وجهة نظر من الواقع العملي في المقصود من التنفيذ المعجل في قانون المسطرة المدنية
الحبيب بن حمو منتدب قضائي
وجـهـة نـظـر الـمـنـتـدب الـقـضـائـي في المقصود من التنفيذ المعجل
الأصل أن الحكم الابتدائي المدني لا يكون قابلا للتنفيذ إلا بحصول التبليغ الصحيح وفوات أجل الطعون العادية؛ وهو ما يوصف بنهائية الحكم. والاستثناء أن يكون الحكم المذكور مشمولا بالتنفيذ المعجل؛ حيث والحالة هذه يقبل الحكم التنفيذ دون مراعاة أجل الطعن، أو الطعن نفسه. لكن هل يُلزم القانونُ تبليغَ الحكم المشمول بالتنفيذ المعجل أولا إلى المحكوم عليه في إطار إجراءات التبليغ العادية، أي قبل الدخول في مرحلة تبليغ الإعذار بالتنفيذ؟ أم أن المقصود من التنفيذ المعجل هو غير ذلك؟
نلفي بعض محاكم المملكة في الواقع العملي تشترط لتنفيذ الحكم المشمول بالتنفيذ المعجل أن يقع تبليغه أولا إلى المحكوم عليه في إطار الإجراءات العادية لتبليغ الأحكام، ولا تسمح بمباشرة مسطرة التنفيذ إلا برجوع شهادة التسليم التي تفيد التبليغ. وهـو التوجه الذي رفضه السادة المحامون، لعدم توافقه مع الممارسة الإجرائية بالمحاكم، ولتعارضه مع النصوص القانونية حسب دفوعاتهم. وهو دافعنا للإدلاء بوجهة نظر متواضعة تروم الإيضاح القانوني، ثم الحجاج الذهني، فالاقتراح التنظيمي.
أولا: التوجهات المطروحة في تفسير التنفيذ المعجل
نبدأ من التوجه السائد الذي يُفهم من الممارسة، ثم نعرج على التوجه المعتبر شاذا لبعض المحاكم، ونختم بدفوعات السادة المحامون في تفاعلهم مع الإشكال.
1-التوجه السائد
جرى العمل داخل محاكم المملكة، أن الحكم الابتدائي المشمول بالتنفيذ المعجل يكون قابلا للتنفيذ فور صدوره، ويحق للطرف المحكوم له الحصول آنذاك على نسخة تنفيذية قصد فتح ملف التنفيذ، وسواء تعلق الأمر بالتنفيذ المعجل بقوة القانون أو التنفيذ المعجل القضائي، وجوبيا كان أو جوازيا.
فالواقع العملي يَفهم التنفيذ المعجل على أنه: “صيغة تنصرف إلى مراحل التنفيذ مباشرة دون المرور من مرحلة تبليغ الحكم”، وعلى أنه بذلك ضمانة تشريعية خولها المشرع للمحكوم له (..).
2- التوجه الشاذ
تفرض بعض محاكم المملكة وجوب تبليغ الحكم المشمول بالتنفيذ المعجل قبل أي خوض في إجراءات التنفيذ، وهي بذلك تعتبر التبليغ ضمانة أساسية لتحقيق عدالة تنفيذ الحكم، من منطلق غياب أي مقتضى يستثنيه من القواعد العامة للتبليغ.
وذلك بغض النظر عن التبليغ من أجل الإعذار بالتنفيذ المنصوص عليه في الفصل 440، والذي قضت محكمة النقض بإلزاميته في جميع الأحوال، اللهم إذا كان التنفيذ على أصل الأمر.
وإن كانت الممارسة العملية تختلف في بعض الجزئيات، فبعض مكاتب تسليم النسخ لا تسلم النسخة التنفيذية إلا عند رجوع شهادة التسليم، دون أن تلتفت إلى الأجل. في حين أن مكاتب أخرى لا تسلم التنفيذية وحدها، إلا مرفقة مع التبليغية أو بعد تسليم هذه الأخيرة، في حين أن بعض مكاتب التنفيذ، تلزم وجود شهادة التسليم التي تفيد التبليغ ضمن وثائق فتح ملف التنفيذ، وهـــذا بــيــت الـقـصـيـد.
3- التوجه الحقوقي
اعتبر السادة المحامون أن الحكم المشمول بالتنفيذ المعجل يكون قابلا للتنفيذ بقوة القانون بغض النظر عن تبليغه من عدمه، وأن إقدام الإدارة على اشتراط التبليغ هو توجه يتنافى والقانون، وطرحهم هذا يحمل في طيه تعريفا معينا للتنفيذ المعجل لا ندري كيف ومن أين استُنبِط.
والذي يهمنا من بساطة هذه المقالة هو تحليل التأطير القانوني للمسألة بغض النظر عن واقع الممارسة العرفية، فالواقع المفتقر للإقناع لا يحتج به على القانون الصريح، فإن لم يصرح القانون وجب عندها الاجتهاد بمحاذاة النص بما لا يتنافى وفلسفة التشريع الإجرائي.
ثانيا: وجهة نظر المنتدب القضائي المكلف بالإجراءات
1- بمنطق قانوني
حرصا على الضبط المنهجي، سيتم تحليل المسألة الخلافـية بدءا من الفصول المنظمة للأحكام (42=>54)، حيث سيجد الباحث طيَّها إحالتين صريحتين؛ إحالة قبلية (54) تحيل على ما يتعلق بتبليغ الأحكام، وأخرى بعدية (52) تحيل على ما يتعلق بمقتضيات التنفيذ المعجل، هذه الأخيرة بدورها تحيلنا ضمنيا على القواعد العامة بشأن التنفيذ الجبري للأحكام (428 فما بعد).
(1) بالعودة لفصول التبليغ سوف لن يجد الباحث أي مقتضى قانوني يستثني الأحكام المشمولة بالتنفيذ المعجل من التبليغ، وهذه مقدمة أولى في النقاش. فهل يُدحِضها أن قواعد تبليغ الحكم تبقى عامة وخاضعة لمنطق التخصيص؟ أم أن تبليغ الحكم من مشمولات النظام العام في منطق الإجراءات، إسوة بتبليغ الدعوى، ولا مجال لاستثنائه إلا بنص واضحٍ جلي؟
الواضح أن تخصيص مقتضيات تبليغ الحكم لم يرد له أثر في فصول ق.م.م، اللهم ما يتعلق بإمكانية تنفيذ الأمر الاستعجالي على أصل الأمر، ومن جهة أخرى فلا يختلف اثنان على وجودِ صلةٍ جديرة بالاعتبار بين تبليغ الحكم والنظام العام (..) وتشهد لذلك مقتضيات حقوق المتقاضيين وقواعد سير العدالة ضمن الباب التاسع من الدستور.
وبمنطق القياس، لابأس من الإشارة إلى أن الأحكام الاستعجالية، وهي المشمولة بالتنفيذ المعجل بقوة القانون، ولها صبغة وقتية، ويفرض المنطق أن تنفذ مباشرة، مع ذلك اشترط المشرع تبليغها بصريح النص (153). قياسٌ يقويه أيضا تلمُّس ذهنية المشرع مما تحمله المادة 224 من مسودة ق.م.م من إضافة بهذا الشأن (..).
(2) وبالانتقال إلى تأمل مقتضيات التنفيذ المعجل (147)، فأول ما يستوقف الذهن القانوني هو عدم تضمنه لأي تلميح عن علاقة التنفيذ المعجل بالتبليغ، والحال أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
بالتالي فالفصل المذكور لن يسعفنا في الحسم فيما إذا كان المقصود من التنفيذ المعجل هو أن الحكم يقبل التنفيذ بمجرد صدوره، ودون تبليغه، أم أن المقصود منه فقط عدم الالتفات لأجل الطعن والطعن نفسه. وهذه مقدمة ثانية في النقاش.
والراجح أن الصياغة النصية التي استهل بها المشرع الفصل أعلاه تنصرف دلالتها صراحة إلى ما يرتبط بالطعون، والتنفيذ، لا بالتبليغ، والعلة في ذلك أن الأصل في الطعنين المذكورين أنهما يوقفان التنفيذ .. فارتأى المشرع أن ذلك يتنافى مع خصائص بعض القضايا التي فرض منطق العدالة أن تنفذ خارج قيود الطعن وآجاله.
(3) وننتقل إلى تلمس المسألة من القواعد العامة للتنفيذ، اعتبارا لصلتها بالتنفيذ المعجل وأنها غايته ومآله الطبيعي، أضف إلى ذلك أن التشريع وحدة غير قابلة للتجزيء.
وحقيقة؛ أن قراءة تركيبية للفصلين 433 و 440 توحي بأن خطاب المشرع ينصرف إلى ما يسمى بالإعذار بالتنفيذ لا إلى تبليغ الحكم ابتداءً إلى المحكوم عليه، وكل قراءة واسعة أخرى فهي تحمل تعسفا منا على الصياغة النصية للمشرع.
ثم إن الفصل 437 يوجب لتنفيذ الحكم أن يتم الحصول على شهادة تتضمن أجل التبليغ وتفيد فوات أجل الطعن، المسماة بالشهادة بعدم الطعن، وحيث أنه لا يمكن تطبيق هذا المقتضى على إطلاقه بالنسبة للأحكام المشمولة بالتنفيذ المعجل، وإلا أفرغت هذه المكنة القانونية من كل دلالة، والدليل على ذلك نتلمسه من ذهنية المشرع في المادة 465 من المسودة في خطاب صريح موجه إلى الطعن وأجله (..).
بالتالي فمبادئ التنفيذ لم تسعفنا بدورها في تلمس المقصود من التنفيذ المعجل، بحيث تناولت مباشرة إجراءات التنفيذ بدءا من الإعذار بالتنفيذ.
” وتفيد نتيجة المقدمتين سالفتي الذكر، أن المشرع لم يُجب عن الإشكال بشكل صريح، سِوى أن مقارعة النصوص بعضها ببعض يقوي، ]فقط[ فرضية أن الحكم المشمول بالتنفيذ المعجل لم يستثنى من إجراءات تبليغ الأحكام، بل يستثنى منه فقط احتساب أجل الطعنين (التعرض والاستئناف) وآثارهما الموقفة للتنفيذ، وأبرز دليل على سلامة الفرضية يُستنبط من الصياغة النصية التي استهل بها المشرع الفصل 147، كما تقويها أدلة أخرى مختلفة “.
2- بمنطق إجرائي
[1] يقتضي حسن سير العدالة الإجرائية، أن يكون المحكوم عليه على بينة من الحكم الصادر ضده، ويتحقق له الحق في الحصول على المعلومة .. خاصة في حالة لم يكن هو من بُلَّغ شخصيا بمقال الدعوى في وقت سابق، أو لم يحضر الجلسات، أو لأجل ممارسة حقه في الطعن في تبليغ المقال الافتتاحي وطلب إبطال شهادة التسليم بشأن، إذ والحالات هذه تكون مواجهته بالإعذار بالتنفيذ مباشرة فيه حيف إجرائي قد لا تتحقق معه عدالة تنفيذ الحكم.
[2] كما أن التنفيذ المعجل هو استثناء من الأصل كما قدَّمنا؛ بالتالي ينبغي أن يفسر تفسيرا ضيقا ما أمكن، أمَا وأننا استثنينا من هذه العبارة: أجل الطعن واستثنينا خصيصة وقف التنفيذ ونزيد استثناء وجوب تبليغ الحكم فذلك من التفسير الواسع الذي يتنافى مع موضع الاستثناء الذي تتواجد فيه ضمانة التنفيذ المعجل.
[3] هذا وإن النتيجة الافتراضية السابقة تفرضها أيضا فلسفة حقوق الدفاع التي أقعد لها الدستور في الفصل 120؛ ذلك أن المشرع خول إمكانية تقديم طلب إيقاف تنفيذ الحكم المشمول بالتنفيذ المعجل القضائي بصريح الفصل 147، ومن شأن الإعذار بالتنفيذ دون سابق تبليغ أن يشوش أو يحول دون ممارسة هذه الضمانة في الوقت الصحيح، ونفس الشيء يقال بصدد ضمانة الطعن في تبليغ مقال الدعوى.
[4] بالإضافة إلى أن الإلزام بتبليغ الحكم – والذي يُجرى بناء على طلب مؤدى عنه- من شأنه أن يُدرَّ مداخيلا على صندوق المحكمة بما يرجع نفعه بالمآل لصالح مؤسسات العدالة وتجهيزاتها.
والإشكال الذي قد يعترض المسألة بإلحاح هو مدى اعتبار كون الإعذار بالتنفيذ يؤدي نفس الوظيفة المرجوة من تبليغ الحكم وفق الإجراءات العادية.
نبادر إلى القول أن الاعذار بالتنفيذ إنما يرمي إلى تنفيذ منطوق الحكم، ويجري بين يدي عون التنفيذ، وذو صبغة قسرية، ومثقل بالشكليات، ولا تُرجى منه حقوق الدفاع بنفس النجاعة المرجوة من تبليغ الحكم. في حين أن التبليغ بالحكم في إطار الإجراءات العادية الذي نناقشه يعد ضمانة إجرائية تخول للمحكوم عليه ممارسة حقوق الدفاع .. والمحصلة أنه ثمة فارق زمني بينهما، استنادا إلى الاتساق المنطقي القانوني.
3-بمنطق تنظيمي
وحيث أن الخلاصة السابقة تفرض محاولة تحديد عنصر الزمن بين تبليغ الحكم المشمول بالتنفيذ المعجل وتبليغ الإعذار بتنفيذه؟ هل ثمة زمن ما بين التبليغ والإعذار بالتنفيذ؟
وحيث أن للزمن حضور حيوي، ومصيري، في إدارة العدالة الشكلية. وهو عنصر جوهري في تدبير عملية التقاضي سواء عند التشريع لها أو بصدد تنظيمها العملي، وذلك درءا لاختلال التوازن الإجرائي، ودرءا لكل تفسير دوغمائي ينطلق مما وجدنا عليه آباءنا، مسلِّما بكل ما تقول حذامي، ومدفوعا بمصالح مهنية إيديولوجية، لا قانونية منطقية.
” ودون تعسف على دائرة اختصاص المشرع، وفي انتظار إشارة نصية منه، نبادر إلى القول باعتماد الفورية بين تبليغ الحكم وفتح ملف التنفيذ، بحيث يتم فتح هذا الأخير فور رجوع شهادة التسليم وتضمينها بسجلات المحكمة ”.
والمحصلة أن وجهة النظر هذه لم تكن تروم سوى وضع المسألة في مساقها القانوني السليم، حتى إذا ما تبين أن النص يميل إلى رأي مِلنا معه، تحرِّيا للموضوعية وتحرزا من كل مصادرةٍ على المطلوب، وإن كنا تحدثنا من وجهة نظر رجل الإدارة التنفيذية الحريص على مصلحة الإدارة بمفهومها الجديد الرامي إلى خدمة المتقاضي، ومدفوعين بجوهر عمل كتابة الضبط الهادف إلى تجسيد الموازنة الإجرائية بين الخصوم.
هذا وتبقى وجهة نظرنا سليمة قابلة لإثبات العكس بمنطق حواري واضح، حجاجي وذو مقاصد تهدف بشكل أساسي إلى توحيد العمل التنظيمي لمحاكم المملكة.