فؤاد بنصغير: جريمة تحديد الموقع الجغرافي للغير عن طريق إلكتروني
الدكتور فؤاد بنصغير، أستاذ جامعي
خبير، مكون، مستشار في القانون الإلكتروني
جريمة تحديد الموقع الجغرافي للغير عن طريق إلكتروني
“في ضرورة تعديل الفصل 447-1 من مجموعة القانون الجنائي المغربي”
مقدمة :
من المعلوم أن برمجيات التجسس وتطبيقات التتبع وتحديد المواقع عن طريق إلكتروني والتي يتم تثبتها على الهواتف النقالة أصبحت اليوم شائعة الإستخدام.
هذه التكنولوجيات تستخدم في ارتكاب العديد من الجرائم الإلكترونية من خلال تحديد المواقع الجغرافية للغير خاصة الأزواج من أجل الإضرار بهم أو بهن.
وقد أصبحت جرائم المراقبة الإلكترونية هذه متفشية خاصة بين الأزواج وذلك بسبب التطور الكبير الذي عرفته الوسائل الإلكترونية للمراقبة.
وقد بينت العديد من الدراسات أن 40 % من النساء المستجوبات أكدن أنهن كن ضحية مراقبة إلكترونية من قبل أزواجهن عن طريق برمجيات للتجسس أو تكنولوجيات التتبع وعلى رأسها ال GPS.
كما أن 47 %منهن ذكرن أن أزواجهن حاولوا التجسس عليهن من خلال برمجيات تم تثبيتها على الهواتف النقالة العائدة لأطفالهن.
لهذا السبب، كان من الضروري أن يتدخل المشرع المقارن ومنه الفرنسي لتجريم هذه الأفعال وخاصة منها فعل التحديد الإلكتروني للمواقع الجغرافية للغير دون موافقتهم.
فماهي الوسائل التكنولوجية المستخدمة في التحديد الإلكتروني لمواقع الغير ؟ وما هي المقاربة الجنائية التي قام بموجبها المشرع المقارن بتجريم هذا الفعل ؟ وما هي القواعد الخاصة التي سنها في ما يتعلق بالموافقة ؟
هذه الأسئلة وغيرها التي سنحاول الإجابة عنها لتمكين المشرع المغربي وهو بصدد تعديل القانون الجنائي من الوقوف على طبيعة هذه الجريمة وخصوصيات النظام العقابي المتعلق بها.
أولا : الوسائل التكنولوجية المستخدمة في تحديد المواقع
تتعدد الوسائل التكنولوجية التي تستخدم في تحديد المواقع الجغرافية للأشخاص لعل أهمها برامج التجسس (logiciels espion) وأجهزة التتبع وعلى رأسها النظام العالمي لتحديد المواقع (GPS).
1- برمجيات التجسس
إن وسيلة تحديد المواقع الجغرافية للغير الأخطر في هذا المجال هي برمجيات التجسس المصممة ليتم تثبيتها على الأجهزة المتنقلة دون علم أصحابها.
وعند تثبيتها تصبح هذه التطبيقات غير قابلة للكشف من قبل مستخدمي الهواتف، لأنه لا تظهر على شاشات الهواتف المستهدفة أية أيقونات (icônes) تشير إلى ذلك.
ويتطلب تثبيت هذه البرمجيات وصول الجاني إلى الهاتف المستهدف، وهذا ما يشرح أن الغالبية العظمى من الحالات التي عرضت أمام المحاكم تتعلق بأزواج يعيشون في بيت واحد.
غير أنه ظهرت في الآونة الأخيرة برمجيات للتجسس تتطلب فقط حصول الجاني على معرف (identifiant) وكلمة مرور (mot de passe) الضحية دونما حاجة إلى تثبيت برمجية التجسس على هاتفه.
وتتيح برمجيات التجسس هذه العديد من الخاصيات مثل النفاذ إلى الرسائل النصية القصيرة أو إلى الرسائل متعددة الوسائط أو إلى البريد الإلكتروني أو إلى تطبيقات التراسل (applications de messagerie) مثل الواتس آب والسناب شات والتيليغرام أو إلى سجل المكالمات مرورا بتشغيل الميكروفون أو الكاميرا عن بعد أو الوصول إلى الصور والفيديوهات المخزنة وانتهاء بتحديد الموقع الجغرافي في الزمن الحقيقي (en temps réel) أو في الزمن اللاحق (en différé).
2- أجهزة التتبع لتحديد المواقع الجغرافية
إن الهاتف النقال أواللوحات الإلكترونية ليست وحدها الأجهزة التي تتيح إمكانية تحديد المواقع الجغرافية للأشخاص من خلال برامج التجسس التي تثبت عليها.
ذلك أن جهاز التتبع لتحديد الموقع الجغرافي (GPS) الذي يمكن وضعه في سيارة الشخص المستهدف هو كذلك يحوي ما يسمى بسجل التنقل (historique des déplacements) يمكن للجاني الإطلاع عليه وبالتالي تحديد الأماكن التي كان يتواجد بها الضحية.
وتتصل أجهزة التتبع هذه في الغالب بشريحة هاتف (carte SIM) تسمح بالتواصل مع هاتف الجاني وتمكنه من تحديد الموقع الجغرافي للشخص المستهدف، وذلك بفضل تقاطع المعلومات المتأتية من الأقمار الإصطناعية (système GPS) مع معلومات الشبكة الهاتفية (système GSM).
3- الوسائل الأخرى لتحديد المواقع الجغرافية
نشير إلى أن تحديد الموقع الجغرافي لشخص ما لا يتم الحصول عليه دائما مباشرة من الجهاز المستخدم في تحديد الموقع.
بل يمكن كذلك استخلاصه من المعطيات التي يتم وضعها على شبكات التواصل الإجتماعي أو من ذاكرة الهاتف المستهدف.
ثانيا : تجريم فعل تحديد الموقع الجغرافي للغير عن طريق إلكتروني
فبعد أن تبين أن التكييفات القانونية التي كانت موجودة على مستوى القانون الجنائي لا تصلح كأساس لتجريم هذا الفعل، قرر المشرع الفرنسي وضع تجريم خاص به يتلائم وطبيعة هذه الجريمة المستحدثة.
1- صعوبة التجريم على أساس التكييفات الموجودة
نشير إلى أنه قد تبين أنه من الصعوبة تجريم فعل تحديد الموقع الجغرافي للغير دون موافقته عن طريق استخدام تكنولوجيات المراقبة الإلكترونية على أساس التكييفات الموجودة.
فتطبيقا لنص المادة 1-323 من القانون الجنائي الفرنسي والتي يقابلها في القانون المغربي تقريبا حرفيا الفصل 607-3 من مجموعة القانون الجنائي، يمكن معاقبة كل شخص بسنة سجنا و غرامة 15000 أورو : ” كل من دخل إلى مجموع أو بعض نظام المعالجة الآلية للمعطيات عن طريق الإحتيال “
صحيح أن القضاء المقارن ومنه المغربي فسر بشكل واسع مفهوم نظام المعالجة الآلية للمعطيات الذي يمكن على أثر ذلك أن يشمل الحاسوب أو الهاتف النقال العائد للضحية.
وصحيح بالتالي أن يتم من الناحية المبدئية تجريم فعل تحديد الموقع الجغرافي للغير عن طريق إلكتروني بواسطة هذه المادة.
غير أن لا شيء يمنع أحد الآباء من تتبيث برمجية تجسس على الهاتف النقال العائد لأحد أبناءه لغاية مراقبة تحركاته و معارفه ( وهو أمر مشروع ) وبالتالي ممارسة مراقبة غير مباشرة على الحياة الخاصة لزوجته أو طليقته ( وهو أمر غير مشروع ).
2- التجريم الخاص
يمكن تعريف هذا الفعل على أنه المراقبة المستمرة من قبل أحد الأزواج لنشاطات ( تحركات / علاقات اجتماعية / مصاريف / … ) الطرف الآخر عن طريق استخدام وسائل رقمية في غالب الأحيان دون علمه.
ومن المعلوم أن المشرع الفرنسي ومثله المشرع المغربي ( من خلال المادة 447-1 المضافة إلى القانون الجنائي بموجب القانو رقم 13-103 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء ) عاقب عدة أفعال جرمية تمس بالحياة الخاصة للأفراد وخاصة منهم النساء ( الإعتداء على الصورة في مكان خاص و الإعتداء على الأقوال ذات الطابع السري ).
ونظرا لصعوبة تجريم هذا الفعل على أساس التكييفات الموجودة، قام المشرع الفرنسي بإضافة ثالثا إلى المادة 1-226 من القانون الجنائي، وذلك من أجل معاقبة كل شخص قام عمدا بالمساس بالحياة الخاصة للغير عن طريق التقاط أو تسجيل أو نقل بأي وسيلة كانت الموقع الذي يتواجد فيه شخص دون موافقته.
حيث تنص هذه الإضافة على أنه يعاقب ( … ) : ” كل من قام بأية وسيلة بالتقاط أو تسجيل أو نقل الموقع الجغرافي لشخص ما في الزمن الحقيقي (en temps réel) أو الزمن اللاحق (en en temps différé) دون موافقته”
نفهم أن هذا المقتضى القانوني الجديد يهدف إلى عقاب المراقبة الإلكترونية للغير والمتمثلة أساسا في تتبيث في الهاتف النقال لهذا الغير برمجية للتجسس أو جهاز للتتبع الإلكتروني من أجل تحديد الموقع الجغرافي الذي يتواجد فيه بشكل مستمر (en continu).
وتستجمع العناصر التكوينية لهذه الجريمة عندما يتم التقاط أو تسجيل أو نقل الموقع الجغرافي لأحد الأشخاص بأي وسيلة كانت دون موافقته.
علاوة على ذلك، أكدت المادة المذكورة أن الجريمة تتكون سواء تم فعل تحديد الموقع الجغرافي في الزمن الحقيقي (en temps réel) أو الزمن المتأخر (en différé) بالنظر إلى وجود آليات تقنية تقوم بحفظ سجل المواقع والتي يمكن الإطلاع عليها من قبل الجاني في ما بعد.
ثالثا : القواعد المطبقة على مسألة الموافقة
من المعلوم أنه من بين شروط قيام جريمة تحديد الموقع الجغرافي للغير نجد شرط عدم موافقة الضحية.
لهذا السبب قام المشرع الفرنسي بتحديد القواعد الواجبة التطبيق في ما يتعلق بالموافقة على استخدام الوسائل التكنولوجية لتحديد الموقع الجغرافي.
وتتلخص هذه القواعد في : استثناء الموافقة المفترضة التي تهم فقط المس بالصورة أو الأقوال و وضع قواعد خاصة بالقاصرين.
1- استثناء الموافقة المفترضة
عندما يتعلق الأمر بالمس بالحياة الخاصة ( الصوت والصورة ) للغير، فإن المشرع استثنى من العقاب الحالة التي يبدي فيها الضحية موافقة مفترضة.
ذلك أنه عندما يتم التقاط صورة شخص أو أقواله على مرأى ومسمع من الشخص المعني بالأمر دون اعتراض منه، فإن الموافقة تعتبر في هذه الحالة مفترضة.
حيث تنص الفقرة الثانية من المادة 1-226 من القانون الجنائي والتي أخد عنها حرفيا المشرع المغربي على أنه ” عندما تتم الأفعال المنصوص عليها في أولا وثانيا ( دون ثالثا ) على مرأى ومسمع من الأشخاص المعنيين دون اعتراض منهم في حين أنهم كانوا قادرين على فعل ذلك، تعتبر الموافقة متحققة “.
إلا أن المشرع المقارن ومن بينه المشرع الفرنسي قرر أن الموافقة المفترضة المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة 1-226 من القانون الجنائي الفرنسي لا تطبق على جريمة التحديد الإلكتروني للموقع الجغرافي ( المنصوص عليها في ثالثا من الفقرة الأولى من المادة 1-226 ) بحجة أن الموافقة المفترضة لا يمكن تطبيقها على تثبيت برمجيات التجسس وتكنولوجيات التتبع التي يصعب بحكم طبيعتها التعرف عليها من قبل الضحية.
نشير إلى أن هذا الأمر منطقي ما دام أنه لا يمكن قبول أو رفض تطبيقات لا نعلم بوجودها على هواتفنا النقالة.
2- القواعد الخاصة بالقاصرين
تنص الفقرة الثالثة المظافة بموجب المادة 17 من القانون رقم 936 – 2020 الخاص بحماية ضحايا العنف الزوجي والصادر بتاريخ 30 يوليوز من سنة 2020 إلى المادة 1-226 من القانون الجنائي على أنه : ” عندما تتعلق الأفعال المشار إليها في هذه المادة بشخص قاصر، يجب أن تعطى الموافقة من قبل أصحاب السلطة الأبوية “.
إذا عندما يتعلق الأمر بقاصر، فإنه يتعين أن تعطى الموافقة من قبل أصحاب السلطة الأبوبة قبل تثبيت برمجية التجسس أو أجهزة التتبع الإلكتروني في هاتف أحد الأبناء.
هذا يعني حصول الزوج على موافقة الزوجة قبل القيام بتثبيت برمجية التجسس على هاتف إبنهما والعكس بالعكس.
هذا الأمر من شأنه بطبيعة الحال بشكل غير مباشر حماية الزوجة / الزوج ضحية العنف الزوجي الذي بإمكانه بموجب هذا المقتضى التعرض على تحديد الموقع الجغرافي لأحد الأبناء خاصة إذا كان يخشى أن يكون هذا الأمر فقط ذريعة من أجل التجسس على الزوجة / الزوج.
رابعا : العقوبات
لا بد في مجال العقوبات التي تطبق على مرتكبي جريمة التحديد الإلكتروني للموقع الجغرافي للغير بين العقوبة المبدئية والعقوبة المشددة.
1- العقوبة المبدئية
تنص الفقرة الأولى ثالثا من المادة 1-226 على أنه ” يعاقب بسنة سجنا وغرامة قدرها 45000 أورو كل من قام بأية وسيلة كانت وعن قصد بالمس بحميمية الحياة الخاصة للغير : 3- عن طريق التقاط أو تسجيل أو نقل الموقع الجغرافي في الزمن الحقيقي أو الزمن اللاحق لشخص بدون موافقته “.
2- تشديد العقوبة
غير أن المشرع الفرنسي مثله في ذلك مثل المشرع المقارن قام بتشديد العقوبة عندما ترتكب هذه الجريمة بين الأزواج.
حيث تنص الفقرة الرابعة من نفس المادة 1-226 على أنه ” ( … ) عندما ترتكب هذه الأفعال من قبل الزوج / الزوجة الضحية ترفع العقوبة إلى سنتين سجنا و غرامة قدرها 60000 أورو “.
خاتمة :
تلكم كانت باختصار طبيعة جريمة تحديد الموقع الجغرافي للغير عن طريق إلكتروني وخصوصية النظام العقابي المطبق عليها في القانون المقارن نتمنى صادقين أن يستوحي منها المشرع المغربي عند تعديله لمجموعة القانون الجنائي مقتضيات خاصة تتلائم والتشريع المغربي.