وهبي: نقاش دستوري هادئ
(الدستور يبني دولة القانون لا دولة الأشخاص) جورج واشنطن
جميل أن تهتم بعض مؤسسات الدولة، مثل الوكالة القضائية للمملكة، بمجال الدستور، خاصة وأن هذه الأخيرة تكون طرفا ممثلا للدولة في عدة قضايا، وسيطرح عليها مستقبلا (عند دخول القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم دستورية القوانين حيز التطبيق)، تحدي التعقيب على النقاشات الدستورية المثارة عند سريان الدعوى. وفي هذا السياق كانت الندوة الفكرية التي نظمتها الوكالة القضائية مؤخرا بالرباط، بحضور عدد مميز من الدستوريين والقضاة والمهتمين، مناسبة علمية مواتية، لمقاربة عدد من الإشكالات المرتبطة بالقانون التنظيمي أعلاه.
غير أن حضور السيد أشركي، الرئيس السابق للمحكمة الدستورية، كان له إضافة نوعية في النقاش الدستوري الذي ساد خلال هذه الندوة، رغم أن خطابه تميز بالكثير من التحفظ، ربما لموقعه السابق، أو ربما لطبيعته الإنسانية كرجل قانون لا يريد دائما أن يظهر للغير مدى قدرته على التحليل العميق، لكنه بذكاء المسؤول الدستوري الرصين، أثار عدة قضايا وإشكالات، اختلفنا معه حولها حين كان ممارسا، واليوم نريد أن نناقشه حولها في سياق تدخله العلمي بندوة أمس، ولاسيما النقاط التالية:
أولا: مرحلة التصفية:
إذا كانت إشكالية كم الملفات واكتظاظ القضايا التي ستحال على المحكمة الدستورية من بين الإشكالات التي تخيفها، وهو الأمر الذي قد ينعكس سلبا على جودة أحكامها؛ فإن المحكمة الدستورية في قرارها القاضي بعدم دستورية مقتضى منح محكمة النقض حق ممارسة تصفية الملفات قبل عرضها على المحكمة الدستورية، سيجعلها مستقبلا مجبرة على إيجاد مسطرة داخلية للتصفية، ولذلك أثار الأستاذ أشركي قضية الضغط الذي سيواجه القاضي الدستوري أثناء بته في قضايا الدفع بعدم الدستورية، إضافة إلى المهام الأخرى التي يختص بها، كالبت في الطعون الانتخابية، وفي دستورية بعض القوانين، والبت كذلك في طعون قوانين المالية وغيرها من الاختصاصات.
بيد أننا لا نساير السيد الرئيس في طرحه هذا، فنحن نختلف معه في أن نمنح “تحت أي مبرر” اختصاصا أصليا للمحكمة الدستورية لمحكمة النقض، لأن للدعوى الدستورية مخاطرها وتبعاتها، ويجب أن لا يكون أي حاجز قانوني أو مادي بين المواطن والمحكمة الدستورية، أو يكون هناك نوع من الحجر على المحكمة الدستورية، من طرف قضاء (النقض) معروف بتوجهاته المحافظة وغيرته الكبرى في احتكار الوظيفة القضائية، وبالتالي قد نمنحه أثناء مرحلة التصفية، ممارسة نوع من الرقابة القبلية على عمل المحكمة الدستورية، خاصة وأن السند القانوني”جدية الدعاوى” الذي اعتمد عليه لمنح سلطة التصفية لمحكمة النقض، هو مبدأ عام يمكن التصرف فيه وبه.
ثانيا: من حيث حق النيابة العامة في الدفع بعدم الدستورية:
أثار فضيلة السيد الرئيس أشركي حق طعن النيابة العامة مثلها مثل الأطراف الأخرى، في دستورية نص قانوني؛ وهنا تطرح بعض الأسئلة نفسها بحدة: هل سنكون آنذاك أمام دعوى دستورية؟ أم أمام مسطرة الطعن في قانون أثناء سريان الدعوى؟ وهل للنيابة العامة مثلا حق الطعن في الشكليات وإثارة موضوع التراتبية القانونية في جميع النصوص حتى التي تهم الحقوق والحريات؟
وفي الحقيقة كنت دائما من الذين رفضوا فكرة منح حق الطعن للنيابة العامة بعدم دستورية القوانين أمام المحكمة الدستورية لأسباب واقعية وأخرى قانونية.
فمن الناحية القانونية، نؤكد أن دور النيابة العامة كجزء من القضاء، هو تنفيذ القانون وليس المشاركة في عملية التشريع، لكون القضاء الدستوري في آخر المطاف يشكل بطريقة غير مباشرة محطة تشريعية. ثم أن للنيابة العامة قانونا أدوار محددة، وهي السهر على احترام تطبيق القانون، وبالتالي إذا اختلفت مع النص مثلا، فمن سيقوم بإعمال القانون؟ وهل سيكون طعنها من أجل الحريات والحقوق؟ أم سيكون في اتجاه تفسير يضيق من مجال الحريات و المساس بحقوق الدفاع؟
أما واقعيا، فنعلم أن النيابة العامة جزء من التوجهات المحافظة للقضاء، والتي كثيرا ما كانت محط مواجهات مع الدفاع عند قيامها بتفسيرات ضيقة أثناء النظر في دعاوى تهم ممارسة الحقوق والحريات، مما يجعلنا اليوم نخشى أن يكون لهذا التوجه انعكاس سلبي على التوجهات العامة للدولة في مجال الحقوق والحريات. لاسيما وأننا لم نشهد في واقع الممارسة تحولا نوعيا قد يسمح لنا بالاطمئنان على دور النيابة العامة بالشكل الذي يوسع الحقوق والحريات. ومن تم نعتقد أن تحول النيابة العامة لطرف أصلي في الدعوى الدستورية، قد يفتح لها المجال وهي المالكة لسلطة التنفيذ وسلطة المتابعة، لإخفاء تجاوزاتها وخروقاتها بدعوى التوجه إلى المحكمة الدستورية.
ثالثا: على مستوى منح حق الدفع بعدم الدستورية لمؤسسات أخرى خارج المجال القضائي:
أعتقد أنه إذا كنا نسعى نحو هذا التوسع “وهو أمر إيجابي”، فإن المحكمة الدستورية في قرارها الأخير اختزلت موضوع الإحالة في المحاكم المنصوص عليها داخل قانون التنظيم القضائي، وبالتالي السماح للمجلس الأعلى للحسابات بهذا الطعن نجده خارج هذا القانون، رغم أن له ارتباط مباشر بقضايا الحقوق والحريات، فهل تعمد القرار الدستوري استبعاده؟ أم غض الطرف عنه عمدا؟ علما أن المجلس الأعلى للحسابات يصدر أحكاما شبه قضائية، حيث تنتهي أغلب قراراته بالطعن فيها إما أمام القضاء الإداري، أو أمام القضاء الجنائي.
غير أن ما يطرح الإشكال هنا، هو أنه حينما نكون أمام القضاء الإداري، فيمكن حينها أن نراقب نصوص معتمدة لإصدار قرارات بالغرامات، وبالتالي نقوم بتفكيك النصوص القانونية التي اعتمد عليها المجلس الأعلى للحسابات، والنتائج التي استنتجها، مما يجعل الدعوى تنشر بجميع تفاصيلها أمام القضاء الإداري، غير أنه حينما نكون أمام القضاء الجنائي فإن النقاش ينصب حول الأفعال والتكييف، وحينها سنضطر إلى الطعن في القانون المنظم للمجلس الأعلى للحسابات نفسه إذا كان مرتبط بشكل مباشر بإثبات الفعل الجرمي من خلال أبحاث المجلس الأعلى للحسابات.
في الواقع هذا النقاش الدستوري الصحي الذي عاشته هذه الندوة، والذي يظهر صعوبات في مواجهة تحديات بت القضاء الدستوري بشكل أفضل وأسرع وأجود في القضايا المعروضة عليه، في حقيقة الأمر هو ناتج عن عجز جل التجارب الدولية في إيجاد توازن بين الحد من الاكتظاظ وجودة الأحكام وضمان حق إعمال الدعوى الدستورية من طرف المواطنين، لذلك تعددت المساطر الدولية في هذا الباب. وبعيدا عن هذا النقاش “مسطرة التصفية “.
أعتقد أن القضاء الدستوري يحتاج قبل كل شيء إلى الكثير من الفقه الدستوري الوطني، وإلى نوع من الجرأة والمسؤولية والنزاهة الأخلاقية والدستورية، لتطوير عملنا الدستوري في اتجاه تحصين المكتسبات والتواثب.