عادل الوريقي: الأدوار الجديدة للإدارة العمومية بالمغرب
عادل الوريقي دكتور في العلوم الإدارية
تضطلع الإدارات العمومية في كل دول العالم بأدوار كلاسيكية، تنحصر في تقديم خدمات إدارية للمرتفقين، وتختلف هذه الخدمات من الإدارية إلى الاقتصادية والاجتماعية، كما تختلف من حيث الجودة والفعالية والتوقيت. إلا أن هذا الدور الكلاسيكي أصبح متجاوزا بحكم تطور أهداف الإدارة العمومية، ونمط تدبيرها وكدا اختلاف نوعية المرتفق ومطالبه.
ويمكن القول أن للإدارة معنيان: الأول مادي وتعني كلمة الإدارة:النشاط أي التسيير والتدبير أما الثاني فهو عضوي وتعني: الجهاز أو الأجهزة التي تمارس ذلك النشاط.
وبهذا المعنى الواسع، فإن كلمة الإدارة تستعمل للتعبير في نفس الوقت عن الأنشطة العامة والخاصة. أما بالمفهوم الضيق، والذي يرتبط بالقانون الإداري، فإن كلمة الإدارة العمومية هي مجموع الأجهزة المكلفة بتنفيذ مختلف المهام الإدارية العمومية بحيث نجد أن هناك في الغالب تطابق بين المعنى العضوي والمعنى المادي بحيث تظهر الإدارة كجهاز ووظيفة في نفس الوقت. غير أن هناك تعريفات للإدارة نادى بها العديد من المفكرين والفقهاء من مختلف المدارس يمكن إيجازها فيما يلي:
يعرف “فريديرك تايلور” (الإدارة بأنها، المعرفة الصحيحة لما يراد من الأفراد أن يؤدوه، ثم التأكد من أنهم يؤدونه بأحسن وأرخص طريقة).
وعرفها “هنري فايل” بأنها (القيام بمجموعة من الأعمال التي تتضمن: التنبؤ، التخطيط، التنظيم، إصدار الأوامر، التنسيق والرقابة) .
وعرفها “فروست” بأنها (فن توجيه النشاط الإنساني) .
وعرفها “ستانلي فانس” بأنها (عملية اتخاذ القرار والرقابة على الأنشطة الإنسانية من أجل تحقيق أهداف محددة).
وعرفها “كونتز وادونيل” بأنها (وظيفة العمال عن طريق الأخرين) .
أما “رالف دافيز” فعرفها بأنها (الوظيفة القيادية التي تتكون من أنشطة التخطيط والتنظيم والرقابة لتحقيق الأهداف العامة للمنظة) .
أما “أولفير شيلدون” فيعرفها بأنها (الوظيفة التي تتعلق بتحديد أهداف المشروع المرغوب والتنسيق بين التمويل والإنتاج والتوزيع وتقرير الهيكل العام للتنظيم والرقابة النهائية على أعمال التنفيذ[1].
فالمقصود بالإدارة العمومية، تلك الإدارة، أفرادا وأنشطة، المنوط بها تخطيط وتنفيذ برامج التنمية الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية.
فالادارة العمومية بالمغرب كانت ولازالت موضوع جدل كبير إذ أن إصلاحها عرف مراحل مد وجزر توجت بمجموعة من النتائج سنتطرق لها في حينها بينما عرف الشق الثاني للجسم الاداري – أي الجماعات الترابية – بدوره مجموعة من التعديلات على المستوى المحلي زادت من قيمة هذه الاصلاحات إد جاء دستور 2011 ليؤسس لتنظيم ترابي لامركزي يقوم على الجهوية الموسعة، حيث خصص بابه التاسع للجهات والجماعات الترابية الأخرى، وجعل التنظيم الجهوي والترابي للمملكة يرتكز على “مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن، ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة”[2]. واعتبر أن الجهات والجماعات الترابية الأخرى تساهم على حد السواء في “تفعيل السياسة العامة للدولة، وفي إعداد السياسات الترابية، من خلال ممثليها في مجلس المستشارين”[3]، والذي ينتخب أعضائه بالإقتراع العام غير المباشر لمدة ست سنوات، فالتعاقد التشاركي المندمج، كمبدأ استراتيجي في دستور 2011، يجعل من كل الأطراف التي شملتها الديمقراطية التشاركية في النص الدستوري شركاء فعليين للدولة، يضطلع كل منهم بأدوار وصلاحيات هامة وأصيلة، تتميز بالتنوع والتكامل بذل التشابه والتماثل.
فدســتور فاتــحِ يوليــوز2011 والقوانيــن التنظيميــة المتعلقــة بالجماعــات الترابيــة[4] فتحا، آفاقــا واســعة أمــام بلــوغ الأهــداف المتوخــاة مــن إقــرار الجهويــة المتقدمــة، بإعطــاء الجهــة مكانــة الصَّــدارة، مــن خــلال تكريــس شــرعيتها الديمقراطيــة، وتخويلهــا مجموعــة مــن المهــام والإختصاصــات التــي تمنحهــا الأولويــة فــي مجــال التنميــة الإقتصاديــة، وبالرفــع مــن المــوارد المرصــودة لهــا كــي تضطلــع بأدوارهــا علــى أحســن وجــه وتواجــه التحديــات الجديــدة.
هكــذا أصبحــت الجهــات مســتوى ترابيــا يحظــى بأهمية خاصــة، وإطــارا مناســبا لتحقيــق الإندمــاج بيــن السياســات القطاعيــة وتحقيــق الإنســجام بيــن جهــود وأشــكال تدخــل مجمــوع الفاعليــن الإقتصادييــن المعنيين بالمجــال الترابــي. وتشــكل أيضــا مجــالا مناســبا للمشــاركة الفاعلــة للســكان فــي تدبيــر الشــؤون الجهويــة، وفــي جهــود التنميــة المجاليــة، وذلــك بفضــل الآليــات الجديــدة لإعمــالِ «الديمقراطيــة التشــاركية».
ويتعلــق الأمــرُ إذن بإصــلاح جــاء في إبانــه، كاســتجابة ملموســة لتطلُّــع عــام نحــو تحقيــق «مغــرب الجهــات»، مغــرب موحَّــد ومكــوَّن مــن جهــات متكاملــة ومتضامنــة، تتضافــرُ فيــه جهــودُ جميــع الأطــراف لضمــان رفــاه المواطنيــن وعيشــهِم الكريــم.
كل هذا يؤكد على إستمرار وصاية المركز على الجهة بالرغم من انتخاب مجالسها بالإقتراع العام المباشر وتوفرها على موارد مالية ذاتية وأخرى مرصودة لها من طرف الدولة، وذلك من خلال سهر الولاة والعمال، بإسم الحكومة، على تنسيق وحسن سير أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية تحت سلطة الوزراء المعنيين ومساعدة رؤساء الجماعات الترابية، وبخاصة منهم رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية في إطار لا ينفصل عن ممارستهم المراقبة الإدارية، بدعوى تأمين تطبيق القانون وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها.
وإذا كانت الجهوية، كما قال الملك محمد السادس الذي جعل من اللاتمركز الإداري محطة أساسية وفكرة متكررة في معظم خطاباته، تعد ” تحولا نوعيا في أنماط الحكامة الترابية “. فإن إطلاق ورش الجهوية سيمكن من “توطيد الحكامة الترابية الجيدة والتنمية المندمجة” والمراد بالجهوية الموسعة، هو توسيعها وتكريسها وترسيخها، وليست تلك المعهودة في إدارتنا حتى اليوم، بمعنى إعادة التوزيع الواضح والدقيق للسلط والاختصاصات بين المركز والجهات من جهة، والتقطيع الترابي الناجع وتعزيز مسار اللاتمركز، اللذان يعدان أبرز الأسس والركائز والدعامات الحقيقية لقيام جهوية موسعة ومندمجة، قادرة على كسب تحديات التنمية وتكريس مبادئ الديمقراطية والحكامة من جهة أخرى، حيث أن خطاب الملك[5] في 6 نوفمبر 2008 رهن نجاح الجهوية “…. بإعتماد تقسيم ناجح، يتوخى قيام مناطق متكاملة اقتصاديا وجغرافيا ومنسجمة إجتماعيا وثقافيا “.
لقد راكم المغرب تجربة كبيرة على مستوى اللامركزية وخاصة الإدارية منها، لكن ذلك لم يصاحبه تطور وفعالية على المستوى الإقتصادي والمالي. ولتحقيق هذا الهدف، وجب على الجماعات الترابية التوفر على الإمكانات البشرية والتقنية والمالية التي تمكنها من القيام بأدوارها كاملة في ظروف جيدة.
إن إقرار اللامركزية كخيار استراتيجي، وكنظام ديمقراطي وكقاعدة إدارية لتدبير الشأن المحلي، وكذلك الإجماع الوطني على ضرورة تطوير المؤسسات المحلية وتوسيع إختصاصاتها والزيادة من مواردها وإمكانياتها، كل ذلك بفرض مهام وأدوار ومسؤوليات جديدة على النخب المحلية حتى تشكل بالفعل احتياطيا اجتماعيا وسياسيا هاما وفاعلا يستحق الأخد بعين الإعتبار.
إن البطء الذي ظل يميز الانتقال نحو الديمقراطية بالمغرب، بالرغم من النتائج الإيجابية المحققة على أكثر من صعيد، يرجع في جانب كبير منه إلى معضلة تدبير الشأن المحلي، الذي لا يتم وفق طرق ومناهج حديثة وعقلانية، حيث لا زالت العديد من القرارات والسياسات المحلية تعاني من ضعف إنتاج وتداول النخب، وتراجع مصداقية المؤسسات المنتخبة، وعدم وجود آليات علمية للمراقبة والتقييم والمحاسبة.
إن الإصلاحات الكفيلة بتحقيق الحكامة الترابية، لا يمكن إختزالها في مجرد إصدار نصوص قانونية جديدة، مهما بلغت من التطور والنضج، ولا في تفريخ هياكل إدارية واختصاصات إضافية، بل لابد من رؤية شمولية ذات أهداف دقيقة وأبعاد إستراتيجية. وعليه وجب التساؤل إلى أي حد يمكن تجاوز الإكراهات القانونية والمالية للجهة وتحقيق رهانات التنمية من خلال الطرح الجهوي الموسع؟
لقد تعددت الدراسات التي تناولت الإدارة العمومية، وتنوعت بتنوع المقاربات والمناهج المعتمدة، لكن كل المحاولات كانت تصب في اتجاه تجويد وتحسين دور الإدارة العمومية، وفي محاولة لاستجلاء الخلاصات المتوصل إليها من هذه الدراسات والاقتراحات والتوصيات المعبر عنها، يمكن الانطلاق في البحث عن سبل وآليات تحسين وتجويد الفعل الإداري في اتجاه البحث عن الأدوار الجديدة التي يمكن للإدارة العمومية القيام بها.
فقد شكلت الأزمة التي يعيشها المغرب في السنوات الأخيرة وعيا جماعيا (الدولة والمجتمع) بضرورة الاصلاح والتحديث في جميع المجالات وخاصة المجال الإداري، ومن هنا يمكن أن نلامس ولأول مرة انخراط مكونات وفعاليات المجتمع المدني في هاته المشاريع الاصلاحية مما يشكل تحولا كبيرا في مسار الاصلاحات الكائنة والممكنة بين العمل الإداري والبيئة الاجتماعية التي يخاطبها.كما أن خطاب الأزمة أصبح متفقا عليه في المغرب ومن بين تجلياته أزمة الإدارة العمومية المغربية.
وفي هذا الإطار، يجب أن نقر أن جوانب أزمة الادارة العمومية متعددة فهي: مؤسساتية تتمثل في إكثار الهياكل الوطنية والمحلية عوض تحديثها وتعزيز ودعم فعاليتها. ومشروعية تبرز فينظرة سلبية يحملها المجتمع عن الإدارة بالإضافة إلى كونها أزمة هوية تتجلى في عدم استجابة الإدارة للخصوصية المغربية وحيثياتها .
وانطلاقا من ذلك، فإن تداخل وتعدد هاته الجوانب المذكورة يتطلب انجازا مشروعا إداريا تحديثيا يدخل ضمن إطار مسلسل متصل الحلقات بإمكانه أن يتجاوز الاطار التقليدي والنمطي الذي تشتغل فيه الإدارة العمومية وباستطاعته أيضا أن يساهم في تطوير العمل الإداري لتصبح هاته الإدارة العمومية وسيلة للتنمية والتحديث والتطوير عوض أن تبقى وسيلة للتحكم وممارسة السلطة .
فالبحث عن الأدوار الجديدة للإدارة العمومية، هو بحث عن تحسين آليات العمل الإداري، وذلك بتجاوز التقنيات الكلاسيكية — والمتمثلة في تقديم الخدمة العمومية للمرتفق في إطار تطبعه أو يطبعه الروتين الإداري الممزوج غالبا بالبطئ والبيروقراطية الجافة والتي غالبا ما تفشل في تقديم خدمة جيدة وكسب رضا المرتفق –إلى تقنيات حديثة تنشط داخل القطاع الخاص بصفة عامة وتؤدي إلى نتائج مرضية للمرتفق معتمدة في ذلك على:
النجاعة والفعالية:
أصبح التدبير العمومي الحديث، القائم على إدخال أساليب الحكامة وقيم جديدة مثل: فعالية الأداء، المنافسة، التسويق والمشاركة…، يفرض مراجعة الحدود بين القطاع العام والخاص، وبين الحقول الإقتصادية والحقول الإجتماعية، كمدخل أساسي لإعادة صياغة المهام والأدوار والوظائف، بما يسمح بإستثمار أمثل للخبرات والوسائل المشتركة والمشاريع، لخلق فعل جديد مؤسس على تقاسم الأدوار والمسؤوليات والمهام، في سبيل إحداث قطيعة مع المقاربات التقليدية لتدبير الشأن العام، الذي أفرز لنا ما أصبح يعرف بأزمة تدبير المرفق العام، هذه الأخيرة التي أصبحت كثقافة ومنهجية جديدة تساءل الآليات التدبيرية التقليدية.
التنافسية:
إن قدرة أي اقتصاد على المنافسة، أصبحت تقاس بمدى توفر واتساع شبكات المرافق العامة التي تتوفر عليها الدولة، وجودة الخدمات التي تقدمها هذه المرافق، نظرا لما تشهده الدول من تطور سريع في هذا المجال، فهي تعد الركيزة الأساسية للتنميةوطنيا ومحليا، ليس فقط في المجال الإداري، وإنما في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، كذلك حظي هاجس تطوير المرافق العامة والرفع من مردوديتها باهتمام كبير، خاصة مع تنامي التجاه نحو العولمة والاندماج في بنية الاقتصاد العالمي، وهو ما أصبح معه من اللازم إعادة النظر في وظيفة هذه المؤسسات وضبط قواعد اشتغالها وتنظيمها، والبحث في المسؤولية الناتجة عن تأديتها لمهامها، في ظل ارتفاع المطالب بمراعاة مبادئ الشفافية وحسن التدبير لمواجهة مشاكل التنمية، التي ازدادت حدة في عالم تضغط فيه العولمة على الإقتصاد بقوة. نظرا لما تتطلبه المرافق العامة من استثمارات ضخمة وما تتميز من تعقيد على مستوى خصائصها الفني، احتكر أشخاص القانون العام ولفترات طويلة تقديم خدماتها خلال فترة مابعد الحرب العالمية الثانية، حيث طرحت قضية فشل آليات السوق التنافسية في تحقيق نتائج إيجابية في المرافق العامة، وسيطر بالتالي القطاع العام على هذه الوظيفة.
الرضا:
إن تحقيق رضا المرتفق يضل الهدف الاسمى والاول لكل التدخلات الادارية وإذا كان من الصعب تحقيق ذلك فالحصول على جزء بسيط يضل المسؤولية الاولى للتدبير الاداري بكل مستوياته فالمرتفق بالمغرب غير راض على التعامل رغم المحاولات المتكررة لنيل هذا الرضا.
الشراكة:
إن نجاح الشراكة كأسلوب تعاقدي يقوم على الثقة المتبادلة بين الأطراف وذلك سواء من حيث احترام التزاماتهم أو من حيث مدى توفرهم على الخبرة العلمية والتقنية الضروريتين لإنجاح الشراكة أو مدى قدرتهم على التكيف مع التحولات والتغيرات التي قد تطرأ على المستويين الداخلي والخارجي، ومدى صدق إرادتهم وعزيمتهم على الدخول في شراكة مع شخص معنوي عام.
ومن جهتهم فإن شركاء الوحدات الادارية يحتاجون إلى تعزيز ثقتهم في السلطات العمومية والتأكد من الإرادة السياسية لدى المسؤولين للدخول في شراكة مستمرة معهم، كما يطالبون بخلق بيئة ملائمة لنجاحها سواء من حيث السياسات العمومية المعتمدةأو على مستوى النظام الضريبي المفروض أو على مستوى احترام التعهدات والالتزامات المختلفة الملقاة على عاتقه، فضلا عن الاستقرار الاقتصادي المطلوب لتشجيع الشراكة حول المشاريع التنموية المعقدة والتي تحتاج إلى خبرات عالية وتكنلوجية كبيرة وتمويلات ضخمة. فتشجيع الدولة للشراكة من شأنه أيضا أن يحفز الشركاء على مزيد من توظيف الأموال والخبرات لتحقيقه سواء على المستوى المعنوي أو المالي .
أن المقاربة التعاقدية هي شكل من أشكال المقاربة التشاركية فإنها لا يمكن أن تتم إلا مع السكان مباشرة أو مع ممثليهم وهذا ما أكده الملك في خطاب له مؤرخ في 18 ماي 2005: ” وبصفة عامة ندعو الحكومة إلى إعتماد مقاربة تعتمد الإصغاء والتشاور مع كل القوى الحية للأمة من أحزاب سياسية ومنظمات نقابية وجماعات محلية وهيئات المجتمع المدني والقطاع الخاص وحتى مع المواطنين الذين لهم خبرة وغيرة في مجال التنمية “. وقال أيضا: ” إنها تجارب تؤكد على العكس من ذلك، مدى نجاعة الأساليب التي تستهدف التحديد الدقيق للمناطق والفئات الأكثر خصاصة، أهمية السكان ونجاعة المقاربات التعاقدية والتشاركية “.
لقد تبنى المغرب المفهوم الجديد للسلطة منذ الإعلان عنه من طرف جلالة الملك في خطاب له بتاريخ 12 أكتوبر 1999 حيث بدأت مرحلة ميزت المشهد السياسي للمغرب الحديث بتصور علاقة جديدة بين السلطة ومحيطها العام مبينة على التوازن، التواصل، التشارك، الثقة، الفعالية.
إن هذا المفهوم يعتمد مقاربة شمولية تتميز بتعدد المتدخلين وبتنوع الطاقات المستهدفة فضلا عن جميع الإصلاحات الواجب القيام بها. فحماية المصالح العمومية والشؤون المحلية والحريات الفردية والجماعية والمحافظة على الأمن والإستقرار وتدبير الشأن المحلي لا يمكن تحقيقه داخل المكاتب الإدارية لكون هذه المسؤوليات تفرض على السلطة التواصل المباشر مع المواطنين بإشراكهم في إيجاد الحلول المناسبة.
إن من أهم الأسس التي ينبني عليها المفهوم الجديد للسلطة حماية الشؤون المحلية كتكملة لتلك التي تهم حقوق الأفراد والجماعات، وبإعتبار أن أغلبية الوحدات الترابية لا تتحكم جيدا في تدبير مواردها ولا تتوفر على الوسائل الضرورية لتنفيذ قراراتها، حيث أنها في أغلب الحالات تلتجئ إلى ممثلي الدولة فإن المفهوم الجديد للسلطة يهدف إلى الحذف أو على الأقل التقليل الفعلي منرقابة الملائمة، يعني أنهمن الضروري أن تستفيد الجماعات من إستقلال فعلي على المستوى الإداري والمالي شريطة أن تكون قادرة على تسيير شؤونها بطريقة شفافة وفعالة.
المردودية:
حتى في ظل الأوضاع الأكثر صعوبة عندما تكون الموارد العمومية محدودة يمكن للمجموعات الخاصة استثمار الأموال الضرورية بهدف تحسين الولوج والاستفادة من الخدمات العامة. بالإضافة إلى ذلك يمكن للسلطة العمومية أن تبرم اتفاقا مع الشريك الخاص إذا كانت متأكدة أن المواطنين سيستفيدون من خدمات أفضل من الخدمات التي تقدمها بنفسها.
فاعتماد المنافسة بين الشركاء تشجعهم على أن يأخذوا بعين الاعتبار احتياجات وانتظارات المستهلكين، وتقديم الخدمات ذات جودة عالية، واقتراح تقديم خدمات تكميلية وحلول بديلة. زيادة على ذلك تندرج عروضهم في إطار منطق اقتصادي مفاده أن إرضاء المستهلكين هو الشرط الضروري لضمان تنمية العلاقات التجارية مع الجماعة المعنية.
فبالتعاون مع الشريك الخاص، يمكن للشراكة أن تأتي بالاختراعات والابداع في تنظيم تأدية الخدمات ويمكن للشراكة كذلك إدخال تقنيات جديدة وإحداث الفوائض الكبيرة التي غالبا ما تخفض التكاليف أو تحسن من جودة الخدمة ومستواها.
مقاربة النوع:
مقاربة النوع هي عبارة عن منظور للتغيير الإجتماعي المرتكز على النظريات التنموية البشرية هذه النظرة للتنمية تموقع الأشخاص في مركز إهتماماتها بإستقلال عن الجنس والسن، وتستلزم إذن بالضرورة إدخال بعد النوع ووضع الأفراد في موقع الفاعل في عملية التغيير. فنهاية هذه الصيرورة تكون بتحقيق المساواة والإنصاف بين الرجال والنساء بتمتيعهم بوسائل وآليات لتحقيق تقدمهم .
ذلك أن التدبير الترابي يحتاج إلى حضور نسائي حقيقي ووازن لجعل التسيير مكتمل الشروط، وذلك للنهوض بجملة من القطاعات التنموية الهامة، فالمرأة نصف المجتمع وتهميشها يؤدي إلى تهميش هذا النصف كله من المجتمع وهذا لن يفيد التنمية في شيء فلا بد من تأهيلها وإعطائها الفرصة والإمكانات للبرهنة على قدراتها وذلك لتحسين تمثيليتها وإعطائها مكانة تليق بها بين صناع القرار.
وتنطلق هذه المقاربة من قناعة علمية وأخلاقية بدور المرأة في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، فتأهيل المرأة عمليا ثقافيا وعمليا وإجتماعيا وإقتصاديا هو تأهيل بدون شك للمجتمع ومنطلق أساسي بدونه لا يمكن تحقيق إقلاع إقتصادي حقيقي.
ولهذا يجب إشراكها في مختلف المؤسسات والهيئات واللجان على أساس الندية مع الرجل في الرأي وإتخاد القرار والمتابعة والتفعيل والتقييم إلى غير ذلك.
كما تعني مقاربة النوع إعطاء مزيد من الإهتمام للمرأة القروية والتأكيد على دورها في التنمية الفلاحية القروية والدفاع عن حقوقها. وحينما نتحدث عن النوع فهو ليس فئة متجانسة بل هو رصد لجميع فئات المجتمع: فقراء وعجزة وشباب… وغير ذلك، ولهذا توجه المشرع مثلا على المستوى المحلي منذ الميثاق الجماعي ل 2002 إلى تبني مقاربة جديدة في محاربة الإقصاء والتهميش والفقرو ذلك بإصراره على ضرورة إدماج جميع فئات المجتمع في التنمية الشاملة وذلك انطلاقا من تأكيده على صيغ التعاون والتضامن مع الفئات المعوزة وإدماج المعاقين وكل الأشخاص ذات الاحتياجات الخاصة، هذا البعد الإجتماعي لم يتوان المشرع عن ترسيخه أيضا في الإصلاح الجديد لسنة 2009 بإعتبار أن النوع هو عامل أساسي لتقسيم العمل وتخصيص الموارد والزمن.
وتتضح أهمية إشراك الفئات التي تعاني الإقصاء الإجتماعي والضعف والهشاشة )نساء، أطفال، شباب، عجزة، معاقين…( في العملية التنموية ليس فقط لأن ذلك يعتبر مطلبا حقيقيا بل لأنه حاجة تنموية، فمن منظور المقاربة التشاركية التنموية فإن عدم مشاركة هؤلاء ضمن العملية التنموية وعدم شمل هذه الأخيرة لهم في برنامجها سيعتبر قصورا ومبعثا على فشلها ولا يستجيب للمعايير الحديثة الحقيقية للتنمية البشرية.
التخطيط:
ان عتماد آلية التخطيط وسيلة مهمة لضبط البرامج وتحديد التوجهات وتحديد مجال تدخلات الادارة وإقرار مسؤوليتها في تنفيذ البرامج في مدة زمنية محددة، مع إمكانية مواكبة المستجدات التي تعرفها الحاجيات بإدراج إمكانية تحيين هذا المخطط. وفي ذلك تأكيد على إلتزامها بتتبع تنفيذ المشاريع ومراقبتها ومواكبتها لتحقيق أفضل الموارد والنتائج.
إن المقاربة التشاركية والمندمجة تقوم على وظيفة التخطيط كركيزة أساسية لها. هذه الوظيفة لها هدف استراتيجي يتجلى في تحديد المشروع المستقبلي بناءا على الرؤية المستقبلية والمخططات المشتركة والشاملة، حيث يتم من خلالها التعامل مع العملية التنموية تعاملا استراتيجيا يرتكز على التخطيط العملي الذي تندرج في صياغته جميع القطاعات المعنية وأحيانا حتى غير المعنية بطريقة مباشرة، إذ يصبح أمام هذا المبتغى الضخم الكل معنيا ولو بشكل غير مباشر.
كما تكمن أهمية التخطيط في التحكم في صيرورة العملية التنموية انطلاقا من التشخيص والإعداد، إلى التفعيل والمتابعة والإنجاز والتقييم وبالتالي، فإنه يتيح في الأخير إمكانية المساءلة بناءا على تحديد دقيق للمسؤوليات المسبقة لجميع المتدخلين.
كما يتيح التخطيط ترشيد العمل المحلي لتحقيق الفعالية والكفاية وهما إحدى أهم خاصيات الحكامة.
فالفعالية لايمكن تحقيقها دون تكثيف الجهود والتدخل الشامل في العملية التنموية. هذا التدخل المتعدد للمتدخلين وفق عملية مدروسة تندرج بدورها ضمن مخظظ مدروس، تسمح بتخصيص واحد للموارد البشرية وللإمكانات المادية عوض التخطيط المتعدد لهذه الموارد والذي يعجز في النهاية عن تحقيق الأهداف المرجوة وعن تحقيق الكفاية في النفقات[6].
إن المقاربة الشمولية المندمجة القائمة على التخطيط تمكن من تحديد الحاجيات ومن تشخيص الأوضاع القائمة والوسائل الضرورية سواء البشرية أو المالية أو الكفاءات والمهارات في خدمة الجميع.
ويستتبع هذا كله رصد مستمر للعملية التنموية في مرحلة الإعداد والتشخيص والتحديد وفي مرحلة التنفيذ، هذا الرصد سيكون له هدف تقييمي وتقويمي دوري يمكن من تجاوز كل المعيقات وتحقيق الأهداف المرجوة بأقل التكاليف.
إن وضع مخطط عمل جيد يتطلب تقييم الوضعية والسياق العام وتحليل نقط القوة والضعف والعراقيل والأخطار المتوقعة، فحجم النظرة المستقبلية هو مؤشر تقدير حجم المجهودات التي يجب بذلها من أجل إنجاح العملية التشاركية والأهداف الواضحة هي التي تمكن من تفسير هذه النظرة، والمخطط الناجح يمكن المسؤولين من القيام بالتقييم والمتابعة بالموازاة مع التنفيذ.
إن التخطيط يمكن من تشخيص المشاريع ودراستها واعتمادها وبالتالي الإسهام في تحقيق مجتمع قائم على المشاريع التنموية الناجحة ونشر ثقافة المشروع بين مختلف مكوناته.
والمقاربة التشاركية تقوم على تحديد الأدوار والمسؤوليات لكل المتدخلين في تنظيم المشاريع والبرامج، وهي أيضا عبارة عن صورة تسمح للجماعات النشيطة والأفراد النشيطين ولممثلي السكان ولمؤطريهم في صياغة التصور التنموي وفي تسيير جميع الأنشطة التنموية داخل مجالهم ومحيطهم.
إن التدبير التشاركي له أهميتة القصوى كذلك في مرحلة التشخيص المطلوبة على مستوى المشاريع وعلى مستوى تحديد المواقع إذ يحيلنا على فكرة اساسية أخرى وهي التشخيص التشاركي الذي يمكن اعتباره الأداة الفعالة التي تسمح بتحديد عوامل ومظاهر الضعف والقوة على المستوى الداخلي والخارجي.
ولإنجاح المشاريع المعتمدة لا بد من تبني نظام متابعة وتقييم بواسطة مقاييس تسمح على الدوام بالقيام بالإصلاحات الضرورية وتحقيق الأهداف المرجوة و استمرارية الخدمة:
الهدف الاساسي لوجود الادارة ومضوع إحداثها فالرغم من الانتقادات المتعددة للادارة وضعفها إلا أن الاستغناء عنها يضل مستحيلا حتى في الحالات الشادة كالحروب والكوارث الطبيعية …..حيث تلعب الادارة ليس في المغرب فقط بل كل الأنظمة المتطورة دورا محوريا في عملية التنمية، وتشكل أداة ليس فقط لإدارة الخدمات أو توفير وثائق معينة، بل ركيزة لخلق الثروة وتحريك دواليب الاقتصاد.
فتبني هذه التقنيات يؤدي بالضرورة إلى لعب أدوار جديدة تساهم إلى جانب المكونات الأخرى في خلق جو من التنافسية يصب في نهاية المطاف في التنمية العامة والتي تبقى الهدف الأسمى لخلق هذه الإدارة. فتراجع دور الدولة الذي أملته مجموعة من الظروف الوطنية أحيانا والدولية أحيانا أخرى، لم يعد ممكنا اليوم بحكم ظهور مجموعة من الآثار السلبية لهذا التراجع قد ينعكس لا محال على الاستقرار الاجتماعي. فتبنى أهداف وأدوار أخرى فرضته مجموعة من الأمور منها ما يستجيب للضغط الداخلي ومنها ما يتفاعل مع الاملاءات الخارجية. فالمغرب وسيرا على نهج مجموعة من الدول المشابهة خاصة تلك التي تعاني من ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة، حاول إعادة هيكلة منظومته الإدارية العمومية بغية التخفيف من وطأة هذه الظروف الشيء الذي واجه مجموعة من الإكراهات أدت إلى نتائج عكسية وأجبرت الفاعلين على التراجع عن مجموعة من المبادرات.
ولقد عملت الدولة على تقوية صلاحيات الادارة المركزية عبر توسيع صلاحياتهم وأدوارهم التنفيذية في مواجهة تطور المسار اللامركزي، خاصة فيما يتعلق بموقع وسلطة العامل الذي أصبح المجسد الفعلي للسلطة المركزية، وهو الأمر الذي كرس التدبير اللامركزي على المستوى المؤسساتي والإداري وتعاظم امتداده إلى كل المجالات الحيوية للتدبير الترابي، مما أفضى إلى سحب اختصاصات المجالس المنتخبة التي عجزت عن القيام بأي دور تنموي اجتماعي واقتصادي.
وزاد في ترسيخ هذا المنطق، انتهاج المغرب على غرار العديد من الدول الحديثة العهد بالاستقلال مقاربة تدبيرية مركزية، في سياق تكريس إيديولوجيا الدولة القومية الموحدة، من أجل بناء نموذج تنموي يقوم على تحفيزالاستثمارات ورفع نسبة النمو، وذلك بالاعتماد على أسلوب التخطيط المركزي، ابتداء من المخطط الخماسي (1960 – 1964). ليعرف بعد ذلك مجموعة من المخططات الاقتصادية الموجهة من خلال مقاربة قطاعية، وذلك بسبب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير المستقرة، والتأثر بالتجربة الفرنسية ذات التوجه الليبرالي.
وعلى غرار باقي الدول السائرة في طريق النمو، وفي ظل تحديات الانفتاح على العالم والثورة التكنولوجية التي تواجهه، حاول المغرب جاهدا النهوض بإدارته العمومية عبر مجموعة من الأوراش الإصلاحية الكبرى من قبيل: تدعيم اللامركزية واللاتركيز الإداري، تبسيط المساطر الإدارية، تخليق المرفق العام، الإدارة الإلكترونية، تأهيل الموارد البشرية…
وشكلت التنمية الإدارية، إحدى التوجهات الاستراتيجيات للعديد من الدول قصد تطوير أداء مؤسساتها الإدارية والسياسية. هذا ولقد ساهمت عدة عوامل مجتمعية في تبلور التنمية الإدارية، حيث تنازعتها عدة تيارات ونظريات في تحليلها ورصد مدلولتها. كما تتداخل التنمية الإدارية مع عدة مفاهيم إدارية أخرى كالإصلاح الاداري والتطوير الاداري، هذا وتتخذ عدة أشكال في تفعيلها وتطبيقها ولقد ساهمت فيها عدة عوامل اجتماعية وسياسية وثقافية وسلوكية.
الهوامش:
[1]– قاموس الطلاب. إعداد يوسف الشيخ محمد البقاعي . مراجعة وتدقيق شهاب الدين أبو عمرو . دار المعرفة . البيضاء. ط: 2006 . ص: 62-64
[2]ـ الفصل 136 من دستور 2011.
[3]ـ الفصل 137 من دستور 2011.
[4]ـ ظهير شريف رقم 1.15.83 صادر في 20 من رمضان 1436 (7 يوليوز 2015) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 111,14 المتعلق بالجهات .
ـ ظهير شريف رقم 1.15.84 صادر في 20 من رمضان 1436 (7 يوليوز القانون التنظيمي رقم 112,14 المتعلق بالعمالات والأقاليم .
ـ ظهير شريف رقم 1.15.85 صادر في 20 من رمضان 1436 (7 يوليوز 2015) القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات .
[5] ـ خطاب الملك محمد السادس بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء بتاريخ 6 نوفمبر 2008.
[6]ـ سعيد جفري، زهير لخيار، خالد الفخار، عبد الرحمان الماضي، منير الحجاجي، عبد العالي البحديدي، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، الطبعة الثانية، سوشبريس، 2016، ص.125.