فرض جواز التلقيح، أي مشروعية؟
سلمى مبتكر، باحثة في القانون
على خلفية تفشي جائحة فيروس كورونا covid19، وأسوة بباقي دول العالم، أعلنت السلطات المغربية عن سلسلة من التدابير والإجراءات الاحترازية بهدف التحكم في الفيروس، والتي اتسمت في مجملها بالتدرج والحذر لا سيما وأن فيروس كورونا المستجد شكل حالة من الهلع الاستثنائي في العالم.
وكان من أهم التدابير المتخذة فرض الحجر الصحي الكلي بالمغرب والعالم بأسره، ثم إعلان حالة الطوارئ الصحية منذ يوم 20 مارس [1]2020.
وبالرغم أن الإجراءات المعلن عنها كانت تروم بالأساس التصدي لانتشار الفيروس وحماية المواطنين، غير أن الممارسة العملية أبانت عن جملة من الثغرات نتيجة عدم الإدراك والإلمام بمعطيات الجائحة أحيانا، والتعامل مع الموضوع بارتجالية شديدة أحيانا أخرى، وهي أمور فرضها الواقع لاسيما أن الوضع كان على درجة كبيرة من الالتباس والخطورة في نفس الآن، وكان المجتمع الدولي والوطني يعيش على صفيح ساخن.
وفي ذات السياق، أعلنت السلطات المغربية مؤخرا ضمن سلسلة التدابير المعتمدة لمواجهة تفشي الجائحة، عن إجراء احترازي جديد خلق حالة من الاضطراب المجتمعي، وزعزعة أهم المبادئ الكونية والإنسانية والقانونية التي تقوم على أساسها دولة الحق والقانون، ويتعلق الأمر بقرار فرض جواز التلقيح الخاص بفيروس كورونا، فما مدى تموضع هذا القرار الجريء في البناء القانوني والدستوري للمملكة من جهة؟ وما مدى احترامه لمبادئ الحرية والمساواة المكفولة للمواطنين بمقتضى المعاهدات الدولية التي سبق أن صادق عليها المغرب؟
في المغرب، الحرية والمساواة مبدآن لهما قيمة دستورية كبرى وهو ما نلمسه من خلال ديباجة الدستور[2] والتي جاء في البند 7 منها أنه ” حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما؛ مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء”.
كما جاء في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة 6 للدستور أنه”… تعمل السلطات العمومية على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
تعتبر دستورية القواعد القانونية، وتراتبيتها، ووجوب نشرها، مبادئ ملزمة…”.
وخصص دستور المغرب بابين لحقوق الإنسان والحريات الأساسية والمؤسسات التي تضمن حماية هذه الأخيرة، بحيث يتضمن الباب الأول “الحريات والحقوق العامة” 22 فصلا لضمان حماية حقوق الإنسان، في حين خصص الباب الثاني للمؤسسات والهيئات المعنية بحماية الحقوق والحريات، والحكامة الجيدة، والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية”.
وفضلا عن اعتبار الحرية والمساواة من القيم الدستورية الملزمة للمؤسسات التشريعية والتنفيذية وغيرها من المؤسسات… فهي تعتبر إلى جانب قيم أخرى مبادئ كونية واجبة الاحترام، على اعتبار أن المغرب صادق عليها، وهو ما جاء في البند 9 من ديباجة الدستور الدي نص على ” جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة.”
ومن أهم المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب في مجال حماية الحقوق والحريات نجد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[3] الذي جاء في مادته الثانية ” لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة فـي هـذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسـيا وغيـر سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخـر. وفضلا عن ذلك لا يجوز التمييز على أساس الوضـع الـسياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سـواء أكان مستقلا أو موضوعا تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أم خاضعا لأي قيد آخر علي سيادته.”
كما جاء في المادة 3 من نفس الإعلان” لكل فرد حق في الحياة والحرية وفى الأمان على شخصه”.
ولم يغفل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التنصيص على حق العمل، فقد جاء في الفقرة الأولى من المادة 23 ” لكل شخص حق العمل، وفى حرية اختيار عمله، وفى شروط عمل عادلة ومرضية، وفى الحماية من البطالة.”
أما فيما يتعلق بالحق في التعليم، فقد نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 26 من الإعلان إذ جاء فيه: لكل شخص حق في التعليم…”.
وقد يدفع البعض بكون جواز التلقيح وضعا أملته حالة الضرورة والاستثناء التي تفرضها الوضعية الراهنة، وهو أمر يمكن استساغته ما دامت الحالة الصحية تستدعيه بشكل حصري ومستعجل، وهو أمر يفتح بابا واسعا من الجدل الطبي والقانوني حول مدى اعتبار جواز التلقيح الحل الأوحد والدليل المتفرد على سلامة حامليه وخلوهم من الفيروس.
ثم إن فرض جواز التلقيح، كوثيقة حصرية لولوج الفضاءات والمصالح العامة والخاصة من شأنه أن يؤدي إلى الإقصاء الاجتماعي لفئة عريضة من الشعب، ومن ثم تمييز المواطنين الملقحين عن غير الملقحين، بمعنى آخر، يمكن اعتبار فرض جواز التلقيح بمثابة تقنين للتمييز غير المشروع تحت ذريعة حماية السلامة العامة.
وحتى إذا أردنا التسليم بكون هده الإجراءات الاحترازية تسعى أساسا إلى ضمان السلامة العامة والتصدي لانتشار الجائحة، كان أولى مطالبة المواطنين غير الراغبين في تلقي اللقاح لاعتبارات تتعلق بالإرادة الحرة، أو لدواعي صحية (ضعف المناعة، أمراض مزمنة، حساسية لبعض مكونات اللقاح…)، مطالبتهم بالإدلاء بما يفيد خلوهم من الفيروس، وهو أمر يبدو مستساغا أخلاقيا ومنطقيا، وأبلغ فائدة على المستوى الصحي.
على صعيد آخر، قد يعتبر بعض مؤيدي هدا القرار أنه توجه صائب وحكيم تمليه الظرفية الراهنة، وقد يبدو في ظاهره متناغما مع القرارات التي تستمد شرعيتها ومشروعيتها من مرسوم القانون رقم 292.20.2 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، غير أنه بالاطلاع على هذا المرسوم يتضح أنه يتناقض جملة وتفصيلا مع بعض نصوصه لاسيما الفقرة الثانية من المادة الثالثة التي تنص على أنه ” لا تحول التدابير المتخذة المذكورة دون ضمان استمرارية المرافق العمومية الحيوية، وتأمين الخدمات التي تقدمها للمرتفقين.”
غير أن الوضع الذي يعيشه المواطنين بعد فرض جواز التلقيح ينأى بشكل كبير عن الحيلولة دون استفادتهم من المصالح الحيوية التي تقدمها المرافق العمومية، بل يضعهم في مواقف صعبة وخطرة أحيانا تجعلهم مجبرين عن التنازل عن حقوقهم التي تكفلها الدولة وتلتزم بضمانها تحت أي وضع قائم بموجب الميثاق الأخلاقي الذي يربطها بالشعب، فما السند القانوني الذي ترتكز عليه هذه القرارات؟ وما الاعتبارات السوسيواقتصادية التي تأخذها بعين الاعتبار؟
ورب متسائل عن إشكالية الصفة القانونية للمطالبة بجواز التلقيح، فقد أثار القرار جدالا محتدما في صفوف المواطنين الرافضين الإدلاء بجواز التلقيح لغير ذي صفة، إذ اعتبروا أن الاطلاع على الوثائق التي تحمل الصبغة الشخصية يبقى من اختصاص بعض الفئات المحددة حصرا في القانون، بل إن العديد من أفراد القوات العمومية نفسها ليست لديهم هاته الصفة الضبطية[4].
وبمقارنة بسيطة مع بعض دول العالم يتبين أن المغرب قد أقدم على اتخاد قرار من شأنه المساس بمصداقية الحكومة وواجبها المتمثل في ضمان الحقوق الأساسية للمواطنين خاصة وأن الأمر يتعلق بصحة الأشخاص وسلامتهم الجسدية والنفسية.
وتبقى الإشكالات التي يطرحها هدا القرار كثيرة وعلى مستوى لا يستهان به من الخطورة والاستعجال فما هي الضمانات الصحية والقانونية الممنوحة للمواطنين غير الملقحين في حال تلقيهم اللقاح؟ هل تتحمل الدولة تعويضهم عن العاهات المستديمة أو المؤقتة التي قد تنتج عن التلقيح؟ وهل تتحمل تعويض ذويهم عن الوفاة نتيجة أخد التلقيح؟ ثم من يتحمل العواقب الاقتصادية والاجتماعية لفقدان المواطنين لمناصبهم بسبب عدم توفرهم على جواز التلقيح؟ ومن يتحمل عواقب عرقلة مصالح المواطنين بما في دلك التعويض عن فوات الفرصة؟ وما المانع من فتح باب جواز الإدلاء بتحليل PCR سلبي كخيار ثان للمواطنين غير الملقحين؟
في انتظار أجوبة دقيقة ومقنعة عن الإشكاليات أعلاه وغيرها من الإشكاليات التي ستطرح لا محالة مع هذه القرارات التي تفتقر للحكمة والدراسة المعمقة، نرى من الأهمية بمكان التأكيد على أن الحقوق الأساسية ( الحق في الكرامة، الحق في الحرية، الحق في المساواة، الحق في التنقل، الحق في العمل والتعلم، الحق في الصحة، الحق في إرادة حرة، الحق في المعلومة، الحق في استعمال المرافق العمومية…) لا تصان إلا بوفاء الدولة بالتزاماتها، وترتب على مسؤوليتها، وأن الدولة باكتسابها الصفة الاعتبارية تكسب حقوقا وتتحمل التزامات، تجعلها خاضعة لأحكام القانون شأنها في دلك شأن الأشخاص الطبيعيين، لدلك فتقرير المسؤولية الإدارية للدولة ضرورة ملحة تفرضها الاعتبارات القائمة على وجوب احترام المواثيق الحقوقية الدولية والعمل بها، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وذلك بإقامة نظام الديمقراطية بمفهومها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي؛ مناطه بناء دولة الحق والقانون، وغايته تشييد مجتمع حر متضامن ومتساوي في الحق والواجب، ومغرب الكرامة والعدالة.
نحن اليوم أمام تحديات كبرى تفرض علينا الاتحاد والتضامن و الإقرار بالسيادة الشعبية التي تجعل من الشعب أساس ومصدر كل السلطات وإشراك جميع فعاليات المجتمع، شعبا وحكومة، في صناعة القرار، فالوضع لا يحتمل الضغط، كما لا يحتمل التراخي في التعامل مع موضوع شديد الخطورة والحساسية، فالعودة إلى الحياة الطبيعية مسؤولية الجميع، وعليه نطالب من الحكومة بالتراجع عن هذا القرار الذي وإن كان يهدف إلى تحقيق المصلحة العامة، إلا أن جوهره يخرق التشريعات السامية في الدولة، ويضرب عرض الحائط المواثيق الكونية التي صادق عليها المغرب والتزم بتطبيقها، ونؤكد على أن الشعب المغربي على قدر كبير من الوعي والبسالة لتقرير مصيره بحرية وتحمل مسؤوليته في القبول أو الرفض.
[1] مرسوم بقانون رقم 292.20.2 صادر في 28 من رجب 1441( 23 مارس 2020 )يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحيةوإجراءات الإعلان عنها ..
مرسوم رقم 293.20.2 صادر في 29 من رجب 1441( 24 مارس 2020 )بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطنيلمواجهة تفشي فيروس كورونا – كوفيد19.
[2] ظهير شريف رقم 1.11.91 صادر في 27 من شعبان 1432 ( 29 يوليو 2011) بتنفيذ نص الدستور.
[3] وثيقة حقوق دولية تمثل الإعلان الذي تبنته الأمم المتحدة 10 ديسمبر 1948 في قصر شايو في باريس. الإعلان يتحدث عن رأي الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان المحمية لدى كل الناس.
[4] المادتان 19و20 من قانون المسطرة الجنائية المغربي.
ظهير شريف رقم 1.02.255 صادر في 25 من رجب 1423 ( 3 أكتوبر 2002 ) بتنفيذ القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية منشور بالجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 27 ذي القعدة 1424 (30 يناير2003).