نصر الدين ايناو: أطروحة جامعية تناقش واقــع الرقمنة في المعاملات العقارية بالمغرب
نصر الدين ايناو دكتور في الحقوق
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حاولت من خلال هذه المقدمة العامة، أن أبسط أهم ما أنجزت في هذه الأطروحة من خلال الإجابة عن أربعة أسئلة أساسية هي على الشكل التالي:
- أولا: ماذا نعني بالرقمنة في المعاملات العقارية.
- ثانيا: لماذا موضوع واقع الرقمنة في المعاملات العقارية.
- ثالثا: كيف اشتغلت على هذا الموضوع.
- رابعا: ما هي أهم النتائج والخلاصات المتوصل إليها بعد دراسة الموضوع.
أولا: ماذا نعني بالرقمنة في المعاملات العقارية:
يمكن تعريف الرقمنة عموما بكونها كل استخدام لوسائل الاتصال التكنولوجية المتنوعة والمعلوميات في تيسير سبل أداء الإدارات العمومية لمختلف خدماتها بشكل إلكتروني، والتواصل مع طالبي هذه الخدمات بذات الشكل، فهي بهذا المعنى ترمي إلى تقديم الإدارة لخدماتها بطرق مبتكرة وحديثة ومختلفة عن الطرق التقليدية، وذلك باستعمال التكنولوجيات الحديثة لتمكين المرتفقين من تقديم طلباتهم للوصول إلى الخدمة المرفقية المرجوة عن طريق وسائل الاتصال الحديثة واستلامهم لها بنفس الطريقة.
ولما كان قطاع العقار يعتبر من أهم القطاعات التي تأثرت بشكل كبير بالتكنولوجيا الرقمية، بحيث غزت هذه الأخيرة مختلف أنشطته بداية من مرحلة التسويق، ومرورا بمرحلة التفاوض والتوثيق ونقل الملكية، حيث أصبح كل ذلك يتم في كثير من الدول بوسائل إلكترونية وتقنيات جديدة ومتطورة، فإن بلادنا حاولت أيضا مواكبة هذا الأمر باعتماد الرقمنة واستعمال التكنولوجيات الحديثة على مستوى مختلف إدارات الدولة ومؤسساتها ذات الصلة بالمعاملات العقارية، إذ أضحى الاعتماد على هذه الوسائل الحديثة ضرورة حتمية من أجل الانتقال من التدبير التقليدي لقطاع العقار، إلى التدبير الرقمي لها، فالعقار أصبح في ظل الرقمنة، أكثر ربحا وازدهارا وتنافسية، إذ أعادت التقنيات الحديثة التي استخدمت فيه، تشكيل ملامحه وطريقة التعامل معه، وانعكس ذلك إيجابا على تحسين إدارة الممتلكات العقارية، وتبسيط مختلف العمليات التجارية المتعلقة به، وتوفير الوقت والجهد والتكاليف، وزيادة الشفافية والأمان في الصفقات العقارية.
أما المعاملات العقارية، فتتعلق بجميع التصرفات التي تنصب على العقارات كيفما كانت طبيعتها، سواء تعلقت بنقل الملكية أو إنشاء الحقوق العينية الأخرى أو نقلها أو تعديلها أو إسقاطها، بالإضافة لمختلف إجراءات التحفيظ العقاري وتأسيس الرسوم العقارية، وكذا ما يتعلق بمختلف التصرفات المرتبطة بالتعمير والبناء ومختلف وثائقه ورخصه، والتي تنظمها مختلف قوانين التعمير.
وبناء عليه، فإن رقمنة المعاملات العقارية، يقصد بها كل عملية تستهدف تطبيق تكنولوجيا المعلوميات واستعمالها في كل العمليات المرتبطة بالتصرفات العقارية، بداية من تحرير العقود المنصبة عليها ومرورا بضبطها وتسجيلها وانتهاء بنقل الحق موضوعها، وسواء كانت هذه المعاملات بين أطرافها، أو بينهم وبين الإدارات والمؤسسات ذات الصلة بها، وذلك بالانتقال بهذه المعاملات من صيغتها التقليدية، إلى نموذج عمل مبتكر يتم عن بعد، ويعتمد على التقنيات الحديثة والحواسيب المرتبطة بشبكات الأنترنت.
ثانيا: لماذا موضوع واقع الرقمنة في المعاملات العقارية.
تظهر أهمية الموضوع أساسا، من خلال جمعه لمجالين حيويين وفي غاية الأهمية، يتعلق الأول بالرقمنة باعتبارها من أهم المفاهيم الحديثة المرتبطة أساسا بالإدارة والتسيير، والتي ترمي إلى استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة من أجل تعزيز الكفاءة والشفافية، وتوفير الوقت والجهد.
أما المجال الثاني فيتعلق بالعقار عموما، والمعاملات العقارية على وجه الخصوص، إذ لا يخفى ما للعقار من دور حيوي على المستوى الاجتماعي باعتباره وعاء لتوفير احتياجات الإسكان للسكان، وبالتالي حفظ السلم والاستقرار الاجتماعيين، وعلى المستوى الاقتصادي باعتبار مجالا مهما لجلب الاستثمارات المحلية الأجنبية، وبالتالي خلق فرص عمل متنوعة.
كما أن أهمية الموضوع، تتجلى أيضا في اعتباره من المواضيع الحديثة التي لم تنل بعد حقها من الدراسة والتحليل.
ثالثا: كيف اشتغلت على هذا الموضوع.
إن موضوع الرقمنة في المعاملات العقارية يثير عدة تساؤلات ترتبط أساسا بإشكالية أساسية تتمحور حول واقع هذه الرقمنة في مختلف الإجراءات والمساطر المرتبطة بالمعاملات العقارية، سواء على مستوى النص القانوني المؤطر لها، أو تنفيذها على أرض الواقع.
وهذه الإشكالية المحورية تتفرع عنها مجموعة من التساؤلات من قبيل:
-مدى تفعيل مختلف المقتضيات القانونية المتعلقة برقمنة المعاملات العقارية والتدبير الإلكتروني لها، وإلى أي حد استطاعت المكنة المتوفرة للتوثيق الإلكتروني لبعض العقود العقارية، خاصة على مستوى المساطر الإدارية المواكبة لها، المساهمة في جعل الرقمنة في المعاملات العقارية واقعا قائما، ثم آفاق هذه الرقمنة من جهة أخرى، وما هو موقع المعاملات العقارية والعقار عموما في المغرب من المفاهيم التقنية الجديدة التي أصبحت واقعا في كثير من دول العالم، كما هو الشأن مثلا بخصوص استعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال العقار، وتقنية العقود الذكية وغيرها من المفاهيم الحديثة، ثم ما أهم أوجه الحماية القانونية التي أقرها المشرع للمعاملات العقارية الرقمية، خاصة ما يتعلق منها بالمعطيات الشخصية المرتبطة بهذه المعاملات.
ثم إلى أي حد أصبحت مكنة التقاضي الإلكتروني بشأن المنازعات التي يمكن أن تثار بخصوص مختلف المعاملات التي تنصب على العقار أمرا ممكنا، خاصة في ظل غياب نصوص قانونية صريحة تؤطر هذا الموضوع.
ومن أجل محاولة الإجابة عن الإشكالية المركزية المشار لها والأسئلة المتفرعة عنها، وتأطيره وفق منهجية علمية وعملية، ارتأيت اعتماد مقاربة متعددة المناهج، حيث اعتمدت على المنهج الوصفي من خلال وصف تجليات الرقمنة في أهم المعاملات العقارية، والمنهج التحليلي والاستقرائي من خلال دراسة وتحليل مختلف النصوص القانونية التي لها ارتباط بالموضوع، وذلك على ضوء مختلف الاجتهادات الفقهية والقضائية إن توفرت، مع الاستعانة بالمنهج المقارن كلما اقتضت ضرورة البحث ذلك عن طريق محاولة إبراز أوجه التشابه والاختلاف في بعض النقط القانونية المرتبطة بالموضوع على مستوى تشريعات بعض الدول.
وقد ترتب عن اعتماد هذه المناهج البحثية، إبراز أهم الجوانب التي وُفّق فيها المشرع المغربي، وكذا تلك التي جَانَب فيها التوفيق، ورصد أهم الثغرات القانونية ومكامن الخلل والمؤاخذات التي تطال النصوص القانونية ذات الصلة.
وانطلاقا من هذا الاختيار المنهجي القائم على محاولة استنطاق النص القانوني ومقارنته بغيره من التشريعات الأخرى وإبداء الرأي بخصوصه وانتقاده إن اقتضى الأمر ذلك، فإن الخطة العامة التي حاولت من خلالها الإجابة عن الإشكالية المركزية والأسئلة الفرعية المرتبطة بها كانت وفق التصميم التالي:
- الباب الأول: آليات تكريس الرقمنة، وتجلياتها على مستوى توثيق المعاملات العقارية.
- الباب الثاني: واقع الرقمنة على مستوى عمليات التحفيظ العقاري، وتمظهرات حمايتها القانونية.
رابعا: أهم النتائج والخلاصات المتوصل لها بعد دراسة الموضوع.
انطلاقا من مختلف المحاور التي تناولتها في هذه الدراسة، يمكن القول، بأن المغرب يسعى جاهدا لمواكبة هذه المستجدات التقنية المتطورة في مجال المعاملات العقارية من الناحيتين النظرية والعملية، نظريا من خلال العمل على ملاءمة قوانينه مع هذه التحولات الرقمية الهائلة التي لم تعد خيارا بل أصبحت ضرورة ملحة.
وعمليا من خلال اعتماد وإقرار استراتيجيات رقمية متعددة، ومواكبتها عن طريق إحداث مؤسسات متخصصة من أجل السهر على تنزيل هذه الاستراتيجيات على أرض الواقع.
لكن، وعلى الرغم من أهمية هذه الخطوات في اتجاه إرساء قواعد الرقمنة في المعاملات العقارية، فإن ذلك لا زال لم يرق بعد لتطلعات مختلف المتدخلين في المجال.
وقد حاولت في خاتمة بحثي هذا، أن أورد أهم ما تم التوصل له من نتائج وما تم رصده من ثغرات، مع إرفاقها باقتراحات أتمنى أن تساهم في خلق أرضية لنقاشات قانونية قد تساعد في الدفع نحو تكريس فعلي للرقمنة على مستوى مختلف المعاملات العقارية، وأهم هذه الخلاصات هي:
أولا: إذا كان المشرع المغربي قد سعى جاهدا نحو تفعيل الرقمنة على مستوى مختلف المعاملات القانونية، بما فيها المعاملات العقارية من خلال مجموعة من الآليات التقنية والقانونية، فإنه ما زال لم ينفتح بعد على أنظمة الذكاء الاصطناعي والعقود الذكية سواء على مستوى تفعيل تطبيقاتها في مختلف المعاملات المرتبطة بالعقار، أو على مستوى تنظيم طبيعتها القانونية، لذلك يتعين العمل على تأطير هذه الأنظمة التقنية، وتحديد طبيعتها القانونية، ونطاق إعمالها في مختلف التصرفات القانونية.
ثانيا: إذا كان المشرع المغربي قد أشار صراحة إلى المساواة بين الوثيقة الإلكترونية، وتلك المحررة على الورق في أداء وظيفة انعقاد العقد وصحته، فقد أكد في ذات الوقت على أن بعض المحررات ذات الصلة بالمعاملات العقارية، والمستثناة من إمكانية الخضوع للكتابة الإلكترونية في إنشائها، هي المحررات العرفية المتعلقة بالضمانات الشخصية أو العينية، وقد اشترط القانون رقم 53.05 المنظم لهذه المقتضيات صدور مرسوم لتحديد شروط وكيفيات تطبيق أحكامه عليها، وهو المرسوم الذي لم يصدر بعد رغم مرور أزيد من ست عشرة سنة من صدور القانون، لذلك فإنه يتعين الإسراع في إخراج المرسوم المذكور إلى حيز الوجود حتى لا تبقى هذه المقتضيات القانونية الرقمية المهمة معلقة وبدون فائدة.
ثالثا: لقد اشترط المشرع المغربي بخصوص العقود المنصبة على توثيق المعاملات العقارية، مجموعة من الشكليات لإبرامها، كما حدد الجهات المؤهلة لتوثيقها، إلا أن هناك مجموعة من المقتضيات القانونية التي تقف حائلا أمام إمكانية توثيق هذه التصرفات إلكترونيا، مثل تكريس فكرة مجلس العقد المادي، والنص على ضرورة تحرير العقد ونسخه بمداد غير قابل للمحو، وضرورة توقيع العقد بخط اليد، وضرورة مخاطبة قاضي التوثيق على العقود المحررة من طرف العدول، ومسألة التلقي الثنائي للوثيقة العدلية من طرف العدول..، لذلك فإن المشرع ملزم بالتدخل من أجل تكريس الرقمنة على مستوى هذه الإجراءات القانونية، بإخراج نصوص قانونية حديثة من شأنها أن تستوعب ما يعرفه مجال التوثيق عموما من تحول رقمي مهم، وبالتالي إيجاد صيغ قانونية تسمح بإمكانية توثيق العقود المنصبة على المعاملات العقارية بشكل إلكتروني.
رابعا: من أهم الالتزامات التي تقع على عاتق محرري العقود العقارية أثناء تحريرهم لمختلف المعاملات المرتبطة بالعقار، مسألة التحقق من الوضعية المادية والقانونية للعقار موضوع المعاملة، ولا شك أن هذا الالتزام، يجعل محرر العقد في ارتباط وثيق بمصلحة المحافظة العقارية، من خلال ضرورة الحصول على شهادة الملكية التي تثبت الوضعية الحقيقية للعقار، وفي هذا الإطار فقد أحدثت وكالة المحافظة العقارية منصة رقمية خاصة بالمهنيين من أجل التبادل الإلكتروني للمعلومات والوثائق معها، إلا أن هذه المنصة تم تفعيلها مع الموثقين بشكل كلي، وتم تفعيلها مع العدول جزئيا، لكن لم يتم تفعيلها مع المحامين محرري العقود، وبالتالي فإن الجهات المعنية، مدعوة لإحداث منصة رقمية تسمح لكل الجهات المؤهلة لتحرير العقود بالاستفادة على قدم المساواة، من إمكانية التبادل الإلكتروني للوثائق مع مصالح المحافظة العقارية.
خامسا: على الرغم من تنصيص المشرع على إحداث خدمة خاصة بالمنصة الإلكترونية للمحافظة العقارية، من أجل الاطلاع على دليل القيم التجارية للعقارات، قصد تمكين المعنيين بالأمر من معرفة القيم التجارية المطبقة على العقارات في منطقة معينة، فإن ما يلاحظ على المستوى العملي، أن هذه الخدمة لم يتم تكريسها بعد على مستوى جميع مصالح المحافظات العقارية بالمملكة، لذلك فإنه يتعين العمل على تعميم هذه الخدمة الرقمية المهمة على جميع المحافظات العقارية.
سادسا: على الرغم من تنصيص المشرع على إمكانية الإيداع الإلكتروني لمطلب التحفيظ عبر المنصة الإلكترونية للمحافظة العقارية، إلا أن هذه الخدمة الرقمية، لا زالت لم تفعل بعد من الناحية العملية، لذلك فإنه حبذا لو تم الإسراع في تكريس رقمنة هذه الخدمة المهمة، بالإضافة لذلك، فإن مسألة الإيداع الرقمي لمطلب التحفيظ لا تعفي الشخص المعني من ضرورة الانتقال إلى مصالح المحافظة العقارية في حالة قبول طلبه من أجل إتمام إجراءات الإيداع، وهو ما يفرغ هذا المقتضى الرقمي من محتواه، ما دام أن إيداع الوثائق الأصلية ينبغي أن يتم بمصالح المحافظة العقارية، لذلك فإنه ينبغي التفكير في إيجاد صيغة رقمية متطورة تساعد على إمكانية توصل المحافظة العقارية بأصول الوثائق المعنية دون اشتراط وضعها من طرف المعني بالأمر شخصيا أمامها.
سابعا: على الرغم من أن المشرع المغربي نص على إمكانية تدبير مختلف الشهادات العقارية بطريقة إلكترونية، فإنه على المستوى العملي ما زالت الخدمة الرقمية لمصالح المحافظة العقارية بخصوص الشهادات العقارية، مقتصرة على شهادة الملكية دون غيرها، لذلك فإن المحافظات العقارية مدعوة إلى الإسراع برقمنة باقي الشواهد، مثل شهادة تقييد الرهن، والشهادة الخاصة لتقييد الرهن، والشواهد المتعلقة بمطالب التحفيظ وملفات الشركات وغيرها…
ثامنا: إذا كان المشرع المغربي، قد سمح بإمكانية إبرام مجموعة من المعاملات العقارية بشكل إلكتروني، واعترف بحجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات شأنه شأن التوقيع العادي، فإن ذلك يقتضي توفير مزيد من الآليات التقنية والقانونية الكفيلة بمنح الثقة والأمان لدى المتعاملين بها، وتحقيق الحماية الضرورية لهم، سواء تعلق الأمر بحماية التوقيع الإلكتروني من أي اختراق، أو حماية المعطيات الشخصية المرتبطة بالمعاملات العقارية الرقمية من أي إساءة أو استعمال غير مشروع لها.
تاسعا: إذا كان مفهوم التقاضي الإلكتروني قد برز بقوة بهدف استخدام الوسائل التقنية والتكنولوجية الحديثة في إقامة الدعوى عموما، وتتبعها والبت فيها، إلا أن الوصول إلى تحقيق هذه الغاية، يحتاج إلى متطلبات تشريعية قانونية، وأخرى تقنية ولوجستيكية، وأخرى بشرية، لذلك فإنه يتعين العمل على توفير الوسائل التقنية اللازمة، والبنية التحتية القوية والآمنة، والموارد البشرية المؤهلة للتعامل مع التقنيات المتطورة والمتجددة، وقبل هذا كله، توفير منظومة قانونية مناسبة من خلال تعديل مختلف القوانين الموضوعية والإجرائية ذات الصلة بالتقاضي بشكل عام، وهذا من شأنه دون شك، تعزيز قيم النزاهة والشفافية في مرفق العدالة.