غالي خليل: الإكراهات السياسية والاقتصادية للاندماج المغاربي
د.غالي خليل باحث في مخبر الدراسات والأبحاث القانونية والإدارية والسياسية
كلية الحقوق وجدة
تجاوزت الظاهرة الثورية العربية الإشكال والأطر التفسيرية التقليدية، وكسرت نمطية النماذج الثورية التاريخية. فجمعت بين الواقعي والافتراضي وبين العفوية والتنظيم، وتلاحمت فيها مختلف الأطياف والتوجهات الفكرية والسياسية والدينية، كما أنها اتسمت بعدة خصائص جعلتها فريدة في نشأتها؛ وإذ انطلقت من تونس التي طالما قدمت نموذجا رائدا للدولة الناجحة في إرساء التنمية والاستقرار. وهي ثورة متميزة في خصوصياتها وآليات اشتغالها، وحركتها الاحتجاجية المتسمة باللامركزية، والغير المشخصنة مع غياب الزعيم الكاريزمي، والخلفية الإيديولوجية والتنظيم الطليعي السري الثوري، بل اعتمدت آليات الشبكات الاجتماعية والاحتجاج الجماهيري السلمي والروح الجماعية، محدثة بذلك قطيعة معرفية مع التراث الفكري الذي حملته الثورات القديمة. وهذا يطرح “تحديات فكرية عميقة، في استيعاب هذه التحولات والتساؤلات عن أسباب فشل النماذج النظرية في تصنيف منهجي تحليلي للظاهرة الثورية العربية، وأزمة العلوم الاجتماعية في التنبؤ بالحدث الثوري أو مواكبته أو استشراف مستقبله”.[1]
وتجدر الإشارة أن سياق تبلور الحركات الاجتماعية، لم يكن مرتبط بالبنيات وبالأنظمة الديمقراطية كما هو متداول، فتاريخ نشأتها يعود إلى القرن الثامن عشر حسب تشارلز تلي في بريطانيا وأمريكا في ظل أنظمة إقطاعية تسلطية. لذلك فمن الطبيعي ظهور هذا النوع من الحركات الاجتماعية في نظام تسلطي كتونس، لكن ما وقع في تونس فهو يتجاوز المنظور التفسيري للحركات الاجتماعية الجديدة، التي تميزت برفع مطالب ذات حمولة ثورية، مع العلم أن الحركات الاجتماعية تكون بطبيعتها إصلاحية، فهي تروم إحداث تغييرات قطاعية.
وبالتالي فماهي مآلات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي بالدول موضوع الدراسة بات هاجس التفكير الجماعي لكل مكونات المجتمعات الثلاث، وعليه تستدعيتحدي استكمال الوحدة الترابية للمملكة المغربية (المحور الاول)، ثم الحديث عن معيقات الإصلاحات السياسية(المحور الثاني)، وفي الأخير التطرق لدور القيادة السياسية في توحيد الرؤى والمصالح المشتركة(المحورالثالث).
المحور الأول: تحدي استكمال الوحدة الترابية للمملكة المغربية
لقد شكلت قضية استكمال وحدة الأراضي المغربية أولوية الأهداف السياسية بالنسبة للسياسة الخارجية للمملكة، حيث استأثرت بالحيز الأكبر من هذه السياسة منذ عقود. ذلك أن المغرب قد طالب منذ حصوله على الاستقلال بحقوقه في الصحراء بهدف حث المجتمع الدولي ودفعه إلى الإقرار بمغربية الصحراء، وبالتالي استكمال وحدته الترابية.
وقد أكد الملك الراحل “محمد الخامس” سنة 1958، على مغربية الأقاليم الصحراوية وضرورة تصفية الاستعمار بها. وفي مواجهة الرفض الاسباني، قرر المغرب مطالبة لجنة تصفية الاستعمار التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، بوضع سيدي إفني والصحراء على لائحة الأراضي التي يتعين تصفية الاستعمار بها[2]. وقد استطاعت البلاد بعد ذلك استصدار عدة قرارات وتوصيات استنادا إلى اللجنة بحيث أدلت محكمة العدل الدولية برأيها الاستشاري في 16 أكتوبر 1975 بناء على طلب المغرب، والذي أكد على أن المعلومات التي تتوفر عليها المحكمة تبين روابط شرعية للبيعة بين سلاطين المغرب وقبائل من الصحراء، وبين الجماعة الموريتانية. كما أكدت المحكمة في نفس الرأي على حقهم في تقرير مصيرهم وهذا ما جعل المغرب يعمل على تحييد الجانب الإسباني الذي كان يدعي أن الصحراء كانت أرض خلاء.
وعلى أساس رأي المحكمة السالف الذكر، قام الملك الراحل “الحسن الثاني” بتنظيم حدث “المسيرة الخضراء”، والتي عمل من خلالها على استرجاع الأقاليم الصحراوية إلى حظيرة الوطن بموجب اتفاق مدريد الثلاثي الأطراف بين إسبانيا، المغرب وموريتانيا في 14 نونبر 1975. ومنذ هذا التاريخ ستعرف القضية عدة تطورات سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، حيث بادر المغرب إلى إعلان قبول مبدأ الحوار المباشر مع انفصالي البوليساريو، وذلك نتيجة استحالة إجراء الاستفتاء بسبب التعثرات التي عرفها مسلسل تحديد الهوية، فقد كشف تطبيق هذا الإجراء عن صعوبة وتنافس كبيرين، بين آليات القانون الدولي ومسطرة تحديد الهوية، مع القيم الحضارية والاجتماعية للقبائل الصحراوية التي تحكمها الروابط الأسرية والثقافية الخاصة، وذلك مقابل الروابط المتصلة بالمجال والسكن ومحل الإقامة[3].
وبعد ذلك جاء دور الوسيط الأممي السابق “جيمس بيكر” بمقاربة جديدة لحل مشكل الصحراء عبر اقتراحه منح حكم ذاتي للصحراويين، والذي حظي بتأييد أغلب الأحزاب المغربية. لكن جبهة البوليساريو الانفصالية، ومن ورائها الجزائر رفضته وروجت لخيار تقسيم الصحراء الذي رفضه المغرب.
إلا أنه في ظل الانفتاح السياسي الجاري في المغرب، فقد اقترح الملك محمد السادس منح حكم ذاتي موسع، يضمن الوحدة الترابية، ويضع حدا لهذا النزاع المفتعل الناجم عن تداعيات “الحرب الباردة”[4]. وهي مبادرة تأتي استجابة للقرار الأممي الذي دعا إلى مفاوضات مباشرة ما بين المملكة المغربية وجبهة البوليساريوالانفصالية وتحت رعاية الأمم المتحدة. كما أنها مبادرة تندرج في سياق التوجهات العالمية القائمة على الوحدة والتكتلات. والملاحظ هو أن المغرب حاول إنهاء هذا النزاع عبر تدعيم تدبير ملفه داخليا وخارجيا، وذلك من خلال إعادة النظر في تركيبة المجلس الاستشاري لشؤون الصحراء، ومن خلال إخراجه من المقاربة الأمنية إلى المقاربة السياسية، وهو ما اتضح من خلال البعثات التي أرسلها إلى عدة دول من أجل إقناعها بجدوى وأهمية مقترح الحكم الذاتي الذي طرحه المغرب، والذي توج بانعقاد جولات من المفاوضات مع قيادي جبهة البوليساريوالانفصالية، بغرض إيجاد حل نهائي ومتفق عليه لمسألة الصحراء فمبادرة الحكم الذاتي تندرج في إطار مجتمع ديمقراطي حداثي، يركز على مقومات دولة القانون والحريات الفردية والجماعية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية[5].
كما يعد أيضا الحكم الذاتي أحد أشكال ممارسة الجهوية السياسية في إطار الدولة الموحدة، كأقصى ما يمكن أن تصل إليه الأنظمة الديمقراطية المعاصرة في ميدان التسيير الذاتي إداريا وسياسيا. ولهذا فمشروع الحكم الذاتي بالصحراء، قد يدعم مسار الانتقال الديمقراطي من خلال الدفع بالإصلاح الدستوري إلى الأمام والتشجيع على ظهور مشاريع إدارية موسعة في المستقبل تعترف بالخصوصيات الثقافية لمكونات المجتمع المغربي، وبالتالي إضفاء الصفة المؤسساتية على المبادئ الديمقراطية المرسخة في الدستور المغربي، فمقترح الحكم الذاتي حل سياسي توافقي يتوخى بقاء الصحراء تحت السيادة المغربية، لكن في نطاق نوع من الاستقلال الذاتي الذي سيبقى مقتصرا على جهة الصحراء، التي ستشكل نظاما خاصا بالمقارنة مع باقي الجهات، حيث سيتمكن سكان الصحراء من تدبير شؤونهم بأنفسهم، في إطار سيادة المملكة ووحدتها الترابية. فنظام الجهوية الموسعة يسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف من بينها: استيعاب التعددية الثقافية والخصوصيات الإثنية، الحرص على الاندماج الاجتماعي والاعتراف بنوع من السيادة للجهة كوسيلة من وسائل تحديث الدولة بدون تجزئة سيادتها.
والخيار الجهوي في ظل المرحلة التاريخية الراهنة، أصبح يشكل إحدى التحديات التنموية التي يتعين مواجهتها، لتوطيد المسار الديمقراطي وكسب الرهان التنموي، نظرا لدور الجهة الاستراتيجي في التنمية الشاملة باعتبارها إطارا مؤسساتيا تنمويا وبالتالي فالنظام السياسي المغربي سيكون سباقا إلى نظام الجهوية الموسعة والحكم الذاتي على أرض الواقع، باعتباره الحل الأمثل الذي يضمن للأفراد حقوقهم وحرياتهم ويضمن للمملكة سيادتها ووحدتها الترابية.
فالمقاربة الشمولية لمشروع الجهوية الموسعة ضرورية لإنجاز قفزة نوعية ضمن المشروع الديمقراطي الحداثي ببلادنا وبالتالي تجاوز الصعاب السياسية والتنموية التي يشهدها الشعب المغربي ووضع حد للنزاع المفتعل بشأن أقاليمنا الصحراوية المسترجعة وتهيئ أرضية لإنجاز السوق المغاربية والمشروع المغاربي الكبير.[6]
المحور الثاني: معيقات الإصلاحات السياسية
يعتبر العامل السياسي من أهم التحديات المعيقة لمسار الإصلاح السياسي، وهي انعكاس للتحديات الاقتصادية والاجتماعية، فهي تمثل تحدي حاسم على كل من المستويين الداخلي والخارجي، لكون الدفع بعجلة الإصلاح إلى الأمام يتطلب توفر بنية سياسية ملائمة تسمح بممارسة الحقوق والحريات العامة مما يخلق الاستقرار السياسي. فقد صادفت عملية الإصلاح السياسي في الجزائر مثلا، جملة من العقبات والتحديات التي جعلتها تفشل في محاولات عدة، لأنها لم تشهد تغيرا حقيقيا، في ظل العجز الذي تعاني منه الفواعل غير الرسمية الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والإعلام بسبب عدم الاستقلالية ما بين مؤسسات النظام السياسي، وكذلك حرص النخبة الحاكمة على تجديد نفسها بنفسها عن طريق الاستبداد بالسلطة الذي يرجع لعدم الوعي السياسي والثقافة السياسية. فغياب الإرادة السياسية المبرمجة لعملية الإصلاح السياسي الحقيقي تبقى أهم محدد لعملية الإصلاح السياسي، بفعل سيطرة النخبة الحاكمة على السلطة التنفيذية وأبعاد شرائح كبيرة من المجتمع عن المشاركة في الحكم، مما يؤدي ذلك إلى غياب الديمقراطية[7].
فرغم الجهود التي بدلت على الصعيد السياسي والاقتصادي وانخراط الدول المغاربية في هذا المجال ضعيفة ومحدودة إلى حد ما، بسبب الشروط الموضوعية والجوهرية غير المتوفرة، كما إن البيئة المغاربية غير ناضجة لتقبل الأساليب الديمقراطية.
وتبقى أهم العراقيل التي تواجه كافة دول المغرب العربي دون استثناء، رغم وجود بعض الخصوصيات، ممثلة في تفشي البطالة والفقر والأمية والحرمان، الأمر الذي قد تتولد عنه ظاهرة التطرف، وكذا ظاهرة الارتشاء التي تقف أمام كل تقدم اقتصادي وسياسي يخدم المصلحة العليا للبلدان المغاربية.
وان كان المغرب يبقى الأرقى من حيث تجربته ذات الخصوصيات المتميزة حيث عمل على الرقي بمؤسساته إلى مؤسسات عريقة من حيث انه قطع أشواطا كبيرة على درب البناء الديمقراطي، إلا انه لا يزال يعاني من عدة معوقات تحول دون إنجاح المسلسل الديمقراطي كما يراه البعض، فالمتتبع للتطور السياسي والدستوري المغربي يلمس ذلك بجلاء من خلال التجارب التي مر بها، بحيث يرى جل المحللين السياسيين أن الديمقراطية لا يمكن اختزالها في انتخابات محلية أو تشريعية ولو افترضنا أنها نزيهة، بل يتعين توفير الشروط الجوهرية والبنيوية لممارستها وإيجاد التربة الخصبة لزراعتها.
وبخصوص الجزائر فان أكبر عائق يحول دون تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي هي المؤسسة العسكرية التي تعتبر نفسها وصية على هذا التحول لخدمة مصالحها وحفاظا على امتيازاتها، وهذا ما أفضى بالجزائر الى فوضى وحرب أهلية حصدت عشرات الآلاف من الأبرياء، بسبب عدم احترام الإرادة الشعبية الحقيقية.
هذه الوصاية العسكرية على التحول الديمقراطي أدى أيضا إلى تهميش الأطراف المعنية بالإصلاحات السياسية، كما الجهاز القضائي يشكل عرقلة قوية باعتباره عاجزا عن إصدار الأحكام والعقوبات في حق المخالفين والمعتدين من رجال الأمن والدرك والعسكريين وغيرهم من المسئولين عن التصرفات الجسدية والقتل الجماعي والتعذيب، فهناك عائق آخر ناتج عن التهميش لسكان منطقة القبائل، ومطالبة السلطات المركزية بمنحهم وضع خاص.
أما تونس فرغم ما يميزها عن باقي دول المغرب العربي أنها لا تعاني من هذه المشاكل بل تشكو من عدة عقبات متمثلة في ضعف المجتمع المدني، وهيمنة الحزب الحاكم وإدماج هياكله وتنظيماته في الهياكل العامة للدولة، إضافة إلى إقصاء المنظمات الحزبية الأخرى من الحياة السياسية، وعدم إشراك المعارضة في اتخاد القرار وتهميش الحركات الإسلامية، ويتم التظاهر بتطبيق الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية وإخفاء معالم ديكتاتورية سياسية.
كما يطبع النظام التونسي عدم احترامه لحقوق الإنسان بسبب الاعتقالات التحكيمية والتعذيب في السجون الذي يطال الناشطين في الحقل السياسي، وعدم وجود صحافة مستقلة ومعارضة، بل يتم الاعتماد على صحافة الدولة لوحدها، الإعلام الرسمي اللذان يكرسان الوضعية ويزيد الوضع تأزما.
وبخصوص موريتانيا، فان هناك عدة عراقيل تواجهها تتمثل في الطابع القبائلي والعشائري للدولة، مما يجعل الولاء يكون للقبائل وليس للدولة، كم أن النخب السياسية الموريتانية والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني تبقى هشة إلى حد كبير، الشيء الذي جعل حجم ووزن التغيرات لا يستجيبان لطموحات المرحلة، فالترميمات بقيت شكلية وبدون مضمون بسبب وجود نخبة تقليدية كلاسيكية توجه مسار التحول على الرغم من نقص درايتها في هذا السياق، زيادة على استئثار الحزب الواحد بالعمل السياسي وإقصاء النخب المنافسة، ويضاف إلى كل هذا الظروف الاقتصادية والاجتماعية المحلية الموريتانية غير كفيلة باستيعاب المفاهيم الديمقراطية الغربية التي تعتمد على الرأسمالية كغداء روحي لها، وان الفرد والمبادرة الفردية هما عماد الرأسمالية.
فهناك مجموعة من العوامل الداخلية الأخرى التي تساعد على الإصلاح، فقد يحدث تغيير في إدراك القيادة السياسية، وقد يحدث الإصلاح أيضا من خلال توافق بين النخب السياسية على ضرورة الإصلاح. وقد يدخل المجتمع المدني كعامل تفسيري لعملية الإصلاح والدمقرطة عبر علاقته بالدولة والبنية الطبقية والتي من بينها التغيير في مدارك القادة والنخب السياسية[8].
فقد تم بدل جهود جبارة في فترة التسعينات في بعض دول المغرب العربي قصد تحقيق قفزة ديمقراطية، سواء بفعل تأثيرات داخلية أو خارجية، علاوة أنه بدأت بعض بوادر الإرادة السياسية الحقيقية لدى الأنظمة الحاكمة لا في المغرب فقط بل يبدوا هناك اجتماع بين النظام وجميع الفاعلين السياسيين والاقتصاديين قصد تطوير الحياة الديمقراطية بالمغرب باعتباره الحافز الحقيقي لكل إقلاع اقتصادي واجتماعي.
غير أن هذه الجهود المبذولة في المغرب أو غيره من دول المغرب العربي، إلا أنها لا تزال تعاني من الضعف الذي يعود لعدة عوامل نوجزها في النقاط التالية[9]:
ـ عدم فرض ديمقراطية من الأعلى واحتكار السلطة مما يؤدي إلى إقصاء بعض الأطراف والحركات التي أصبحت طرفا وفاعلا في الحوار الديمقراطي.
ـ إرساء الأنظمة للإدارة الحقيقية للشعوب.
ـ إصلاح الإدارة كأداة لتنفذ السياسة العامة.
ـ ربط التحولات الديمقراطية بالتنمية الشاملة اقتصاديا واجتماعيا، وهو ضروري وأصبح أكثر إلحاح وذلك بالتوزيع العادل للثورات والحد من التهميش والفقر والبطالة والأمية.
ـ التكتل الإقليمي بين كل دول المغرب العربي، فمكونات الاتحاد المغاربي الخمسة محكوم عليها أن تتلاءم وتتوحد بحكم الجوار والمصالح المشتركة، حيث انه لم يعد الهاجس والهم الديمقراطي في ظل التحولات الديمقراطية الراهنة المتميزة بالتكتلات الاقتصادية الإقليمية مقتصرة على قطر بحد ذاته، إذ لإنجاح لهذه الديمقراطية إلا في ظل منظور إقليمي شمولي يؤسس لعهد جديد تسود فيه الديمقراطية والحوار والتصالح نظرا لظهور بعض العوامل الجديدة كتدفق الأزمات إلى قطر.
وتتحكم مجموعة من الضغوطات الموضوعية أو النسقية في حركية الإصلاحات السياسية، ويمكن لهذه الضغوطات أن يكون لها طابع تكويني مرتبط بتطور النسق السياسي والاجتماعي. أو طابع بنيوي له علاقة بطبيعة البنية السياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى عوائق سياسية واقتصادية، ويبقى انخفاض مستوى الوعي السياسي وغياب الإرادة السياسية، إلى جانب ضعف الأحزاب والقوى السياسية وكذا التمثيلية السياسية من أهم المعيقات التي تهدد عملية الإصلاح السياسي. وبالتالي فالإصلاح السياسي من الدوافع التي سيكون لها دور فعال في تجاوز المعيقات المستقبلية لمسار الانتقال الديمقراطي.
المحور الثالث: دور القيادة السياسية في توحيد الرؤى والمصالح المشتركة
تلعب القيادة السياسية دورا هاما وحيويا في إقامة الديمقراطية، فالقيادة السياسية تبادر إلى اتخاذ قرار الإصلاح الديمقراطي على إثر دوافع متنوعة، قد تكون نتيجة إدراكها بعملية الإصلاح لأن تمسكها بالسلطة سيؤدي إلى تكاليف مرتفعة، أو نتيجة اهتزاز وتردي شرعية النظام القائم لعدم قدرته على تلبية مطالب واحتجاجات شعبية، ويمكن أن يرجع السبب إلى اعتقاد القادة أن الإصلاح الديمقراطي سوف ينجم عنه اكتساب دولتهم العديد من المنافع، مثل زيادة الشرعية الدولية[10].
إن غياب القيادة السياسية لايعني زوالها أوانعدامها، وإنما هو غياب لفعاليتها ودورها المؤسس ووسائل السلطة فيها، بالرغم من تنوعها الذي ظل راجعا إلى الفردانية في التدبير من جهة وغياب الشخصية القيادية من جهة أخرى، “و معظم الأقطار العربية تعيش هذا الوضع إذ تفتقر إل ىشخصية قادرة على ملئ المنصب الاستثنائي الذي يحتاج إليه في تسيير أموره في الوقت الذي لا يزال يفتقر فيه النظام العام إلى أية آلية لتطور روح سياسية جديدة وتربية طبقة قيادية قادرة على احتلال الفراغ[11].
فالانتقال من حكم لا ديمقراطي إلى حكم ديمقراطي يفترض إما أن يتولى الحكام أنفسهم القيام بعملية الانتقال والإصلاح، وفي هذه الحالة سيكون عليهم أن يتنازلوا عن سلطتهم لإقناعهم أن الأسس القديمة للنظام القائم قد انتهت صلاحيتها ولن تسمح لهم بالاستمرار في السيطرة على الحكم، وهذه الحالة نادرة الحدوث. ومن أهم مميزاتها أنها تعزز وتحافظ على استقرار الديمقراطية، أما الحالة الثانية فهي إجبار الحكام بوسيلة من الوسائل على التنازل. وهذا يتطلب وجود قوات ديمقراطية في المجتمع قدرة على فرض الديمقراطية في الدولة والحفاظ عليها والحيلولة دون قيام أي نظام حكم لا ديمقراطي[12].
ولإنجاح عملية الإصلاح الديمقراطي أو التحول، على القادة السياسية أن تدرك البدائل المتاحة وتحديد المسارات والتوقيت والأسلوب المناسب لتغيير النظم السلطوية والبدء بعملية الدمقرطة والتغيير الديمقراطي، ذلك إلى جانب توافر عوامل أخرى تتمثل في تحقيق تنامي قوة المعارضة السياسية والوضع الاقتصادي للدولة وتنامي دور الطبقة الوسطى ودور مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والنقابات[13].
إن الدولة كإطار سياسي مؤسسي يلعب دورا دافعا أو معرقلا أو مدبرا لعملية التحول الديمقراطي، بحيث يتطلب ذلك وجود قيادة سياسية مؤمنة بالقيم الديمقراطية بحيث أن هناك اتجاهين في دور القيادة في تفعيل عملية التحول[14]:
فالاتجاه الأول يرى أن القيادة هي عملية متبادلة تتم بواسطة أشخاص لديهم قيم ودوافع معينة ويمتازون بامتيازات معينة اقتصادية وسياسية واجتماعية وإمكانيات متعددة في إطار المنافسة لتحقيق أهداف معينة لذلك يستطيع القادة تشكيل تعبير دوافع وأهداف وقيم المحكومين من خلال دورهم كمؤشر في حياة الشعوب.
وأما الاتجاه الثاني أقر أن القيادة هي عملية إقناع حيث أن هناك أنماط مختلفة من القادة يستخدمون أنماط متعددة التكتيكات والاستراتيجيات لإقناع المحكومين بأهدافهم السياسية والاقتصادية وترتبط القيادة بعملية التنمية بحيث يكون دور القيادة هنا ترجمة السياسات العامة إلى أنظمة محلية وخطط عملية للتنمية.
وعلى ضوء هاذين الاتجاهين نجد أن النظم التي تحاول تفعيل عملية التحول الديمقراطي وارتكاز شخص واحد في الساحة السياسية، يكون صاحب القرار فيها واختياره للنخبة السياسية مؤمنا بالقيم الديمقراطية لرفع كفاءة ممارسة الحكم بشفافية ونزاهة[15].
ويقع هذا المثل على الواقع الجزائري منذ وصول السيد عبد العزيز بوتفليقة للحكم، حيث أكد أنه سوف يقوم بممارسة صلاحياته كاملة غير منقوصة وأحاط بنفسه بنخبة تتوفر فيها مقاييسه الخاصة بالإضافة إلى ذلك فانه من المفترض وفقا للدستور أن يقوم رئيس الحكومة بإعداد برنامج الحكومة واختيار أعضاء الحكومة إلا انه يتم كل شيء عن طريق رئيس الجمهورية حيث يقوم هذا الأخير بتعيين الوزير الأول واختيار البرنامج الحكومي.
ومن ناحية أخرى لعب بوتفليقة دورا هاما في تحقيق الاستقرار السياسي بالجزائر وذلك باعتباره شخصية تاريخية في الجزائر مرتبطة بفترة هواري بومدين والانجازات الكبرى التي قام بها وذلك من خلال الوئام المدني والمصلحة الوطنية، ودبلوماسيته المحنكة في التعامل في شكل ثنائي سواء داخلية أو خارجية.
وفي الأخير يمكن القول أن أهم التحديات التي تواجه عملية التحول الديمقراطي في الجزائر هو احتمالية الارتداء والرجوع إلى نقطة الصفر في حالة غياب بوتفليقة عن الساحة السياسية وتعطيل عملية التحول الديمقراطي الأمر الذي قد يتسبب في خلق فوضى ومواجهات عنيفة من جديد[16].
خاتمة:
لقد أفضت الثورات العربية إلى حدوث هزات اجتماعية وتوترات في العلاقة بين لمكوناته الاجتماعية : الدينية والمذهبية والقومية، من جراء غياب مبدأ المواطنة، الذي يتجاوز العلاقات التقليدية التي تميز المجتمعات العربية، فحدثت بعض الصدامات والتوترات في بعض البلدان العربية التي يوجد فيها مسيحيون عرب، وفي دول عربية أخرى ساءت العلاقة بين مكوناتها القومية أفضت إلى توترات وأزمات قومية في المجال العربي، فبرزت المشكلة الأمازيغية والكردية والأفريقية… وإضافة إلى هذه التوترات الدينية والقومية، ظهرت توترات مذهبية بين السنة والشيعة، وعرفت بعض الدول والمجتمعات العربية توترات مذهبية خطيرة تهدد استقرارها السياسي والاجتماعي، كما يحصل الآن في سوريا والعراق.
لقد أدى غياب مقتضيات المواطنة إلى اندفاع المواطنين العرب نحو انتماءاتهم التقليدية، وعودة الصراعات المذهبية والقومية والدينية بينهم، وهكذا ستغدو الصراعات السياسية والاجتماعية أكثر عنفا وعمقا مما كان متصورا في مجتمعات الربيع العربي، وتجاوزت القضية إقامة نظام ديمقراطي جديد محل نظام استبدادي قديم، إلى صراعات على السلطة من ناحية، وصراعات على الدولة من ناحية أخرى، حيث سعت كافة القوى السياسية إلى إثبات وجودها، وحجز” حصتها في النظام الجديد، ليس فقط من خلال آليات التحول القائمة على المنافسة السياسية، وإنما من خلال الحشد الثوري وأعمال العنف أحيانا.
لقد أثر الحراك العربي في بنية القوى السياسية وفي توجهاتها الفكرية، فشهدت الساحة السياسية تبعا لذلك حالة من التشرذم والإسهال الحزبي، فمن جانب قفز التيار الإسلامي إلى واجهة المشهد السياسي كأبرز قوة رئيسة في الحركات الإصلاحية في الوطن العربي، على الرغم من أنه لم يشارك في الثورات بشعاراته المعتادة، وكان المستفيد الأكبر من الثورات كما أشارت إلى ذلك النتائج الانتخابية في دول الربيع العربي. فمنذ انطلاق مسلسل انتخابات الربيع العربي من تونس وفوز حزب النهضة الإسلامي في انتخابات المجلس التأسيسي، ووصول الإسلاميين أيضا لصدارة الحكم في ليبيا بعد إسقاط القذافي، انطلق القطار سريعا إلى المغرب، واستطاع حزب العدالة والتنمية الفوز بالمرتبة الأولى في أول انتخابات تشريعية بعد الحراك العربي، وصولا إلى انتخابات مجلس الشعب المصري وتصدر الأحزاب الإسلامية المشهد السياسي بشكل قوي، مما يدل على قوة التيار الإسلامي وتزايد شعبيته.
فانفتحت المجتمعات العربية، بعد ثوراتها، على احتمالية التحول عن التسلطية التي كانت تعيش في كنفها قبل الثورة، ولكن ليس في اتجاه الديمقراطية وإنما في اتجاه تسلطية تنافسية لها توتراتها التي يمكن أن تفضي إلى تحولات ديمقراطية حقيقية على مدى زمني أطول.
ذلك أن النظام التسلطي التنافسي بطبيعته غير مستقر، لأنه قائم على قواعد ومؤسسات ديمقراطية شكلا وممارسات وتكتيكات تسلطية. وحسب المعطيات المتوفرة فإن المنطقة العربية ستتأرجح بين التسلطية التقليدية والتسلطية التنافسية في ظل غياب نخب مستعدة لأن تتبنى برنامجا متكاملا للتحول الديمقراطي.
الهوامش:
(*) تم تحكيم هذا المقال من طرف اللجنة العلمية لمركز مغرب القانون
للدراسات والأبحاث القانونية
[1]– بونعمان (سلمان): فلسفة الثورات العربية، مقاربة تفسيرية لنموذج انتفاضي جديد مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى، بيروت، 2012، ص27.
[2]– Abdelhamid El Quali, Autonomie au Sahra : Prélude au Maghreb des régions , London : Stacey international 2008, P -85.
[3]– أحمد الحليمي علمي: “المسار الديمقراطي في المغرب، رهانات التوافق” طبعة 2002، ص 226 و227.
[4]– انظر الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الثلاثين لانطلاق المسيرة الخضراء ليوم 6 نونبر 2005.
[5]– عبد الحميد البجوقي: “إعادة فتح ورش الإصلاح الديمقراطي، الحكم الذاتي ودولة الجهات في المغرب”، مجلة وجهة نظر، العدد 28 ربيع 2006، ص 16.
[6]– المختار مطيع: “من أجل نقاش موسع حول مشروع الجهوية الموسعة” مجلة دراسات ووقائع دستورية وسياسية، العدد الثامن، سنة 2010 ص 177.
[7]– أسماء أنيس، ” واقع الإصلاحات السياسية في الجزائر 2008-2016″، مذكرة تكميلية لنيل شهادة الماستر في السياسات العامة المقارنة، جامعة العربي بن مهدي أم البراق-الجزائر، 2015-2016، ص 61.
[8]– محمد الصادقي، الاصلاح الديمقراطي في الدول المغاربية، تونس والمغرب نموذجا-دراسة مقارنة-، رسالة لنيل دبلوم الماستر في الدراسات الدستورية والسياسية، وجدة، 2016/2017، ص، 25.
[9]ـ كروسي مختار وعرابي علي، ” الاصلاحات السياسية في دول المغرب العربي، دراسة حالة، المغرب والجزائر”، مرجع سابق، ص، 74.
[10]– نفس المرجع، ص 25.
[11]– درويش طارق، ” إشكالية الديمقراطية في الفكر العربي المعاصر-دراسة تحليلية نقدية-“، مذكرة لنيل شهادة الماستر في الفلسفة العامة، جامعة الدكتور الطاهر مولاي-الجزائر، 2015-2016، ص، 47.
[12]– محمد الصادقي، مرجع سابق، ص، 26.
[13]– نفس المرجع ، ص، 26.
[14]– عميرة محمد أيوب، “تأثير التحول الديمقراطي على الاستقرار السياسي في السياسي في الجزائر 1999-2009، مذكرة لنيل شهادة اليسانس في العلوم السياسية، 2012-2013، ص، 40.
[15]– عميرة محمد أيوب، مرجع سابق، ص، 40.
[16]ـ كروسي مختار وعرابي علي، ” الاصلاحات السياسية في دول المغرب العربي، دراسة حالة، المغرب والجزائر”، مرجع سابق، ص، 67.