ياسر الطريبق: ملاحظات شكلية في سبيل مراجعة مدونة الشغل
بقلم ياسر الطريبق مفتش شغل وعضو المكتب التنفيذي للجامعة الوطنية للشغل وعضو الجمعية المغربية لمفتشي الشغل
كثر الحديث مؤخرا في الأوساط السياسية والرسمية عن ضرورة العمل على مراجعة مدونة الشغل بعد قرابة عشرين سنة من تاريخ إصدارها في الجريدة الرسمية للمملكة المغربية، بل إن السيد الوزير المسؤول عن قطاع الشغل أي السيد وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات قد صرح في أكثر من مناسبة برلمانية أو إعلامية بأن الحكومة عازمة في وقت قريب على مراجعة المدونة بمشاركة النقابات والاتحاد العام لمقاولات المغرب مما يعطي الانطباع أن الحكومة تمتلك بالفعل مشروعا قائما بالذات لمدونة شغل جديدة وبأنها مستعدة لفتح النقاش مع الأطراف التي ذكرت حول ذلك المشروع، بيد أن تلك الأطراف نفسها _على حد علمي_ لم تخرج بأي تصريح يعلن بالملموس وجود مشروع مطروح للنقاش العمومي في هذا الاتجاه كما أن المؤسسة التشريعية الممثلة في البرلمان بغرفتيه لم تفتح لحد الساعة أي ورش أو نقاش حول إصلاح مدونة الشغل اللهم إلا بعض الأسئلة والملاحظات حول مشروعي قانون الإضراب وقانون النقابات اللذان أعلنت عنهما الحكومة مؤخرا بشكل محتشم، ناهيك عن التزام هذه الأخيرة بإصدارهما بشكل مرتبط مع ورش إصلاح مدونة الشغل قبل نهاية ولايتها الحالية التي تم تعيينها قبل سنة وتسعة أشهر تقريبا من تاريخ كتابة هذا المقال، والحال أن ورش إصلاح مدونة الشغل لوحده قد يحتاج إلى سنوات من النقاش المفتوح والمعمق مع النقابات وأرباب العمل لكي يكون كفيلا بتحقيق التوازنات الاقتصادية والاجتماعية لسوق الشغل و في مجال الاستثمار الداخلي والخارجي كذلك، كما أنه سيحتاج بلا شك إلى مواكبة دقيقة من طرف الخبراء والمختصين في مجال التشريع الاجتماعي حتى يكون له أثر واقعي على مستوى التطبيق والفعالية في التنفيذ من جهة أخرى ناهيك عن استدراك الهفوات والأخطاء والالتباسات التي تم الوقوف عليها بمناسبة تطبيق مدونة الشغل الصادرة بنص القانون رقم 99-65 منذ سنة 2003.
وأما بخصوص تحقيق التوازنات الاقتصادية والاجتماعية بل وحتى السياسية من نوعها فإنها ستبقى رهينة بما ستقدم عليه الأطراف السياسية والنقابات والمؤسسات التمثيلية لأرباب العمل من اقتراحات وملاحظات في هذا الباب بعد أن يتم فتح هذا الورش بشكل جدي ويتم عرضه على المؤسسات الدستورية المختصة كالبرلمان والحكومة والمجلس الوزاري، في حين يبقى من الواجب على المختصين الذين لهم دراية ومعرفة واحتكاك بمجال القانون الاجتماعي عموما وقانون الشغل خصوصا (أستاذة جامعيين وفقهاء قانونيين وقضاة ومحامون ومفتشو الشغل …) أن يدلوا بدلوهم في هذا المجال بما جادت عليهم خبرتهم العلمية وتجاربهم الميدانية حتى يتم الانتباه على الأقل لما أظهرته تجربة تطبيق مدونة الشغل الحالية بل وحتى المراسيم والقرارات والظهائر السابقة لها من اختلالات والتباسات ونقاط ضعف أحيانا وقوة أحيانا أخرى.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن أطر جهاز تفتيش الشغل في المغرب باعتبارهم أحد الأطر الأكثر احتكاكا وتعاملا مع مضامين ومقتضيات ومواد قانون الشغل قد سبق لهم إيفاد إدارتهم المركزية (أي المصالح المركزية للوزارة المكلفة بالشغل) في أكثر من مناسبة بمجموعة من الملاحظات المكتوبة حول مواطن اللبس والصعوبة في تطبيق المقتضيات القانونية المنصوص عليها في مدونة الشغل باعتبار ذلك يدخل في إطار مهامهم الأساسية المنصوص عليها في المادة 532 من نفس المدونة كما أن الهيئات التمثيلية النقابية بالقطاع وكذلك الجمعية المغربية لمفتشي الشغل يتوفرون بدورهم على عدد وفير من الملاحظات والاجتهادات التي من شأنها إحاطة السلطة الحكومية وكل الفاعلين الأساسيين في مجال التشريع الاجتماعي علما بالصعوبات والالتباسات بل وحتى ما يمكن اعتبارها اختلالات بنيوية تحول دون تطبيق مقتضيات قانون الشغل على أحسن وجه وبطريقة سليمة من الناحية الشكلية والموضوعية، لذلك ارتأيت، بكل تواضع واجتهاد أن أتقدم إليكم أعزائي القراء ببعض من تلك الملاحظات التي وقفت عليها شخصيا بحكم ممارستي الميدانية لعمل تفتيش الشغل لمدة تقراب عقدين من الزمن من جهة وكذلك خصوصا بحكم تنقيبي واستكشافي العلمي لمجالات البحث الأكاديمي والفقهي في هذا المجال الاجتماعي، لعلني أكون مفيدا لكم ولكل المسؤولين المباشرين الذين يهمهم أمر تحديث الترسانة القانونية لقطاع الشغل بما يكون صالحا ومفيدا لمنظومتنا الاقتصادية للأعمال أولا ولبنيتنا الاجتماعية وما تعرفه من إكراهات على مستوى سوق الشغل ثانيا.
في هذا السياق، ارتأيت أن أقسم ملاحظاتي حول مواطن اللبس والنقص في مقتضيات قانون الشغل الحالي إلى ثلاثة أنماط من الملاحظات سوف أختصرها في ثلاث فقرات، ألا وهي الفقرة الأولى المتمثلة في بعض الأخطاء التقنية الواردة في بنود مدونة الشغل والتي قد لا تحتاج إلى أكثر من التدقيق اللغوي والتوضيح في الصياغة، والفقرة الثانية التي سأتناول فيها مجموعة من الاقتراحات التي أنظر إلى كونها قد تكون كفيلة لسد بعض الفراغات التي لم تتطرق إليها المدونة الحالية أصلا بالنظر لعدم تزامنها مع المستجدات التي طرأت على حياتنا الاقتصادية بعد إصدارها (إقرار مفهوم العمل عن البعد على سبيل المثال) قبل أن أختتم مقالي بملاحظة فريدة حول هندسة المدونة وطريقة توزيع كتبها السبعة.
الفقرة الأولى: بعض الأخطاء التقنية الواردة في مدونة الشغل الحالية
لا يخلو أي نص تشريعي من الأخطاء والالتباسات مهما كان يبدو متكاملا مادام تطبيق ذلك النص على أرض هو السبيل الوحيد لقياس صلاحيته بالنسبة لمستعمليه وكل من لهم علاقة مباشرة بتطبيقه، في هذا الصدد، سوف نقف هنا عند بعض النماذج من أهم تلك الملاحظات التي أثبتت الممارسة صعوبة تطبيق مواد مدونة الشغل الحالية مادام الحيز الذي يتضمنه هذا المقال لا يسمح لنا بالإحاطة بكل الصعوبات الموجودة بطبيعة الحال، وقد جاءت كالتالي:
- تميّز المادة 14 من مدونة الشغل الحالية بين فترات الاختبار بالنسبة للأطر وأشباههم ونظيرتها بالنسبة للمستخدمين وكذلك بالنسبة للعمال، غير أن المشرع لم يعرّف في أي بند من بنود المدونة ما معنى مفهوم الإطار أو المستخدم أو العامل رغم أنه استعمل تلك المصطلحات نفسها في تحديد مهلة الإخطار، فحبذا لو تم وضع تعريف خاص لتلك الأصناف المهنية حتى لا يقع هناك لبس أو غموض في تطبيق المادة 14 وغيرها.
- تضمن المادة 19 من المدونة استمرارية حقوق ومكتسبات الأجراء في حالة تغيّر الوضعية القانونية للمشغل أو المقاولة حيث أنها تبقى سارية المفعول رغم تغيّر الوضعية القانونية للمشغل حيث أن المشغل الجديد في هذه الحالة يخلف المشغل السابق في التزاماته الواجبة للأجراء المتمثلة خصوصا دون الحصر في مبلغ الأجور وتعويضات الفصل والعطل، وقد وضعت المادة نفسها كذلك بعض الأمثلة لأشكال تغير الوضعية القانونية للمشغل دون أن تحصرها، ألا وهي حالات الإرث والبيع والخوصصة. وتعتبر المادة 19 بطبيعة الحال من البنود الأساسية لضمان حقوق الأجراء على أرض الواقع في ظل وجود العديد من الحالات لتغيّر الطبيعة القانونية للمشغل في واقعنا المعاش غير أن الاكتفاء فقط ببعض الأمثلة لهذا التغيّر دون غيرها يجعل الأمر ملتبسا أحيانا بالنسبة لحالات أخرى لم تذكر فيها، وأخص بالذكر هنا مثلا حالات التدبير المفوض والتكليف بالتسيير والمناولة والكراء وغيرها. نفس الأمر ينطبق على ذكر بعض أمثلة الحقوق والمكتسبات المتمثلة في مبلغ الأجور وتعويضات الفصل والعطل دون غيرها، وإن كان المشرع لم يحصرها، فقد كان من الأجدر التوسع أكثر في ذكر الأمثلة رفعا لكل لبس ممكن لاسيما فيما يتعلق بمبدأ الاستمرارية في المؤسسات التمثيلية للأجراء (مندوب الأجراء والممثل النقابي ولجنة المقاولة ولجنة الصحة والسلامة) وكذا في استمرار أثر اتفاقيات الشغل الجماعية واستمرار الاستفادة من الامتيازات كتوفير وسيلة النقل وغيرها.
- تنص المادة 39 من المدونة في فقرتها الأخيرة بما يلي: “يقوم مفتش الشغل في هذه الحالة (أي حالة استعمال العنف والاعتداء البدني ضد الأجير أو المشغل) بمعاينة عرقلة سير المؤسسة وتحرير محضر بشأنها. الأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي: كيف يمكن لمفتش الشغل أن يعاين حالة الاعتداء بدون وسائل مادية لوقايته ووقاية الأجراء المعنيين بتلك الحالة المفترضة داخل المؤسسة؟ أليست تلك مهمة رجال الأمن الذين يتوفرون على وسائل الردع من سلاح وما إلى ذلك؟ ألن يؤثر محضر المعاينة المطلوب إنجازه من طرف مفتش الشغل في هذه الحالة على حياده ووقوفه في نفس المسافة بين المشغل والأجير خصوصا وأن الطرفين قد يستعملان ذلك المحضر لإثبات وجود خطأ جسيم مرتكب من لدن الطرف الآخر للترافع عليه خلال مواجهته في القضاء؟
- في المادة 62 من المدونة نجد في الفقرة الأخيرة ما نصّه: إذا رفض أحد الطرفين (الأجير أو المشغل) إتمام المسطرة (محضر الاستماع في المسطرة التأديبية) يتم اللجوء إلى مفتش الشغل. السؤال المطروح هنا هو: لماذا يتم اللجوء في هذه الحالة إلى مفتش الشغل وكيف؟ أفلا يؤثر ذلك مرة أخرى على حياده في العلاقة مع الطرفين؟ من جهة أخرى، نجد أن المادة نفسها تشترط على المشغل الذي يعتزم فصل أجرائه فصلا تأديبيا السماح بحضور مندوب الأجراء لمؤازرة الأجير المعني بذلك الإجراء في حين أن المؤسسات التي تشغل أقل من عشرة أجراء تبقى غير ملزمة بإجراء انتخابات مناديب الأجراء، فهل هي معفية من احترام المقتضى المتعلق بحضور مندوب الأجراء في مسطرة الاستماع أم ماذا؟
- من خلال المادة 66 من المدونة يمكن للمؤسسات الصناعية والتجارية والاستغلاليات الفلاحية أو الغابوية وتوابعها ومؤسسات الصناعة التقليدية والتي تشغل اعتياديا عشرة أجراء أو أكثر أن تفصل مجموعة من أجرائها كلا أو بعضا شريطة احترام مسطرة خاصة تثبت عبرها أنها تعاني من أزمة اقتصادية أو لأسباب تكنلوجية أو هيكلية. الملاحظ هنا هو أن المشرع لم يتحدث عن المقاولات التي تشتغل في مجال الخدمات. فهل هي معفية من تلك المسطرة أو أنه لا يمكنها الاستفادة من هذا المقتضى؟ نفس السؤال يطرح بالنسبة للمؤسسات أو المقاولات التي تشغل أقل من عشرة أجراء: هل هي معفية من هذا المقتضى أم أنها لا تستفيد هي كذلك منه؟ لذلك وجب عند أي مراجعة محتملة للمدونة توضيح هذه النقطة رفعا لكل لبس.
- هناك لبس آخر يطرحه منصوص المادة 350 من مدونة الشغل التي تنظم كيفية استفادة الأجراء من منحة الأقدمية في العمل باعتباره واجبا من الواجبات التي يلزم بها المشرع المغربي أرباب العمل بمنح أجرائهم علاوة تحتسب في أجورهم على أساس أقدميتهم في العمل ابتداء من قضاء سنتين من العمل فما فوق بنسب متفاوتة تنتقل من 5 في المائة بعد قضاء سنتين من الأقدمية في العمل إلى 25 في المائة بعد 25 سنة من العمل، إلا أن المشرع في تلك المادة لم يحدد بالضبط إن كانت تلك العلاوة في الأجر تطبّق بشكل تراكمي أم أن العلاوة على الأقدمية التالية بعد الأولى أو ما بعدها تلغي العلاوة التي سبقتها (أي أن الزيادة على الأجر المؤدى بنسبة 10 في المائة بعد خمس سنوات لا تضاف على الزيادة السابقة بنسبة 5 في المائة بعد سنتين من العمل مثلا وإنما تلغيها قبل أن يتم تفعيلها)؟
- وأخيرا سوف أنتقل معكم مباشرة إلى إشكالية غاية في الأهمية تتعلق بممارسة مفتشي الشغل لمهمة مراقبة تطبيق قانون الشغل بمناسبة وقوفهم المفترض على حالة “خطر الحال” التي قد تهدد صحة الأجراء أو حياتهم طبقا للمادتين 542 و543 من المدونة حيث تنص المادة 542 أنه يجب على المفتش في تلك الحالة تنبيه المشغل فورا بجميع التدابير اللزمة فورا حتى لا يتعرض الأجراء لذلك الخطر، وفي حالة إهمال المشغل أو عدم امتثاله لذلك التنبيه يتم تحرير محضر في الموضوع. واستكملا لمسطرة الوقوف على خطر الحال يوجه المفتش طبقا للمادة 543 من المدونة فورا إلى رئيس المحكمة الابتدائية بصفته قاضيا للأمور المستعجلة مقالا مرفوقا بالمحضر المذكور أعلاه يمكن للسيد رئيس المحكمة من خلاله أن يمنح للمشغل أجلا معينا لإيقاف خطر الحال كما يمكنه أن يأمر بإغلاق المقاولة المعنية لمدة معينة مع تحديد تلك المدة… يبدو لنا من خلال هذه المسطرة المنصوص عليها في المادتين 542 و543 وما تلاهما أن المشرع المغربي قد شدّد في مراقبته وزجره لحالة خطر الحال داخل مدونة الشغل إلى درجة التنصيص على إغلاق المؤسسة بشكل مؤقت قد يصبح كليا عند عدم امتثال المشغل للقانون لكن المسطرة المنصوص عليها في هذا الإطار هي مسطرة مختلة في نصها بشكل يجعل من شبه المستحيل على مفتش الشغل تفعيلها، وذلك راجع إلى كون المادة 542 لا تعطي لمحضر مفتش الشغل الذي وقف على خطر الحال قوته الثبوتية وإنما تم ربطها بمقال يوجه إلى رئيس المحكمة كأنه طرف مدعّي يرفع دعوى قضائية على أنظار المحكمة ضد مدعى عليه والحال أن مفتش الشغل في حالتنا هاته ليس طرفا في دعوى قضائية ولا يمكنه أن يكون كذلك وإنما هو موظف له صلاحيات خاصة بصفته ممارسا لمهام الضابطة القضائية وأخص بالذكر هنا مهام معاينة وضبط مخالفات قانون الشغل وتوجيهها إلى النيابة العامة دون أن يعني ذلك طبعا الدخول في مواجهة مباشرة مع المشغلين المفترض مخالفتهم لذلك القانون، لذلك فلابد من إعادة النظر بمناسبة أي مراجعة ممكنة أو مفترضة لمدونة الشغل في مسطرة ضبط حالة خطر الحال في تلك المسطرة حفاظ على سلامة القانون شكلا ومضمونا.
وما هي إلا بعض من عديد من الملاحظات التي وقفنا عليها بمناسبة تحليلنا لمقتضيات مدونة الشغل الحالية مما يحتاج من المسؤولين أو المقبلين على تجديد الترسانة القانونية للشغل أخذها بعين الاعتبار تفاديا للأخطاء التي تقع حاليا أو التي يمكن أن تقع بمناسبة تطبيقها من الناحية العملية والإدارية والقضائية.
الفقرة الثانية: اقتراحات موضوعية لسد الفراغات التي لم تتطرق إليها مدونة الشغل الحالية
لا يمكن للقوانين أن تبقى جامدة مع مرور الزمن خصوصا إذا تعلق الأمر بقانون حيوي مرتبط بالتوازنات الاقتصادية والاجتماعية كقانون الشغل مثلا، ونحن نعلم أن مدونة الشغل الحالية قد مرّت على إصدارها قرابة عشرين سنة من الممارسة والتطبيق، عشرون سنة عرف فيها العالم عامة والمغرب خاصة الكثير من الأحداث والمستجدات نذكر منها مثلا دون الحصر أزمة كوفيد 19 وأزمة التضخم الاقتصادي العالمي واتجاه الاقتصاد العالمي إلى الحمائية وتعدد الأقطاب السياسية العالمية ناهيك عن التطورات التكنولوجية وما على ذلك من الطوارئ والتغيرات، لذلك يبقى من الضروري الآن تحديث ترسانتنا القانونية بما يتماشى مع تلك المستجدات الداخلية والخارجية. في هذا السياق، يشرفني أن أقدّم لكم في هذه الفقرة بعضا من المواضيع التي لا ينص عليها القانون الحالي رغم أن الواقع يثبت حاجتنا إلى تأطيرها قانونيا وإدراجها داخل مدونة الشغل، نذكر منها مثلا:
- مفهوم العمل عن بعد: إذ أن المدونة الحالية لا تنص عليه رغم أن واقعنا الاقتصادي بدأ يعج بتجارب “العمل عن بعد” خصوصا بعد أزمة كوفيد 19، وبالتالي صار من اللازم علينا التنصيص عليه على أساس حماية حقوق الأجراء الذين يشتغلون عن بعد لصالح مقاولة أو مشغل ما مع ضمان المردودية والانضباط اللازم لصالح تلك المقاولة أو المشغل.
- التدبير المفوض: تنص مدونة الشغل على عدة أنماط من التعاقدات من قبيل عقد المقاولة من الباطن مثلا إلا أنها لم تنص على مفهوم التدبير المفوض وما يجب أن يوازيه ذلك التنصيص عليه من شروط والتزامات لصالح طرفي العلاقة الشغلية على حد سواء.
- الفصل بين مسطرة تسوية نزاعات الشغل الجماعية والشكايات والدعاوي الفردية: حكمت المحكمة في بعض الدعاوي القضائية بعدم الاختصاص بخصوص دعوى المطالبة بالرجوع إلى العمل أو الحصول على تعويضات الفصل من طرف الأجير بسبب عدم استنفاذ مسطرة نزاع شغل جماعي يخص فصل مجموعة من الأجراء مثلا، والحال أن أطراف النزاع الجماعي للشغل لا يمكن أن تكون وصية على حقوق العامل الفردية وقراراته كما أن مسطرة النزاع الجماعي بدءا من اللجوء إلى مفتشية الشغل ومرورا بالإحالة على اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة وانتهاء باللجنة الوطنية للبحث والمصالحة قد لا تستنفذ أبدا إذا ما تخلى عنها أحد الأطراف، وبالتالي فلابد من التنصيص بوضوح في أي قانون شغل جديد على أن عدم استنفاذ مسطرة تسوية نزاعات الشغل الجماعية لا يحول دون حق الأجراء في المطالبة بحقوقهم وتعويضاتهم عن الفصل بشكل فردي خصوصا على مستوى القضاء.
- عقد التعلّم للأطفال: قبل إصدار مدونة الشغل الحالية كان القانون السابق موزعا في شكل مجموعة الظهائر والمراسيم التي تضم مجموعة من المقتضيات المنظمة للعلاقات الشغلية وما يشبهها، وقد كان من بين تلك المقتضيات ما ينص على “عقد التعلم (Le contrat d’apprentissage)” وهو العقد الذي كان يمكن بمقتضاه إدماج الأطفال أقل من السن القانوني في المقاولات الحرفية خصوصا لأجل التعلّم وليس باعتبارهم مشتغلين مع منحهم حماية خاصة. في هذا الصدد أعتقد أنه حان الوقت للعودة إلى تشريع مفهوم “عقد التعلم” مما من شأنه احتواء ظاهرة وجود الأطفال دون سن 15 سنة في المقاولات مع إلزام معلمّيهم بحمايتهم ومعاملتهم معاملة خاصة وهو ما قد يساهم في رفع الحرج بالنسبة لبلادنا أمام أعين المنظمات الحقوقية ومنظمة العمل الدولية على وجه الخصوص.
- تعريف العامل والمستخدم والإطار: تميّز مدونة الشغل في بعض نصوصها بين العامل والمستخدم والإطار (فترة الإختبار ومهلة الإخطار نموذجين) غير أنه لا يوجد فيها أي تعريف واضح لتلك المفاهيم لذلك وجب على المشرع أن يضع تعريفا واضحا لها والفرق بين كل واحدة منها والأخرى. في هذا الإطار مثلا يمكن اعتبار العامل هو الذي يشتغل بشكل يدوي والمستخدم هو الذي يشتغل في إطار مهمة معينة داخل المقاولة وأما الإطار فهو الذي يمتلك سلطة اتخاذ القرار والإدارة داخل المقاولة…
الفقرة الثالثة: هندسة المدونة وطريقة توزيع كتبها السبعة
من بين المستجدات التي جاء بها قانون الشغل الحالي عند إصداره سنة 2003 هو تجميعه للنصوص والمقتضيات القانونية في شكل مدونة واحدة تضم سبعة كتب ومجموعة من الأقسام والأبواب والفروع وهذا أمر يمكن اعتباره سيفا ذو حدين، فبقدر أن تجميع النصوص يمنحنا سهولة أكبر في قراءتها واستيعاب مآلاتها بقدر ما نجد فيها أحيانا نقصا في تخصيص بعض البنود على حسب قطاعات العمل، ولعل إيجابيات الاشتغال بقانون مجمع في شكل مدونة واحدة تبقى أكثر من سلبياتها مع ضرورة التخصّص أحيانا داخل كتبها وأقسامها، فمنح مهلة الإخطار للأجراء مثلا يمكن أن تستثنى فيها مثلا فئة أجراء المطاعم والمقاهي تفاديا لأي أثر سلبي لفصلهم على زبناء المقاولة مثلما كان الحال في القانون السابق الذي أعدّه الفقيه الفرنسي في قانون الشغل “بول لانك” والأمثلة كثيرة في هذا الباب. بيد أن ملاحظتي الفريدة في هذا الموضوع لا تتعلق بمسألة التجميع وإنما تتعلق فقط بتضمين الكتاب الخامس المتعلق بأجهزة المراقبة التي يقوم بها مفتشو الشغل داخل مدونة الشغل. في هذا الصدد أعتقد أنه يجب الفصل بين مدونة الشغل وبين الكتاب الخامس المتعلق باختصاصات عمل تفتيش الشغل لأن هذه الأخيرة يجب أن تكون مستقلة بذاتها وقابلة للتدبير والتغيير كلما احتجنا إلى تغييرها ولم لا وضع كتاب خاص على شاكلة “نظام مؤسسي خاص بمفتشي الشغل” يتوسع أكثر في تنظيم اختصاصاتهم وملاءمتها مع كل المستجدات الطارئة مع احترام مقتضيات الاتفاقيات الدولية للعمل ونخص بالذكر هنا كل من الاتفاقية 81 و129 و150 للمنظمة الدولية للعمل.