هل ينجح العقل البنكي في تنزيل استراتيجية الخروج من الأزمة بالمغرب؟
في كتابه “مجتمع المخاطر”، يؤكد السوسيولوجي الألماني ايلرش بيك أنه إذا كان مجتمع الطبقات يتميز بالسؤال الأساسي “أنا جائع”، فإن مجتمع المخاطر يتميز بالسؤال الأساسي “أنا خائف”، مجتمع القرن الواحد والعشرين وفي زمن جائحة “كوفيد-19” يتميز بطرح السؤالين الأساسين معا، “أنا جائع” و”أنا خائف”.
جائحة كوفيد لم تفرض علينا فقط التعايش مع ما يمكن تسميته بالرعب الصحي، بل فرضت علينا كذلك مواجهة ما سماه الباحث الفرنسي فيفيان فورستر “الرعب الاقتصادي”. فالاقتصاد في ظل الأزمات يشبه العاصفة التي تقتلع كل ما تجده في طريقها من وظائف وأرباح ومدخرات وتعويضات وإعانات وتوزيعات.
الجوع والخوف والرعب الصحي والرعب الاقتصادي فرض على عقل الدولة تغيير الأجندة والأولويات، وفرض عليه القيام بإجراءات تستهدف الحفاظ على العقد الاجتماعي، خصوصا وأن المسألة الاجتماعية صارت تفرض نفسها كأولوية قصوى في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، وهنا نستحضر ما أكد عليه الباحث برترون بادي في كتابه “العالم لم يعد جيو-سياسيا”، من أن السياسة لم تعد تمثل الجزء الصعب والصلب (hard)، والاجتماعي الجزء الرخو والمرن (soft)، الأزمات التي تحصل في العالم اليوم تثبت أن الاجتماعي صار هو الجزء الصلب، والسياسي الجزء الرخو.
المؤسسة الملكية من خلال خطاباتها كانت سباقة كباقي التجارب الدولية الناجحة في مواجهة الأزمة إلى وضع المسألة الاجتماعية كأولوية من خلال تبني استراتيجية الصرف (تعتمد على ضخ الأموال لمواجهة الأزمة)، وبالتالي كانت الظرفية تحتم على الطبقة السياسية التركيز على الصرف، ومن ثم التركيز على الصرف الجيد والصرف القادر على تنشيط الدورة الاقتصادية، التركيز على الصرف والتركيز على الصرف الجيد كان هو الشعار المركزي الذي خلص إليه اجتماع نادي اقتصاديي العالم بتاريخ فاتح أكتوبر 2020 والذي انعقد من أجل النظر في كيفية مواجهة جائحة كوفيد19 وآثارها الاقتصادية والاجتماعية.
والصرف حسب لغة المحاسبة العمومية هو الالتزام “التصفية” “الأمر بالدفع” “الأداء”، كما أن الصرف حسب الدستور المالي يبقى مشروطا بوجود الاعتمادات والبحث عن الاعتمادات، وبالتالي اعتمدت المؤسسة الملكية على ثنائية (التأطير السياسي والحجر الصحي-الاعتمادات المالية صندوق كوفيد) وبعد ذلك استراتيجية تعتمد على ثنائية (التنشيط الاقتصادي بكل ما يتطلبه من بحث عن موارد مالية-التعايش مع الوباء بكل ما يتطلبه من إجراءات لتخفيف الحجر الصحي)، وبالتالي يتضح أن العقل المالي والعقل البنكي يحجز مكانه بقوة الواقع داخل الزمن السياسي الحالي.
استراتيجية الصرف والبحث عن الموارد المالية، كانت تعبد الطريق أمام العقل البنكي لاحتلال الصفوف الأمامية في منظومة اتخاذ القرار داخل العقل المركزي للدولة، كما أن الزمن السياسي المغربي صار تحت رحمة أجندة العقل المالي، القانون المالي-القانون المالي التعديل-القانون المالي للسنة المقبلة، إنشاء صندوق مواجهة الجائحة، الإبداع في التمويل، القرض، الضرائب الجديدة، التمويل المبدع، مما فرض عمليا وفعليا تعزيز ثنائية “المؤسسة الملكية-والي بنك المغرب ووزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة”، وبالتالي تقوية ثنائية “العقل المركزي للدولة-العقل المالي والعقل البنكي”.
وإذا كان عبد الله العروي قد أكد أن النخب المسيرة لدواليب الدولة تشتغل يوميا بلغة وحسب معايير موروثة من عهد الحماية، وأن هذه النخب هي أقل وطنية من التي سبقتها، إلا أن العقل المركزي للدولة من خلال تعزيز موقع النخب البنكية داخل دواليب تسيير الدولة كان يبعث برسائل في اتجاهات متعددة، مفادها أن النخب المفروض أن تسير دواليب الدولة اليوم يجب أن تكون أكثر تقنية وأكثر خبرة في التعامل مع التعقيد ومجتمع المخاطر وأكثر توقعا واستكشافا للمستقبل وأكثر قدرة على مواجهة الجوع والخوف والرعب الصحي والرعب الاقتصادي.
من خلال الخطابات الملكية الأخيرة، يلاحظ المتتبعون أن الاستراتيجية الملكية للخروج من الأزمة تعتمد على الصرف، وبالتالي البحث عن الاعتمادات والتمويل والموارد، وبالتالي كانت استراتيجية المؤسسة الملكية في حاجة إلى نخب تبدع في البحث عن الموارد والبحث عن الاعتمادات والبحث عن التمويلات، نخب تبدع في ما يطلق عليه البحث عن الحلول التي تعترض المملكة (résolveurs de problèmes).
1. توجيه رقاص العقل المركزي للدولة إلى كفة العقل البنكي
الانتقاد الذي وجهه الملك في خطاب افتتاح البرلمان لكيفية اختيار نخب العقل الإداري، بعد الانتقاد الذي كان قد وجهه للنخب السياسية، حمل في طياته رسالة سلبية لنخب الحقل السياسي-الإداري-وموقعها وفعاليتها في منظومة اتخاذ القرار بالمغرب، حيث إن إغراق المناصب العليا بأصحاب الولاءات السياسية، وتركيز الطبقة السياسية اهتمامها على توزيع كعكة المناصب والبحث عن الريع، جعل رأسمال نخب الحقل السياسي والإداري في المغرب يتراجع ويفقد القدرة على الاقتراح والابتكار والقدرة على حل المشاكل المستعصية وغير المتوقعة.
نخب الأحزاب والنخب الإدارية التي تختارها الأحزاب صارت نخبا من صنع الأحزاب، وبالتالي نخبا محزبة ونخبا مبرمجة حزبيا، وبالتالي نخبا غير قادرة على الابتكار والإبداع، وبالتالي صارت نخب الحقل السياسي والإداري تتميز بكونها نخب “créateurs de problèmes”، بدل أن تكون نخب “résolveurs de problèmes” (مشاكل حول كيفية التعيين، مشاكل مرتبطة بالبحث المتواصل عن الريع والصراع حول اقتسامه، نخب تبحث عن الامتيازات، نخب تجد صعوبة في التواصل وفي الاقناع، نخب غير فعالة، نخب غير قادرة على تقديم خدمات جيدة للمواطن والمرتفق ودافع الضرائب…).
أزمة كوفيد أثبتت كذلك أن النخب القادمة من الحقل السياسي الإداري هي في طبيعتها نخب الستاتيكو، وبالتالي نخب عاجزة عن تنزيل الاستراتيجيات العامة لمواجهة الأزمة الصحية وعاجزة عن إنعاش الحركة الاقتصادية، وبالتالي لم تعد البيروقراطية تلك المجموعة المركزية التي تتمتع بالقدرة على الإبداع وبحس المصلحة العامة كما توقع هيغل، ولا تلك العضو المهتم بالتفكير والبحث عن العقلنة والصالح العام كما توقع دوركايم.
انتقاد المؤسسة الملكية والمجتمع لنخب الحقل السياسي والإداري كان انتقادا ضمنيا لمن كانوا يتصورون أن اقتسام سلطة التعيين بين المؤسسة الملكية ومؤسسة رئيس الحكومة في دستور 2011، ستحسن من نوعية النخب وستغني وتطور مجال اتخاذ القرار بالأفكار الجديدة والأفكار المغايرة من خلال تعزيز ثنائية الرأي الشرعي والرأي العلمي والرأي الوسط والرأي الراديكالي، لكن الوقائع على الأرض، خصوصا في مرحلة تدبير أزمة كوفيد، أثبتت الفرق الكبير بين نوعية نخب الظهير ونخب المرسوم.
ضعف نخب المرسوم ونخب الطبقة السياسية كان يعبد الطريق أمام نخب حقل السلطة، وكما يوضح ذلك بيير بورديو، فإن حقل السلطة هو الحقل الذي ينظم علاقات القوة ما بين مختلف أنواع الرأسمال، الثقافي-الاقتصادي-المالي-البنكي.
في كتابه المعنون بـ”الدوافع التجريبية بخصوص نظرية الفعل عند الدولة”، يؤكد السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو أن الصراع السياسي اليوم يتميز بكون المسيطرين التكنوقراطيين هم مرتبطون بعقلية العولمة، وبالتالي يتوجه الحقل السياسي اليوم أكثر فأكثر إلى عوالم تتطلب الاعتماد أكثر على التبريرات التقنية والعقلانية من أجل تجسيد السيطرة وترسيخها. ومن أجل ترسيخ ذلك، فإن أحد رهانات الصراع داخل حقل السلطة في لحظة معينة يتعلق بتغيير معدل سعر صرف نوع معين من الرأسمال، سواء من خلال فرض هذا الرأسمال لنفسه كقوة داخل بنية السلطة أو من خلال إعادة تجديد قيمة وسعر صرف هذا الرأسمال داخل هذه البنية، ويمكن الجزم بأن هذه المرحلة تتميز بارتفاع أسهم الرأسمال الاقتصادي والمالي والبنكي داخل بنية السلطة، أو بشكل أدق تتميز هذه المرحلة بتوجيه رقاص العقل المركزي للدولة إلى كفة العقل البنكي.
إعادة توجيه رقاص العقل المركزي للدولة إلى نوعية معينة من النخب، يثبت كذلك أنه وبخلاف ما كانت تؤكد عليه النظريات النيو-ماركسية التي كانت تعتبر الدولة مجالا فقط لصراع الطبقات، ومجالا لفرض القوة من طرف الطبقات المسيطرة، فإن الدولة هي كذلك مجال لأشخاص بمعتقدات أيديولوجية مختلفة، اشتراكيين-ليبراليين-كينزيين، خصوصا بالنسبة للمغرب حيث الأغلبية البرلمانية والحكومة مشكلة من خليط من الأحزاب بمعتقدات سياسية مختلفة إن لم نقل متناقضة، كما أن داخل الدولة تنشط تخصصات معينة، القانون-الاقتصاد-المالية-الأبناك، أصحاب هذه التخصصات يفتحون صراعا لا هوادة فيه من أجل تعزيز الرأسمال المتعلق بتخصصهم داخل مجال السلطة.
العقل المركزي للدولة يتعامل مع رأسمال النخب من خلال مصلحته الاستراتيجية، وكذلك من خلال قدرة هذه النخب على إيجاد الحلول الظرفية للأزمات التي يعرفها البلد، وبالتالي يعمد العقل المركزي في كل المحطات التاريخية في المغرب إلى تعزيز رأسمال معين داخل مراكز اتخاذ القرار.
2. العقل المركزي للدولة وترسيخ ثنائية بنك المغرب ووزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة
يلاحظ المتتبع للشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمالي، الحضور القوي لوالي بنك المغرب في رسم أسس التدبير الاقتصادي والمالي، ورغم أن بنك المغرب هو مؤسسة غير مدسترة ولا تتوفر على قانون تنظيمي يحدد اختصاصاتها ويعطيها قوة ومكانة بقوة القاعدة الدستورية، الا أن ذلك لم يمنع البنك من لعب أدوار طلائعية في رسم السياسات المالية للمغرب.
هذا الدور المهم يلاحظه المتتبعون للشأن العام في المغرب من خلال تميز والي بنك المغرب في ترسيخ ما يطلق عليه بالقول الأكيد والقول الشرعي والقول الرسمي، إطلاق الأقوال الأكيدة (الصرامة في نفي إمكانية اللجوء إلى طبع الأوراق المالية في رده على السياسيين) مهمة لا يملكها أي كان، بل هي مهمة يمارسها من يملك تفويضا قويا من المؤسسة الملكية (التفويض القوي من أعلى سلطة هو الذي يرسخ الحضور القوي على أرض الواقع).
ورغم عدم دسترة بنك المغرب، إلا أن هذا الأخير يستمد قوته وأهميته من كون مسألة التضخم واستقرار الأسعار ليست شأنا تقنيا وماليا فقط، بل تمثل في واقع الأمر استمرارا للعقد الاجتماعي، ويعمل كذلك على ترسيخ النظام العادل، ويمثل بذلك حجما ديمقراطيا يؤسس لوحدة واستقرار البلد، ويعمل على ضمان استقرار الأسعار في الزمن من الأغلبيات السياسية المتعاقبة، مما يجعل البنك يلعب دورا مهما في ترسيخ العقد الاجتماعي، وبالتالي في حاجة إلى قوة تسنده، وتتمثل في الحاجة إلى تفويض قوي من المؤسسة الملكية.
قوة التفويض والقرب من الأفكار التي يحملها العقل المركزي للدولة، والنجاح في العمل، وهنا وجب التأكيد كذلك أن والي بنك المغرب يحظى بتقييم دولي جد جيد، حيث تم اختياره من طرف مجلة “global finance” كواحد من عشرة حكام مركزيين للأبناك الوطنية الجيدين من بين مدراء أبناك تسعين دولة، هذا الاختيار يستند إلى الفعالية في تدبير التضخم، تحقيق الأهداف المتعلقة بالنمو الاقتصادي، الاستقرار النقدي وتدبير صرف العملة، الحيادية والتفكير في الزمن الطويل واتخاذ القرار بشكل جماعي.
والأساسي أن والي بنك المغرب كان يمنح تلك الثقة الضرورية في قوة النظام المالي المغربي وقدرته على مواجهة الجائحة والجوع والخوف والرعب الصحي والاقتصادي (التصريح القوي لوالي بنك المغرب من خلال تأكيده على أن بنك المغرب قادر على تمويل كافة طلبات الأبناك)، وهنا وجب التذكير بالدور الذي لعبه دراغي، مدير البنك المركزي الأوروبي، في إنقاذ النظام المالي الأوروبي إبان الأزمة المالية لسنة 2008، من خلال تصريحاته القوية وثقته في قدرة البنك الأوروبي على إنقاذ مالية الدول الأعضاء، إلى الحد الذي دفع مدير البنك المركزي الألماني إلى القول: “أظن أن دراغي صار هو الحاكم الفعلي لأوروبا”، مما منح مرتكزات أساسية لتقوية دور البنك في تدبير المرحلة، وتفسر تعيينه في لجنة اليقظة.
أما فيما يخص وزارة الاقتصاد والمالية، فوجب التأكيد أنه منذ تعيين الوزير الجديد وقطب وزارة الاقتصاد والمالية داخل منظومة اتخاذ القرار يتعزز.
الرجل القادم من عالم الأبناك (المدير العام للبنك الشعبي سابقا) تشهد مدة ترؤسه لوزارة الاقتصاد والمالية تعزيزا كبيرا في دور الوزارة على مستوى الحكامة الحكومية وعلى مستوى الحكامة العامة، وعلى مستوى حكامة تدبير إجراءات مواجهة الأزمة، (أثناء تقديم التوجهات العامة لقانون المالية 2021 أمام لجنة المالية، أعلن الوزير بشكل أحادي تكليف مؤسسة الضمان الاجتماعي بتدبير نظام راميد، مما يثبت أن قوته يستمدها من العلاقة مع السلطة التي عينته)، من حكامة قطاع الاقتصاد والمالية إلى حكامة قطاع الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة، ومن ثم ترأس لجنة اليقظة، كما أن الوزير هو من تكلف بتفسير وتنزيل الخطاب الملكي، وبالتالي كان الوزير يستند إلى متانة العلاقة (الملك -وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة)، مما يثبت أنه يمثل المؤسسة الوزارية الأكثر قربا من سلطة التعيين والأكثر قدرة على القيام بالتفسير العمومي.
3. العقل البنكي المغربي والقدرة على التفسير العمومي للواقع
يشعر العقل المركزي للدولة في المغرب بأن الابتعاد عن الإفلاس والابتعاد عن السكتة القلبية وتنشيط الاقتصاد وضمان استمرارية الدولة يتطلب الاعتماد أكثر من أي وقت مضى على نخب الخبرة ونخب الاقتصاد ونخب المالية والأبناك، كما يعتقد العقل المركزي للدولة أنه في مرحلة الأزمات يحب الاعتماد على عينة من النخب تكون قادرة على تجسيد الإبداع الوطني.
كما أن مرحلة الأزمات تتطلب من العقل المركزي للدولة العمل على تمييز بعض المسؤولين عن المسؤولين العاديين، ومنح المؤسسة التي يعينون بها الفرصة للتميز عن باقي المؤسسات، سواء تعلق الأمر بمؤسسة أو وزارة، ومنحهم القدرة على صناعة خطط الفعل الجماعي الاستراتيجية، سواء كانت ذات طبيعة اقتصادية أو مالية (هيغل في كتابه “فلسفة التاريخ”).
صناعة خطط الفعل الجماعي الاستراتيجية في مرحلة تنشيط الاقتصاد في ظل أزمة كوفيد والجفاف، كانت تفرض على العقل المركزي للدولة، الاعتماد على الحقول المختصة القادرة على إنتاج بناءات للعالم الاقتصادي والاجتماعي، والاعتماد أيضا على النخب التي تمتلك كذلك قوة الشرح والتوضيح، حتى يقتنع الكل بالحلول التي يطرحونها، يقول الباحث هيدغر إن داخل الحقول المعرفية بشكل خاص وداخل مختلف الحقول، هناك مجموعات تبدع فيما يطلق عليه بالتفسير العمومي للواقع، وبشكل واعي ومدروس تحاول هذه المجموعات الدخول في مواجهات من أجل الانتصار للتفسيرات التي تتبناها.
الخطابات الملكية وتنزيل الخطابات الملكية على أرض الواقع من طرف العقل البنكي المغربي والارتياح الذي استقبلت به هذه الإجراءات من طرف المجتمع ومن طرف الفاعلين الاقتصاديين، كان دليلا قويا على نجاح العقل البنكي وانتصارا لتفسيراته وتوضيحاته، وكانت كذلك تعزيزا لموقع حقل السلطة أمام الحقل السياسي الذي اكتفت نخبه في هذه الأزمة بدور المتفرج على الأحداث.
توجيه رقاص الدولة إلى نخب الاقتصاد والمال والأبناك، وتوجيه هذا الرقاص كذلك إلى النخب القادرة على الشرح والتوضيح التقني والعقلاني للعموم والنخب القادرة على إطلاق القول الأكيد، كما أكد على ذلك جون بول سارتر، كان يستند كذلك إلى ما تشهده التطورات العالمية فيما يخص التدبير الاقتصادي والمالي، حيث إن القرن العشرين يعرف بكونه قرن ارتفاع المصاريف والمديونية، وتحول الميزانية إلى أداة من أدوات السياسة الاقتصادية-النظريات الكينزية-ويتميز كذلك بكونه قرن إنشاء وخلق الضرائب الحديثة.
بينما يتميز القرن الواحد والعشرين بكونه قرن العودة القوية للتحديات الكبرى للحكامة المالية، وهو كذلك قرن العودة القوية للأبناك المركزية للدول للإشراف على السياسة النقدية. القرن الواحد والعشرين هو كذلك قرن القواعد الدستورية المرقمة الصارمة، التي تخص التدبير الميزانياتي.
الاعتماد على نخب التفسيرات التقنية والعقلانية ونخب الأرقام ونخب الاقتصاد والمال والأبناك، كان يستند كذلك إلى أبحاث الكاتب لويس ديمون في كتابه حول الفردانية، حيث أكد أن مجتمعات ما قبل الحداثة كانت مبنية على أنظمة تراتبية تعمل على معاقبة وإنتاج استقلالية الأشخاص، وبالتالي كانت تتميز بكونها مجتمعات “العلاقات بين الأشخاص”، بينما المجتمعات الحديثة تستثمر من خلال الإنتاج والدوران والاستهلاك، وبالتالي الأشخاص في المجتمعات الحديثة يستمدون وجودهم من موقعهم داخل المجتمع من خلال دورهم في إنتاج الأشياء من خلال العمل والتبادل، وبالتالي تتميز المجتمعات الحديثة بما يطلق عليه “العلاقة بالأشياء”. العقل المركزي للدولة كان مقتنعا بأن نخب تفكيك العلاقة بالأشياء، خصوصا في مرحلة كوفيد، هي نخب الاقتصاد والمالية والأبناك.
المكونات الأساسية المتمثلة في المداخيل-المصاريف-المديونية-الضريبة-الابتكار في التمويل-الالتزام-التصفية-الأمر بالأداء-القرض-المحاسبة الميزانياتية -المحاسبة العامة-محاسبة تحليل الكلفة-العملة-النشاط الاقتصادي-تنوع الفاعلين -كلفة الزمن-دراسة المخاطر-توقع المخاطر، كانت تمثل مرتكزات أساسية في الخطاب القادر على الاقناع والتفسير العمومي في مرحلة أزمة كوفيد، وبالتالي وكما أكد على ذلك التاريخاني الفرنسي جويل فليكس، فإنه في مرحلة الأزمات يتم الاعتماد على الفعل الاقتصادي وعلى الفعل العمومي، وتلعب المكونات الأساسية للنظام المالي دورا أساسيا في هذا الفعل وفي النجاح في التفسير العمومي للواقع.
توجيه رقاص العقل المركزي للدولة نحو النخب البنكية كان يأخذ بعين الاعتبار كذلك ما يطلق عليه بـ”أمولة الاقتصاد العالمي”، مع ما يعنيه ذلك من الانتقال من رأسمالية الفورديزم إلى رأسمالية الامولة (financiarisation de l’économie).
وبالتالي لم يكن خيار العقل المركزي للدولة في ترجيح كفة العقل البنكي خيارا عشوائيا وخاصا، بل كان خيارا مرتبطا كذلك بالتحولات الدولية والعولمة.
4. العقل البنكي والبحث المتواصل عن تصحيح العجز الحكومي وعجز السوق
لا يمكن تفسير تعزيز دور العقل المالي والعقل البنكي داخل عقل الدولة دون التذكير بعجز العقل السياسي وعقل السوق عن القدرة على رسم خارطة الطريق نحو المستقبل. إذا كان الاقتصادي “james bouchanan”، صاحب جائزة نوبل للاقتصاد لسنة 1986، قد طالب بدسترة الاقتصاد مؤكدا أن الدسترة الاقتصادية تعني المزيد من الديمقراطية، فإن الفائزيْن بجائزة نوبل للاقتصاد لسنة 2004 “kydland-prescotقد أكدا كذلك أنه من المفروض من أجل حسن التدبير تقليص مجال تحرك الحاكمين القادمين من صناديق الاقتراع حتى لا يتخذوا قرارات ظرفية مرتبطة بالأجندة الانتخابية أو قرارات تحت تأثير سلطة اللوبيات، خصوصا في ميدان السياسة النقدية والسياسة الضريبية. وبالتالي طالبا بحكومة تشتغل انطلاقا من قواعد واضحة ومحددة، وليس حكومة تشتغل انطلاقا من سلطات تقديرية.
عجز العقل السياسي وعقل السوق عن تقديم الحلول، يذكرنا بما سبق وأكد عليه الاقتصادي ميلتون فريدمان من أن الحكومة هي الوسيلة التي من المفروض أن تمكننا من إصلاح أخطاء السوق، وتمكننا كذلك من استعمال مواردنا بشكل عقلاني من أجل إنتاج كميات الهواء والماء والأرض بالثمن الذي نستطيع أداؤه، ولكن للأسف، فإن العوامل عينها التي كانت سببا في إنتاج أخطاء السوق منعت كذلك الحكومات من الوصول إلى حلول مقبولة. فالحكومة تجد صعوبة كبيرة كما الفاعلين وقوى السوق في تحديد من كابد وتألم ومن استفاد، وتجد صعوبة كذلك في تقييم الحجم الحقيقي للخسائر والأرباح، وبالتالي فإن محاولة الاعتماد على الحكومة من أجل تصحيح أخطاء السوق، هي في الحقيقة إضافة أخطاء السوق إلى أخطاء الحكومة (ميلتون فريدمان في كتابه “حرية الاختيار”).
أفكار ميلتون فريدمان كانت الملهم الأساسي لعصر الرئيس الأمريكي رونالد ريغن، الذي عبر عن تبنيه لهذه الأفكار من خلال رفع شعاره الشهير “الحكومة ليست هي الحل، الحكومة هي المشكلة”.
ترجيح كفة العقل البنكي وإنشاء مجموعة من اللجان بعيدا عن الحقل السياسي وحقل السوق والاعتماد على مؤسسات الحكامة والمؤسسات الإدارية المستقلة، هو ترجيح أكيد لخيار منح الفرصة لحقل السلطة مع توجيه رقاص حقل السلطة إلى نخب الأرقام والتوقع والحساب والسيناريوهات المالية المتنوعة.
5. العقل البنكي وإشكالية التعامل مع شعار “دعه يفعل دعه يمر”
مواجهة أزمة كوفيد كانت تفرض تعزيز العقد الاجتماعي، وكانت تفرض حضور الثلاثية الذهبية (الدولة-السوق-المجتمع). الحضور الفعلي لهذه الثلاثية كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بكيفية التعامل مع شعار “دعه يفعل دعه يمر”.
إبان تهييئ مشروع القانون المالي لسنة 2020، اقترح العقل المالي للمملكة القيام بمراجعة شاملة لاتفاقيات التبادل الحر، في أفق الإبقاء فقط على الاتفاقات التي ترسخ ثنائية (رابح-رابح)، ولكن هذا الاقتراح قوبل بالرفض من طرف جزء كبير من عقل السوق، حيث أكدت افتتاحية جريدة “ليكونميست” على أن القوى التي ترفع شعار مراجعة أو إلغاء الاتفاقات التجارية، هي قوى تريد العودة بنا إلى عصر الحماية وإلى القرن الثامن عشر، وهي قوى تريد الحماية وإلغاء المنافسة من أجل أن تحدد بشكل أحادي الأثمان وتعمل من خلال ذلك على الاسترزاق بشكل مستمر من جيوب المواطنين البسطاء، بدل الاستعداد لمواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين والاستعداد الفعلي للمنافسة.
الدفاع المستميت لجزء من عقل السوق عن اتفاقات التبادل الحر، رغم أن الجزء الكبير من تلك الاتفاقات كان ضد مصلحة المغرب وكذلك مصلحة بعض الفاعلين الاقتصاديين، كان لا بد من تفسيره.
بالنسبة لأستاذ العلوم السياسية جاك جينرو، فإنه يؤكد في كتابه “القوانين الحقيقية للاقتصاد” أن مقولة الاقتصادي فإنسون كورناي “دعه يفعل، دعه يمر”، هي مقولة ضد الحماية والانغلاق، ومقولة تستهدف التأكيد على أن هناك أرباحا من التبادل الحر، ولكن التجارب أثبتت أن السياسات التجارية المفتوحة تعمل على اقتسام الأرباح بين الفاعلين وبين الدول، ولكنها في المقابل لم تؤكد أن توزيع هذه الأرباح يتم بشكل عادل بين الدول وبين الفاعلين، وبالتالي عجزت عن تأكيد ترسيخ شعار “رابح –رابح”. أستاذ العلوم السياسية يؤكد كذلك أن دفاع قوى السوق عن التبادل الحر، الذي يستهدف ترسيخ مبدأ دعه يمر، هو دفاع ضمني عن شعار دعه يفعل في الداخل، وبالتالي هو انتصار لشعار السوق أولا وأخيرا.
وهكذا، فإن قوى السوق في المغرب عندما كانت تدافع عن اتفاقات التبادل الحر وإن كانت ليست كلها في صالحها، إلا أن هذه الاتفاقات التي تحتمي بيافطة “دعه يمر” تفتح الطريق أمام قوى السوق من أجل أن تفتح هي كذلك معركة توسيع هامش “دعه يفعل”.
ترجيح كفة العقل البنكي داخل العقل المركزي للدولة كان تستدعي من هذا العقل إيجاد التوليفات المناسبة القادرة على تنشيط الدورة الاقتصادية، وترسيخ شعار “رابح-رابح”، والعمل كذلك على حل المشاكل الاجتماعية مع الأخذ بعين الاعتبار ما أكده الباحث برترون بادي من أن “الاجتماعي يمثل اليوم الجزء الصلب، والسياسي الجزء الرخو والمرن”، وبالتالي كان هذا العقل مطالبا بتحديد موقفه من التعامل مع الشعار الشهير “دعه يفعل دعه يمر”.
“دعه يفعل دعه يمر” يرسخ في الواقع لتحالف الرأسمال العالمي والرأسمال الوطني، فكلما ضغط الرأسمال العالمي من أجل حرية ولوج السوق الوطنية من خلال تغيير القوانين وتوقيع المزيد من اتفاقات التبادل الحر، كان الرأسمال الوطني يتحرك كذلك من أجل الضغط على تطبيق الشق الثاني من الفلسفة الليبرالية المتمثل في “دعه يفعل”.
ورغم وجود المنظمات الدولية ومجموعة من النصوص المنظمة للتجارة الدولية، يلاحظ غياب وجود منظمات ونصوص قانونية تنظم وتفتح النقاش حول التوزيع العادل للأرباح واستفادة الكل من التطور والنمو العالمي، هذا النوع من الحوار يفتح داخل المؤسسات الديمقراطية في البلد، لأن وحده النقاش العام بإمكانه أن يطرح إشكاليات العدالة الاجتماعية، ووحده النقاش العام يستطيع إيجاد التوليفة المناسبة للأضرار التي تحدثها حرية المنافسة من خلال مجموعة متنوعة من الاتفاقات والقواعد والتوزيعات التي تمكن من احتواء الفوارق.
وبالتالي، فإن إيجاد الحلول لسؤال الجوع والخوف والرعب الصحي والرعب الاقتصادي، يبقى مرتبطا بشكل كبير بكيفية التعامل مع شعار “دعه يمر دعه يفعل”، لأن كيفية التعامل مع هذا الشعار هي التي ستحدد الكيفية التي سيتحمل بها المجتمع والسوق والدولة بشكل عادل ومتساو تكلفة تمويل استراتيجية الخروج من الأزمة.
6. العقل البنكي والتخوف الكبير من ترسيخ مجتمع الفوارق
التخوف الكبير من تعزيز دور العقل البنكي داخل عقل السلطة المركزي يتمثل في الأفكار التي يحملها العقل المالي والعقل البنكي تجاه ثنائية (الرأسمال-العمل)، وبالتالي تجاه مشكل الفوارق.
ومن المعروف عن العقل البنكي، وكما يقول بيير بورديو، أنه عقل رقمي، فالمواطنون بالنسبة له هم وضعيات مالية وأملاك وقدرة على الادخار وقدرة على الاستثمار، وبالتالي هو عقل يصنف بطبيعة تكوينه في خانة العقل الذي يعمل في صالح الرأسمال.
العمل لصالح الرأسمال هو ترسيخ لأسس مجتمع الفوارق الذي حذر منه الاقتصادي الفرنسي طوماس بيكتي، ويعود الفضل لهذا الاقتصادي في إحياء النقاش المتعلق بالفوارق داخل الفكر الاقتصادي، خصوصا وأنه من المعروف أن نقاش الفوارق داخل الفكر الاقتصادي قد تراجع منذ القرن الثامن عشر، وبالنسبة لهذا الاقتصادي فإن الأشخاص الأغنياء يحصلون على أرباح الشركات التي يسيرونها ويحصلون كذلك على كراء المساكن والمقرات التي يملكونها، كما أنهم يستفيدون من الفوائد عن مدخراتهم ومن حصص أرباح عن مساهماتهم، وفي المجمل هم يمتلكون الرأسمال الذي له مردودية، وكلما كانت مداخيل الرأسمال مرتفعة كانت المداخيل التي يحصل عليها الأغنياء مرتفعة.
في الجهة المقابلة، ودائما حسب الباحث طوماس بيكتي، يوجد الثمانون بالمئة من المجتمع الذين يعيشون من خلال مردود العمل، ومن أجل أن يرتفع مردود العمل على الاقتصاد أن يكون في وضعية نمو وازدهار، وبالتالي بالنسبة لهذا الاقتصادي، فإن ديناميكية الفوارق تبقى مرهونة بسباق السرعة بين مردود الرأسمال ومردود العمل.
في حالة ما إذا ارتفع الناتج الداخلي الخام أسرع من مداخيل الرأسمال، تستفيد الطبقات المسحوقة وأصحاب قوة العمل، مما ينتج عنه تقليص الفوارق ولحاق أصحاب العمل بأصحاب الريع. وإذا حصل العكس، يستفيد الأغنياء. أمام أزمة كوفيد وتراجع الناتج الداخلي الخام، فإن الأزمة من المتوقع أن تعزز الفوارق وتعزز كذلك من مداخيل الرأسمال، بينما سيعرف أصحاب قوة العمل تراجعا في فرص الشغل وفي تقييم مداخيل قوة العمل.
وبالتالي، فإن العقل البنكي اليوم ما زال لم يقدم الضمانات على أن الأزمة التي نعيشها لن تكون فرصة مثالية لتعزيز مجتمع الريع على حساب مجتمع الشغيلين الذي ميز القرن العشرين، خصوصا وأن القرن الواحد والعشرين يصنف باعتباره قرن الرأسمال، وبالتالي قرن ترسيخ وشرعنة الفوارق.
7. العقل البنكي والقدرة على البحث عن التمويل
في رسالة شهيرة وجهها إلى لويس السادس عشرة، يقول وزير المالية تيرغو إن نقطة الإفلاس ونقطة ارتفاع الضرائب ونقطة ارتفاع المديونية، لا يمكن تجاوزهما إلا من خلال تخفيض النفقة وبقائها مشروطة بوجود المداخيل.
الجوع والخوف والرعب الصحي والرعب الاقتصادي والخوف من السكتة القلبية، كان يتطلب تنزيل الإبداع والابتكار في كيفية تنزيل السياسات العامة المعلن عنها من طرف المؤسسة الملكية.
والسؤال الصعب المرتبط بالتنزيل كان هو السؤال المرتبط بالتمويل في ظل أزمة كوفيد والجفاف، وتخبرنا تقارير المجلس الأعلى للحسابات أن مديونية الخزينة قد انتقلت من سنة 2009 إلى سنة 2019 من 345.177 مليار درهم إلى 747.966 مليار درهم، وباللغة السياسية والاقتصادية تخبرنا تقارير المجلس الأعلى للحسابات أن حكومة عباس الفاسي وحكومة بنكيران وحكومة العثماني هي حكومات المديونية وحكومات التدبير السهل والتدبير الذي يرهن مستقبل الأجيال القادمة، والحكومات العاجزة عن ابتكار وابداع طرق للتمويل بديلة للمديونية.
لا يخفي العقل البنكي أن استراتيجيته المتعلقة بالبحث عن التمويل لا تخرج عن ثنائية الترتيب التالي، أولا المديونية، ثانيا الضريبة، ثالثا الإبداع في ابتكار مداخيل غير ضريبية، أو أولا الضريبة، ثانيا المديونية، ثالثا البحث عن مداخيل غير ضريبية، ويتناسى العقل البنكي للدولة أن القرن الواحد والعشرين هو عقل الحكامة المالية الجيدة، وبالتالي يعتمد على الثلاثية الذهبية للتمويل وهي أولا الإبداع في ابتكار طرق للتمويل بعيدا عن المديونية والضريبة، وثانيا وإن اقتضى الحال دعوة المجتمع لتحمل مسؤوليته الجماعية من خلال الضريبة، وهنا وجب التأكيد أن مفكري القرن الواحد والعشرين يعتبرون الضريبة عنفا ماديا من الأصلح عدم اللجوء إليها إلا استثنائيا، وثالثا وعند الضرورة القصوى والظروف الطارئة اللجوء إلى المديونية، لأن المديونية هي الحل السهل للتدبير الفاشل (تقرير بيبيرو الفرنسي حول المديونية العمومية)، كما أن الضريبة هي رهن للمستقبل وللأجيال القادمة ضدا على إرادتها وفي غيابها.
احتلال المديونية للمرتبة الأولى في البحث عن التمويل، تتمثل في كونها الحل السهل أولا، وثانيا أنها تمثل الحل الذي يفضله عقل السوق، وبالتالي الحل الذي يستطيع العقل البنكي تمريره بسهولة، خصوصا وأن المديونية تتحملها الأجيال القادمة، والأجيال القادمة لا صوت ولا تمثيلية لها في مراكز القرار، وبالتالي فإن المديونية تمثل الخيار الاستراتيجي الأول لمواجهة الظرفية الاقتصادية.
تبرير هذا الخيار يتم تحت يافطة “الشر من أجل الخير”، بالنسبة للعقل البنكي الشر يتمثل في اللجوء إلى المديونية والخير يتمثل في كون المديونية ستعمل على توفير الاعتمادات من أجل إنعاش الاقتصاد وتحريك النشاط الاقتصادي، وهكذا وبعد لجوء المغرب إلى سحب ثلاثة مليارات دولار من خط الائتمان المفتوح من طرف صندوق النقد الدولي بتاريخ 7 أبريل 2020، لجأ المغرب كذلك إلى السوق المالي الدولي من أجل اقتراض مليار دولار على دفعتين.
ورغم الشروط الميسرة والثقة التي يتمتع بها المغرب في السوق الدولية، إلا أن القرض يبقى قرضا، وبالتالي يبقى شرا، لهذا فإن العقل البنكي مطالب كذلك بالتفكير في حلول بديلة والإبداع والابتكار في إيجاد مصادر التمويل.
غياب العقل المعارض والمشروع السياسي البديل، يجعل تنزيل الاستراتيجية الملكية للخروج من الأزمة تحت رحمة العقل الاقتصادي ورحمة العقل المالي والعقل البنكي، ومن المعروف أن هذه العقول تشتغل وفق استراتيجية “الحلول المقبولة اقتصاديا”، وترفع بالتالي الفيتو ضد كل الحلول التي تعتبرها “ضد الاقتصاد”.
البحث عن مصادر التمويل لصالح الاقتصاد يدفع العقل الاقتصادي والمالي والبنكي إلى ترجيح كفة المديونية على كفة الضريبة، لأن الضريبة في نظر العقل البنكي وعقل السوق هي في طبيعتها ضد الاقتصاد، الشعار الشهير “الضريبة تقتل الضريبة”، وأن الضريبة هي اقتطاع من الثروة المنتجة من طرف الأنشطة التجارية، وبالتالي فإن الضريبة تقلص الثروة المنتجة، كما أن العولمة فرضت على جميع الدول الدخول في عالم المنافسة من أجل جلب المستثمرين والمبدعين، والدول التي تفرض ضرائب مرتفعة بالمقارنة مع باقي الدول تجد نفسها مهددة بفقدان تمركز مجموعة من المؤسسات ومهددة بهروب العقول المبدعة.
ورغم أن المجلس الأعلى للحسابات في تقريره حول تنفيذ ميزانية 2019، ألح على ضرورة الاستمرار في توسيع الوعاء الضريبي، ونبه الحكومة إلى ضرورة الابتكار في طرق تطوير المداخيل غير الضريبية، وخصوصا مداخيل المؤسسات والشركات العامة ومداخيل الأملاك المخزنية، إلا أن اللجوء إلى الحلول السهلة يبقى الخيار المفضل بالمغرب.
لهذا، انتظر المتتبعون الحلول التي سيعتمدها العقل البنكي لتنزيل الاستراتيجية الملكية للخروج من الأزمة، خصوصا وأن استراتيجية العقل البنكي تبقى مشروطة بالموافقة والمساندة التي سيمنحها عقل السوق لهذه الاستراتيجية، لم يتأخر إعلان رأي عقل السوق فيما يتعلق بخيار اللجوء إلى الضريبة. وهكذا وبعد أن أعلن العقل البنكي على أن تعميم التغطية الصحية الذي من المفروض أن يمتد من 2021 إلى 2025، سيستند في تمويله إلى إصلاح ضريبي، خرج عقل السوق من خلال الكتابات التي تنشر في المجلات والدوريات المرتبطة بعالم المال والأعمال، ليعبر عن معارضته للجوء إلى الضريبة لتمويل تعميم التغطية الصحية، واعتبر ذلك كمن يرتكب خطأ من خلال فكرة جيدة، هذا الخطأ يتمثل في التأكيد على أن الضغط الضريبي هو أصلا مرتفع بالمغرب، وبالتالي أي ضريبة جديدة تعني استهلاكا أقل، إنتاجا أقل، مداخيل أقل، ضريبة أقل.
وبالتالي يقترح عقل السوق الحل السهل للفكرة الجيدة في نظره، وهو اللجوء إلى الميزانية المخصصة لدعم المواد الأساسية، أي اللجوء إلى ميزانية صندوق المقاصة، وبالتالي فإن هذا النوع من التمويل يمكن أن يوفر للدولة ما يقارب 13 مليار درهم سنويا-إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن مصاريف صندوق المقاصة في النصف الأول من سنة 2020 ترتفع إلى 34.6 مليار درهم، وبالتالي فالدعم الفعلي السنوي لهذه السنة قد يصل إلى ما يقارب 13 مليار درهم-وبالتالي يتضح أن عقل السوق يقترح كبديل للضريبة في تمويل تعميم التغطية الصحية التخلص من صندوق المقاصة بكل ما يعنيه ذلك من خطر اجتماعي في غياب حلول بديلة تستهدف وقوف الدولة إلى جانب من يستحقون فعليا دعم صندوق المقاصة.
لم يكتف عقل السوق باقتراح اللجوء إلى التخلص من صندوق المقاصة بل اقترح كذلك تطبيق التجربة النيوزيلاندية في مواجهة أزمة كوفيد، حيث عملت هذه الدولة على تقليص احتياطات العملة الصعبة لدى البنك المركزي التي كانت تغطي سبعة أشهر من الواردات إلى مستوى تغطية ثلاثة أشهر من الواردات.
من خلال الدعوة إلى تطبيق التجربة النيوزيلاندية كان عقل السوق يدعو إلى اللجوء استثنائيا إلى خيار تقليص الحد الأدنى من احتياطات العملة الصعبة من ثلاثة أشهر إلى شهرين أو أقل، لكن والي بنك المغرب كان واضحا تجاه هذا الخيار من خلال التصريحات التي أطلقها (تصريح لوكالة الأناضول) وأكد من خلالها أن استراتيجية المغرب لمواجهة كوفيد تعتمد على تعزيز احتياطي النقد الأجنبي لامتلاك القدرة على إدارة الأزمة.
وفي نظر عقل السوق، فإن هذا التقليص سيمكن المغرب من الاستفادة والتصرف في ما يقارب 58 مليار درهم (من خلال ضخها في الاقتصاد وتمويل الاستراتيجية الملكية لمواجهة الأزمة) إذا ما اعتمدنا تحديد الاستيراد في أربعة أشهر، كما سيمكننا من الاستفادة من مبلغ 116 مليار درهم إذا ما تم تحديد الاستيراد في ثلاثة أشهر (أخذا بعين الاعتبار أن احتياطي العملة الصعبة في المغرب بلغ إلى حدود 19 غشت 2020، مبلغ 294.3 مليار درهم، أي ما يوازي خمسة أشهر من الواردات من السلع والخدمات).
هذا المبلغ يمكن أن يكون الأساس لتمويل صندوق التضامن الاجتماعي، هذا الحل الراديكالي الظرفي يتعامل مع الأزمة كأنها انتهت وكأننا في مرحلة مواجهة الآثار فقط، بينما نحن ما زلنا في مواجهة الشق المتعلق بالمعلومات التي نعرف أننا نعرفها عن الأزمة (مواجهة معرفة المعروف) وما زلنا لم ننتقل إلى مواجهة القضايا التي نعرف أننا لا نعرفها عن الأزمة والقضايا التي لا نعرف أننا لا نعرفها عن الأزمة.
وهنا نذكر بما قاله دونالد رامسفيلد حول المعلومات التي تمتلكها الإدارة الأمريكية حول العراق “هناك معرفة المعروف، وهي الأشياء التي نعرف أننا نعرفها، وهناك أشياء نعرف أننا لا نعرفها، وهناك أشياء لا نعرف أننا لا نعرفها”، وبالتالي يتضح أن الحلول التي يقترحها جزء من عقل السوق هي حلول حافة الهاوية وحلول المدى القصير وحلول الذي يريد أن يستفيد من الأزمة ويغادر المركب.
التنزيل الأمثل للاستراتيجية الملكية للخروج من الأزمة كان يتمثل في اعتماد الثلاثية من خلال الترتيب التالي: الإبداع في البحث عن التمويلات، الضريبة، المديونية. وهنا وجب الاعتراف بأن العقل البنكي كان قد ابتكر ما يطلق عليه التمويلات المبتكرة. التمويلات المبتكرة هو الحل الأمثل في نظر العقل البنكي للحفاظ على “ريتم” تصاعدي من الاستثمارات العمومية، خصوصا الاستثمارات المتعلقة بالبنية التحتية، ميكانيزم التمويلات المبتكرة يتلخص في فكرة بسيطة تعتمد على تحويل الأصول الثابتة التي كانت موضوع استثمارات سابقا، والتي دخلت إلى الخدمة في الوقت الحالي، من خلال العمل على منحها إلى مستثمرين مؤسساتيين، حيث يعمل هؤلاء المستثمرون على تحويل ملكية الأصول إليهم بينما تعمل الدولة على تأدية واجب كراء هذه الأصول (مداخيل هذا النوع من التمويلات من الموقع أن تصل إلى 14م درهم في ميزانية 2021، حسب تصريح وزير الاقتصاد والمالية). ووجب الاعتراف بأن هذا النوع من التمويلات المبتكرة من الممكن أن يمثل حلا استثنائيا (إذا ما تم تقييم الأملاك تقييما بثمن السوق)، ولكن يجب تعزيزه كذلك من خلال ابتكارات أخرى من المفروض أن يبدع فيها العقل البنكي وإلا لماذا استفاد من رفع أسهمه في السوق المتعلق باتخاذ القرار بالمغرب؟ أن لم يكن من أجل الإبداع في البحث عن التمويل؟
ورغم أن المجلس الأعلى للحسابات لم يكن له نفس رأي العقل المالي للمملكة في اعتبار العملية ابتكارا تمويليا بل اعتبرا الأمر يتعلق فقط بانتقال الملكية، إلا أنه وجب تصنيف هذا الاختلاف في إطار الصراع المؤسساتي على مستوى ابتكار واقتراح الحلول بما يعزز موقع كل مؤسسة وكل رأسمال على مستوى التراتبية في سلم منظومة اتخاذ القرار.
ورغم الاختلاف حول تسمية هذه العملية، فإنها عملت على البحث عن طرق جديدة للتمويل، خصوصا إذا ما تم الانفتاح على القطاع الخاص بدل الاقتصار على المستثمرين المؤسساتيين. وهنا على الجميع أن يلاحظ أن الطبقة السياسية كانت بعيدة عن مستوى هذا النقاش التقني، وأن وحدها المؤسسات المتخصصة كانت في مستوى مواكبة الحدث، مما يوضح ما سبق وأكدنا عليه من أن النقاش حول القضايا الأساسية للبلد صار يتحول مع الوقت ليصير حكرا على الدوائر المغلقة لنخب المؤسسات، وهي الملاحظة المهمة التي خلصت إليها المحكمة الدستورية الألمانية، عندما أكدت أن تدبير الشأن العام صار يتحول بهدوء وبسلاسة نحو تكنوقراط المالية ويسحب من عالم السياسة، رغم أن التدبير العمومي هو من صلب اختصاص السياسي.
نجاح استراتيجية الصرف في مواجهة الجوع والخوف والرعب الصحي والرعب الاقتصادي دون الاصطدام بالحائط ودون مواجهة السكتة القلبية والإفلاس، يبقى مرهونا ومرتبطا بالإبداع الواسع في ابتكار طرق للتمويل سليمة وواضحة ولا تقودنا إلى رهن مستقبل المغرب ولا تقودنا إلى استعمال العنف المادي على المجتمع من خلال المزيد من الضرائب.
الخلاصة:
التركيز على استراتيجية الصرف هو اقتناع من طرف المجتمع الدولي بأن المال هو الذي سيحدث الفارق، وبالتالي يتجند الكل من أجل جعل استراتيجية الصرف الجيد والسريع والمركز هي الاستراتيجية والخيار الوحيد القادر على إعادة تأهيل الدول للعودة إلى السكة الطبيعية والعادية، ولكن الصرف غير الجيد وغير المركز وغير المحسوب يمكن أن ينقل بلدنا من الأزمة الاقتصادية إلى أزمة مالية من خلال الاستمرار في تمويل الإقلاع الاقتصادي والانزلاق بالتالي من استراتيجية التنشيط الاقتصادي إلى استراتيجية رهن المستقبل.
إذا كان صاحب جائزة نوبل في الاقتصاد بول كروغمان قد وجه ثلاثة انتقادات للاقتصاديين والماليين منذ 2007، أولا لم يستطيعوا توقع مجيء الأزمة، وثانيا عندما وقعت الأزمة لم يستطيعوا توقع حجمها وآثارها، وثالثا كانوا عاجزين عن تقديم نصائح مفيدة لما يجب فعله بعد اندلاع الأزمة، ولكن الأزمة الاقتصادية التي تواكب الأزمة الصحية المعروفة بكوفيد19 يحاول من خلالها الاقتصاديون والماليون تحسين صورتهم وموقعهم من خلال النجاح في تقديم النصائح والحلول، فهل ينجحون؟ هذا ما سيكشف عنه المستقبل.
مواجهة أزمة كوفيد19 من خلال استراتيجية الصرف وتنشيط الدورة الاقتصادية، من خلال الاعتماد على العقل البنكي، تتطلب من أجل النجاح تعميم سياسة الابتعاد عن سياسة خوصصة الأرباح وتأميم الخسائر، وبالتالي التركيز على من استفاد ومن خسر، بدل تعميم الدعم، تحت الشعار المركزي للقرن الواحد والعشرين المتمثل في “القيام بكل ما هو اقتصاديا صحيح” بعد أن كان القرن العشرون قد انتصر لشعار “القيام بكل ما هو سياسيا صحيح”، بينما الحل الجيد يتميز بالجمع بين الشعارين، أي “القيام بما هو سياسيا واقتصاديا جيد وصحيح”.
ترسيخ شعار القيام بما هو جيد اقتصاديا وسياسيا، يحتاج إلى صراع الأفكار وصراع الحلول، وحيث إن صراع الأفكار وصراع الحلول لا يمكن أن يترسخ إلا من خلال حياة سياسية سليمة، وحيث إن الحقل السياسي-أغلبية ومعارضة -صار عاجزا عن تقديم الحلول والرأي والرأي المضاد، فإن العقل المركزي واقتناعا منه بأن التفوق في القرن الواحد والعشرين والسيطرة ترسخهما النخب القادرة على شرعنة التفوق من خلال التبريرات العقلانية والتقنية والحسابية، وفي غياب الحقل السياسي الإداري وضعفه وعدم قدرته على التبريرات العقلانية والتقنية الفاعلة، فقد وجد العقل المركزي نفسه مضطرا لملأ الفراغ الذي تركته المعارضة السياسية من خلال شرعنة المعارضة المؤسساتية المعقلنة والتقنية من داخل مؤسسات الدولة-بنك المغرب-المجلس الأعلى للحسابات-المجلس الاقتصادي والاجتماعي-مؤسسة الوسيط -والمندوبية السامية للتخطيط. لهذا، يلاحظ المتتبع للشأن العام بالمغرب حركية كبيرة بين مؤسسات السلطة والحكامة في إنتاج الرأي والرأي المضاد، الرأي العادي والرأي الراديكالي، الرأي الشرعي والرأي العلمي.
وفي الأخير، يطرح السؤال التالي: هل يستطيع العقل البنكي والمعارضة المؤسساتية وفي غياب تام لعقل الطبقة السياسية (برلمان وحكومة وأحزاب) النجاح في تنزيل الاستراتيجية الملكية على أرض الواقع والنجاح في إخراج المغرب من عنق الزجاجة؟ ما زال من المبكر تقديم جواب بهذا الخصوص، لكن لا خيار لنا إلا الاحتماء بجدار الأمل والتفاؤل.