ليلى الهريم: الوقاية من المخاطر القانونية والمنازعات القضائية الناجمة عن تدبير الشأن العام
ذة. ليلى الهريم باحثة في القانون .
إن اختيارنا لموضوع الوقاية من المخاطر القانونية لم يكن اعتباطا أو ترفا فكريا أو معرفيا، وإنما جاء لما لهذا الموضوع من أهمية في التقليص من المنازعات القضائية والحفاظ على المشروعية و تكريس دولة الحق والقانون .
وسنتناول هذا الموضوع في ارتباطه بتدبير الشأن العام وحماية الأموال العمومية، خاصة وأن أية منازعة لا بد أن تحمل في طياتها مشروع تكاليف مالية تتحملها خزينة الدولة.
ولا تقتصر هذه التكاليف على الكلفة المباشرة المتمثلة في ما قد يحكم به على الإدارة من تعويضات، وإنما الكلفة غير المباشرة المتمثلة في إثقال كاهل القضاء ومصاريف المنازعات، والإضرار بصورة الإدارة لدى المواطنين.
ذلك أن أية منازعة تعبر عن وجود خلل مرتبط إما بجودة القانون في حد ذاته، أو التطبيق غير السليم له، أو حتى في عدم تطبيقه، وهذا ما نسعى إلى استخراجه من خلال عرض الآليات والمنهجية المرجوة للمساهمة في التقليص من الأخطار القانونية والمنازعات القضائية .
و من هذا المنطلق جاء اختيارنا لهذا الموضوع الذي نحسبه مهما لما له من ارتباط بنشاط أشخاص القانون العام.
الفصل الأول: الإطار النظري الماهية و الأهمية
1: التعريف
الوقاية بمعناها الشمولي هي مجموعة من التدابير المتخذة لتفادي الأخطار أو التقليل من حدتها، يتجلى دورها في رصد الخلل قبل حدوثه في شتى المجالات سواء منها الصحية أو الاجتماعية أو السياسية أو القانونية أو الاقتصادية…إلخ ، لخلق آليات للتخفيف من الآثار السلبية التي قد تترتب عن هذا الخلل، وقد يكون لها طابع إجباري للحد من وقوعه أو استشاري في حالات مختلفة.
وكلمة مخاطر تأتي من المخاطرة ، وتعني توقع حدوث شيء غير مرغوب فيه واحتمال نشوء ضرر حسب الأحوال تنجم عنه خسارة متوقعة ، فمنها التي تصيب الأشخاص أو الأصول أو الممتلكات أو الناجمة عن المسؤولية اتجاه الغير، يترتب عنها نتائج سلبية تتطلب التحليل من خلال التعرف على أسبابها والبحث عن الأساليب الناجعة لمنع وقوعها أو التقليل من آثارها إلى أقصى حد ممكن.
فالوقاية من المخاطر القانونية إذن ، هي مجموعة من الوسائل التي تهدف إلى الحد أو التخفيف من خطورة عرض النزاع على القضاء والى تدبير وضبط الخلل و حماية مصالح الدولة المرتبطة بهذا المجال وتكريس دولة الحق والقانون.
وهكذا تهدف الوقاية من المنازعات إلى ما يأتي:
- تحديد المخاطر القانونية كمرحلة أولى اعتمادا على التحليل واستنباط النتائج.
- دراسة الطرق الناجعة لتقليص المخاطر القانونية باختيار الأدوات الفعالة .
- البحث عن حلول بديلة للنزاعات في حالة نشوبها بسبب خلاف بين الإدارة والغير .
- تحديد الأدوار والمسؤوليات للجهات والأشخاص أطراف النزاع لضمان اتخاذ القرارات الصائبة والواضحة .
2: الأهمية
الاهتمام بالوقاية من المنازعات أصبح أمرا ملحا خصوصا في ظل الدستور الجديد الذي وسع مجال مساءلة أشخاص القانون العام، حيث أضحت السلطة الادارية ملزمة بجعل كل قراراتها وتصرفاتها خاضعة لمبدأ المشروعية، ومطالبة ببذل مجهود كبير لتحسين أدائها وتوفير كل الوسائل البديلة لفض المنازعات والآليات التقنية المصاحبة لها ، والانفتاح على سبل أخرى للتقليص من هذه المنازعات، وتتجلى أهم الأسباب الداعية لاعتماد هذه المقاربة في ما يأتي:
- كثرة الدعاوى المقامة ضد الدولة وإداراتها العمومية.
- تشعب وتنوع هذه القضايا .
- طول وتعدد المساطر وتعقدها .
- تجاوزات الإدارات الناتج عن احتكارها للأنشطة الاقتصادية ، والاكراهات التي تفرضها عليها التطورات الاجتماعية السريعة ومتطلبات هذه التطورات (الحاجة الملحة مثلا إلى إنشاء مرافق عمومية على وجه الاستعجال).
- تشدد القضاء في تعامله مع إخلالات الإدارة.
- الكلفة المالية المرتفعة للمنازعات على ميزانية الدولة.
- انتشار الوعي القانوني لدى المواطنين مما أدى إلى تصاعد الوتيرة في عدد الدعاوى والمنازعات.
- ظهور وسائل بديلة لحل المنازعات.
ولتجسيد هذه المبادئ على أرض الواقع، بات من الضروري تأهيل المنظومة القانونية لبلادنا، والحرص على ضبط تصرفات الادارة ومدى مطابقتها للنصوص القانونية، سيما وأن التكلفة المالية التي أصبحت تستأثر بها المنازعات القضائية التي تقام في مواجهة أشخاص القانون العام، في ارتفاع ملموس.
ومن هنا بات من الأهمية بمكان ، التحسيس بدور الوقاية من المخاطر القانونية في ضبط اشخاص القانون العام مما يساعد على التقليص من الأخطاء الناجمة عن سوء التدبير ، أهمها:
- الحفاظ على مصداقية الإدارة وثقة المواطنين بها؛
- حماية مصالح الدولة خصوصا المصالح المالية؛
- السهر على حسن تطبيق القوانين والقرارات والأنظمة الجاري بها العمل؛
- تقليص المصاريف العامة؛
- تحسين صورة الإدارة؛
- تجنب التعسف في استعمال السلطة؛
- تدعيم دولة الحق والقانون؛
- المساهمة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتوفير السلم الاجتماعي؛
- تخفيف العبء على مرفق القضاء مما يساهم في فعالية هذا الجهاز؛
الفصل الثاني: الإطار العملي: كيفية ممارسة عملية الوقاية من المخاطر القانونية
إن أساس المخاطر القانونية التي يمكن أن تنجم عن تدبير الشان العام سواء من طرف الادارات او المؤسسات العمومية او الجماعات المحلية ، هو الجهل بالنصوص القانونية ، او عدم عدم اعتماد ثقنيات علمية وواقعية عند وضع هذه النصوص وغياب كفاءات متخصصة قادرة على التفكير والاستنباط والتحرير.
لذا يتعين القيام بمجموعة من الأنشطة عند إعداد النصوص القانونية ، يمكن إجمالها أساسا فيما يلي :
- الصياغة الجيدة للنصوص القانونية؛
- الاستشارة القانونية وإبداء الرأي ؛
- اليقظة القانونية؛
- التكوين والتكوين المستمر؛
- التحسيس والتواصل والمرافقة؛
- رصد وتحليل منازعات الإدارة؛
- التطبيق السليم للقانون وتوخي الشرعية والمشروعية؛
- الفض الودي للمنازعات؛
و لبسط ماهية هذه الآليات ، سنتطرق لها بالتفصيل على الشكل التالي:
1- الصياغة الجيدة للنصوص القانونية :
تعتبر صياغة النص القانوني عملية ثقنية دقيقة ، تأتي بعد رصد وضع معين يستلزم الضبط ويستدعي التفكير والإستنباط والتقويم ، من خلال القيام بعدة إجراءات تتم بلورتها في شكل نص قانوني ، لذا يجب الوعي بأهمية صياغة النصوص للخروج بمادة قانونية واضحة المعاني والتعبير محررة بطريقة سليمة ، في احترام الشكليات الضرورية وضبط تام للأسباب الحقيقية الدافعة لسن هذا القانون وتحديد دقيق للغاية من وضعه والجدوى من ذلك .
ومن أجل ضبط هذه العملية يجب اللجوء إلى تقنيات ووسائل لها دور مهم في تفادي الأخطار القانونية ، تطبق بغاية الحرص على إنتاج نص قانوني سليم ومضبوط يصطلح على تسميتها “بدراسة جدوى النصوص القانونية” , « Etude de faisabilité »وهي تقنية مستعارة من علم الاقتصاد الذي يبني عليها إنجاز مشاريع اقتصادية، وفق الخطوات التالية:
• وضع الخطوط الأساسية لمشروع النص القانوني بدقة (طبيعة الموضوع، مكان تطبيقه، التكلفة المالية، عدم تعارضه مع النصوص القانونية…)
• استحضار كل المعوقات التي يمكن ان تعرقل استمرارية النص من حيث الزمان والمكان.
• التنبؤ بالتطورات الظرفية والتغيرات التي يمكن أن تواجه تطبيق النص القانوني والعمل على احتوائها بشكل إيجابي.
• جعل النص القانوني يتأقلم مع كافة التغيرات والاحتمالات المتوقعة.
وهذه الدراسة تهتم بتشخيص ووصف الوضعية القانونية وكل الوقائع المصاحبة لها، ورصد الاشكاليات المرتبطة بها ومدى جدوى النص القانوني المستهدف ، تفاديا لأي عرقلة له وتجنبا لانعكاسات سلبية يمكن ان تخلق تصرفات غير مشروعة وبعيدة عن الغاية منه .
وكل هذه التقنيات من أجل السعي إلى إصدار نص قانوني يصيب الهدف الذي أنشئ من أجله، قابل للتطبيق داخل المحيط المرتبط به ومساير لكل التقلبات والتغيرات التي يعرفها المجال المتعلق به بعيد عن التأويل الناجم عن عدم الوضوح ومساهم في استقرار القضاء ودرء المخاطر القانونية ، ومسهل لرسم الطريق الصحيح في التعاملات القانونية التي وضع من أجلها ومكرس لدولة الحق والقانون.
ومما لا شك فيه أن سوء إعداد النصوص القانونية وضعف صياغتــها ، يفرز عند التطبيق قرارات مخالفة للهدف الذي أحدثت من أجله ويفتح باب التأويل على مصراعيه ويساهم في تبني مواقف متباينة صادرة عن الأجهزة الإدارية والهيئات القضائية ، ويشكل خطورة قانونية تترتب عنها إشكاليات في التدبير والتسيير وتخلق نزاعات قضائية مكلفة ، الأمر الذي يفرض الحرص على سلامة النص التشريعي ويستدعي مراعاة عدة عوامل ، منها:
- إسناد أمر إعداد النص القانوني لهيأة تتوفر على كفاءات عالية ودراية واسعة بالقواعد القانونية ومهارات لغوية وقانونية تتميز ببعد الرؤيا وحسن الإفتراض والعلم بتقنيات صياغة النصوص القانونية ، مع الإدراك التام بماهية القانون المطلوب إعداده والغاية منه والهدف الذي يأمل المشرع تحقيقه.
- الأخذ بعين الإعتبار الجانب الديني والفكري وقواعد العدالة والمساواة و المعرفة الواسعة بالمحيط المرتبط بإعداد النص القانوني سواء الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، ثم الاستعانة بالمتخصصين في مجالات علمية أخرى كالاقتصاد وعلم الاجتماع والفلسفة والعلوم السياسية …خاصة وأن القانون متعدد الأوجه لا يمكن فهمه الا في علاقته بهذه المجالات.
- الحرص على وضوح النص وتفادى الغموض عند صياغته بأسلوب دقيق واضح المعاني بعبارات سليمة ومترابطة، شاملة لكافة النواحي ومنسجمة مع القوانين الاخرى وغير متعارضة مع مبادئ الدستور.
- الإلمام التام بالظروف الخاصة والعامة، مع استحضار السياسة التشريعية السابقة والمعاهدات الدولية وعلاقة الدولة بالتشريعات الدولية، وردود الفعل التي يمكن أن يحدثها النص المقترح وإمكانية تطبيقه على أرض الواقع.
ومما لا شك فيه أن احترام هذه الضوابط ستؤدي لا محالة إلى إصدار قوانين سليمة وتفرز قرارات مصيبة للهدف وقابلة للتطبيق ومحصنة بالمشروعية، وسنكون في صلب الوقاية من المخاطر القانونية التي يكون لها دور هام في درء النزاعات القضائية .
2- الخدمات الاستشارية وابداء الرأي:
بالرغم من أن الاستشارات القانونية وابداء الراي تساهمان في توجيه الادارات العمومية التوجيه الصحيح للقيام بأعمال وتصرفات مبنية على اسس قانونية تراعى فيها الشكليات المطلوبة والقواعد المشروعة ، فإن لها دور آخر لا يقل أهمية يتمثل في الوقاية من المنازعات عن طريق الارتقاء بالممارسات القانونية للإدارة لجعلها متطابقة مع القانون، وظهورها بصورة جيدة بعد احترامها للمساطر والنصوص التشريعية تكريسا للعدالة وإحقاقا للحق ، وتجنيبها االدخول في منازعات قضائية.
وهناك أجهزة تقوم بتقديم الاستشارات القانونية أو إبداء الرأي بشان موضوع مطروح للنقاش لإيجاد حل حبي لفضه أو تدبيره بطريقة سليمة ، ومن ضمنهم الوكالة القضائية للمملكة التي تلعب دورا مهما في القيام بذلك عندما تلجأ إليها بعض الإدرارات والمؤسسات العمومية لإستيقاء الرأي ، وبحكم ممارستي لهذه المهام داخل هذه المؤسسة ، استعرض كيف تتم هذه العملية :
• إبداء الرأي القانوني للمتعاملين، وتوضيح النصوص القانونية لتفادي تأويلها تأويلا خاطئا ومدى تطبيقها على النازلة موضوع الاستشارة.
• القيام بخدمات إدارية ووقائية من خلال مساندة الإدارات العمومية، خاصة منها الرقابة على سلامة تطبيق القوانين والتعليمات ، حسب اختصاص كل مرفق عمومي، والإشراف على ضبط المخالفات وإبداء الملاحظات الدقيقة بشأنها مع الحرص على التكوين في الميدان القانوني.
• كيفية صياغة العقود وتعليل القرارات تعليلا صحيحا بأسلوب واضح ومطابق للقانون، بعيدا عن التأويل والتحريف والغموض .
3-اليقظة القانونية « La veille juridique »
في القرن الماضي عرفت بعض الدول الغربية ثورة علمية في شتى الميادين منها الميدان القانوني ، حيث قامت بنهضة تشريعية نتج عنها المصادقة على مجموعة من النصوص القانونية ، اعتمدت فيها عدة دراسات ميدانية وأخرى استراتيجة بطريقة ممنهجة لضبط عدة مجالات تتعلق بالتدبير والتسيير خاصة على مستوى الإدارات والمِؤسسات العمومية والشركات الكبرى ، ولم تقف عند هذا الحد فقد عملت على خلق وسائل للوقاية من المخاطر القانونية التي يمكن ان تنجم عن سوء تطبيق هذه القوانين وخلق منازعات قضائية مكلفة ، من خلال تبنيها لبعض الإستراتيجيات التي ينهجها رجال الأعمال لحماية مصالحهم الاقتصادية ، ويتعلق الأمر باليقظة الإستراتيجية.
وتعتبر اليقظة الاستراتيجية إحدى الطرق الممنهجة لجمع المعلومات وتخزينها وتجهيزها لفائدة المؤسسة ، بهدف إطلاعها على مختلف مستويات الربح ومساعدتها على توجيه المستقبل ومواجهته وحماية الحاضر والمستقبل من هجمات المنافسين . فهي تعمل على مواكبة كل التطورات لمعرفة الأخطار وتفاديها أو التقليل من آثارها في نشاط مستمر ومتكرر ويقظ بهدف التوصل إلى اتخاذ قرارات مناسبة وفعالة ، وهناك عدة أنواع من اليقظة، كاليقظة التنافسية و الاقتصادية و البيئية و السياسية ثم القانونية…إلخ.
وقد بدأت ممارسة اليقظة الاستراتيجية أول الأمر في الميدان العسكري ، إلا أن الإهتمام بها انطلق خلال العقد الأخير من القرن العشرين من طرف بعض الدول كاليابان و فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية… خاصة على مستوى الشركات الكبرى لما لها من منافع كثيرة على مختلف الأنشطة و نجاحها يبقى مرهون بتوفر المؤسسة على الوسائل المالية والبشرية والتقنيات الحديثة للتواصل. وقد أدركت بعض الدول الأوروبية أهمية هذه الإستراتيجية فتبنتها كأسلوب في تدبير الشأن العام في شتى مجالاته وكانت لها نتائج إيجابية ملموسة ، ساهمت في الرفع من مردودية بعض الشركات الكبرى وتطور الاقتصاد الوطني بصفة عامة.
واستلهاما من هذه التجربة تم اعتماد هذه الاستراتيجية من طرف بعض الدول كآلية لتدبير الشأن العام ، من خلال الحرص والتتبع أو ما يصطلح عليه “باليقظة القانونية” ، لما لهذه الوسيلة من دور مهم في رصد تطور القوانين والتشريعات والنظريات الفقهية والاجتهادات القضائية ، وفي مواكبة كل المستجدات العلمية التي لها ارتباط بالتسيير والتدبير، وتعتبر هذه الالية مهمة بالنسبة للإدارات العمومية التي تمكنها من الترصد للقوانين والتشريعات والأحكام القضائية والعلم المبكر بكل التغييرات والتعديلات القانونية ، وتساعدها على تكوين ردة فعل تجعلها تنتهز الفرص والمزايا التي يمكن أن تنجم من جراء تطبيق القوانين وتثير انتباهها لتفادي الأخطار أو التأثيرات السلبية التي يمكن أن تحدثها القوانين والتشريعات الجديدة.
وتساعد هذه الوسيلة على القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة والمناسبة وهو ما يزيد من أهميتها ومنفعتها. إلا أن نجاحها مرهون بقدرة المشرفين على هذا الشأن على تتبع التطورات والتحلي باليقظة والحفاظ على الانتباه والرصد والكشف عن المستجدات، من أجل إحكام الرقابة والسيطرة على المخاطر وتحديد العلاج النوعي لكل أنواع المخاطر.
وهذه الوسيلة تتطلب حسن اختيار مصدر المعلومة وربط التواصل بالأجهزة المتعلقة به ، كالبرلمان والمنظمات الحقوقية ووسائل التواصل الالكترونية والأجهزة الحكومية والندوات والمحاكم خاصة على مستوى محكمة النقض، للاطلاع على الاجتهادات القضائية التي حسمت في منازعات كانت موضوع نقاش بسبب غموض النص القانوني او فراغ قانوني .
لذلك لابد من خلق خلايا لليقظة القانونية على مستوى كل جهاز، تهتم برصد المخاطر وتعمل على تتبع كل المستجدات والتعديلات التي تشمل بعض النصوص القانونية والعلم بمضمون كافة مشاريع ومقترحات القوانين المعروضة للدرس ، وربط التواصل بمصادر التشريع لاستنباط المخاطر التي يمكن أن تحدثها هذه المقترحات والمشاريع للتصدي لهافي اولى مراحلها بطريقة علمية بعد إعطاء الإشارة إلى المشرفين على الشأن العام بخطورة الوضع والانعكاسات السلبية التي يمكن ان تحدثها وتاثيرها على السلم الاجتماعي والتوازن الإقتصادي و الخلل اذي يمكن أن تحدثه عند تدبير الشان العام ، هذا فضلا عن الحرص على التقاط كل الاجتهادات القضائية التي لها ارتباط بالميدان والتي يمكن ان تكون أساسا لخلق القواعد القانونية لتقويم بعض الاختلالات المرفقية وقنطرة لسد الفراغ التشريعي.
4-التكوين والتكوين المستمر
لابد من الإشارة إلى دور التكوين والتكوين المستمر في الوقاية من المخاطر القانونية باعتباره عاملا أساسيا لإعادة تأهيل الأطر، من خلال صقل المعرفة والاطلاع على تجارب الدول في مجال تدبير الشأن العام للوقوف على عوامل نجاحها وإخفاقها واستخلاص الدروس والعبر منها.
ويعتبر تكوين وتأهيل الأطر خيارا لازما لتلقينهم طرق البحث الحديثة وكيفية التواصل من أجل الحصول على المستجدات القانونية وطريقة توظيفها في المجال الملائم لها، وتشبيعهم بروح المبادرة واليقظة مع الحفاظ على الضبط وتخزين المعلومة وحسن استعمالها.
وقد أصبح التكوين من البرامج الاساسية في المخططات التوجيهية لكافة المرافق العمومية ، لما له من تأثير ملموس في إرساء الحكامة الجيدة وتحسين الخدمات العمومية وخلق تدبير منسجم مع القواعد القانونية وتحيين المعرفة وفق المستجدات الحديثة .
5-التحسيس والتواصل والمرافقة
لا يمكن إغفال الأهمية كبرى للتحسسيس بجدوى النص القانوني ونجاعته ومجال تطبيقه وكيفية التعامل معه والالتزام بمضمونه والتقيد بروحه والهدف منه، ولن يتم ذلك إلا عن طريق خلق قنوات للتواصل مع كافة الفعاليات والمشرفين على تدبير الشأن العام كالشبكات العنكبوتية والبوابة الالكترونية لكل جهاز، ووسائل الإعلام بشتى أنواعها كالمجلات والنشرات الدورية تتضمن كافة المستجدات القانونية ، دون إغفال تخزين القرارات الصادرة عن المحاكم خاصة على مستوى محكمة النقض لخلق بنك للاجتهادات القضائية من أجل نشرها تعميما للفائدة وتوحيد لرؤى والتوجهات للمساهمة في معالجة الإشكاليات التي كانت موضوع جدل، وإعطاء الإهتمام لتنظيم الندوات وإعداد الدراسات التي تتطرق لكيفية تطبيق النصوص القانونية بمنظور علمي وعملي وتحرص عل تمتين الثقافة القانونية ، مع التفكير في إحداث مراكز للتواصل القانوني التي يمكن أن تلعب دورا كبيرا في القيام بكل هذه الأنشطة.
ولن نقف عند حد هذه الأنشطة ، بل لابد من مرافقة تطبيق النصوص القانونية بطريقة صحيحة من خلال تقديم الخدمات القانونية للمشرفين على الشأن العام بإعطاء التوضيحات الضرورية ، حرصا على سلامة تطبيق النص القانوني وتفاديا لانحرافه عن الطريق المرسومة له والهدف الذي انشئ من أجله ، درءا لأي مخاطر قانونية تكون سببا في خلق نزاعات قضائية مكلفة.
6- الرصد والتحليل
يمكن للإدارة أن تقوم بدراسات متخصصة لرصد الإشكاليات التي تثيرها النصوص القانونية والأسباب المؤدية لخلق منازعات قضائية ، وللقيام بذلك هناك نوعان من الدراسات ، إما:
عموديا: من خلال إنجاز دراسات مدققة ومركزة حول بعض المنازعات ذات الكلفة المرتفعة على خزينة الدولة، ورصدها عند جميع الإدارات، مثل الاعتداء المادي، والصفقات العمومية، واسترجاع أراضي الدولة… .
أو أفقيا: بإنجاز دراسات حول منازعات قطاعات معينة ، مثلا (وزارة التربية الوطنية كالحوادث المدرسية، وزارة الصحة بالنسبة للمسؤولية الطبية…).
وهكذا، وانطلاقا من تحليل ملفات المنازعات، وكذا الأحكام القضائية الصادرة ضد الدولة إما كليا أو جزئيا، يمكن استخلاص النتائج المتعلقة بنوعية المنازعات الإدارية الأكثر تداولا بسبب خلل معين ، وأسباب خسارة الدولة لمنازعاتها أمام القضاء ، والتي لن تخرج عن أحد الأمور الآتية:
- أسباب ترجع إلى الإدارة:
– عدم احترام شكليات معينة من طرف الإدارة؛
– عدم احترام القانون من طرف الإدارة… .
- أسباب خارجة عن الإدارة:
– غموض في النصوص؛
– عدم تفهم القضاء لوضعية الإدارة؛
– تضارب في التأويل والتفسير.
7-التطبيق السليم للقانون
التطبيق السليم للنص القانوني يستلزم التقيد بمضمونه واستعماله للغاية التي أحدث من أجلها بعد قراءته قراءة دقيقة وسليمة. فقيمته تتجلى في التطبيق الصحيح الذي يضفي عليه صفة المصداقية والقوة تحقيقا للأمن القانوني ، فإذا أسيئ استعماله فقد قيمته وأفرز عدة ظواهر منها المنازعات القضائية و انعدام السلم الاجتماعي وفقدان الثقة وتحميل الدولة تكاليف مالية معتبرة …
لذا، فالتطبيق السليم للنصوص التشريعية يتطلب تمكين المشرفين على الشأن العام من ثقافة قانونية ودراية واسعة بالمصطلحات والمستجدات المتعلقة بالحقل القانوني، وعلى إلمام بكيفية قراءة النصوص القانونية والقدرة على الاستنتاج والاستنباط لهذه النصوص لفهم مضمونها بعيدا عن التأويل الخاطئ الذي يبعد المقصود من وضعها.
8- الفض الودي للمنازعات
يمكن أن يتوسع مجال الوقاية من المخاطر القانونية بعد نشوء النزاع بسلوك وسائل بديلة للقضاء لفضه لما لها من مزايا، كالطرق الودية مثل التوفيق والوساطة وكلها تتسم بالطابع غير الالزامي للتسوية والسرعة والمرونة والاقتصاد في النفقات مع الحفاظ على السرية، ونلخصها فيما يلي:
- الوساطة «La Médiation »: وتعني تدخل طرف ثالث محايد، يختاره المعنيون بالنزاع، يتوفر على خبرة في الميدان المتعلق بالنزاع تكون له القدرة على إقناع الأطراف والتحاور معهم..
- التوفيق«La conciliation » : ينبني على اقتراح أسس التسوية، ويعتبر دور الموفق أكبر من الوسيط نظرا لأن هذا الاخير يقدم توصيات و اقتراحات لفض النزاع.
ويمكن اعتبار التحكيم«L’arbitrage » نوعا من الحلول وإن كان له طابع تقريري يتم اللجوء إليه بعد حدوث النزاع ، فهو اتفاق على تعيين شخص أو عدة أشخاص يتولون الفصل في النزاع المعروض عن طريق إصدار قرار تحكيمي نهائي و إلزامي.
وقد أصبح اللجوء إلى الوسائل البديلة لفض المنازعات مطلبا انسانيا واقتصاديا واجتماعيا، يهدف بالأساس إلى التقليص من المنازعات المعروضة على القضاء بكلفة أقل ووقت أقصر، فضلا عن الدور الكبير الذي يلعبه في تثبيت الثقة في الاقتصاد الوطني.
نستخلص مما ذكر أن كل هذه الآليات تعمل على تثبيت وترسيخ الحكامة القانونية التي تفرز نتائج ايجابية تحد من المخاطر في تدبير الشأن العام، وتقلص من الاختلالات التي تؤدي إلى خلق نزاعات تكون تكلفتها باهظة وانعكاساتها سلبية على خزينة الدولة، و تخفف العبء عن المحاكم.