مجلة مغرب القانونالمنبر القانونيملائمة الغرامة اليومية للقانون المغربي-دراسة مقارنة-

ملائمة الغرامة اليومية للقانون المغربي-دراسة مقارنة-

محمد الخراكات طالب باحث خريج ماستر المنازعات و المهن القانونية

عمل المشرع المغربي على تطوير ترسانته القانونية الجنائية و تطعيمها بكل ما يجعلها منسجمة مع التحولات و التغيرات المتلازمة التي يعرفها المجتمع المغربي، حيث انخرط في برنامج اصلاح المنظومة القانونية بما يتلاءم و الهوية الوطنية، معتمدا في ذلك على مختلف التجارب المقارنة السباقة لهذا النهج.

و في ظل كل ذلك أعاد النظر في سياسته التقليدية المضادة للجريمة، أي السياسة الجنائية[1] المعتمدة في زجر المسؤول عن الجريمة و حماية ضحايا الإجرام، التي تعتمد على الحكم على الجاني بعقوبات سالبة للحرية[2]، لكن تبقى هذه الأخيرة غير كفيلة بتحقيق الأهداف من وضعها، خاصة الحد من الجريمة، هذا إن لم نقل أنها أصبحت عاملا مشجعا على إتيان الجريمة و احترافها.

فبالرغم من كون العقوبات السالبة للحرية مرتبطة بشكل عام بأغراض متعددة تتمحور ما بين إرضاء الشعور بالعدالة و الردع و التأهيل، إلا أن لها مجموعة من الآثار السلبية سواء القانونية أو الاجتماعية أو الاقتصادية،

هذا ما جعل المشرع المغربي يتبنى في مسودة مشروع القانون الجنائي[3] بدائل للعقوبات السالبة للحرية، مسايرا بذلك بعض التشريعات المقارنة، حيث أصبح يرتكز في مقاربته الزجرية على الوقاية من الجريمة قبل ردع مقترفيها.

و من بين تلك البدائل[4] نجده قد اعتمد عقوبة ذات طبيعةٍ ماليةٍ، وهي الغرامة اليومية، باعتبارها عقوبة بديلة و ليس كالغرامة التقليدية التي عرفها المشرع المغربي في الفصل 35 من القانون الجنائي بما يلي ” الغرامة هي إلزام المحكوم عليه بأن يؤدي لفائدة الخزينة العامة مبلغا معينا من النقود، بالعملة المتداولة قانونا في المملكة “.

فكيف نظم المشرع الجنائي الغرامة اليومية ؟ ومدى ملائمتها للتشريع الجنائي المغربي؟ وهل هذه العقوبة البديلة كفيلة بتحقيق الغاية المرجوة من تبنيها في السياسة العقابية المغربية؟

 جوابا على هذه التساؤلات سنبين أحكام الغرامة اليومية (المطلب الأول)، ثم سنتطرق في ما بعد لمدى نجاعة تطبيق الغرامة اليومية في التشريع الجنائي المغربي (المطلب الثاني).

المطلب الأول: أحكام الغرامة اليومية كعقوبة بديلة.

بالنظر لأهمية الغرامة اليومية في السياسة العقابية فإنه سيتم الوقوف على معنى الغرامة اليومية وسياقها التاريخي في النقطة الأولى، وبعد ذلك سنبرز قواعد تطبيق الغرامة اليومية في التشريع الجنائي المغربي في النقطة الثانية.

أولا: مفهوم الغرامة اليومية.

بالنظر للعيوب الموجهة للغرامة المالية التقليدية[5]، تَم إيجاد معايير جديدة لتقدير الغرامة تتوخى إدخال تغييرات مهمة على كيفية تقدير الغرامة و طريقة تنفيذها واستخلاصها من المحكوم عليه[6].

1-السياق التاريخي لظهور الغرامة اليومية.

تستمد الغرامة اليومية مرجعيتها من فكرة أساتذة القانون الجنائي و علم الإجرام ومن بينهم “جوهان ثيران” الذي يعد الاب الروحي لنظام الغرامة اليومية حيث اقترحها في مشروع إصلاح القانون السويدي الصادر في 1916[7]، ليطبق بعد ذلك فيها سنة 1931[8].

ولقد استمرت المحاولات الفقهية و التشريعية قصد إصلاح نظام الغرامة اليومية إلى حدود العقدين الأخيرين من القرن 19، اللذين برزت فيهما بشكل جدي ضرورة الإصلاح، بحيث أصبح إصلاح منظومة التغريم من أولويات السياسة الجنائية المعاصرة، و عليه اتجه فقهاء القانون الجنائي في دول مختلفة إلى فكرة تطوير عقوبة الغرامة كي تمس الدخل اليومي للجاني، إلى أن وجد نموذج الغرامة اليومية الذي يقوم على أساس فرض مبلغ معين من المال بدل كل يوم من أيام الحبس بناء على الدخل اليومي و ممتلكات الجاني[9].

وقد عرف هذا البديل إقبالا من لدن العديد من التشريعات المقارنة، حيث تبنته فنلندا منذ سنة 1962، و فرنسا و ألمانيا منذ سنة 1981[10].

وهكذا فقد أقر المشرع الألماني الغرامة اليومية محل بعض العقوبات الحبسية قصيرة المدة، بحيث أصبحت بديلة لمعظم الجنح، و تؤدى في تواريخ تحددها المحكمة، بشكل يتزامن مع وجود الدخل في ذمة المحكوم عليه. أما فرنسا فقد تم إقرار هذه العقوبة البديلة في تشريعها الجنائي بمقتضى قانون 2 فبراير 1981، الذي قيد الحكم بهذا البديل بتوفر عدة شروط، أهمها أن يأخذ بيعين الاعتبار ظروف و ملابسات و خطورة الفعل الجرمي، و يراعي أيضا الدخل اليومي للفرد[11].

2-مفهوم الغرامة اليومية.

اعتبر بعض الفقه[12] أن القصد من الغرامة اليومية ينصرف إلى صلاحية القاضي بأن يحكم على الجاني بمبلغ من المال يدفعه يوميا لمدة محددة، و يقوم المحكوم عليه بأداء قيمة الغرامة اليومية مضروبة في عدد الأيام المحكوم بها عليه.

و يؤخذ على هذا التعريف أنه لم يحدد سبب الالتزام بهذه العقوبة، أي الأفعال المجرمة المسموح معاقبة مقترفيها بها، و هذا ما وضحه المشرع المغربي عندما عرف الغرامة المالية في نص المادة 10-35 من مسودة مشروع القانون الجنائي و قد جاء فيها أن ” الغرامة اليومية عقوبة يمكن للمحكمة أن تحكم بها بدلا من العقوبة الحبسية، و هي مبلغ مالي تحدده المحكمة عن كل يوم من المدة الحبسية المحكوم بها، و التي لا يتجاوز منطوقها في المقرر القضائي سنتين حبسا…”.

ومن تعريف المشرع المغربي لهذه العقوبة البديلة نستنتج أنها تستلزم الحكم بعقوبة حبسية طبقا للشروط المومأ إليها في المادة السابقة، و طبقا كذلك للمادة 4-35 من المسودة أعلاه في بندها الأول[13]، كما أنها لا يمكن أن تشمل العقوبات الحبسية التي تتجاوز السنتين في منطوق الحكم، و ذلك ما ورد في الفقرة الأولى من المادة 1-35 المتعلقة بالأحكام العامة للعقوبات البديلة عامة[14].

وبناء على ما سلف ذكره يمكن تعريف الغرامة اليومية بكونها الجزاء المالي الموقع على المحكوم عليه من طرف المحكمة، نتيجة عمل أو امتناع عن عمل يعاقب عليه المشرع الجنائي بعقوبة سالبة للحرية على أن لا يتجاوز منطوق الحكم سنتين حبسا، حيث تؤدى الغرامة اليومية بدل العقوبة الحبسية على شكل أقساط يومية بعد تقييم الفترة الزمنية المحكوم بها ماليا، و بمراعاة الامكانيات المادية للمحكوم عليه و خطورة الجريمة المرتكبة.

غير أن تطبيق الغرامة اليومية محاط بمجموعة من القواعد و ذلك ما سنناقشه في النقطة الموالية.

ثانيا: قواعد تطبيق الغرامة اليومية في التشريع الجنائي المغربي.

وضعت العديد من التشريعات مجموعة من القواعد القانونية، لتيسر عملية استخلاص الغرامة اليومية، وإجلائها لفائدة الدولة، عقابا للجاني.

فقد مكن المشرع المغربي الحكم بها بدلا من العقوبة الحبسية، التي لا يتجاوز منطوقها في المقرر القضائي سنتين حبسا[15]، الأمر الذي يعني الحكم بها مستقلة و لوحدها في منأى عن ضمها و العقوبة الأصلية، أو تنفيذهما معا، وبقى هذا الأمر طبيعيا لأن تطبيق الغرامة اليومية و الالتزام بها يستغرق تطبيق العقوبة الحبسية المحكوم بها.

مقال قد يهمك :   اجتهاد قضائي: أساس الزواج هو المعاشرة والمساكنة-الغياب الطويل يعطي للزوجة الحق في التطليق

كما نجده حدد الأشخاص الذين يمكن أن يوقع عليهم هذا الجزاء[16]، و استثنى منهم الأحداث، أي أن هذه الفئة من المحكوم عليهم لا تطبق عليهم هذه العقوبة البديلة، بخلاف عقوبة العمل لأجل المنفعة العامة[17]، التي يمكن تطبيقها عليهم شرط أن يتجاوز سن المحكوم عليه خمسة عشر سنة وقت ارتكاب الجريمة، لكنه لم يشر إلى إمكانية تطبيق العقوبة البديلة الأخرى عليهم وهي؛ تقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية، لكن نرى جواز ذلك لكون هذه الأخيرة تتبنى تدابير عقابية تلائم سياسة الإدماج و الإصلاح الذي صار ينهجها المغرب.

أما نظيره الفرنسي فإنه تميز ببعض الخصوصية في توظيفه للغرامة اليومية، إذ تعتبر بمقتضى أحكامه عقوبة بديلة اختيارية، يملك القاضي الجنائي مطلق الحرية في استعمالها أو استبعادها داخل نطاق الجنح، على أنه إذا قرر تطبيقها فله أن ينطق بها كعقوبة أصلية بدل عقوبة الحبس[18]، تعزيزا منه لاستراتيجية توجهه الجنائي الكامن في مكافحة ظاهرة الجنوح البسيط.

و من جهة أخرى فإن العديد من التشريعات أخذت بمعيار العقوبة كشرط أساسي وجوهري لتطبيق الغرامة اليومية كعقوبة بديلة في بعض الجرائم، بمعنى أن نطاق تطبيق هذا البديل ينحصر في مجال الجنح المعاقب عنها بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة، وبالتالي فالقاضي المغربي ملزم بتطبيق هذا البديل في هذا النطاق، على خلاف المشرع الفرنسي الذي لم يأخذ بمعيار العقوبة، فكل الجنح المعاقب عليها بعقوبة حبسية و التي تكتسي الطابع البسيط يمكن للقاضي أن يقرر فيها الغرامة اليومية بدل العقوبة الحبسية[19].

وقد نظم – المشرع الفرنسي – هذه العقوبة وفق نفس التصور الذي قامت عليه في التشريعات التي اعتمدتها قبله، فجعل استخلاصها يأتي عبر مرحلتين؛ حيث يفحص القاضي في المرحلة الأولى ظروف الجريمة ليحدد عدد أيام الغرامة، التي حصر المشرع أقصاها في 360 يوما، بينما يوجه اهتمامه في المرحلة الثانية إلى موارد الشخص المدان و أعبائه المالية من أجل تحديد القيمة المالية ليوم الغرامة، التي أرسى المقنن الفرنسي حدا أقصى لها في 2000 فرانك[20].

وعلى هذا النحو سار المقنن المغربي من خلال الفصل 11-35 من مسودة مشروع القانون الجنائي الذي جاء فيه أنه ” يتم تحديد مبلغ الغرامة اليومية بين 100 و 2000 درهم عن كل يوم.

و تراعي المحكمة في تحديدها الإمكانيات المادية للمحكوم عليه و خطورة الجريمة المرتكبة “، و يبدوا أن كلا التشريعين تنبها إلى المخاطر التي يمكن أن تنجم عن إطلاق سلطة القاضي في تفريد العقاب على هذا النحو، كما أنهما حددا مقدارا يوميا لا يمكن له أن يتجاوزه.

ذلك أن التفريد إذا كان الهدف منه هو تحقيق المساواة بين المحكوم عليهم في الأثر العقابي الذي تحدثه الغرامة، بالرغم من أن هذه المساواة تبقى نسبية حتما، إلا أن المشرعين ابتغوا تحقيق ذلك لما وضعوا المسافة الفاصلة بين مقياسي التفريد و التناسب.

وبالرجوع إلى التقنين المغربي، يلاحظ أن هناك اشكال آخر يمكن إثارته بخصوص المعيار الذي يجب اعتماده من لدن المحكمة في تقديرها لمبلغ الغرامة، التي يجب أن تعادل العقوبة الاصلية، سيما أن ترك ذلك دون تحديد معيار دقيق سيفتح الباب لا محال للتشكيك في قضاة الحكم و إمكانية تجريحهم[21].

بالإضافة إلى أنه لم يحدد طريقة أداء هذه الغرامة اليومية، فهل يأتي استخلاصها على شكل أقساط خلال مدة يحددها الحكم، أم أنها المحكمة تحدد قيمة الغرامة في صورة مبلغ إجمالي يكون على المحكوم عليه أداؤه في وقت معين؟

لأنه بالرجوع للمادة 12-35 من المسودة أعلاه، التي جاء فيها أنه ” يلتزم المحكوم عليه بأداء المبلغ المحدد له في أجل أقصاه آخر يوم من العقوبة الحبسية المحكوم بها والواجبة التنفيذ فور صدور الحكم بها، مع إمكانية تمديد هذا الأجل بقرار صادر عن قاضي تطبيق العقوبات بناء على طلب من المحكوم عليه ” يتبن أن المقنن اكتفى بتحديد أجل أداء الغرامة اليومية و هو اليوم الأخير من العقوبة الأصلية السالبة للحرية، مع ذكره لإمكانية تمديد هذا الأجل، لكنه لم يوضح طريقة أداء هذه العقوبة. خلافا للغرامة التقليدية التي تكون مستحقة فورا بعد اكتساب الحكم قوة الشيء المقضي به.

و المشرع المغربي انتبه إلى مسألة مهمة عند وضعه للنصوص المنظمة هذه العقوبة البديلة، بحيث جعل تطبيقها ينصب على الجنح البسيطة المحكوم على مقترفيها بسنتين حبسا، مستحضرا أن معظم هذه الجرائم خُيرَ فيها القاضي بين الحكم فيها بعقوبة حبسية أو بغرامة مالية[22] أو هما معا[23]، مما يستبعد معه إمكانية تطبيق الغرامة اليومية كبديل للغرامة التقليدية.

هذا ما يطبق من قواعد حينما يلتزم المحكوم عليه بالغرامة اليومية و يؤديها، أما إذا لم يفي هذا الأخير بالتزامه أي عدم تأديته للغرامة اليومية بعد حلول الأجل الأول أو المؤجل، فإن المشرع المغربي وضع له جزاء في المادة 5-35 من المسودة أعلاه، وهو تنفيذ العقوبة الحبسية الأصلية، المحكوم بها بقرار صادر عن قاضي تطبيق العقوبات.

أي أنه ليس هناك أي طريق غير العقوبات السالبة للحرية كعقوبة أصلية لردع المحكوم عليه[24]، مما يجعل من الغرامة اليومية تخفي في الواقع عقوبة حبسية يتم وقف تنفيذها مقابل الالتزام بأداء الغرامة، على أن بهذا الالتزام يرتب إلغاء وقف التنفيذ.

غير أننا نتساءل في هذا الصدد عن الحل الذي يجب أن يتبعه القاضي في حالة اعسار المحكوم عليه، بمعنى العجز عن أداء الغرامة اليومية، فالمادة 12-35 التي هي قيد التحليل، فسحت المجال لفشل هذا البديل، أمام غموضها، حيث كان يجب أن تُنهجَ طَرِيقَةَ الأداءِ عبر أقساط تحددها المحكمة استنادا لوضعية المحكوم عليه المادية، كي لا يزيد المشرع من نسبة الحبس بطريقة غير مباشرة، أو إتاحة فرصة تغيير هذه العقوبة البدلية في حالة إعسار المحكوم عليه بالعمل لأجل المنفعة العامة، حيث ستستفيد الدولة من العمل المجاني له، وبهذا تستطيع معاقبة الجاني بكيفية تستبعد فيها تطبيق العقوبة الحبسية الأصلية، و هو الأصل من نهج كل البدائل في مسودة القانون الجنائي.

مقال قد يهمك :   عبد الحكيم زرزة: الصلاحيات الموكولة للباشوات والقواد في ميدان التعمير على ضوء مستجدات القانون 12.66

المطلب الثاني: مدى نجاعة تطبيق الغرامة اليومية في التشريع الجنائي المغربي.

لقد أفرز تطبيق الغرامة اليومية في شكلها التقليدي الذي لا يراعي الظروف الاجتماعية للملزم بها، أن تلك الغرامات تفتقر لأي دور ردعي تربوي لخلقها لنوع من الحيف أو بالأحرى عدم التمييز بين التفاوتات الطبقية (الفقير و الغني أو مليء الذمة والمعسر)، حيث نجد آثار الغرامة تطال كل محكوم عليه جراء ثبوت مسؤوليته دون تمييز بينهم، بالرغم من وضع المشرع المغربي لمسطرة إثبات العسر التي يلتجئ إليها المعسر تفاديا لتطبيق الإكراه البدني عليه الذي ينتج عن عدم أداء الغرامة المالية المحكوم بها [25]، هذه الأخيرة التي أثبتت فشلها أمام تعقيد مسطرة الاستفادة منها[26].

وهذا ما نجد أن المقنن تفاداه بتبنيه للغرامة اليومية، إذ تقوم كما أشرنا سالفا على مبدإ حسابي يميز بين المدانين من حيث ذمتهم المالية، و بالتالي يمكن اعتبارها وسيلة لوقاية الجاني من القطيعة التي تتولد عن العقوبة الحبسية، إضافة إلى أنها تتيح للجاني سبيل الاندماج داخل المجتمع، خاصة أن نطاق تطبيق هذه العقوبة لا يشمل سوى فئة معينة من الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم بسيطة لا تنم على وجود نزعة إجرامية لديهم، و بالتالي ليسوا في حاجة إلى تأهيل مقيد للحرية حتى يصبحوا أسوياء.

لكن نلاحظ مع كل ما تحمله هذه العقوبة من سياسة عقابية حديثة، أن تطبيقها يبقى قاصرا و مستعصيا أمام الفلسفة التي ارتكن إليها المشرع في تبنيها، فهي تقوم على مجموعة من الأسس تتناقض مع البنية الاجتماعية و الاقتصادية للمجتمع المغربي؛

فوضع المشرع للقيمة الدنيا و العليا للغرامة اليومية التي حددها في 100 إلى 2000 درهم، هو حيف في حد ذاته بالنسبة للفئة الفقيرة من المحكوم عليهم، فكيف يعقل أن نحكم على أحد المستخدمين مثلا بغرامة يومية قدرها الحد الأدنى الذي أقره القانون أي ما يعادل 3000 درهم شهريا، هذا الخارج الذي يفوق بكثير مبلغ الحد الأدنى القانوني للأجور المحدد لمجالات الصناعة و التجارة و المهن الحرة و الفلاحة[27]، كما الأمر الذي يكرس عدالةً فقط للأغنياءِ، و يبعد هذا المقتضى عن العدل الذي يجب أن يكون أساس كل نص قانوني.

كما ستتواصل الصعوبات في اعتراض سبيل القضاء في تطبيق الغرامة اليومية، أمام كثرة و تنوع الفئات عديمة الدخل كربات البيوت و الطلبة و العاطلين، و هي حالات لا تستطيع حتى تحمل ظروف الحياة المعاصرة لكثرة النفقات (الكراء – مصاريف النقل – التطبيب و غيرها)، و هذه النفقات لا سبيل إلى تقزيمها أو الضغط عليها، مما يجعل حتى هامش تخفيض الحد الأدنى لهذه الغرامة كأساس لتبني هذا النوع من العقاب ضئيل جدا.

ومن خلال ما سلف ذكره، نرى أنه لا مناص من العدول عن الأخذ بهذه العقوبة البديلة في التشريع المغربي، لعدم تحقيقها للنتائج المرجوة من اعتمادها، و ندعوا من المشرع الاقتصار فقط على الغرامة التقليدية القائمة على تعويض المعتدى عن حقه سواء كان في شخص الضحية أو المجتمع، أو على العقوبات البديلة الأخرى أي العمل لأجل المنفعة العامة و تقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية، هذه الأخيرة التي سندرسها في النقطة التالية.

خاتمة:

إن ترشيد السياسة الجنائية ووضع الجزاء أو اتخاذ الإجراء الملائم للجريمة، يستوجب وضع تشريع يتماشى و الوضع الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي المعاش في المملكة المغربية، كما يجب اتخاذ التدابير الازمة للحيلولة دون وقوع الجريمة أصلا.

و في سبيل ذلك خرجنا بخلاصة مفادها عدم الأخذ بعقوبة الغرامة اليومية لأنها في الحقيقة تخفي في طياتها عقوبة حبسية يتم وقف تنفيذها مقابل الالتزام بأداء الغرامة المقررة، وهذا لن يحقق السعي الأساس الذي يبتغيه المشرع من الأخذ بهذه البدائل جلها وهو الخفض والتقليل من الاكتظاظ داخل السجون، كما انها تكرس عدالة للأغنياء فقط بعيدا عن أية عدالة اجتماعية، و ندعو المشرع الاقتصار فقط على الغرامة التقليدية بالرغم من أن الأولى لا تعتبر بديلا عن هذه الأخيرة.


الهوامش: 

[1]  تعرف السياسة الجنائية على أنها مجموعة من المبادئ و التدابير و الإجراءات التي يواجه بها المجتمع ظاهرة الجريمة بهدف الوقاية منها و مكافحتها و معاملة المجرمين. محمد عبد النبوي ” السياسة الجنائية بالمغرب ” مقال منشور بمجلة محاكمة، العدد 14، فبراير و أبريل 2018، ص 16.

            كما يمكن تعريفها على أنها مجموعة من التصورات و التوجهات العقابية، التي تراها الدولة مناسبة في فترة زمنية محددة، لمكافحة الجريمة و معاقبة مرتكبيها، حيث يتم تحديدها و صياغتها، في نصوص و قواعد قانونية من طرف السلطة التشريعية، على أن يتم تطبيقها و تنفيذها من طرف المؤسسات القضائية و الإدارية المختصة بذلك.

[2]             نلاحظ أن المشرع المغربي لم يعرف العقوبات السالبة للحرية و اكتفى بتحديد صورها في الفصل 15 قائلا أن “العقوبات الأصلية إما جنائية أو جنحية أو ضبطية”.

             لكن أحد الباحثين قد عرفها على أنها ” ما يصدر عن المؤسسات القضائية من أحكام بحق المذنبيين و التي تقضي بحرمان المحكوم عليهم من حريتهم و ذلك بإيداعهم في مؤسسة عقابية بقصد إصلاحهم و تأهيلهم” محمد البربري بدائل العقوبات السالبة للحرية في التشريع المغربي” رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية و الاجتماعية- سلا، جامعة محمد الأول- الرباط، السنة الجامعية 2014-2015، ص 10.

[3]             تجدر الإشارة هنا إلى أننا اعتمدنا في دراستنا لهذا الموضوع على مسودة مشروع القانون الجنائي الصادرة بتاريخ 31 مارس 2015 و المنشورة بموقع وزارة العدل.

[4]               إن المشرع المغربي قد تبنى عدة عقوبات بديلة في مسودة مشروع القانون الجنائي، تتمحور بين عقوبات مقيدة للحرية – و ليس سالبة لها – و عقوبات مالية، و هي العمل لأجل المنفعة العامة و الغرامة اليومية و تقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية.

[5]             فالغرامة التقليدية رغم كونها عقوبة تلحق بذمة المحكوم عليه المالية إلا أنها لا تحقق الأهداف المرجوة من العقوبة و الكامنة في الردع العام و الخاص، بالإضافة إلى أنها لا تعتبر الأنسب للجناة الذين يتوفرون على الميول الإجرامي، كما أنها تفتقر لأي دور تربوي تجاه المحكوم عليه.

مقال قد يهمك :   جمال أمقران : السياسات العمومية في مجال التربية والتكوين بالمغرب بين المقتضيات الدستورية والرؤية الإستراتيجية للإصلاح : رهان الحكامة نموذجا

[6]             علوي جعفر “عجوزات مرفق العدالة الجنائية، بعض التجليات و سبل المعالجة ” مقال منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية، سلسلة مواضيع الساعة، العدد 35، السنة 2002، ص 83.

[7]             عطية مهنا ” الغرامة كبديل للحبس قصير المدة” مطبعة المركز القومي للبحوث الاجتماعية و الجنائية- القاهرة، طبعة 2004، ص 128.

[8]             محمد سيف النصر عبد المنعم ” بدائل العقوبات السالبة للحرية في التشريعات الجنائية الحديثة ” مطبعة دار النهضة العربية-القاهرة، طبعة 2004، ص 66.

[9]             جمال المجاطي ”  بدائل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، في ضوء التشريع المغربي و المقارن دراسة تحليلية و عملية ” م.س، ص 54.

[10]           محي الدين أمزازي ” جدوى إيجاد بدائل للعقوبات الحبسية قصيرة المدة” مقال منشور بالمجلة العربية للدفاع الاجتماعي، العدد 17، يناير 1984، ص 59.

[11]           مولاي الحسن الإدريسي ” السياسة العقابية بالمغرب بين التحديات و الإصلاحات ” م.س، ص 329.

[12]           عبد الله درميش ” مختلف أشكال بدائل العقوبات السالبة للحرية ” مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية، العدد 86، يناير 2001، ص 22.

[13]           ينص هذا البند على ” عندما تقرر المحكمة استبدال العقوبة السالبة للحرية بالعقوبة البديلة، يجب عليها:

  • أن تحكم بالعقوبة الحبسية الأصلية؛
  • …”.

[14]           جاء في هذه المادة من م.م.ق.ج أن ” العقوبات البديلة هي التي يحكم بها في غير حالات العود كبديل للعقوبات السالبة للحرية في الجنح التي لا تتجاوز العقوبة المحكوم بها من أجلها سنتين حبسا…”.

[15]           هذا ما نصت عليه المادة 10-35 من م.م.ق.ج.

[16]           جاء في المادة 10-35 من م.م.ق.ج أن ” الغرامة اليومية عقوبة يمكن للمحكمة أن تحكم بها بدلا من العقوبة الحبسية، و هي مبلغ مالي تحدده المحكمة عن كل يوم من المدة الحبسية المحكوم بها، و التي لا يتجاوز منطوقها في المقرر القضائي سنتين حبسا.

            لا تطبق عقوبة الغرامة اليومية على الأحداث”.

[17]           و هذا ما أكذه البند الأول من المادة 6-35 من م.م.ق.ج حيث أتى فيها ما يلي ” يمكن للمحكمة أن تحكم بعقوبة العمل لأجل المنفعة العامة كبديل للعقوبة السالبة للحرية كلما توفرت الشروط الأتية:

  • أن يكون المحكوم عليه بالغا من العمر خمس عشرة سنة على الأقل وقت ارتكاب الجريمة؛
  • …”.

[18]           هذا ما جاء في نص المادة 5-131 من القانون الجنائي الفرنسي، لكن ما يلاحظ أنه بالرجوع إلى المقتضيات المنظمة لعقوبة الغرامة اليومية، نجد تضاربا على مستوى هذه المواد، حيث تنص المادة السالفة الذكر على أن الغرامة اليومية يمكن النطق بها في الجنح المعاقب عليها بالحبس كعقوبة أصلية، الأمر الذي يدفع إلى التفكير بأن الغرامة اليومية هي بديل عن العقوبة الحبسية، لكن هذا التأويل تفنده مقتضيات المادة 9-131 من ذات القانون التي لا تمنع الجمع بين الغرامة اليومية و العقوبة الحبسية.

[19]           جمال المجاطي ”  بدائل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، في ضوء التشريع المغربي و المقارن دراسة تحليلية و عملية ” م.س، ص 57.

[20]           المامون الفاسي ” السياسة العقابية المالية في التشريع المغربي ” رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية بطنجة، جامعة عبد المالك السعدي، السنة الجامعية 2006-2007، ص 176.

[21]           ادريس الشبلي ” العقوبات البديلة في مسودة مشروع القانون الجنائي ” مداخلة غير منشورة ألقاها يوم الخميس 26 يناير 2017، بالمؤتمر العلمي الدولي الأول للعلوم الجنائية، الذي تدارس موضوع ” المستجدات في العلوم الجنائية عبر الدراسات و الأبحاث “.

[22]           كجريمة الإساءة إلى الدين الإسلامي أو إلى النظام الملكي أو حرض ضد الوحدة الترابية للمملكة، المنصوص عليها وعلى عقوبتها في الفصل 5-267 من ق.ج حيث خير فيها المشرع القاضي بين المعاقبة من ستة أشهر إلى سنتين وبغرامة مالية من 20000 إلى 200000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين.

[23]           كجريمة الإجهاض المنصوص عليها في الفصل 454 من ق.ج الذي جاء فيه ما يلي ” تعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم كل امرأة …”.

[24]           نور الدين العمراني ” العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة و تكريس أزمة السياسة العقابية بالمغرب ” مقال منشور بمجلة الملف، العدد 18، أكتوبر 2011، ص 20.

[25]           تنص الفقرتين الأولى و الثانية من المادة 635 من ق.م.ج على أنه ” يمكن تطبيق مسطرة الإكراه البدني في حالة عدم تنفيذ الأحكام الصادرة بالغرامة ورد ما يلزم رده والتعويضات والمصاريف، إذا تبين أن الإجراءات الرامية إلى الحصول على الأموال المنصوص عليها في المادة السابقة بقيت بدون جدوى أو أن نتائجها غير كافية.

  يتم الإكراه البدني بإيداع المدين في السجن، وفي جميع الأحوال فإنه لا يسقط الالتزام الذي يمكن أن يكون محلا لإجراءات لاحقة بطرق التنفيذ العادية…”.

[26]           تنص الفقرة الثالثة من المادة 635 من ق.م.ج على أنه “… غير أنه لا يمكن تنفيذ الإكراه البدني، على المحكوم عليه الذي يدلي لإثبات عسره بشهادة عوز يسلمها له الوالي أو العامل أو من ينوب عنه و بشهادة عدم الخضوع للضريبة تسلمها مصلحة الضرائب بموطن المحكوم عليه”.

[27]           يحدد الحد الأدنى للأجر في هذه الميادين بمقتضى المرسوم رقم 2.11.247 صادر في 28 من رجب 1432 (فاتح يوليو 2011) الذي يتعلق بالزيادة في الحد الأدنى القانوني للأجر في الصناعة والتجارة والمهن الحرة والفلاحة، والمنشور بالجريدة الرسمية عدد 5959 بتاريخ 9 شعبان 1432 (11 يوليو 2011)، ص 3306.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]