فصل المقال في ما بين التأمل والحكم على المقعد من اتصال
هناك العديد من الـمفاهيم القانونية تمّ إيجادهـا بعـد جهـد جهيد وزمـن تلـيد، فتــرسخـت فــي الأذهــان والعقـول، وصارت جـزءا لا يتجزأ من المنظومـة القانونيـة ككل.
وليـس هذا حكرا على قانون بلـد معين أو دولـة معينة.. بـل إن البعض منها، أي المفـاهيم القانونية، صار يتـمتـع بطـابـع كـوني، ولــيـس هناك مــن اختلاف في ما بـيـنها عـلى مستـوى جـميع الأنـظـمـة القانونـيـة مـن ناحـية المضمـون والجـوهر، ما عـدا من الناحية الشكلية أو بشكـل أدق من ناحية استعمالاتها اللغوية.
وكونها كذلـك، فلا بـد وأن لها أهميـة بالغـة اقتضتها الحياة المجتمعيـة. وقد لا يلمس هـذا الفارق وهذه الأهميـة إلا أولئك الذين يعملون في المجال القانوني، ليـس جميعهـم، وإنما النـزر القليل منهم فقط.
ومـن بين هذه المفاهيم التي تشـدّ الانتبـاه بشكل لافـت، أولا بسبـب استعمالها المتكرر وثانيــا بسبـب خطورتها المتعددة الأبعاد، ما يصطلـح عليه في المجال القانونـي بـ: التأمـل ثـم الحكـم علـى الـمقـعـد.. وهما مفهومان، يكاد يكون أحدهــما مضادا للآخـر، ذلك أن التأمل هو الفتـرة الزمنيـة أو المهلـة التي تسبـق النطـق بالحكـم، ومـن هنـا تـأتـي أهميتـه وفـي الـوقـت نفـسه خطـورتــه. أما الحكـم على المقعد، فهــو النطق الآني واللحظي بالأحكام دون التأمل فيها، أي بعـد الانتهاء مـن مناقشة الملف وبعـد أن يكون المتهم آخـر مـــن تكلّـم، إذا مـا تعلـق الأمـر بقضيـة جنحيـة، ولعل هذا هو ما يُظهـر خطـورة هــذا المقتضى.
وإذا كان القانون المغربي، خاصة قانون المسطرة المدنيـة ثم قانون المسطرة الجنائيـة، قد تم التنصيص فيهما صـراحـة على وجــوبـيـة التأمل أو المداولـة قبل النطـق بالمقـرر في جميـع القضايـا، لـكـن لـم يتــم تحديـد الوقت المعلوم لذلـك. وظـل المتعارف عليه في هـذا الخصـوص أن تـم حصـر الأجل في أسبـوع إلـى أسبوعيـن. وربما لهـذا السبـب (عـدم التحـديـد القانـونــي للتأمل والمداولة)، يتم اللجوء في الكثير من الأحيان، خـاصة فـي الجنح التلبسية اعتقال، النطق بالأحكام على المقعـد.
وقد يحمل النطق بالحكم على المقعد في حد ذاتــه، خطـرا داهما لا يمكن رده في جميع الأحوال. إذ من الصعوبة بمكان أن يتم إصدار مقررات سالبـة للحريـة، قد يصل إلى عدة سنوات على المقعد دون تأمل في وثائق الملف أو حتى التمتع بما تمنحه (الخلـوة) من هـدوء وصفــاء ذهن. ولعلّ هذا هـو السبب الـذي جعـل البشرية جمعاء تبتكر هـذه المفاهيم، إذ من مكان إلى مكان ومـن موضع إلى موضع قـد تتغيـر الأمزجـة، وقد تتقلّب القلوب؛ وبيـن هـذا وذاك تتقـرّر مقـرّرات: أوامر، أحكام، قـرارات، لا محالة ستكون مختلفـة عن بعضها البعض ولو تعلق الأمر بوحدة الأطراف وبوحدة الموضوع والمتغيـر الوحيد كان هــو زمان ومكان التأمـل أو المداولة…
وأي متتبع لهذا الأمر أو مهتم أو ممارس، له حضور دائم في المحاكم ويعرف جيدا الحالة التي هي عليها، وعـدد القضايا وسـوء التنظيـم الـذي يطال القاعات خاصة قاعات جلسات التلبسـي، اعتقال، فـلا مندوحـة من أنه سيحسم بشكــل قطعي صعوبـة بـل وخطـورة إصدار الأحكام، ليـس علـى المقعد وحسـب وإنما حـتى تلـك التي تصدر فيـها الأحكام عـند آخـر الجلسة.
فقد يتجاوز عــدد القضايـا الجاهزة فـي الجلسة الواحدة فـي أي محكمة من محاكـم الوطـن، العشـر قضـايا عـلى الأقـل. وأخذا بعين الاعتبار باقي القضايا غير الجاهـزة، وإذا ما تـمّ افتتاح الجلسة مثـلا عند منتصف النهار، فرفعها قد يكون عنـد حلـول الظلام.. ومع الضوضاء التي تكون غالبا في مثل هـذه الجلسات، ثـم ضغط المناقشات وطولها والمرافعات.. فلا مناص من أن قـدرات القاضي الذهنـية ستـضعـف بسبـب الإرهـاق والتعـب.. وإذا أمـكن تصـور صعـوبة وخطورة إصـدار مقررات في هـذه الحالة وفـي هـذه الوضعيـة، فـماذا يمكن القـول، لـو تم إصدارها على المقعـد؟؟
ربما، هناك عوامل كثيرة متضافـرة تتحكــم في حــدوث مثل هذه المشاهد التي ما فتئت تحـدث مـرارا وتكـرارا في العديد من القضايــ. فكثرة القضايا ثـم ضعــف الخدمــات الـمرفقيــة وبـــطء سيــر الإجـراءات وتعقيدهـا.. فضلا عــن نـوعيـة القضايا التي لا تتطلب للفصل والبث فيها كل هــذا الجهــد وكل هذا التعب.. ولفهم هذه النقطـة جيـدا، يـكفـي معرفـة الحالة الاجتماعية للأطراف المتنازعـة في القضايـا الجنحيـة على الخصـوص، فجلّهـم تقريبــا، يعانــون مـن الفـقــر المدقع والهشـاشـة وقـلـة ذات اليد.. ونـزاعاتهـم كلها، ما هــي إلا نتـاج حصــري لـلإزراء الذي يعيـشـون تحت وطأتـه.
ولو ارتفــع عن هؤلاء مـا يعانونـه مـن ضـوائق مالية بالخصوص، فمن المؤكـد سيصير المغرب مثله مثل العديد من البلدان المتقدمة اجتماعيا، والتي صارت محاكمها خاليـة من أي نـزاع، وما عـاد سجانوها يجـدون من أحد ليـسجنـوه…
وربما قد يتلخص كـل هــذا، في تلـك العبارة الهادفـــة التي تقول: “افتح مدرسة تغلق سجنا”.