محمد العلمي المشيشي : لهث القانون وراء تهافت العلم و التكنولوجيا
- الدكتور محمد الإدريسي العلمي المشيشي أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس-الرباط و وزير العدل السابق.
وإذا كان تمديد القانون إلى المجالات العلمية يهدف قبل كل شيء إلى حماية الإنسان والبيئة من الاستعمال المنحرف للعلوم والتقنيات، فإن هذا الموضوع يثير مشكلا أخطر وأعمق يتعلق بالمسئولية القانونية المترتبة عن التصرفات الإنسانية، في حد ذاتها، وخاصة على العلماء والمخترعين. ومن هذه الزاوية يجب التذكير بصعوبة التحكم في هذه المسألة لأن تقرير تلك المسئولية يحتمل تهديدا حقيقيا للعلم والتقدم المعرفي، ولأن تجاهلها يعرض الإنسانية لمخاطر غير مسبوقة، بحيث يتعين الوصول إلى التوازن ولو كان ذلك دقيقا وهشا وغير قابل للاستقرار (3).
يبرز النقاش بين هذه المتناقضات والمواقف اللينة فائدة طرح موضوع المسئولية في صلب مقابلة العلم والمجتمع. ما معنى المسئولية العلم المسئول؟ وما مضمون عبارة مسئولية العلم والعلماء؟ لأن هذه الأسئلة لها موقع مركزي في الخلافات التي تهم العلماء والمقررين السياسيين والحركات الجمعوية والسياسية وعموما سائر المواطنين، وترجع في نهاية المطاف إلى تجديد مفهوم المسئولية بكل أبعاده، في مجتمع يعرف ابتكارات كل يوم ومخاطر كل يوم ويتمنى التحكم فيها(4) . فما هي المؤسسات المناسبة لتدبير المخاطر العلمية والتكنولوجية الجديدة؟ وهل يجب اعتماد قواعد مجبرة؟ وهل يجب أن يتحمل كل إنسان المسئولية العلماء والمخترعون أو المنتجون والمقررون فقط؟
فهذا الموضوع متجاذب بين فكرين متوترين، يربط أحدهما التقدم العلمي بتنمية الإنسانية ويرتب الآخر مسئولية تدهور الإنسانية على ذلك التقدم. وتهدف هذه المقاربة من خلال منظور واسع للمسئولية أن تلقي بعض الضوء على المكانة التي يحتلها القانون في العلاقة بين العلم والمجتمع. هل يمكن الحديث عن علم مسئول؟ وما هو المعنى الذي يجوز إعطاؤه لعبارة المسئولية عن فعل العلوم قياسا على المسئولية عن فعل الأشياء والتقنيات؟ وكيف يمكن تحديد المسئوليات في الحوادث التكنولوجية بل والكوارث الطبيعية بالنظر لإمكانيات التنبؤ والإنذار المبكر؟ وما هي المؤسسات التي تتحمل تدبير المخاطر العلمية والتكنولوجية؟
تلك تساؤلات تمكن من إغناء الفكر حول أدوار المسئولية خاصة في حالات الاستنساخ الحيواني، واستعمال التكنولوجية المتناهية الصغر، وعند وقوع الضرر الإيكولوجي وضرورة التتبع الرقمي وتطوير الاختراع البيولوجي الطبي الخ وذلك بالبحث عن أجوبة أو حلول قانونية مرضية.
في الواقع يسجل المتتبع تنامي تيارين أمبرياليين مهيكلين يهدف كل منهما إلى تشكيل المجتمع وفقا لمنظوره المنطقي ولقيمه الخاصة. من هذه الزاوية، يمكن اعتبار القانون نوعا من تكنولوجيا الهندسة المجتمعية، ترمي إلى توجيه وتنظيم وتأطير ونوظمة الآثار الاجتماعية للتكنولوجيا، وذلك بمحاولة إخضاعها للشريعة العامة منكرة خصوصيتها تبعا لمبدأ حيادها(5) . هكذا يحاول القانون ربط التكنولوجيا بمبادئ وقيم روحية وأخلاقية وفلسفية وسياسية وثقافية، بينما ترى التكنولوجيا في ذلك أصفادا غير مناسبة ولا مفيدة وتقييدا لاستقلالها وتطورها. مما يبرز فرقا بين أصول شرعية ومنطق كل من القانون والتكنولوجيا، يضفي الغموض والتعقيد والتناقض والتنازع بينهما قبل محاولة التقريب والتنسيق بينهما. في جميع الأحوال يكون الفراغ القانوني الملاحظ أمام التطور العلمي والتكنولوجي غير واضح ولا دقيق ويبقى سببا لسوء الفهم.
وتبعا لذلك صارت النسبية تطبع الثقة في العلوم والتكنولوجيا محل الثقة المطلقة، بل وتسلل إليها التخوف والتشكك، مما يخدم مكانة القانون المعتمد عليه في الحيلولة دون الغلو أو المبالغة وفي إنزال الجزاء من أجل إعادة التوازن المنسجم بين التطور التقني والاجتماعي. ويسري هذا كذلك على العلماء والتقنيين الذين يطالبون بإطار قانوني يسمح باستيعاب التطور من طرف المجتمع ويمنح أسسا أخلاقية ومعنى للمسئولية.
توحي هذه الإشكاليات الجديدة بقرب قفزة نوعية وكمية لطبيعة العلاقات بين القانون والعلوم والتكنولوجيا، وبظهور بعد جديد لرهاناتهما المتقابلة، من خلال البروز الحاد لبعض الآثار العلمية والتقنية من جهة، والدفاع عن قانون لا يتخلى عن جوهره ولا يخلط الغاية بالوسائل عند معالجة موضوع المسئولية(6) من جهة أخرى.
بداية، يلاحظ أن القانون كان يسري تقليديا في المجال الوطني أو الإقليمي الخاضع للسيادة الوطنية، رغم تواجده بجانب القانون الدولي الذي كان يغير الوضع بقوة في بعض الحالات. ولقد ساهمت التكنولوجيا في قلب ترتيب المجالات لأنها لا تخضع للحدود السياسية بين الدول(8) وخير مثال على ذلك هو الشبكة العنكبوتية والإعلام السمعي البصري والاتصالات بكل حواملها. وبالموازاة صار القانون الدولي بشقيه العام والخاص يفرض نفسه على القانون الوطني مجسدا تقلص السيادة الوطنية في السيطرة على التكنولوجيا. وقد ينتج عن ذلك تقارب أو تعارض بين الأنظمة القانونية الكبرى كما هو الحال بين قانون الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي في ميادين الملكية الفكرية بكل تطبيقاتها التجارية والصناعية والأدبية، و حماية المعطيات الشخصية وتطبيقات البيوتكنولوجيا. من البديهي أن تنظيم استعمالات وآثار التكنولوجيا يساعد على عولمة القانون المفروضة بعولمتها ذاتها. وهذا ما يخلق ضرورة تصور أدوات ومناهج جديدة لوضع القانون.
من المعلوم أيضا أن وضع القانون وتطبيقه واستيعابه يتطلب مرور زمن معين. لكن سرعة الوتيرة الناتجة عن سرعة التطور وجهل نتائجه تتموقع في منظور زمني آخر. ويصبح الخطر كامنا في سرعة تعرض كل قانون جديد للتجاوز والنقد والتعديل والإلغاء حسب درجة دفة التفاصيل والجزئيات التي يعنيها. ويجبر هذا الأمر على التساؤل عن الوقت المناسب لتدخل التشريع؟ وعن كيفية الاقتصار على المبادئ العامة القارة مع إمكانية تطويرها مستقبلا؟ وإذا كانت جودة واستقرار الأحكام القانونية ضرورية للأمن القانوني والقضائي(9) ، فإنها سرعان ما تضعف بسبب لهث القانون ثم وهنه وعجزه عن مسايرة وتيرة التطور بل التطاير أو التهافت التكنولوجي والعلمي. ولعل خير مؤشر على هذه الخاصية توارد مقتضيات جديدة تلزم بالمراجعة والملاءمة الدورية والسهر على فعلية تطبيق القانون.
يجلب الانتباه أيضا إلى أثر الزمان والمكان على المادة المقننة. فقانون البيئة مثلا يصل إلى وضع نظام قانوني للماء والهواء باعتبارهما من الأموال أو الثروات المادية المملوكة لكل أجيال البشرية(10) ، لكن قانون التكنولوجيا يكرس قوة تقدم الأموال المعنوية اللامادية رغم الصعوبات المتعددة الناتجة عن غياب نظام قانوني واضح لمفهوم الصحة والحياة والموت، المعلومة والإعلام بل والملكية الفكرية غير المتوازنة ومركز المعطيات الشخصية بين حقوق الإنسان والاستغلال التجاري.
في هذا الاتجاه، يلاحظ أن التكنولوجيا الطبية والبيوتكنولوجيا تؤدي إلى مراجعة مستمرة لنظام شخصية الإنسان، والجنين وتطبيقات علم الجينات، ومفهوم الحياة والموت ومفهوم الزواج وتكييف إيجار الأرحام (11) ضمن الاتجار في جسم وأعضاء ومكونات جسم الإنسان. كما أن التقنيات الجديدة للاتصال شجعت على الاعتراف باقتصاد لامادي وعلى مراجعة مفاهيم الكتابة والتوقيع والطبيعة العرفية والرسمية، لإخضاع كل ذلك للوسائل الإليكترونية والمعلوماتية والرقمية واستعمالهما ضمن أدوات الإثبات في كل أنواع المنازعات بما فيها الجنائية.
1-زعزعة استقرار القانون
تفرز تطبيقات التكنولوجيا ظهور مجالات جديدة يجد القانون فيها إمكانيات للتأثير بشكل آخر على الحياة. في العالم الرقمي تؤدي سهولة إعادة إنتاج وتعديل ونشر الأعمال الفكرية إلى اختلال عميق لحق الملكية الفكرية (12)، ذلك أن ذات الأحكام يجب أن تحمي المؤلفين ضد التزوير والتحريف بواسطة التحميل غير المشروع من جهة، وأن تسمح لأشخاص آخرين أن يستفيدوا من ثقافة الاقتسام والاشتراك تشجيعا لملكية جماعية منظمة. وفي هذا الإطار يمكن القول بأن النقاش الدولي الدائر حول البرامج المعلوماتية يكتسي أهمية خاصة حتى في المنظمة العالمية للتجارة.
يطلب من القانون تحديد توازن بين ملكيات يعتقد أن لها نطاقا مبالغا فيه ومنتقدا من تكنولوجيات موضوعة رهن إشارة مستعملين مغالين بدورهم ويعتبرون أن كل شيء ملك للجميع من جهة، ونطاق حرية التعبير والتواصل والابتكار من جهة أخرى. بالتالي يتعين أن تفرض التقنيات الجديدة للإعلام والاتصال مراجعة نظام حماية الحقوق والحريات الأساسية وكذا المعطيات الشخصية للإنسان، ومراجعة مفهوم هوية الإنسان الذي يتعرض اليوم للفبركة و للتعدد بفعل الخريطة الجينية والإمكانيات الإعلامية(13) حتى يتأتي الوصول إلى تصور للوجود العملي أو الوظيفي للشخص في أمكنة متعددة بوقت واحد.
ولتفادي تقسيم القانون بناء على التكنولوجيات المتعلقة بميدان واحد، يستحسن اعتماد مبدأ حياد التكنولوجيا من أجل تطبيق ذات القواعد على جميع التكنولوجيات المرتبطة. لكن الممارسة العملية تبين أن هذا الأمر ليس بالسهل وبأن التطورات التقنية ترغم على شيء من التعديل والتخصيص في تطبيق القواعد العامة مثل ما هو عليه الحال في الإعلام السمعي البصري والصحافة الإليكترونية. وليبقى القانون عمليا وفعالا يجب أن يعتمد مبدأ الواقعية التكنولوجية كعامل للتنويع والتعقيد في شكله ومضمونه.
2-تلميع القانون:
يتأثر القانون بفعل الزمن فيصدأ ويخفت دوره. ومن شأن استمرار الاحتكاك بالتكنولوجيا الدفع إلى مراجعته باستمرار وإعادة هندسة المفاهيم والقواعد الكلية والفرعية الأساسية مع الكشف المتجدد للخصائص الجوهرية الكامنة وراء أغشية الصدأ المتراكمة. يتعين على القانوني أن يرجع إلى الجوهر أو الماهية الأصلية للمفاهيم والقواعد الكلية ليطبقها على المجال الجديد المترتب عن التكنولوجيات، حتى يتأكد من خاصيتها العملية وحكمتها وفائدتها وقدرتها على التطور . ويسري هذا التوجه على مفاهيم مثل الشخصية الإنسانية والهوية والملكية والحياة الخاصة والمسئولية والأمن والعقد ومبادئ الاحتياط والتوقع والاستباق، والمساطر والإجراءات.
كما أن التأطير القانوني للتكنولوجيا وآثارها يرغم على اعتماد تقاطع عدة حقوق قانونية عامة ومتخصصة، منتجا لعلاقات جديدة أفقية وعمودية مثل ما يميز قوانين العقود المدنية وحرية المنافسة وحماية المستهلك والتجارة الإليكترونية والمسئولية المترتبة عنها. ويترتب عن هذا تراكم طبقات القوانين القابلة للتطبيق على محيط معين، تفرض تنقل القانوني أفقيا وعموديا في إطاره. بالتالي يصبح من الضروري مراجعة الفواصل العازلة بين بعض حقول المعرفة ومنطقها للحفاظ على وحدة القانون الواجب التطبيق(14) . معنى هذا أن المناخ التكنولوجي يشجع على تفتح الفكر القانوني وعلى تلاقح متبادل للحقول القانونية. وفي واقع الأمر لن يكون هناك قانون خاص بكل تكنولوجيا لأن كل تكنولوجيا سوف تدفع الحقول القانونية إلى الانضمام لبعضها والتمازج بينها بشكل جديد متميز يسمح بالحفاظ للقانون على خاصيته العملية تحقيقا لوظيفته الضبطية. لهذا يجوز القول بأن التكنولوجيات تشبه صفائح الكرة الأرضية في رسم جيولوجيا جديدة للقانون بفعل تغيرات ملموسة وغير ملموسة لمواد القانون.
تفتح التكنولوجيا ميادين جديدة للبحث والمناقشة القانونية للمفاهيم والمبادئ والفلسفة ومقارنة التجارب بتعاون موضوعاتي لمجموعات العلماء والمختبرات داخل شبكات ومؤسسات وطنية و دولية بتشجيع من الحكومات والفاعلين الاقتصاديين. ويحاول تدريس القانون مسايرة ذلك من خلال اعتماد مواد قانونية جديدة كقوانين البيئة والماء والصحة والاتصالات الخ. كما يعمل التدريس في الميادين العلمية والتقنية على إدراج المعرفة القانونية في برامج تكوين المهندسين والأطباء والتقنيين.
تبعا لذلك يصبح البحث عن الفعالية القانونية للتطبيقات التكنولوجية يكتمل بفعل مؤسسات النظامة الذاتية والنظامة المؤسساتية، واعتماد معايير معينة، ومناهج الصلح والوساطة والتحكيم والخبرة إلى جانب القانون. يجري البحث عن التوافق القابل للتعديل براغماتيا وتجريبيا، بحيث تكون فائدة التطور أكبر لصالح التعاقد أو الاتفاق على حساب القاعدة أو الحكم القانوني، لفائدة قانون متصور لشبكات، متعدد المراكز، تتجاور وتتساوى فيه الهياكل العمومية والخاصة. ولم يعد نادرا أن يسترجع القانون نتيجة هذا التطور.
كما أن المصالح التقنية الموجودة ضمن الإدارات والمؤسسات العمومية لا يتم استثمار مؤهلاتها وإمكانياتها لتعبئة الموارد المختلفة في خدمة الإعداد الجيد للمقتضيات القانونية في الميادين التقنية، رغم أن التكنولوجيا تساهم في تعدد القواعد القانونية وخرق الأمن القانوني والقضائي وتعميق غموض القانون وتعقيده. لكن من حسن الحظ أن المعرفة القانونية وفهمها ميسر بفضل تقنيات الإعلام والاتصال بواسطة محركات البحث وقوائم المعطيات المتعددة الخاصة بالتشريع والاجتهاد والفقه والوثائق الإدارية والتقنية، الصادرة عن المؤسسات العمومية والخاصة. ولقد أثرت هذه الوسائل بقوة في تعميم مناهج الولوج إلى المعلومة القانونية بشكل واسع. في هذا الإطار، يستفيد رجال القانون والعلماء والتقنيون من مواقع الشبكة العنكبوتية، أنترنب، التي تمكن من سد الثغرات المعرفية للجميع ومن تبادل الآراء. كما أن المنتديات الفكرية المنظمة وحرية الاستفادة من أشغال المؤتمرات والندوات تساهم في تحسين أداء المؤسسات الرسمية والرأي العام. وتساعد كذلك على معالجة القانون من زوايا جديدة كالمقارنة الأفقية والمنطق والأنظمة الخبيرة وتقنية التشريع.
يستخلص مما سبق مخاطر احتمال استيعاب القانون للعلوم والتكنولوجيا في مكانة مركزية من مضمونه تتحكم في مساره. إذا كانت تلك المعطيات أسبابا ونتائج يجب على القانون اعتبارها بروية، يجب عليه أيضا وضعها في أفق توجهه لاستخلاص التوازنات أو لفرض قواعد التوجهات والاختيارات، بإدماج العوامل الاجتماعية والثقافية والقيم الإيديولوجية والإنسانية. يتعين أن تبقى هذه الاعتبارات في صلب جوهر القانون لتقرير الاستعمال الأنسب للتكنولوجيا. ذلك لأن المفروض هو تجنب الخلط بين الأسباب والنتائج، بين الغايات والوسائل كما يقع كثيرا في التشريع الحالي.
ومن خلال الرهانات العلمية والتكنولوجية وتطبيقاتها، تتحدد مضامين وغايات القانون بمظاهر اقتصادية محلية ودولية معلنة أو مغلفة، كما يتجلى ذلك بالنسبة لوسائل الاتصال والإعلام وللمنتجات الصيدلية والطبية بل والغذائية والفكرية الخ. ونظرا لضخامة المصالح الاقتصادية والصناعية والتجارية، والسياسية والاجتماعية، فإن قوانين التكنولوجيات تخضع في تصورها وإعدادها لأهداف حماية أو تقليص نفوذ الفاعلين. وتبعا لهذا يصير فهم وتأويل القانون المرتبط بالتكنولوجيا مقيدا حتما بتحليل اقتصادي يتعلق بمنطق وبغاية أخرى لإعمال القاعدة القانونية. ولعل خير مثال على هذا الرأي ما تتسم به قوانين حرية المنافسة وحماية المستهلك. في هذا الإطار، يدخل القانون في باب تحليل اقتصادي لمخاطر العمل. ويبدأ الحديث عن مبادئ الاحتياط والأمن والسلامة والتوقعية والمقروئية للقانون. ومثالا على ذلك، إذا كانت الكلفة القانونية لعقوبة التزوير والاعتداء على الملكية الفكرية بالأنترنت ضعيفة، فإن قاعدة المنع والتجريم تؤخذ بالاعتبار في حساب المخاطر، مما يشجع على خرق شائع للملكية الفكرية. ويسري ذات المنطق على انتهاك حماية المعطيات الشخصية والبيئة والملكية الصناعية الخ. بالتالي يحول المناخ الاقتصادي القانون إلى وسيلة للتدبير تقلي العلاقات بين الغايات والوسائل.
في الواقع، تخضع قوانين التكنولوجيات لسلطة وفعالية المجموعات الضاغطة التي تدافع عن مواقفها المهيمنة ومصالحها المالية. وقدرتها مهولة على التأثير على محتوى القاعدة القانونية أو منع وضعها، وتحويل غايتها أو تقليص عقوبة خرقها. وإذا لم يكن في هذا الأمر جديد، فإنه يلاحظ قفز لمستوى الوضعية يدفع من التغير الكمي إلى التغير النوعي. وتفتقر قوانين التكنولوجيات خصوصا إلى الروح والبعد الإنساني. فهي تنسى أنها وجدت من أجل الإنسان، المواطن بصفته شخصا مكونا لجسم اجتماعي. تظهر القوانين الموسومة بالتكنولوجيات كقوانين متعلقة بأشياء مادية وغير مادية، وبقيمها الاقتصادية المواكبة لاستعمالاتها. بل يمكن القول أنها تعامل الإنسان نفسه والعلاقات المجتمعية كشيء قابل للصنع والتعديل من خلال مصطلحات المستهلكين والمستفيدين والمستعملين الخ. تلاحظ أشيأة أو تشيئ للأنسان وتصرفاته، من خلال التعبير في شكل معادلات رياضية، بل ورموز إليكترونية أو ممغنطة. تقوم هذه القوانين بإخراج سينمائي لدور الفاعلين والمنعشين وغيرهم، وبالإحالات القانونية على الحريات والحقوق الأساسية المسبوغة بمعالم التكنولوجيا وأدواتها يتم الرجوع إلى الأخلاقيات والقيم الإنسانية في القوانين التكنولوجية، بحيث يملأ القانون نسبيا فراغ المؤسسات السياسية.
ويظهر ذات الإهمال على سلوك المواطنين والمجتمع المدني ووسائل الإعلام والمسئولين السياسيين والمثقفين الذين يبررون ضعف مستواهم العلمي وقلة شجاعتهم بالعذر السهل المتجسد في تعقيد العلوم والتقنيات، وهو ذريعة من طبيعتها الفصل بين واقع المجتمع، والعلوم الاجتماعية والإيديولوجيات. ولعل خير مثال على هذا هو اعتماد قانون حماية المعطيات الشخصية علاقة بالحريات بدون مناقشة عمومية تذكر حول جوهر الموضوع، أي تعلقه بحميمية الإنسان وحرياته الخاصة، لأن كلا من الحكومة والبرلمان اقتصرا على الإسراع للاستجابة لصيحات بعض المواطنين ضد التعسف الذي كان ولا يزال سائدا. ولقد كان حريا أن تستغل المناسبة لتحديد اختيار مجتمعي مرتبط مباشرة بالحقوق والحريات الأساسية بمنظورها الدستوري الشامل. يعطي القانون المذكور وغيره تجسيدا للانطباع بأن القانون يساهم في تقننة أو مكننة الإنسان والمجتمع ويتحول إلى برمجية معلوماتية تتحكم في حياة المجتمع، وتخفي أيادي الفاعلين الحقيقيين. بالتالي حيث أصبح القانون متمحورا حول الوسائل، فإنه صار يساهم في إهمال الغايات التي يجب أن تكون رافعات فعالية في تأطير قانوني للتكنولوجيات من أجل نفخ روح المسئولية والمصلحة العامة فيها.
استنتاجا من كل ما سبق، فعلاقة القانون بالعلوم والتكنولوجيات معقدة وغامضة، ولكنها لا تمنع التفاؤل رغم صعوبة التأقلم التي يعيشها القانون ورجاله. فالعالم العلمي والتكنولوجي يحتاج أكثر فأكثر للإطار القانوني الجوهري وليس إلى تقنية القانون. وتموقع القانون في صلب الحقول العلمية والتكنولوجية يجب أن لا يفقده طبيعته العميقة وماهيته وجوهره. فالقانون غني بما يفيد العلوم والتكنولوجيات، وهاته الأخيرة قادرة على المساهمة في ابتكار قانون جديد وفقهاء مناسبين للحياة الراهنة(17). الهوامش:
2- Dominique Lecourt, Humain et posthumain, PUF 2003, p. 14.
3- Jean-Pierre Dupuy, Pour un catastrophisme éclairé, Seuil, 2002.
4 Droit, science et technique, quelles responsabilités ? Travaux du colloque international du réseau Droit, Sciences et Techiques, (GDR, CNRS 3178 du 25/26 mars 2011.5 Christian Godin, La fin de l’humanité, éd. Champ Vallon,2003, p. 54.
6 Etienne Vergès, Droit, sciences et techniques, quelles responsabilités ? LGDJ, Paris, 2011.
7 Christian Godier, op. Cit. P. 54.
8 -عبد الرحيم رجواني، عصر المعلومات، جموح تكنواوجيا المعلومات في ظل العولمة، سلسلة المعرفة للجميع، رقم 9، شتمبر 1999، مطبعة النجاح، الدار لبيضاء.
-9 عبد الحميد ميجة، مبدأ الأمن القانوني وضرورة الأمن القضائي، مجلة القانون المغربية، 2009، ص. 3.
10 Jhon Rawls, Théorie de la justice, Seuil 1987, section 44.
11- محمد المساوي، الأم البديلة وتجارة الأرحام، مجلة الحقوق المغربية، العدد 12، سنة 2011، ص. 57.
بشرى النية، الحماية القانونية لبرامج الحاسوب، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائئية، سلسلة الدراسات والأبحاث، العدد 10، مارس 2009، الرباط.
13 Henri Atlan, La fin du tout génétique, Paris, INRA, 1999.
14 Marie-Angèle Hermitte, Qu’’est ce qu’un droit des sciences et des techniques ? Tracés, revue de sciences humaines, n° 16, 1909, p. 63.
15- من هذه الزاوية يمكن الرجوع إلى محاضرتين مهمتين أقاهما ماكس ويبر سنة 1917 وتم جمعهما بعد ذلك في كتاب رائع تحت عنوان العالم والسياسي، Le savant et le politique, Plon, 1959, notamment p. 62 et 63.
16-أحمد خليفة ملط، الحماية الجنائية لمعطيات الحاسب الآلي، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2007؛ محمد حسين منصور، المسئولية الإليكترونية، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2005.