هشام العماري: المنازعات القضائية في ضوء القانون رقم 16ـ49 المتعلق بكراء العقارات أو المحلات المخصصة للاستعمال التجاري والصناعي والحرفي
هشام العماري عضو نادي قضاة المغرب
باحث في قانون الأعمال
تقديم:
بتاريخ 11 غشت 2016 نشر بالجريدة الرسمية عدد 6490 القانون رقم 16ـ49 المتعلق بكراء العقارات أو المحلات المخصصة للاستعمال التجاري والصناعي والحرفي الذي نسخ ظهير 24 ماي 1955 بعد عقود من انتظار المراجعة التشريعية لقانون شغل بال الباحثين القانونيين وعرف تضاربا في التفسير والتطبيق القضائي.
وينظم القانون رقم 16ـ49 شروط اكتساب الحق في الكراء التجاري وآثاره. وهو بذلك له نطاق محدد بحيث إنه ينطبق على عقارات معينة وعلى عقود معينة ولا يمتد إلى غيرها. ومع ذلك فإن لهذا القانون ارتباطات بقوانين أخرى يتقاطع معها ــ في إطار من التكامل لا الازدواجية ــ وخاصة قانون المسطرة المدنية وقانون التنظيم القضائي ومدونة التجارة وقانون نزع الملكية وغيرها….
وقد حاول القانون الجديد جهد الإمكان تفادي سلبيات القانون القديم بتبنيه مبادئ توجيهية واضحة تهدف إلى حماية الأمن التعاقدي وتوسيع نطاق الاستفادة وتبسيط مساطر التقاضي والدفع نحو تشجيع مالكي الأصول التجارية على التصريح الضريبي وعدم إيقاف النشاط التجاري وحمايتهم من تعسف مالكي الرقبة. وفي كل ذلك حاول المشرع أن يستفيد من الحلول التي ابتكرها الاجتهاد القضائي لتجاوز نقص النصوص القانونية أو غموضها أو وضع حد لتضارب العمل القضائي تحقيقا لأهداف الأمن القانوني والقضائي.
فإلى أي حد توفق المشرع من خلال القانون رقم 16ـ49 في توفير مساطر قضائية وحماية قضائية فعالة لضمان حقوق الأشخاص المخاطبين به؟
سنحاول عرض النقط الملامسة لهذه الإشكالية من خلال التصميم التالي:
- المبحث الأول: مستجدات الحماية القضائية على مستوى الاختصاص والمسطرة.
- المبحث الثاني: مستجدات الحماية القضائية على مستوى الموضوع.
المبحث الأول: مستجدات الحماية القضائية على مستوى الاختصاص والمسطرة.
نتناول في هذا المبحث بصفة خاصة الاختصاص النوعي للبت في القضايا المتصلة بقانون 16ـ49 وكذا الاختصاصات الجديدة المنوطة بالقضاء الرئاسي ــ مطلب أول ــ وخصوصيات المساطر الناتجة عن تطبيق هذا القانون ــ مطلب ثان ــ.
المطلب الأول: الاختصاص النوعي واختصاص القضاء الرئاسي.
الفقرة الأولى: الاختصاص النوعي.
المبدأ: اختصاص المحكمة التجارية.
نصت المادة 35 من القانون الجديد على أنه تختص المحاكم التجارية بالنظر في النزاعات المتعلقة بتطبيق هذا القانون، غير أنه ينعقد الاختصاص للمحاكم الابتدائية طبقا للقانون المتعلق بالتنظيم القضائي.
ويقصد بالنزاعات المتعلقة بتطبيق القانون الجديد كل النزاعات التي تندرج ضمن أحكامه أي تدخل في نطاق تطبيقه. وبصفة خاصة كل النزاعات الناشئة عن اكتساب الحق في الكراء من قبيل دعوى المصادقة على الإنذار بالإفراغ أو دعوى التعويض عن الإفراغ. أما النزاعات الأخرى الخاضعة للقواعد العامة كأداء الكراء أو مراجعة السومةالكرائية فالأصل فيها ان الاختصاص ينعقد للمحكمة الابتدائية ذات الولاية العامة.
الاستثناء: اختصاص المحكمة الابتدائية ذات الولاية العامة.
يلاحظ أن المادة 35 أعلاه وإن كانت قد أسندت اختصاص البت في النزاعات الناتجة عن تطبيق القانون رقم 16ـ49 للمحاكم التجارية إلا أنها تركت الباب مفتوحا لإسناد نفس الاختصاص للمحاكم الابتدائية. فهل هو إقرار من المشرع على ازدواجية الاختصاص النوعي؟ أم أن المحاكم الابتدائية ستكون مختصة للنظر في نزاعات القانون الجديد بصفة احتياطية؟ عموما يجب أن ننتظر صدور قانون جديد للتنظيم القضائي فهو الوحيد الذي يمكن أن يحسم في الموضوع. ومع ذلك فإن مسألة الإحالة على قانون لم يصدر بعد فيه ما فيه من علامات الاستفهام لأنه قد يعدل المادة 35 المذكورة كلية خاصة إذا ما أسند الاختصاص صراحة وحصرا إلى المحاكم الابتدائية مما سيطرح إشكالية إحالة الملفات الرائجة أمام المحاكم التجارية إلى المحاكم الابتدائية، علما بأن موضوع الاختصاص النوعي يتأرجح بين الاعتراف بصفة النظام العام ونفيها. ــ مقارنة المادتين 16 و17 ق م م بالمادة 13 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية ــ.
والغالب أن المشرع يتوجه نحو الإقرار بازدواجية الاختصاص النوعي في القضايا التجارية تحقيقا لمفهوم تقريب القضاء من المتقاضين من جهة وتخفيفا للعبء على المحاكم التجارية التي يتوقع أن يحتفظ بها في الأقطاب الاقتصادية فقط.
الفقرة الثانية: اختصاص القضاء الرئاسي:ــ توسيع اختصاصات رئيس المحكمةــ
أولا:البت في دعوى إفراغ المحلات الآيلة للسقوط وتحديد تعويض احتياطي كامل م13.
نصت الفقرة الأولى من المادة 13 على أنه: مع مراعاة التشريع المتعلق بالمباني الآيلة للسقوط وتنظيم عمليات التجديد الحضري يمكن للمكري المطالبة بالإفراغ إذا كان المحل لآيلا للسقوط.
ومنحت الفقرة الأخيرة من نفس المادة لرئيس المحكمة بصفته قاضيا للأمور المستعجلة، بصرف النظر عن المقتضيات المخالفة، بالبت في دعوى الإفراغ وبتحديد تعويض احتياطي كامل وفق مقتضيات م 7، بطلب من المكتري يستحقه في حالة حرمانه من حق الرجوع.
ثانيا:البت في دعوى إفراغ المحل للتوسعة أو التعلية وتحديد تعويض جزئي أو تعويض احتياطي كامل في حالة الحرمان من حق الرجوع م17.
نصت المادة 17 على أنه: يختص رئيس المحكمة في الطلب الرامي إلى الإفراغ وتحديد قيمة التعويض المستحق طيلة مدة الإفراغ، كما يبت في طلب تمديد مدة الإفراغ وتحديد التعويض المستحق عن ذلك. كما يختص بتحديد تعويض احتياطي كامل وفق مقتضيات المادة 7 أعلاه بطلب من المكتري، يستحقه في حالة حرمانه من حق الرجوع.
ثالثا: الإذن بممارسة أنشطة جديدة مكملة أو مرتبطة بالنشاط الأصلي م22.
نصت المادة 22 على أنه: يمكن السماح للمكتري بممارسة نشاط أو أنشطة مكملة أو مرتبطة بالنشاط الأصلي متى كانت هذه الأنشطة غير منافية لغرض وخصائص وموقع البناية وليس من شأنها التأثير على سلامتها. وفي هذه الحالة يجب على المكتري أن يوجه طلبه للمكري يتضمن الإشارة إلى الأنشطة التي يريد ممارستها.
وأضافت الفقرة الثانية بأنه يجب على المكري إشعار المكتري بموقفه بخصوص هذا الطلب داخل أجل شهرين من تاريخ التوصل، وإلا اعتبر موافقا على الطلب. وفي حالة الرفض يمكن للمكتري اللجوء إلى رئيس المحكمة بصفته قاضيا للأمور المستعجلة للإذن له بممارسة النشاط أو الأنشطة الجديدة.
وبطبيعة الحال فإن ممارسة نشاط مختلف عما تم الاتفاق عليه في العقد يحتاج إلى إذن كتابي من المكري حسب الفقرة الأخيرة من نفس المادة. وهو السبب الذي يخول إنهاد عقد الكراء والإفراغ دون تعويض طبقا للمادة 8 و26 من نفس القانون.
رابعا:الإذن بفتح محل مهجور م 32.
تنص الفقرة الأولى من المادة 32 على أنه: يمكن للمكري في حالة توقف المكتري عن أداء الكراء وهجره للمحل المكترى إلى وجهة مجهولة لمدة ستة أشهر أن يطلب من رئيس المحكمة بصفته قاضيا للأمور المستعجلة إصدار أمر بفتح المحل والإذن له باسترجاع حيازته.
غير أن المشرع اشترط الإدلاء بعقد الكراء من أجل سلوك هذه المسطرة والحال أنه يمكن أن يكون العقد شفويا قد أبرم قبل دخول القانون الجديد حيز التنفيذ كما يمكن أن تكون العلاقة الكرائية ثابتة من خلال حكم قضائي أو محضر عرض وإيداع صادر عن المكتري. فكان على المشرع ألا يربط الاستفادة من هذه المسطرة بالإدلاء بعقد الكراء.
وتتفرع عن نفس الحالة إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه إذا ظهر المكتري بعد تنفيذ الأمر بفتح المحل وقبل مرور أجل ستة أشهر من ذلك بحيث يمكن للمكتري أن يقدم طلبا إلى رئيس المحكمة بصفته قاضيا للأمور المستعجلة شريطة إدلائه بما يفيد أداء ما بذمته من كراء.
خامسا: معاينة الشرط الفاسخ في حالة عدم أداء الكراء م 33.
يقتضي إعمال هذه الحالة وجود شرط اتفاقي مكتوب في عقد الكراء من جهة، وثبوت امتناع المكتري عن أداء كراء مدة ثلاثة أشهر من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة انصرام مدة لا تقل عن خمسة عشرة يوما من تاريخ التوصل بالإنذار بالأداء المذكور. وإذا كان ينتج عن تدخل قاضي الأمور المستعجلة في هذه الحالة إرجاع العقار أو المحل لمالكه المكري فإنه يكون بصفة ضمنية قد صرح بفسخ عقد الكراء وإنهائه، لأن الفسخ نتيجة طبيعية لمعاينة الشرط الفاسخ. فهل يعتبر تدخل قاضي المستعجلات في هذه الحالة فصل في جوهر الحق وأصله متجاوزا بذلك اختصاصه الأصلي المؤطر بمقتضيات الفصل 152 ق م م؟ أم أن اختصاص قاضي المستعجلات مقيد بعدم البت في الدفوعات الجدية المثارة بخصوص هذه الحالة من قبيل تفسير الشرط الفاسخ إذا كان غامضا أو المنازعة في تحقق حالة التماطل؟
المطلب الثاني: خصوصيات المسطرة:
تتميز المساطر في القانون الجديد بأنها تخلصت من التعقيد الذي كانت تعرفه في إطار ظهير 24 ماي 1955. هكذا حاول القانون الجديد أن يبلور خصائص جديدة في المساطر التي تضمنها تميزت عموما بمرونتها، كما تضمنت مقتضيات جديدة بخصوص طرق التبليغ والآجالات.
الفقرة الأولى: مرونة المساطرو وضوحها.
أتى القانون الجديد ليعيد التوازن المفقود بين المكري والمكتري وليملأ فراغات كبيرة ويوضح مقتضيات غامضة تركها ظهير 24 ماي 1955. ومن بين تجليات مرونة المساطر ووضوحها في إطار القانون الجديد نذكر بصفة خاصة:
أولا: إلزام المكري بسلوك المسطرة.
كان المكتري في ظل ظهير 24 ماي 1955 هو الملزم بسلوك مسطرة الصلح وبالمنازعة في الإنذار بالإفراغ تحت طائلة اعتباره محتلا بدون سند، بخلاف الوضع في القانون الحالي الذي أصبح فيه المكري مضطرا بعد توجيه الإنذار بالإفراغ بتفعيله من خلال رفع دعوى المصادقة على الإنذار وإيداع التعويض المحكوم به.
وإذا كان المكري في القانون السابق لم يكن ملزما بسلوك دعوى الإفراغ داخل أجل معين على اعتبار أن الفصل 33 كان يخاطب المكتري دون المكري فإن القانون الجديد ألزم المكري بسلوك دعوى المصادقة على الإنذار بالإفراغ داخل أجل 6 أشهر من تاريخ انتهاء الأجل المضروب في الإنذار تحت طائلة سقوط الحق ــ م 26 ــ
ثانيا: إمكانية تمديد آجال بعض الالتزامات.
وهو ما نصت عليه المادة 16 المتعلقة بتمديد أجل الإفراغ المؤقت من أجل توسعة أو تعلية البناية بحيث يجب ألا يتجاوز التمديد في جميع الأحوال سنة بطلب من المكري. وهو الطلب الذي يقدم إلى رئيس المحكمة حسب المادة 17. ــ علما أن المشرع لم يربط اختصاص الرئيس بصفته قاضيا للأمور المستعجلة ــ.
ثالثا: الإحالة على مساطر قانونية واضحة:
ونذكر على سبيل المثال الحالات التالية:
1ـ وجوب إشعار المكري للمكتري بأنه يضع المحل رهن إشارته في حالة إعادة بناء المحل، داخل أجل شهر من توصله بشهادة المطابقة المنصوص عليها في المادة 55 من قانون التعمير رقم 90ـ12 والمسلمة له من طرف الجهة المختصة. انظر المادة 11
2ـ إحالة القانون بشكل صريح على التشريع المتعلق بالمباني الآيلة للسقوط وتنظيم عمليات التجديد الحضري ـالمادة 13 ـ. بمعنى أن اتباع مقتضيات قانون الكراء التجاري فيما يخص إفراغ المكتري لكون المحل آيل للسقوط لا يمنع المكري من الاستفادة من مقتضيات التشريع المتعلق بالمباني الآيلة للسقوط. كما لا يغل يد السلطات الإدارية المختصة في إفراغ المكتري حفاظا على السكينة العامة والصحة العامة.
الفقرة الثانية: طرق التبليغ.
نصت المادة 34 على أنه: يجب أن تتم الإنذارات والإشعارات وغيرها من الإجراءات المنجزة في إطار هذا القانون بواسطة مفوض قضائي أو طبق الإجراءات المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية. ويستنتج من هذه الصيغة أن المشرع:
أولا: جعل التبليغ بواسطة المفوض القضائي هو الأصل.
ثانيا: أتاح إمكانية التبليغ بواسطة الطرق الأخرى المنصوص عليها في ق م م.
وهذا لا يعني أن المشرع وضع ترتيبا وجوبيا لطرق التبليغ، وإنما كرس فقط الواقع العملي الموجود الذي أبان على أن المرتفقين غالبا ما يفضلون استعمال طريق التبليغ عن طريق المفوض القضائي.
وأعتقد أن المشرع أجاب بشكل غير مباشر عن مسألة قانونية التبليغ التلقائي الذي يقوم به المفوض القضائي دون الحصول على إذن أو أمر من رئيس المحكمة ما دام أنه لم يشترط وجوه هذا الإذن أو الأمر على خلاف توجه بعض محاكم الموضوع.
ثالثا: اعتبر صحة تبليغ الإنذار بالإفراغ في حالة كون المحل مغلقا باستمرار، ابتداء من تاريخ تحرير المحضر ــ البند الرابع من المادة 26 ــ، ليفتح الباب للمكري من أجل رفع دعوى المصادقة على الإنذار خلافا للقواعد العامة التي تستوجب سلوك مسطرة القيم. فهل يفهم من ذلك أن المحكمة بدورها معفاة من سلوك مسطرة القيم أثناء تسييرها لدعوى المصادقة على الإنذار؟
الفقرة الثالثة: الآجال.
أولا: تحديد الآجال بدقة.
وضع القانون رقم 49ـ16 آجالا دقيقة وواضحة لمباشرة الإجراءات القضائية. فبالنسبة لدعوى المصادقة على الإنذار بالإفراغ حدد أجل رفعها في 6 أشهر من تاريخ انتهاء الأجل المضروب في الإنذار. وبالنسبة لدعوى التعويض التي يرفعها المكتري حدد المشرع أجلها في ستة أشهر بعد تبليغ الحكم النهائي القاضي بالإفراغ ــ البند 3 من المادة 27 ــ.إلا أنه فيما يخص المطالبة بالتعويض الناتج عن الحرمان من حق الرجوع نسجل بأن المشرع لم يحدد أجلا خاصا لذلك ــ انظر البند الثاني من المادة 31 ــ.
وفيما يخص ممارسة حق الأفضلية من طرف المكري في حالة قيام المكتري بتفويت الأصل التجاري فإن المشرع قيد هذا الحق بوجوب ممارسته داخل أجل 30 يوما من تبليغه بهذا التفويت.
ثانيا: جعل جميع الآجال كاملة.
نصت المادة 36 على أن جميع الآجالات المنصوص عليها في هذا القانون كاملة. أي أنه لا يحتسب ضمنها اليوم الأول والأخير وإذا صادف اليوم الأخير عطلة فإن الأجل يمدد إلى أول يوم عمل موال. ويفهم من ذلك أنها تشمل جميع الآجالات سواء ما تعلق منها بالإجراءات أو بالدعاوى. وهو ما ينسجم مع ما تضمنته القواعد العامة المكرسة في قانون المسطرة المدنية ولاسيما المادة 512 منه. وفي ذلك تيسير على المتقاضين وضمانة أكثر تحول دون سقوط الآجال بفعل العطل وغيرها.
المبحث الثاني: مستجدات الحماية القضائية على مستوى الموضوع.
سنتناول هذه المستجدات من خلال مطلبين اثنين، على مستوى دعوى المصادقة على الإنذار ـ مطلب أول ـ وعلى مستوى حق المكتري في المنازعة والتعويض ـ مطلب ثان ـ.
المطلب الأول: حق المكري في إنهاء العقد و فسخه.
شأنه شأن ظهير 24 ماي 1955 فإن القانون رقم 16ـ49 كان حريصا على الاعتراف بحق صاحب الملكية العقارية مكري المحل التجاري في أن يسترجع محله لأي سبب كان. فإذا كان هذا السبب مبنيا على صدور خطأ من المكتري أو لا يد للمكري فيه أعفي هذا الأخير من أداء التعويض. وإذا كان هذا السبب يرجع إلى محض إرادة المكري فإنه ملزم بأداء تعويض في مقابل استرجاع محله فضلا عن المقتضيات المتعلقة باسترجاع المحل من أجل الهدم وإعادة البناء أو لتعليته أو لأجل السكن التي أفرد لها المشرع أحكاما خاصة.
الفقرة الأولى: إنهاء عقد الكراء دون تعويض.
يحق للمكري إنهاء عقد الكراء حتى دون انتهاء مدته الأصلية إذا صدر عن المكتريخطأ يستوجب فسخ العقد أو إذا حدث طارئ أُثر على استغلال النشاط التجاري ولو بدون خطأ من المكتري. وهو ما حدده القانون رقم 16ـ49 في المادة الثامنة في سبع حالات:
أولا: التماطل في أداء الوجيبات الكرائية.
بما أن الكراء مطلوب لا محمول فإن المكتري لا يعتبر في حالة مطل إلا إذا امتنع عن أداء وجيبات كرائية لا تقل عن مدة ثلاثة أشهر بعد انصرام أجل لا يقل عن خمسة عشر يوما تلي توصله بالإنذار بالأداء. ويعتبر الأداء صحيحا إذا توصل المكري بالكراء المستحق المطلوب بإحدى وسائل الوفاء المقبولة وغالبا يقع في هذه الحالةبالإيداع داخل الأجل المضروب. على أنه قد يقع أن يتم العرض القانوني داخل الأجل المضروب وتتأخر إجراءات الإيداع القانوني إلى ما بعد انتهاء الأجل المضروب في الإنذار. هذه الحالة عالجتها محكمة النقض في إطار تطبيق ظهير 24 ماي 1955 مؤكدة أن العبرة بتاريخ العرض العيني بغض النظر عن تاريخ الإيداع الفعلي ما دام أن إجراءات العرض والإيداع مكملة لبعضها. ويظهر أن هذا الاجتهاد القضائي لا زال صالحا في ظل القانون رقم 16ـ49 لكونه لم ينص على أي مقتضى مخالف لتوجه محكمة النقض.
ثانيا: إحداث تغييرات بالبناية.
يشترط في هذه التغييرات أن تكون دون موافقة المكري من جهة أولى وأن تضر بالبناية من جهة ثانية وتؤثر على سلامة البناء أو ترفع من تحملاته من جهة ثالثة. ويمكن للمكتري أن يتدارك الأمر بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه ضمن الشروط التي حددتها المادة الثامنة. ويبدو واضحا أن المشرع في القانون رقم 16ـ49 كان متشددا مع المكري ومتساهلا مع المكتري إذ اعتبر ضمنيا أن التغييرات غير الجوهرية ليس من شأنها أن تكون سببا لإنهاء عقد الكراء دون تعويض. كما منحه فرصة لتدارك إنهاء العقد إن عبر عن رغبته في إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه ضمن شروط معينة.
ثالثا: تغيير النشاط الأصلي.
يشترط في هذا التغيير أن يقع دون موافقة المكري من جهة وأن يكون النشاط الجديد مخالفا للنشاط الأصلي المحدد في عقد الكراء من جهة ثانية. على أن قيام المكتري بأنشطة تكميلية أو مرتبطة لا يدخل ضمن هذه الحالة وإنما يخضع لمقتضيات خاصة فصلتها المادة 22 من نفس القانون.
وعلى صعيد الممارسة قد يصادف أن يقوم المكتري بتغيير النشاط التجاري الأصلي وأن يزاول النشاط الجديد لسنوات دون أن يحرك المكري ساكنا. أعتقد أنه في هذه الحالة تكون لقضاء الموضوع سلطة تقديرية في استنتاج موافقة المكري الضمنية على تغيير النشاط الأصلي طبقا لقاعدة السكوت في معرض الحاجة إلى بيان بيانوطبقا لمبدأ عدم التعسف في استعمال الحق وحماية أيضا للأوضاع المستقرة الظاهرة ولو كانت مخالفة لما اتفق عليه ابتداء ما دام أن حق المكتري لا يمكن أن يظل معلقا إلى ما لا نهاية أو متوقفا على محض إرادة المكري.
رابعا: أيلولة المحل للسقوط.
إذا كان المحل آيلا للسقوط خاصة بسبب القدم أمكن للمكري استرجاعه دون أداء أي تعويض. على أنه إذا ثبت أن السبب في جعل المحل آيل للسقوط هو إهمال المكري وامتناعه عن القيام بأعمال الصيانة الضرورية التي يفرضها القانون أو الاتفاق استحق المكتري تعويضا كاملا طبقا للمادة السابعة شريطة إثباته توجيه إنذار بذلك إلى المكري.
خامسا: هلاك المحل موضوع الكراء.
إذا هلكت العين المكتراة بفعل منسوب إلى المكتري أو نتيجة القوة القاهرة أو الحدث الفجائي أمكن للمكري استرجاع محله دون أداء التعويض. ولا يمكن للمكتري أن يطالب بحقه في القيام ببناء المحل من جديد وإنما يعتبر عقد الكراء منفسخا بهلاك العين المكتراة طبقا لمقتضيات الفصل 659 من ق ل ع. في حين إذا ثبت أن سبب هلاك البناية راجع إلى خطأ المكري فإنه لا يمكن إفراغ المكتري من محله إلا بأداء تعويض كامل له.
سادسا: كراء المحل من الباطن.
لا يمكن أن يعتبر قيام المكتري بكراء المحل من الباطن سببا لإفراغه دون تعويض إلا إذا اشترط عليه صراحة في عقد الكراء منعه من القيام بهذا التصرف. وهذا المقتضى يخالف تماما ما كان عليه الوضع في ظهير 24 ماي 1955 الذي كان يمنع المكتري من القيام بالكراء من الباطن.
سابعا: فقدان الأصل التجاري الناتج عن إغلاق المحل.
هذا المقتضى كذلك يعتبر من مستجدات القانون رقم 16ـ49 الذي كرس إلى حد ما اجتهاد محكمة النقض الصادر في إطار ظهير 24 ماي 1955. وقد كان القانون الجديد صريحا في إلزام المكتري بعدم إغلاق المحل التجاري لمدة تزيد عن سنتين تحت طائلة إنهاء عقد الكراء مع حرمانه من التعويض.
ويبدو من خلال صياغة الفقرة الأخيرة من المادة الثامنة أنه يفترض في هذه الحالة قيام شرطين أساسيين:
1ــ أن يتم إغلاق المحل بفعل إرادي من المكتري. بمعنى إذا عمد المكري مثلا إلى انتزاع العقار من المكتري دون وجه حق فلا يمكنه الاستناد إلى هذا السبب ليطالب بإنهاء عقد الكراء مهما طالت مدة الإغلاق.
2ــ أن يترتب عن الإغلاق فقدان الأصل التجاري لعنصر الزبناء والسمعة التجارية. ويستنتج بمفهوم المخالفة أن فقدان العناصر الأخرى للأصل التجاري لا يعتبر سببا لإنهاء العقد إلا إذا نتج عنه فقدان عنصر الزبناء والسمعة التجارية الذي يعتبر المعيار الأساسي للقول باندثار الأصل التجاري. وتقدير مدى وجود عنصر الزبناء والسمعة التجارية من عدمه تعتبر مسألة واقع يمكن إثباتها بمختلف وسائل الإثبات. ولا يعتبر استمرار التقييد في السجل التجاري أو استمرار تسجيل العلامة التجارية بسجلات المكتب المغربي للملكية الصناعية والتجارية دليلا على استمرار وجود عنصر الزبناء والسمعة التجارية وإنما يتعين على المكتري أن يثبت فعليا عدم فقدان أصله التجاري لعنصر الزبناء والسمعة التجارية.
الفقرة الثانية: إنهاء عقد الكراء في مقابل أداء التعويض الكامل.
تفعيلا للملكية التجارية أو ما اصطلح عليه المشرع بالحق في الكراء نصت المادة 7 من القانون رقم 16ـ49 على أنه يستحق المكتري تعويضا عن إنهاء عقد الكراء مع مراعاة الاستثناءات المنصوص عليها في هذا القانون. ويعتبر باطلا كل شرط اتفاقي من شأنه حرمان المكتري من هذا التعويض.
وقد وضع القانون الجديد قاعدة عامة لتحديد هذا التعويض بجعله معادلا لما لحق المكتري من ضرر ناجم عن الإفراغ. هكذا نصت الفقرة الثالثة من المادة 7 المذكورة على أنه يشمل هذا التعويض قيمة الأصل التجاري التي تحدد انطلاقا من التصريحات الضريبية للسنوات الأربع الأخيرة بالإضافة إلى ما أنفقه المكتري من تحسينات وإصلاحات وما فقده من عناصر للأصل التجاري كما يشمل مصاريف الانتقال من المحل. غير أن هذا التقييم قابل لإثبات العكس بأن يثبت المكري أن ما لحق المكتري من ضرر يقل عن قيمة العناصر المذكورة. وغني عن البيان أن المحكمة لا يمكنها أن تقدر هذه العناصر الفنية لوحدها وإنما هي ملزمة بالاستعانة بخبرة من أجل تحديد عناصر التعويض عن الضرر الحاصل للمكتري من جراء إنهاء عقد الكراء. وهي في ذلك تملك سلطة مراقبة مدى احترام الخبير لمقتضيات الأمر التمهيدي القاضي بإجراء خبرة على ضوء العناصر المحددة في المادة 7 أعلاه.
وجدير بالذكر أنه في حالة الاتفاق بين طرفي عقد الكراء على تسلم المكري مقابلا للحق في الكراء طبقا للفقرة الثانية من المادة 4 ــ وهو ما اصطلح عليه في العرف بالساروت أو المفتاح أو الحق التجاري ــ فإن التعويض المحكوم به لا يمكن أن تقل قيمته عن المبلغ المذكور.
وفي مقابل اعتراف القانون الجديد بحق المكتري في إنهاء عقد الكراء فقد اعترف للمكتري بحقه في المنازعة في طلب إنهاء عقد الكراء وفي حقه في التعويض إن اقتضى الحال.
المطلب الثاني: حق المكتري في المنازعة في إنهاء عقد الكراء أو المطالبة بالتعويض.
يعتبر تبسيط الإجراءات شبه القضائية وكذا المساطر القضائية من بين المبادئ الناظمة لعملية تسهيل الولوج إلى العدالة. وقد تميز ظهير 24 ماي 1955 بتعقيد إجراءات تجديد وفسخ عقد الكراء التجاري بدء من توجيه الإنذار مرورا بسلوك مسطرة الصلح وانتهاء بدعوى المنازعة والتعويض أو دعوى الفسخ والإفراغ. وكان الطرف المكترييعاني كثيرا من تعقيد الإجراءات وآجالات سقوط الحق بالإضافة إلى إرغامه على اللجوء إلى القضاء بدلا من إلزام الطرف الذي له مصلحة في الإفراغ بذلك وهو المكري.
هكذا إذن كان المكتري ملزما بسلوك مسطرة الصلح أمام رئيس المحكمة المختصة داخل أجل ثلاثين يوما من توصله بالإنذار، كما كان ملزما برفع دعوى المنازعة في الإنذار أو المطالبة بالتعويض داخل أجل ثلاثين يوما من تاريخ تبليغه بمقرر فشل الصلح، كل ذلك تحت طائلة سقوط حقه واعتباره محتلا بدون سند.
على خلاف ذلك تعامل القانون الجديد بمرونة مع المكتري المواجه بالإنذار بالإفراغ بحيث ألزم المكري برفع دعوى المصادقة على الإنذارــ في حالة عدم استجابة المكتري لمضمونه ــ داخل أجل ستة أشهر من تاريخ انتهاء الأجل المحدد في الإنذار تحت طائلة السقوط حسب المستفاد من المادة 26. فإذا انصرم الأجل المذكور كان المكري ملزما بتوجيه إنذار جديد حتى يتمكن من رفع دعوى جديدة للمصادقة على الإنذار في حين يفقد الإنذار الأول كل مفعول له بخصوص إنهاء العقد.
ويفهم من خلال هذه المقتضيات أن المكتري غير ملزم برفع دعوى المنازعة في الإنذار وإنما يكتفي بالجواب والدفع ببطلان الإنذار إما لأسباب شكلية أو لأسباب موضوعية، ولا يلزم برفع الدعوى إلا إذا تعلق الأمر بطلب التعويض عن الإفراغ الذي يمكن أن يأتي في شكل طلب مقابل أثناء سريان دعوى المصادقة أو دعوى مستقلة شريطة تقديمها داخل أجل لا يتعدى ستة أشهر من تاريخ تبليغه الحكم النهائي القاضي بالإفراغ.
وبالرغم من أن القانون الجديد لم يمنع المكتري من رفع دعوى المنازعة في الإنذار إلا أن الملاحظ أن أغلب المحاكم التجارية استقرت على عدم قبول هذه الدعوى بالنظر إلى أن المكري هو الملزم برفع دعوى المصادقة على الإنذار وبالتالي فإن دعوى المنازعة في الإنذار سابقة لأوانها في الحالة التي لا يثبت فيها مباشرة المكري لدعواه الرامية إلى المصادقة على الإنذار بالإفراغ. ويبدو أن هذا التوجه يستند إلى غياب مصلحة المكتري في رفع دعوى المنازعة في إنذار لم يقم المكري بتفعيله بعد عن طريق رفع دعوى المصادقة. وحينما ترفع دعوى المصادقة على الإنذار يكون للمكتري الحق في إبداء دفوعه الرامية إلى رفض طلب المصادقة على الإنذار دونما حاجة إلى تقديم طلب مقابل رام إلى المنازعة في الإنذار بالإفراغ بحيث إذا ثبت للمحكمة تلقائيا أو بناء على الدفوع المثارة من طرف المكتريانعدام شروط صحة الإنذار بالإفراغ شكلا أو موضوعا فإنها تقضي برفض طلب المصادقة على الإنذار وإلا فإنها تستجيب لطلب المكري وتقضي بإنهاء عقد الكراء.
ولا يمكن للمحكمة أن تقضي للمكتري بالتعويض المستحق لفائدته إلا بناء على طلب هذا الأخير انسجاما مع القاعدة المقررة في الفصل 3 من ق م م ذلك أنها لا تحكم إلا بناء على طلب وفي حدود الطلب المقدم لها. ويملك المكتري أن يتقدم بطلب التعويض إما كطلب مقابل أثناء جريان دعوى المصادقة على الإنذار بالإفراغ المرفوع من طرف المكري، وإما خلال كطلب مستقل في أجل لا يتعدى ستة أشهر من تاريخ تبليغه بالحكم النهائي القاضي في مواجهته بالإفراغ طبقا لأحكام المادة 27. ولا يلزم المكتري بهذا الأجل في الحالة التي يكون فيها التعويض ناتجا عن حرمانه من حق الرجوع المخول له بمقتضى المواد 9 و13 و17 من القانون رقم 16ـ49.
ومن مستجدات القانون رقم 16ـ49 إمكانية ممارسة المكتري بشكل مسبق لدعوى تحديد التعويض الاحتياطي الكامل المستحق في حالات حرمانه من حق الرجوع المنصوص عليها في المواد 9 و13 و17 أي في حالات الإفراغ من أجل الهدم وإعادة البناء أو لتعليته أو إذا كان المحل آيلا للسقوط. وعندما تحدد المحكمة ــ أو رئيس المحكمة بحسب الحالات ــ التعويض الاحتياطي الكامل فإن تنفيذه لا يحتاج إلى رفع دعوى قضائية جديدة من أجل الحكم بأدائه وإنما يشترط فقط تقديم طلب بتنفيذه شريطة إثبات حرمانه من حق الرجوع المحكوم به سابقا وفق ما قررته المادة 31.
خاتمة:
ختاما ومن أجل تحقيق فعالية أكثر وضمان أمن قضائي يحمي الأمن القانوني والتعاقدي الذي حاول القانون الجديد تكريسه يتعين:
- تعميق الدراسة في إشكالات القانون الجديد وخاصة فيما يتعلق بالإجراءات الانتقالية ونطاق تطبيق القانون من حيث الزمن للحسم في اختيار القانون الواجب التطبيق بالنسبة للدعاوى الجارية.
- نشر الأحكام القضائية المتعلقة بالموضوع خاصة ما يتناول النقط القانونية محل نزاع للتعرف على مختلف الاتجاهات القضائية.
- العمل على عقد اجتماعات بين محاكم الاستئناف التجارية تقريبا لوجهات النظر ومساهمة في توحيد الاجتهاد القضائي في انتظار أن تعبر محكمة النقض عن مواقفها واتجاهاتها حسما لكل تباين وتناقض في العمل القضائي.