمة بحكمها الصادر في 22 ماي 1995 بوقف المقرر لحين الفصل في طلب البطلان. بيد أنه وفي الفترة بين تقديم الطلب وصدور الحكم المذكور استصدرت الشركة الفرنسية أمرا بتنفيذ حكم التحكيم من القضاء الفرنسي في 30 أبريل 1995. وقد تم الطعن في الأمر الصادر بالتنفيذ، إلا أن محكمة الاستئناف الفرنسية قضت برفض الطلب، وبعد الطعن بالنقض رفضت محكمة النقض الأخذ في الاعتبار أحكام البطلان أو أحكام وقف التنفيذ التي تصدر بشأن حكم التحكيم في دولة إصداره[5].

يلاحظ أنه بينما نجد في قضية نورسولور أن المحكمة العليا الفرنسية قد اكتفت بالإشارة إلى أن المادة 5/1/ هـ من اتفاقية نيويورك لا تعد في حد ذاتها بمثابة أسباب كافية لرفض تنفيذ حكم التحكيم الباطل، فإن الأمر الآن صار أكثر وضوحا بالنظر إلى أن نص القانون الأكثر فائدة الوارد في المادة السابعة، ومن ثم تطبيق نص المادة 1502 من تقنين الإجراءات المدنية الفرنسي الجديد يفضل تطبيق المادة 5/1/هـ من الاتفاقية[6]

ثالثا: قضية putrabali

تتعلق بنزاع بين شركة فرنسية Rena Holding وشركة أندونيسية putrabali، حيث اشترت الشركة الأولى من الشركة الثانية كمية من الفلفل الأبيض. بيد أن حمولة السفينة تعرضت للغرق أثناء النقل، وعلى أساس ذلك رفضت الشركة الفرنسية دفع ثمن البضاعة، فأثارت الشركة الأندونيسية شرط التحكيم المضمن في العقد، حيث انعقدت الهيئة التحكيمية بلندن[7] فلقد صدر الحكم التحكيمي عن الهيئة التحكيمية بلندن بتاريخ 10 أبريل 2001 كان لفائدة الطرف الفرنسي، غير أن القضاء البريطاني قضي ببطلانه جزئيا وتبعا لذلك تم تشكيل هيئة تحكيمية من جديد التي أصدرت حكمها التحكيمي بتاريخ 21 غشت 2003، إلا أنه في هذه المرة لم يكن في صالح الطرف الفرنسي . وبتاريخ 30 سبتمبر 2003 استصدر هذا الأخير عن رئيس المحكمة الكبرى بباريس أمرا بتذييل الحكم التحكيمي الأول بالصيغة التنفيذية. مما حذا بالطرف الأندونيسي إلى استئنافه إلا أنه قوبل بالرفض بمقتضى القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بباريس بتاريخ 31 مارس 2005. ومن جهته قام الطرف الأندونيسي باستصدار الأمر بالتذييل بالصيغة التنفيذية عن رئيس المحكمة الكبرى بباريس للحكم التحكيمي الثاني الصادر لفائدته. غير أن هذا الأمر ألغته محكمة الاستئناف بباريس معللة قرارها بأنه جاء لاحقا للقرار الذي سبق لها أن أصدرته بتاريخ 31 مارس 2005 والذي حاز قوة الشيء المقضي به. كما أن محكمة النقض الفرنسية رفضت قراري محكمة الاستئناف بباريس المقدمين من طرف الشركة الأندونيسية واعتبرت أن الحكم التحكيمي الأول هو الذي يجب اعتباره وليس الثاني[8].

هكذا يمكن القول أن التبرير القانوني لهذا القضاء هو في منتهى الوضوح بالنسبة لموقف المحاكم الفرنسية فإن المادة السابعة/1 من اتفاقية نيويورك تعني أن القاضي سيكون في استطاعته أن يطبق قانونه الوطني إذا كان أكثر فائدة من الاتفاقية، كذلك فإن القضاء الفرنسي يقرأ المادة الخامسة من نفس الاتفاقية على نحو يتفق مع التفسير الخاص لكلمة may باعتبارها تعني أن المحاكم مازالت لها السلطة التقديرية في أن تنفذ أو لا تنفذ حكم التحكيم الباطل[9].

وانطلاقا من وجهة نظري يبدو لي أن القضاء الفرنسي ساهم بشكل كبير في تحقيق فعالية للمقررات التحكيمية الدولية وذلك من خلال الاعتراف بمجموعة من الأحكام الذي قضي ببطلانها في بلد أجنبي.

ب ـ القضاء البلجيكي

صدر حكم تحكيمي في الجزائر بتاريخ 29 دجنبر 1985، بيد أنه أبطل من طرف محكمة استئناف الجزائر في 20 دجنبر 1986، ومع ذلك قررت محكمة أول درجة في بروكسيل نفاذ الحكم التحكيمي في 6 دجنبر 1988. ويراعى أن هذا الحكم استبعد تطبيق اتفاقية نيويورك سنة 1958، لأن الجزائر لم تنضم إليها إلا سنة 1988، وطبقت المحكمة القواعد البلجيكية في قانون المرافعات المتعلقة بالأمر بتنفيذ الأحكام التحكيمية الصادرة في الخارج (المواد 1719-1723) مؤكدة أن من الأسباب المحتملة لرفض منح الأمر بالتنفيذ لم يكن متمسكا به، وقد أيدت محكمة استئناف بروكسيل ذلك بحكمها الصادر بتاريخ 9 يناير 1990، وفي ذات السياق، صدر حكم تحكيمي بالتعويض ضد المؤسسة العربية لضمان الاستثمارات في الأردن سنة 1994، وعلى الرغم من الدفع الذي تمسكت به هذه الأخيرة باعتبار أن الحكم التحكيمي لا تتوفر فيه الحجية التي تفرضها المادة 4 من اتفاقية نيويورك ولا يصبح ملزما وفقا للمادة 5/1- هـ إلا بعد مصادقة المحاكم التجارية الأردنية. بيد أن محكمة أول درجة أمرت بتنفيذ الحكم بتاريخ 25 يناير 1996، وقد تم تأييد الحكم استئنافيا من طرف محكمة استئناف بروكسيل بتاريخ 24 يناير 1997[10].

مقال قد يهمك :   الأسس المبررة للنقض في المنازعات الضريبية على ضوء قرارات المجلس الأعلى

في بلجيكا أيضا، ولكن تطبيقا هذه المرة لاتفاقية نيويورك، أعطيت صيغة التنفيذ لحكم تحكيمي صادر في عمان سنة 1994 ضد المؤسسة العربية لضمان الاستثمارات التي ألزمت بدفع تعويض في الحكم التحكيمي، واعترضت على تنفيذه معتبرة أن هذا الحكم التحكيمي لا تتوفر فيه الحجية التي تفرضها المادة 4 من اتفاقية نيويورك ولا يصبح ملزما وفقا للمادة 5/1/هـ إلا بعد تصديق المحاكم الأردنية عليه، الأمر غير المتوفر. وردت المحكمة القضائية البلجيكية أن الأسباب التي تقتضيها معاهدة نيويورك لحجية الحكم التحكيمي متوفرة لأن الحكم وتوقيع المحكمين غير منازع بها[11].

واعتبر القضاء البلجيكي أنه ليس مسلما به أن الحكم التحكيمي المطعون به ليس ملزما في القانون الأردني وأن صيغة التنفيذ ليست هي التي تعطي الحكم إلزاميته الدولية، بل صيغة التنفيذ والمصادقة على الحكم التحكيمي لا تعني سوى تنفيذ الحكم التحكيمي في الأردن. وقرر القضاء البلجيكي أن الطابع الإلزامي للحكم التحكيمي لا يحدده القانون الأردني، بل تكفي العودة إلى اتفاق الطرفين الذي ينص على أن “الحكم التحكيمي يصبح نهائيا وملزما للطرفين وينفد فورا بعد صدوره…. ولا يقبل الحكم التحكيمي لا الاستئناف ولا إعادة النظر”. وأضافت المحكمة البلجيكية: “أن الاتفاقية التحكيمية نصت على أن تنفيذ الأحكام التحكيمية تخضع لقواعد تنفيذ الأحكام التحكيمية في البلد الذي يطلب فيه التنفيذ، وبالتالي فإن قانون البلد الذي صدر فيه الحكم لا يعود له هذه الأهمية”.[12]

2-موقف الأنظمة المقارنة المرتبطة بالعائلة الأنجلوساكسونية

حيث سوف اكتفي بذكر موقف القضاء الأمريكي، و أجد من بين القضايا التي عرضت على هذا الأخير:

أولا: قضية chromalloy

عرضت على القضاء الأمريكي قضية chromalloy تتلخص وقائعها في نزاع نشأ بين جمهورية مصر العربية والشركة الأمريكية chromalloy بشأن العقد المبرم بين الطرفين، والذي تعهدت بموجبه الشركة الأمريكية بتقديم معدات وخدمات ومعونة فنية متعلقة بطائرات الهليكوبتر. وقد اشتمل العقد على شرط التحكيم ثم النص فيه على تطبيق القوانين المصرية على أن تكون القاهرة مقر للتحكيم، كما اتفق الأطراف على أن يكون الحكم الصادر عن هيئة التحكيم نهائيا وملزما[13].

وبتاريخ 24/08/1994 صدر حكم تحكيمي بمصر قضي على الدولة المصرية بأن تؤدي للشركة الأمريكية مجموعة من المبالغ المالية، إلا أن محكمة الاستئناف بالقاهرة قضت ببطلانه بمقتضى القرار الصادر بتاريخ 5/12/1995 على أساس أن الهيئة التحكيمية استبعدت تطبيق القانون الذي اتفق الأطراف على تطبيقه على موضوع النزاع فقد كان عليها أن تطبق القانون الإداري وليس القانون المدني. وأن هذا السبب يعتبر سبب لبطلان الحكم التحكيمي طبقا للمادة 53 من قانون التحكيم المصري. وفي نفس الوقت بتاريخ 31/07/1996 أعطت محكمة (columbia) الأمريكية الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي رغم بطلانه في مصر، مؤسسة قرارها على مقتضيات المادة السابعة من اتفاقية نيويورك، كما أكدت على أن القانون الأمريكي لا يسمح لقاضي الصيغة التنفيذية باستبعاد حكم تحكيمي على أساس الخطأ في القانون، كذلك كما سيكون مخالفا للنظام العام الأمريكي الاعتراف بقوة قرار قضائي أجنبي قضي ببطلان حكم تحكيمي اتفق الأطراف على عدم إمكانية الطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن[14].

انطلاقا مما تقدم إلى أن المحكمة الأمريكية أقامت قضاؤها على ركائز ثلاث:

  • 1 ـ المادة السابعة من اتفاقية نيويورك التي تمنح للطرف الحق في الحصول على تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي وفق قاعدة الأكثر فائدة في قانون التحكيم الوطني.
  • 2 ـ تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي يجب طرحه على بساط البحث طبقا لقانون التحكيم الاتحادي وليس طبقا للمادة الخامسة من اتفاقية نيويورك أنه فقط في حالة ما إذا كان بطلان الحكم في الخارج يتفق مع القسم العاشر من هذا القانون فإنه في هذه الحالة يكون لهذا البطلان أثره ويتعين الاعتراف به من قبل المحاكم الأمريكية.
  • 3 ـ طالما أن صحة التحكيم يتعين أن تبحث من جديد طبقا للقسم العاشر من القانون الاتحادي، فإنه لا يوجد دور مسيطر، ولا أولوية لقضاء دولة المقر لتحديد صحة الحكم التحكيمي.

بهذه الركائز الثلاث التي قام عليها القضاء الأمريكي في قضية كرومالوى يكون بذلك قد ترسخت فكرة توطين، أي عدم ربط أحكام التحكيم الدولية بمجال قانوني لدولة معينة[15].

كما أن نفس الحكم التحكيمي أعطيت له الصيغة التنفيذية من طرف القضاء الفرنسي بتاريخ 14/01/1997 حيث رفضت محكمة الاستئناف بباريس الطعن المقدم ضد الأمر القاضي بالتذييل بالصيغة التنفيذية معللة قرارها أن القاضي الفرنسي لا يمكن له أن يرفض   طلب التذييل إلا في الحالات المنصوص عليها في الفصل 1502 من ق.م.م الفرنسي الخاص بالتحكيم الدولي. وأن هذا النص هو الواجب التطبيق في هذه المادة[16].

هذا ويلاحظ أن حكم المحكمة الأمريكية الذي صدر في قضية كرومالوى كان له أثرا محدودا في الولايات المتحدة، ففي قضية spier v.calzaturifico tecnicia.spa فإن محكمة غرب نيويورك رفضت تنفيذ حكم تحكيم أبطلته المحاكم الإيطالية، خلصت المحكمة إلى أنه لا يوجد أساس لتطبيق قانون الولايات المتحدة على حقوق والتزامات الأطراف، طالما أن الأطراف تعاقدوا في دولة أجنبية وأن نزاعهم تم حسمه بطريق التحكيم في دولة أجنبية لا يوجد في القانون الإيطالي أو في اتفاق التحكيم أمام المحاكم الإيطالية.[17]

ثانيا: قضية Termorio

القضية تتعلق بتنفيذ حكم كولومبي صدر في ديسمبر لصالح المدعى بمبلغ 23 مليون دولار ضد الدولة الكولومبية المالكة للشركة المدعى عليها (وهي من صدر حكم التحكيم في غير صالحها). التحكيم تم في كولومبيا في مدينة (barranquilla) بين أطراف جميعهم من الجنسية الكولومبية. إلا أن الشركة المدعى عليها سعت إلى إبطال حكم التحكيم أمام مجلس الدولة الكولومبي على أساس أن شرط تحكيم غرفة التجارة الدولية ليس صحيحا إذ أنه انتهك القانون الكولومبي الذي كان يحظر آنذاك التحكيم المؤسسي، وهو ما استجاب إليه المجلس قاضيا ببطلان حكم التحكيم. وعندما لجأ المدعى لتنفيذ حكم التحكيم، الذي جرى إبطاله في الخارج، في الولايات المتحدة الأمريكية رفضت محكمة منطقة كولومبيا في 12 مارس 2006 طلب التنفيذ، وهو ما أيدته محكمة الاستئناف. إذا المحكمة الأمريكية لكي تكون قادرة بطلان الحكم يتعين على الطرف الذي يسعى لتنفيذ الحكم أن يقيم الدليل على أن الحكم الأجنبي مخالف للنظام العام الأمريكي[18].

المطلب الثاني: موقف الأنظمة المقارنة المرتبطة بالتجارة الدولية العربية (القضاء المغربي نموذجا)

سوف أعالج في هذه النقطة موقف القضاء المغربي حول وضعية حكم بطلان مقرر التحكيم الدولي أمام قاضي التنفيذ.

بالرجوع إلي التجربة المغربية ألاحظ أن القضاء المغربي لم يساير نظيريه الفرنسي والأمريكي في موقفيهما وفي تفسيريهما لاتفاقية نيويورك، بل اعتبر أن بطلان الحكم التحكيمي في بلد المنشأ يعتبر سببا لرفض إعطاء الصيغة التنفيذية تطبيقا للمادة الخامسة من الاتفاقية، شريطة أن يكون الحكم التحكيمي قد أبطل فعلا وليس مجرد رفع طلب البطلان[19].

وبالرجوع إلى القانون 05-08 الذي نظم التحكيم الدولي في الفرع الثاني منه فقد نص بمقتضى المادة 49-327 والتي تقابل المادة 1502 من ق.م.م.ف على حالات رفض تنفيذ الحكم التحكيمي الدولي بالمغرب، والتي لم يرد ضمنها كون الحكم التحكيمي الدولي لم يتم إبطاله من قبل قضاء بلد إصداره، وبذلك فإن تطبيق المادة السابعة من اتفاقية نيويورك سيجعل القضاء المغربي بدوره يسمح بتنفيذ أحكام تحكيمية ثم إبطالها في بلد إصدارها، خاصة وأن المشرع المغربي نص في إطار التحكيم الدولي على سمو الاتفاقيات الدولية الموقع عليها من قبل المملكة المغربية على التشريع الداخلي طبقا لمقتضيات الفصل    39-327[20].

حيث ذهب المجلس الأعلى في قرار له صادر بتاريخ 1982/6/30 على عدم تطلب صدور القوة التنفيذية لحكم التحكيم في البلد الذي صدر فيه حتى يمكنه منحه الصيغة التنفيذية في المغرب[21].

وبهذا فإن الحكم التحكيمي الصادر في فرنسا مثلا إذا أبطله القاضي الفرنسي يمكن رغم ذلك أن يعطيه صيغة التنفيذ القاضي المغربي الذي لا يربطه القانون رقم 05-08 بالحكم الصادر عن القاضي الفرنسي، وهذا على خلاف اتفاقية نيويورك التي تتضمن أن الحكم التحكيمي يفقد فاعليته في بلد التنفيذ إذا أبطل في بلد المنشأ، وبهذا يكون القانون رقم 05-08 قد تساهل بشأن منح الصيغة التنفيذية للأحكام التحكيمية الأجنبية، مستفيدا بذلك من النقاشات القضائية التي سبقت وضعه، وأقر فك الارتباط بين منشأ الحكم التحكيمي والمغرب باعتباره بلد تنفيذ هذا الحكم التحكيمي[22].

المبحث الثاني: تراجع الأثر الدولي للحكم الصادر ببطلان مقرر التحكيم الدولي

عرضت على القضاء المقارن عدة قضايا صدر فيها حكم ببطلان مقرر التحكيم التجاري الدولي كما سبق وأشرت،وبهذا فإذا كان الهدف الذي تسعى إليه نظام اتفاقية نيويورك المتمثل أساسا في تأمين نوع من التنسيق الدولي في الرقابة القضائية على المقررات التحكيمية الأجنبية والدولية، وذلك من خلال إعطاء فعالية دولية لكل حكم قضائي صادر بالبطلان في مواجهة هذه الأخيرة، فإن هذا الأثر على ما يبدو قد شهد تراجعا ملموسا وهذا ما سوف أعالجه من خلال هذه الفقرة وذلك كما يلي:

  1. تأكيد الأثر الدولي لإبطال الحكم التحكيمي.
  2. الجدل الفقهي حول الأثر الدولي لبطلان حكم المحكمين.

المطلب الأول: تأكيد الأثر الدولي لإبطال الحكم التحكيمي

إن مسألة تنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية الواقع إبطالها في بلد المنشأ تعد من أدق المسائل في قانون التحكيم الدولي وأشدها صعوبة حيث تطرح هذه النقطة تساؤلا جوهريا يتجلى كالآتي:

ما هو موقف المجتمع الدولي بخصوص الأثر الدولي لبطلان حكم المحكمين؟. وفي هذا الخصوص نجد تضاربا جذريا بين نظريتين أو تصورين للتحكيم التجاري الدولي:

أولا: التصور الكلاسيكي، التحكيم التجاري الدولي يعتبر مدمجا تماما حسب هذه النظرية في النظام القانوني للدولة التي صدر فيها الحكم التحكيمي. فالمحكم الدولي، كقاضي بلد المنشأ، له قانون يحكم التحكيم من نشأته بواسطة اتفاقية التحكيم مرورا بصدور حكم التحكيم وانتهاء بالطعن في هذا الحكم. وإن هذه النظرة، بما فيها من إدماج كامل لحكم التحكيم الدولي في نظام الدولة التي صدر فيها، تجعل من الحتمي اعتبار حكم التحكيم الواقع إبطاله حكما غير موجود، بل هو في حكم العدم والعدم لا يمكن منطقا ولا قانونا أن يكون موضوعا لتنفيذ ولو خارج البلد الذي صدر فيه[23].

مقال قد يهمك :    عبد الواحد الدافي: مكانة المعاهدات والاتفاقيات الدولية كمصدر للقانون الجنائي المغربي

يتضح في هذا الإطار أن اتفاقية نيويورك تتبنى هذه النظرية وتؤكد على قاعدة أساسية مفادها أن إبطال الحكم في بلد المنشأ هو سبب كاف لرفض تنفيذه في الخارج. ونظام معاهدة نيويورك قريب جدا من قانون التحكيم الدولي[24].

ثانيا: التصور الإقليمي، ومفاده استقلالية التحكيم عن جميع النظم القانونية الدولية بما فيها نظام الدولة التي صدر فوق أراضيها، فالمحكم الدولي حسب هذه النظرة قاضي خاص، لا ينطق باسم أي دولة، مهما كانت، من ثم فليس له قانون تحكيم صادر عن دولة معينة يحكمه، وإن استقلالية التحكيم ينتج منها ففي إدماج حكم التحكيم في نظام الدولة التي صدر فيها، ومن هنا يسمح هذا التصور بفك الارتباط بين بلد المنشأ وبلد التنفيذ، أي يسمح ببقاء حكم التحكيم الدولي، ووجوده، وإن وقع إبطاله في بلد المنشأ، ومن ثم يمكن تصور الإذن بتنفيذه في بلد التنفيذ[25].

وعليه بالرجوع إلى معاهدة نيويورك يتضح أنها ترجح الأفضلية للرقابة القضائية في بلد المنشأ. المادة الخامسة من معاهدة نيويورك: (1-هـ) تنص على أنه:

“لا يجوز رفض الاعتراف وتنفيذ الحكم بناء على طلب الخصم الذي يحتج عليه بالحكم إلا إذا قدم هذا الخصم للسلطة المختصة في البلد المطلوب إليها الاعتراف والتنفيذ الدليل على:

ج ـ أن الحكم لم يصبح ملزما للخصوم أو ألغته أو أوقفته السلطة المختصة في البلد الذي فيها أو بموجب قانون صدر الحكم”.

والمادة السادسة من معاهدة نيويورك تنص على أنه:

“للسلطة المختصة المطروح أمامها الحكم إذا رأت مبررا أن توقف الفصل في هذا الحكم إذا كان قد طلب إلغاء الحكم أو أوقفه أمام السلطات المشار إليها في الفقرة (هـ) من المادة السابقة (في البلد الذي فيه أو بموجب قانونه صدر الحكم)، ولهذه السلطة أيضا بناء على التماس طلب التنفيذ أن تأمر الخصم الآخر تقديم تأمينات كافية”[26].

وبالتالي، فإن اتفاقية نيويورك تحفظ لقاضي دولة بلد المنشأ دورا له الأرجحية مرتين، من جهة أولى  فإن حكمه بإبطال الحكم التحكيمي يفرض نفسه على القضاة الأجانب الذين تطلب منهم الصيغة للحكم التحكيمي. ومن جهة أخرى، فإن هذه الأرجحية تتيح للطرف الخاسر مراجعة قاضي بلد المنشأ للإبطال، وهذه المراجعة كافية لشل أي طلب للتنفيذ مؤقتا أمام القاضي الأجنبي الذي يجري التنفيذ أمامه.إذا فإن ال137 دولة المنظمة إلى معاهدة نيويورك تلتزم برفض إعطاء الصيغة التنفيذية إذا أبطل الحكم في بلد المنشأ[27].

على العكس من ذلك، أحيانا فإن الأثر الدولي للإبطال يمتد لسلطة قاضي بلد القانون الذي حسم النزاع على أساسه، هذا في حال كان التحكيم في بلد والقانون المطبق لحسم النزاع في بلد آخر. في هذه الحالة يصبح هناك قاضيين اثنين مختصين بالإبطال ويمكن أن تصدر قرارات متناقضة من القضاءين دون أن تكون هناك أفضلية أو سلم أولوية بينهما[28].

والسؤال المطروح أيضا في هذه النقطة هو:

ماهو مصير الحكم التحكيمي الدولي في دولة التنفيذ بعد بطلانه في دولة إصداره، أو دولة القانون الذي صدر بموجبه الامتناع عن التنفيذ وأي النتيجتين تخدم فعالية حكم التحكيم؟

اختلفت التطبيقات القضائية بشأن العلاقة الممكن أن تترتب عن صدور حكم قضائي ببطلان حكم تحكيمي مع طلب الحصول على الصيغة التنفيذية قدم أمام جهة قضائية في دولة للتنفيذ، حيث تضاربت فيما بينها بشأن الحل القضائي الذي يتعين الأخذ به في هذا الشأن، أكثر من ذلك اختلفت التطبيقات القضائية حتى داخل النظام القانوني الواحد، ولعل الخلاف بين محكمة النقض الفرنسية، ومحكمة استئناف فرساي بشأن قضية hilmarton خير دليل على ذلك، فبينما ذهبت تطبيقات قضائية في اتجاه ضرورة الاعتراف بالحكم القضائي الذي صدر ببطلان حكم التحكيم وهو ما يعني رفضا لتنفيذ حكم المحكمين. ذهبت بعض التطبيقات القضائية الأخرى إلى أن الحكم التحكيمي الذي قضي ببطلانه في دولة ما لا يمنع من أن يصدر القضاء الوطني لدولة أخرى الأمر بتنفيذه، طالما تحققت في هذا الحكم الشروط المتطلبة لتذييله بالصيغة التنفيذية[29].

وفي انتظار هذا التوحيد العالمي المنشود للقواعد المتصلة بالتحكيم التجاري الدولي نسارع إلى القول[30]، أن إبطال الحكم التحكيمي الدولي، من قبل محكمة تابعة للبلد الذي جرى فيه التحكيم أو صدر فيه أو للبلد الذي صدر هذا الحكم بموجب قانونه، ليس سببا كافيا لعدم منح الصيغة التنفيذية له في بلد التنفيذ، إذ ينبغي أن يحتفظ الحكم التحكيمي الدولي، الصادر خارج دولة التنفيذ بمقوماته المستمدة من اتفاقية التحكيم ومن إرادة الفرقاء إلى أن تقول محاكم دولة التنفيذ كلمتها فيه، بمناسبة طلب الاعتراف ومنح الصيغة التنفيذية له، تسهيلا لحركة التجارة الدولية عبر الحدود[31].

المطلب الثاني: الجدل الفقهي حول الأثر الدولي لبطلان حكم المحكمين

بعد رصدي لأهم القضايا التي عرضت على القضاء المقارن بخصوص وضعية حكم بطلان مقرر التحكيم الدولي أمام قاضي التنفيذ نجد أن الآراء على مستوى الفقه تضاربت بين رافض لموقف القضاء ومؤيد له.

أولا: الاتجاه الرافض لموقف الاجتهاد الفرنسي-الأمريكي

اعتبر اتجاه من الفقه[32]  أن موقف القضاء الفرنسي والأمريكي غير منطقي وغير مناسب لا في القانون ولا في الواقع. فالحكم التحكيمي الباطل في بلد المنشأ لا وجود له ليس فقط في هذا البلد وإنما كذلك في الخارج، لأن مكان التحكيم (دولة المنشأ) يعتبر عنصرا أساسيا في التحكيم الدولي، فأطراف النزاع باختيارهم مكان التحكيم يكونوا قد اختاروا إخضاع الحكم التحكيمي لرقابة قضاء مكان التحكيم واختاروا كذلك طرق الطعن المطبقة في هذا البلد ضد الحكم التحكيمي، فرفض إعطاء أثر دولي لحكم تحكيمي باطل في بلد المنشأ يعتبر بمثابة خيانة لإرادة الأطراف مما سيؤدي إلى فوضي في التحكيم، فخيار مكان التحكيم ليس نزهة سياحية بل هو خيار لقانون واختصاص القاضي[33].

ذلك أنه إذا فقد حكم الإبطال الأجنبي مفاعيله فإن الدولة التي تستقبل الحكم ستتخذ موقفا داخليا غير متلائم مع متطلبات اللياقة الدولية[34].

كما أن من شأن هذا التوجه أن يعرض التحكيم إلى الفوضى، فالطرف المستفيد من الحكم التحكيمي يبحث عن القضاء الأكثر ليبرالية لكي ينفذ في ترابه على أموال الطرف الخاسر، وهذا السياق في الحصول على الصيغة التنفيذية يؤدي إلى عدم الاستقرار وإلى الإضرار بصورة التحكيم الدولي وإلى زعزعة أمنة وعرقلة تطوره[35].

وكذلك فإن نظام اتفاقية نيويورك سيتطاير أشلاء، وتزول إمكانية التنسيق الدولي في الرقابة على الحكم التحكيمي التي تهدف المادة الخامسة ف 1 لتأمينها فيبطل الحكم التحكيمي في بلد وينفذ في بلد آخر، ويرد في بلد ثالث فتشجع بذلك وضعا للفوضى المكلفة. ولكن الاعتراف بحكم أبطل في بلد آخر ليس جديدا، فكثيرة هي عقود الزواج والوصية إلخ…..التي تعتبر غير صحيحة أو باطلة في بلد، ويعترف بها في بلدان أخرى، ذلك ليس سوى نتيجة تعدد الأنظمة القانونية والقضائية ذات السيادة والتنازع القضائي وكذلك التنازع بين القوانين[36].

ثانيا: الاتجاه المساند لموقف الاجتهاد الفرنسي-الأمريكي

يرى الاتجاه المساند أن الاجتهاد الفرنسي الأمريكي سليم وطبق المادة السابعة من اتفاقية نيويورك وموافق لروحها، لأنها تنص على تطبيق القواعد الأكثر ملائمة لتنفيذ الأحكام التحكيمية الأجنبية، وأن مقتضيات المادة الخامسة من الاتفاقية لا تشكل إلا الحد الأدنى المطلوب لصالح الاعتراف بهذه الأحكام، وعليه فإن هذا الاجتهاد ليس فيه ما يتعارض مع الحالات الحصرية لرفض إعطاء الصيغة التنفيذية المنصوص عليها في المادة الخامسة من نفس الاتفاقية. وأنه من المنطقي القول أن القرار القاضي بالبطلان ليس له أية قوة دولية فوق القرار القاضي بالصيغة التنفيذية لحكم تحكيمي. كما أن الزعم بأن الأفضلية لقاضي المنشأ يعتبر غير صحيحا لأنه يخالف التوجه الحالي والمبني على اللاتمركز للتحكيم الدولي، خصوصا أنه في غالب الأحيان يبدو البطلان غير مبرر ويخضع لاعتبارات قانونية محلية محضة وتخص البلد الذي صدر فيه الحكم التحكيمي فقط[37].

ولعل هذا الاعتبار هو الذي دفع المشرع البلجيكي سنة 1985 والمشرع السويسري بدوره إلى رفض الطعن بالبطلان في حكم التحكيم إذا لم يكن أي من أطراف التحكيم يتمتع بالصفة الوطنية أو له إقامة معتادة في بلجيكا أو سويسرا، ولم يطلب تنفيذ الحكم في الدول المعنية[38].

وفي هذا السياق، ذهب جانب من الفقه البلجيكي[39] إلى أن المشرع البلجيكي أراد من خلال هذا التوجه أن يحول الرقابة من دولة مقر التحكيم إلى الدولة المعنية بتنفيذ حكم التحكيم إذا ارتأى من المنطق أن يتم تقديم جميع الاعتراضات المحتملة ضد حكم التحكيمي الصادر في الخارج عند تقديم الطلب بإصدار الأمر بتنفيذه. أما المشرع السويسري قد أعطى لأطراف النزاع سلطة استبعاد طريق الطعن بالبطلان طالما كانوا من غير المقيمين فيها لتفادي ازدواجية الرقابة مع تلك التي يفرضها قانون الدولة المطلوب منها إصدار أمر التنفيذ، وبالتالي يتبين أن الأمر مجرد اختيار ممنوح للأطراف، والتي يجب عليها إذا رغبت في اللجوء إليه والاستفادة منه أن تنص على ذلك صراحة[40].

هناك رأي يقول[41] ، أن تحرير الحكم التحكيمي من الارتباطات يستند إلى أن الحكم التحكيمي لا يدمج في النظام القانوني للدولة التي جري فيها التحكيم، كما هو حال وضع العقد في المكان الذي وقع فيه، فالحكم التحكيمي والعقد ليس لهما جنسية، كل دولة حرة في إعطائه أو حرمانه من صيغة التنفيذ، وبالتالي يبقى الحكم التحكيمي الدولي مفكوك الارتباط بأي قضاء وبأي قانون وبأي بلد، ولا أثر لإبطاله في بلد المنشأ على قرار قاضي بلد التنفيذ[42].

من هنا يتبين أن الأفضلية المعطاة لقاضي مكان التحكيم من أجل التنسيق في الرقابة على الحكم التحكيمي تتضمن مخاطر كبيرة وليس الحد من هذه المساوئ أمر مرفوضا…هل يجب القول إن هذه القضية هي مناقضة للاتجاه الحالي بعدم ربط التحكيم الدولي بمكان التحكيم؟[43].

مقال قد يهمك :   الـكفالة المــالية وإشكـــالياتها الــعمليــة

قد يبدو في الوقت الحاضر من غير الواقعي إزالة أي اتصال قانوني بين التحكيم الدولي والبلد الذي يجري فيه التحكيم لأسباب عملية أو للحاجة إلى تدخل قاضي محلي للمساندة، وإذا كان من المعقول إخراج التحكيم من قيود البلد الذي يجري فيه التحكيم فإن فك الارتباط هذا يبقى أفقا في المستقبل لا يمنع رقابات محلية متعددة في بلدان تنفيذ الحكم التحكيمي[44].

كما يدعو أحد الفقه في نفس النقطة[45] إلى ترك الحرية كاملة لقاضي بلد التنفيذ بحيث لا يحرم الحكم التحكيمي من جهة التنفيذ إلا إذا ثبت له عيب يفضي إلى إبطاله، حتى ولو لم يبطل بعد في بلد المنشأ، لأن معاهدة نيويورك لا تضع حدا أدنى من الشروط المتطلبة في حكم التحكيم من أجل الاعتراف به وتنفيذه ولا تتعارض مطلقا مع أن يكون قانون أي دولة متعاقدة به يتمتع بقدر أكبر من الحرية والمبادرة عن ذلك الذي تضعه المعاهدة، وينزل بذلك عن هذا الحد الأدنى الذي تضعه المعاهدة[46].

ومن الواضح أن في سماء الفقه والاجتهاد والتشريع الدولي التحكيمي غيوما كثيرة…وأن المواجهة تدور بين تيارين:

  • التيار الأول: تيار فقهي مدعوم بالاجتهاد الذي أشرنا إليه سابقا وحجر الزاوية فيه هو أن الفكرة الفرنسية تعتبر هنا حكم تحكيمي دولي مفكوك الارتباط بأي قضاء وبأي قانون وبأي بلد، ولا أثر لإبطاله في بلد المنشأ على قرار قاضي بلد التنفيذ، وهذا الرأي المبالغ في سعيه لتحرير التحكيم من القيود والارتباطات له ما يبرره قانونيا[47].
  • التيار الثاني: يستند هذا التيار إلى الترجمات المختلفة لاتفاقية نيويورك، حيث اقترح الفقيه جان بولسون تأويل الفصل 5 من اتفاقية نيويورك، تأويلا حرفيا، يسمح بالحد من إطلاقية آثار بطلان حكم التحكيم الدولي على قاضي التنفيذ، وذلك بإعطاء سلطة تقديرية لقاضي التنفيذ تمكنه إما من رفض التنفيذ إذا ما وقع إبطال حكم التحكيم في بلد المنشأ أو إيقاف التنفيذ وإما الإذن بالتنفيذ رغم الإبطال أو إيقاف التنفيذ في بلد المنشأ، وهذا يسمح بفك الارتباط نسبيا بين قاضي المنشأ وقاضي التنفيذ[48].

وحتى لا يبقى الأمر ضبابيا فيمكن هنا أيضا اعتماد اتفاقية نيويورك في مادتها الخامسة بحيث تعتمد على الأسس والمقاييس الدولية لتنفيذ أو عدم تنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية أربعة هي:

  • 1- إخلال الخصم إعلانا صحيحا بتعيين المحكم وبإجراءات المحاكمة.
  • 2- الحكم قد تجاوز المهمة التحكيمية.
  • 3- أن تشكيل المحكمة التحكيمية أو إجراءات التحكيم مخالف لما اتفق عليه الأطراف أو للقانون.
  • 4- مخالفة النظام العام.

وفقا لهذه الأسس الأربعة، التي يمكن اعتبارها مقاييس دولية، يمكن لقاضي بلد المنشأ أن يراقب الحكم التحكيمي الدولي الذي صدر في هذا البلد ولكن الرقابة يجب أن لا يكون  فيها أي تعسف أو تجاوز[49].

خاتمة عامة:

انطلاقا مما سبق تحليله يمكن الخروج بفكرة جوهرية مفادها أن الأنظمة المقارنة أكدت من خلال الكثير من تطبيقاتها القضائية على أن بطلان المقررات التحكيمية الدولية من طرف قضاء المنشأ لا يشكل عائقا لتذييله بالصيغة التنفيذية من طرف قاضي التنفيذ. رغم أن القضاء والفقه بخصوص هذه النقطة انقسموا إلى اتجاهين أحدهما مؤيد لهذه الفكرة والآخر رافض لها ولكل اتجاه مبرراته وأسبابه.


الهوامش:

 (*) تم تحكيم هذا المقال العلمي من طرف اللجنة العلمية لمركز مغرب القانون للدراسات و الأبحاث القانونية.

[1]  ـ عبد الكبير العلوي الصوصي:”رقابة القضاء على التحكيم”، دراسة في القانون المغربي والمقارن، المطبعة والنشر دار القلم، الرباط، الطبعة الأولى، السنة:2012 ، ص 231.

[2]  ـ توفيق القدوري:”دعوى البطلان في الحكم التحكيمي”، دراسة مقارنة، رسالة لنيل دبلوم الماستر في قوانين التجارة والأعمال، جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية (دون ذكر المدينة)، السنة الجامعية: 2014 – 2015، ص 8.

[3]– لحسن الزتوني:”الفعالية الدولية للحكم الصادر ببطلان مقرر التحكيم التجاري الدولي”، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، جامعة محمد الخامس السويسي كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا، السنة الجامعية:  2007-2008، ص 44.

[4] – المرجع نفسه، ص 45.

[5] – لحسن الزتوني، م.س، ص 47.

 [6]-  عصام الدين القصبي:”حكم التحكيم الأجنبي بين موجبات البطلان واعتبارات التنفيذ”، دراسة تحليلية على ضوء قواعد القانون الدولي الاتفاقي والقانون والقضاء المقارن، منشورات دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، السنة: 2017، ص 346.

[7]– لحسن الزتوني، م.س، ص 47-48.

[8] – عبد اللطيف بولعلف: “فعالية بطلان الحكم التحكيمي الدولي”، مداخلة منشورة بمجلة الحقوق المغربية تحت عنوان: “الوسائل الودية لفض المنازعات الوساطة – التحكيم – الصلح ” مقاربات وتجارب متعددة، أشغال الندوة الدولية التي نظمتها الكلية المتعددة التخصصات بالناظور، العدد 4، السنة 2012، ص 119-120.

[9] – عصام الدين القصبي، م.س، ص 350.

[10]–  لحسن الزتوني، م.س، ص 52-53.

[11] – عبد الحميد الأحدب:”اتفاقية نيويورك والأحكام التحكيمية الصادرة في بلد والمنفذة في بلد تان”، مداخلة منشورة بالمجلة المغربية للتحكيم العربي والدولي، مطبعة الأمنية، الرباط، العدد 1، السنة 2015، ص 21-22.

[12]–  عبد الحميد الأحدب:”موسوعة التحكيم الدولي”، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان، الطبعة الثالثة، السنة 2008، ص 731-732.

[13]–  لحسن الزتوني، م.س، ص 49.

[14]– عبد اللطيف بولعلف:”فعالية بطلان الحكم التحكيمي الدولي”، م.س، ص 122-123.

[15] – عصام الدين القصبي، م.س، ص 309.

[16] – عبد اللطيف بولعلف:”فعالية بطلان الحكم التحكيمي الدولي”، م.س، ص 124.

[17] – عصام الدين القصبي، م.س، ص 361.

[18]–  عصام الدين القصبي، م.س، ص 325-326.

[19] – عبد اللطيف بولعلف:”فعالية بطلان الحكم التحكيمي الدولي”، م.س، ص 124.

[20]–  نوال الحياني:”الرقابة القضائية على التحكيم”، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ظهر المهراز بفاس، السنة الجامعية 2012- 2013، ص 126-127.

[21]– يوسف الساقوط، :”دور العمل القضائي في تحقيق فعالية حكم التحكيم دراسة مقارنة، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس السويسي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا، السنة الجامعية 2007 – 2008، ص 179.

[22]– عبد الكبير العلوي الصوصى، م.س، ص 350-351.

[23] – لطفي الشاذلي:”القانون التونسي وتنفيذ أحكام التحكيم الواقع إبطالها في بلد المنشأ: أي منطق؟”، مداخلة منشورة في باب الفقه، بمجلة التحكيم، العدد 4، السنة 2009، ص 11.

[24] – عبد الحميد الأحدب:”موسوعة التحكيم الدولي”، م.س، ص 728.

[25] -.لطفي الشاذلي، م.س، ص 12.

[26] – احميدو أكري:”هل آن آوان تجاوز اتفاقية نيويورك لتنفيذ الأحكام التحكيمية الأجنبية؟ “، مداخلة منشورة بدفاتر محكمة النقض، تحت عنوان:”التحكيم والوساطة الاتفاقية”، العدد 25، السنة 2007، ص 67-68.

[27] – عبد الحميد الأحدب:”اتفاقية نيويورك والأحكام التحكيمية الصادرة في بلد والمنفذة في بلد ثان”، مداخلة منشورة بالمجلة المغربية للتحكيم العربي والدولي، مطبعة الأمنية، الرباط، العدد 1، السنة 2015، ص 20.

[28]– عبد الحميد الأحدب:”قراءة نقذية لأهم القرارات التحكيمية الدولية التي أحد طرفيها عربي”، آخر المبتكرات: التحكيم الدولي الإلزامي، والحكم التحكيمي الذي لا يتأثر بقرارات قاضي بلد المنشأ، مداخلة منشورة بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية سلسلة مواضيع الساعة، تحت عنوان:”المغرب العربي وآليات فض المنازعات التجارية في إطار المنظمة العالمية للتجارة”، أعمال الندوة الأولى المغربية التونسية المنظمة بتعاون مع المركز الدولي للتوفيق والتحكيم التابع لغرفة التجارة والصناعة والخدمات بالرباط يومي 2 – 3 ماي 2002، العدد 41، السنة 2005، ص 116-117.

[29] – عبد الكبير العلوي الصوصى، م.س، ص 349.

[30]  – محمد عبد الله محمد المؤيد:”منهج القواعد الموضوعية في فض المنازعات الخاصة ذات الطابع الدولي”، رسالة لنيل درجة الدكتوراه في الحقوق، جامعة القاهرة، السنة 1997، ص 355. و حفيظة السيد الحداد:”الرقابة القضائية علي أحكام التحكيم بين ازدواجية و الوحدة”، دار الفكر الجامعي، مصر، طبعة 2000، ص 27 وما يليها. مرجعين أشار إليهما، يوسف الساقوط، م.س، ص 177-178.

[31] – يوسف الساقوط، م.س، ص 177-178.

[32]  – philipe fouchard:”la porte internationale de l’annulation de la sentence arbitrale dans son pays d’origine”, rev, arb, 1997, nº 3, p330.

[33] – عبد اللطيف بولعلف:”فعالية بطلان الحكم التحكيمي الدولي”، م.س، ص 126.

[34]– عبد الحميد الأحدب:”موسوعة التحكيم الدولي”، م.س، ص 735.

[35]– نوال الحياني، م.س، ص 128.

[36] – احميدوا أكري، م.س، ص 73-74.

[37] – عبد اللطيف بولعلف:”فعالية بطلان الحكم التحكيمي الدولي”، م.س، ص 126- 127.

[38] – نوال الحياني، م.س، ص 128.

[39]  ـ لم يتم ذكر أسماءهم.

[40]–  لحسن الزتوني، م.س، ص 59.

-عبد الحميد الأحدب، قراءة نقدية لأهم القرارات التي احد طرفيها عربي، م.س، ص 119.  [41]

[42] -عبد الكبير العلوي الصوصى، م.س، ص 351.

[43]–  عبد الحميد الأحدب:”قراءة نقدية لأهم القرارات التحكيمية الدولية التي أحد طرفيها عربي”، م.س، ص 119.

[44] – عبد الحميد الأحدب:”اتفاقية نيويورك والأحكام التحكيمية الصادرة في بلد والمنفذة في بلد تان”، م.س، ص 27.

[45] – jean Paulsson:”l’exécution des sentences arbitrales en dépit d’une annulation en fonction d une critère local.bulletin de la cour internationale d’arbitrage de la cci. vol. 9″, nº1, mai, 1998.

  • [46] – ممدوح عبد العزيز العنزي:”بطلان القرار التحكيمي التجاري الدولي الأسباب والنتائج” دراسة مقارنة، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان، الطبعة الأولى، السنة 2006، ص 324.

[47] – احميدوا أكري، م.س، ص 73-76.

[48] – لطفي الشاذلي، م.س، ص 137-138.

[49] – عبد الحميد الأحدب:”قراءة نقذية لأهم القرارات التحكيمية الدولية التي أحد طرفيها عربي”، م.س، ص 123.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]