صناع الرأي الجدد في الشبكات الرقمية

محمد أيت بود باحث في سلك الدكتوراه في العلوم السياسية بجامعة إبن زهر بأكادير – المغرب


ملخص:

           برز بفعل انتشار الوسائط الرقمية في السنوات الأخيرة فاعلون جدد في مجال الإعلام الالكتروني؛ وهم أشخاص عاديون يخوضون في مواضيع مختلفة؛ اِجتماعية وسياسية وثقافية وصحية وفنية ورياضية وغيرها على منصات التواصل الاجتماعي؛ يسمون )مؤثرين –(Influencers؛ هؤلاء لا يمتلكون ثقافة عالية ومعمقة في الغالب، ويتكلمون بسطحية وبدون معرفة وإلمام كبيرين، ويخلطون الأيديولوجيا بالعلم في مقامات كثيرة؛ ويسمون مؤثرين لأنهم صار لهم تأثير قوي على المتتبعين ومرتادي تلك المواقع الاٍجتماعية بل وعلى الرأي العام أيضا، ويمتلكون قاعدة جماهيرية لم تعد تمتلكها وسائل التواصل الجماهيرية التي كانت تحتكر المجال الإعلامي والتواصلي كما في السابق، بل إن تأثيرهم صار أقوى من تأثير كل الوسائط التقليدية من أحزاب ونقابات وأسرة ومساجد، فما هو سر هيمنة المؤثرين الجدد على المجال الإعلامي ؟ وماهي مخاطر عدم امتلاكهم لمعرفة علمية يمكن أن تشكل قيمة معرفية مضافة على منصات التواصل الاٍجتماعي؟

الكلمات المفتاحية: المؤثرون – الفاعلون الجدد – الوسائط الرقمية – القاعدة الجماهيرية.


Summary:

                  The proliferation of digital media has emerged in recent years as new actors in the field of electronic media; ordinary people who delve into various topics.: social, political, cultural, health, artistic, sports and others on social media platforms; they are called influencers; these people do not have a high and often deep culture, and they speak superficially and without much knowledge and insight, and they mix ideology with science in many places; and they are called influencers because they have a strong influence on the followers and visitors of these social sites, but also on public opinion, and they have a fan base that the mass media no longer possess. Who used to monopolize the field of media and communication as in the past, but their influence has become stronger than the impact of all the traditional media of parties, unions, families and mosques, which are called in Marxist narratives infrastructures, so what is the secret of the new influencers’ domination of the media field? What are the risks of not having scientific knowledge that can be an added value on social media platforms?

Keywords : Influencers – New Actors- digital media –  fan base.


 تقديم:

ساهمت التقنيات الجديدة والوسائل التكنولوجية المتطورة وسهولة الولوج إلى الفضاءات الرقمية في بروز فاعلين جدد صار لهم من التأثير على البنيات الاجتماعية ما لم يعد للوسائط والمؤسسات التقليدية؛ بحيث صارت للميديا الجديدة أدوارا اِكتسحت كل المساحات المملوءة والفارغة التي كان يشغلها الإعلام والوسائط والمؤسسات الرسمية التقليدية، بل صار لهؤلاء الفاعلين الجدد دورا بارزا في تشكيل الرأي العام باعتبار كون الميديا الجديدة صارت هي المصدر الجديد للأخبار والمعلومات نظرا لهيمنة الحكومات على الإعلام ومراقبته و توجيهه؛ لذلك صار هؤلاء المؤثرون يتحكمون في صناعة محتويات بأشكال متعددة في ظل غياب التوجيه والمراقبة  وغياب المعرفة ويستخدمون آليات تنهل من خطابات متعددة سياسية وأيديولوجية ودينية وديماغوجية وشعبوية، وصار المحتوى الرقمي خاضعا لمفهوم السيولة الذي تحدث عنه (زيجمونت باومان- Zygmunt Baumann) في كتابه ” الحداثة السائلة” ما يطرح السؤال التالي : ما هي القواعد الجديدة التي تحكم هذا الإعلام الجديد ؟ وماهي الآليات التي تحكم هؤلاء الفاعلين الجدد؟

كونية الظاهرة المرتبطة ببروز المؤثرين الجدد

      تعتبر الظاهرة المرتبطة ببروز المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي ظاهرة كونية باعتبار أن صناعة المحتوى الرقمي أصبح مرتبطا ببروز المنصات الرقمية والفضاء الافتراضي – L’Espace Virtuel كنتيجة للعولمة –La mondialisation، وتحول العالم إلى قرية كونية[1]أصبحت تتقاسم كل شيء حسب تعبير (مارشال ماك لوهان –Marshall Macluhan)[2] أو منصة كونية تعمل على إعادة بناء صورة إعلامية مغايرة للصورة النمطية المألوفة في التلفزيون[3] بغاية نشر الدعاية بمختلف أشكالها والتسويق وترويج السلع والمنتجات و)البروفيلات–(des profils  الشخصية والمعلومات المختلفة والأخبار والمضامين والمحتويات المتعددة المشارب[4].

      وانطلاقا كذلك من نظرية الحتمية التكنولوجية[5]التي تعني ذلك التأثير الذي أصبحت تمارسه التكنولوجيا والوسائل التكنولوجية ( الحواسيب والهواتف الذكية والشبكات الرقمية والانترنيت عموما) ووسائل الإعلام على بنيات  وقيم المجتمعات، وكنتيجة لذلك أيضا، فقد بلغ الإنفاق الحكومي في العالم على الإعلانات في وسائل التواصل الاجتماعي وفقا لتقرير أوردته شركة (E-marketing Digital)27 مليار دولار سنة 2018[6]، ويتم الاستعانة بالمشاهير والشخصيات في الإعلانات في الوسائل التقليدية والمؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد تعاظم دور المؤثرين بسبب هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات المتخصصة في مجال الإعلام الالكتروني والتكنولوجيات الحديثة على الأسواق، ومنافستها الشديدة فيما بينها، مما أدى إلى سعيها الدؤوب لاكتساح الأسواق والسيطرة عليها من خلال تطوير البرمجيات وابتكار منصات جديدة للتواصل الاجتماعي تتضمن لوغاريتمات وخوارزميات متطورة جدا.

       وهذه المنافسة اِنعكست على دور المؤثرين الريادي في صناعتهم للأحداث وقيادتهم للرأي العام والتأثير فيه من خلال تداولهم في قضايا الشأن العام، ما يزيد من خطر اِنتشار (الأخبار الزائفة –Face News) والمعلومات الخاطئة أو الفاقدة للمصدر الصحيح والموثوق منه[7]، والتي أصبح يستعملها البعض للحصول على المال و الشهرة أو لأهداف تسويقية، والأخطر من ذلك كله هو ظهور الذكاء الاٍصطناعي والذي أصبح يوظف في المجال الإعلامي وفي مجال صناعة المحتوى والمضمون والتأثير، الشيء الذي سيدخل العالم في متاهة فقدان الأمن و البحث عن الحقيقة والخبر الصحيح والشخصيات الحقيقية من المزيفة[8].

خضوع المحتوى الرقمي لمفهوم السيولة

      يقوم مفهوم السيولة عند (زيجمونت باومان –Zygmunt Baumann) على فعل الاختراق والتمدد والخفة والميوعة وهي سمات المواد الغازية والسائلة والتي تتميز بعدم قدرتها على الحفاظ على خاصية التماسك بين مكوناتها مثل المواد الصلبة، مما يجعلها في تغير وتبدل مستمر، وعلاقة خاصية السيولة بالحداثة يعني أن على الفرد أن يتحرر من “الماضي المستبد” حسب تعبير (باومان)، مثل عملية إذابة المواد الصلبة؛ وهذا يعني نبذ كل ماله علاقة بالتراث ورواسب الماضي، لذلك فالحداثة عملت على إذابة كل المواد الصلبة  والتحرر من كل القيود وبناء نظام جديد .

        وهكذا بدت العلاقات الاجتماعية وفق منطق السيولة رخوة ومائعة وسهلة التدفق و فاقدة للصلابة، وهذا التحول عزز العقلانية الأداتية بتعبير (ماكس فيبر[9])، ومن نتائج هذه العملية الباهرة هي فصل الاقتصادي عن الاجتماعي والثقافي والأخلاقي، فصارت كل هذه المجالات فاقدة للصلابة مصابة بالضعف والوهن وقابلة للتطويع وفق ما تمليه المصلحة المادية[10].

مقال قد يهمك :   مشروع قانون مهنة المحاماة يشعل الفتيل بين القضاة والمحامين

         لذلك فالمحتوى الرقمي بدوره أصبح خاضعا للمنطق ذاته؛ وكنتيجة لعملية السيولة فقد أصبح المحتوى الرقمي رخوا وسائلا ومائعا، بحيث ليست له خاصية واحدة معروفة بل يتغير شكله باستمرار وفق المتغيرات الاقتصادية بالدرجة الأولى، في حين صارت المحددات الاجتماعية والأخلاقية ثانوية.

        والميوعة هنا لا تعني فقط تغير خاصية الصلابة بل تعني أيضا عدم اِرتكاز المحتوى الرقمي على معرفة علمية رصينة تستقي معلوماتها ومعطياتها من مصادر أصلية وتحترم الحد الأدنى المعمول به من أدبيات الإعلام المعروفة في البحث والتحري عن مصادر الخبر الموثوقة وأدبيات البحث كذلك عن مصادر المعلومة قبل نشرها.

        ووفقا لذلك صارت عملية صناعة المحتوى معقدة منضوية في علاقة متشابكة، وساهمت الأوضاع الاقتصادية العالمية الموسومة بالتردي والركود في فقدان العديدين لوظائفهم، مما دفعهم إلى استخدام منصات التواصل الاجتماعي للتعبير عن خبراتهم المهنية واهتماماتهم الشخصية ومواهبهم، الشيء الذي فسح المجال للمغمورين والمهمشين وغير المتعلمين أن يصبحوا مشاهير عالم الانترنيت في فترة وجيزة جدا.

المؤثرون الجدد والتسويق وجذب المال

        أصبحت ظاهرة بروز المؤثرين وسيطرتهم شبه المطلقة على وسائل التواصل الاجتماعي ومن ثمة على المجال التداولي العمومي وعلى صناعة الرأي العام وتوجيهه وسيلة ناجحة صارت تستعملها الشركات وأصحاب رؤوس الأموال للتسويق  وترويج السلع والخدمات وجذب المال؛ بحيث أصبح للتأثير الذي يمارسه المؤثرون دورا في الترويج للسلع والمنتوجات والخدمات باعتبار أن التجارة لم تعد تدار بواسطة الأشكال التقليدية المعهودة بل صارت تدار وفق منطق واستراتيجات جديدة ترتكز على ما بات يسمى: ” التسويق عبر المؤثرين –Influencers Marketing “[11].

       وهذا النمط التسويقي قوامه القرب من الزبائن ومعرفة خصوصياتهم وميولاتهم الاستهلاكية ورغباتهم بواسطة التجارة الالكترونية والتسويق الالكتروني، وتقوم استطلاعات الرأي التي تنشر في المواقع الالكترونية وصفحات الويب على تقريب هذه الرغبات من المنتجين والبائعين من أجل أن يعملوا على إنتاج السلع وتسويقها بشكل يتوافق مع أذواق المستهلكين، ويأتي دور المؤثرين الذين يعملون من خلال صفحاتهم على الويب على الترويج لهذه المنتوجات بالكيفية التي يرتضيها المنتجون والزبائن أيضا، وتعمل الصفحات والمواقع الالكترونية من خلال خاصية الإشهار التي تعمل على مدار الساعة على الترويج للمنتجات والسلع والخدمات بواسطة مضامين يقوم المؤثرون بالإشراف عليها، بحيث تقوم الصفحات بتخزين المعطيات الشخصية للزائرين بواسطة ملفات تعريف (الارتباط –Les Cookies )من أجل معرفة ميولاتهم ورغباتهم الشخصية وتجميعها قصد الاستفادة منها في عملية إنتاج السلع والخدمات وتسويقها[12].

        وتتم الاستفادة من المعطيات الشخصية للمستخدمين من خلال التركيز على ميولاتهم ورغباتهم ومواهبهم قصد استثمارها في عملية التسويق؛ بحيث يتم من خلال هذه المعطيات تحديد نوع السلعة وشكلها وطريقة تسويقها بالاعتماد على الوسائط المتعددة مثل الذكريات الشخصية والمناسبات الحميمية والشعور بالحنين والحب والرغبة واللذة والأغاني أو الموسيقى المفضلة وما إلى ذلك، ويقوم المؤثرون بتنفيذ هذه المهمة اِنطلاقا من الكاريزما والشهرة والثقة التي اكتسبوها بالنظر إلى شعبيتهم وقوة تأثيرهم في الزبائن وثقة الجماهير فيهم؛ خاصة الفئات العمرية الشابة.

       وبحكم القاعدة الجماهيرية العريضة التي لدى المؤثرين من هذه الشرائح الاجتماعية، فإن التأثير الذي يمارسه المؤثرون على سلوكياتهم ينطلق من معرفة هؤلاء لمنافذ التأثير وجذب الانتباه والقدرة على الإقناع والتي تخص تقليد طريقة لباسهم أو طريقة تسريحة الشعر أو طريقة الكلام والحديث، ويصنف المؤثرون حسب القاعدة الجماهيرية التي يتوفرون عليها ما بين عشرة آلاف متابع(10K) إلى مليون متابع فما فوق على مختلف الوسائط والمنصات؛ بحيث يصنف هذا النوع من المؤثرين ضمن المؤثرين ذوو التأثير العالي –Macro  .

       ويختلف متوسط (المتابعين- Followers) وعيناتهم وشرائحهم ما بين هذه المنصة أو تلك، بحيث نجد أن متابعي إنستغرام –Instagram)) ليسوا هم متابعو يوتيوب –YouTube)) أو تيك توك –Tiktok)[13])، وقد حدد عدد المتابعين كشرط لإطلاق صفة مؤثر في 10 ألاف متابع ( 10K) كحد أدنى.

أدوار الميديا الجديدة وتأثيرها على الرأي العام

      أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي مجالا لبروز دور المؤثرين في صياغة الرأي العام وفق قناعاتهم الشخصية وميولاتهم وأيديولوجياتهم ومصالحهم الذاتية أيضا؛ وذلك من خلال اِستخدام آليات إقناع تنهل من خطابات متعددة سياسية وأيديولوجية ودينية وديماغوجية وشعبوية؛ بحيث أصبح القرار السياسي والاقتصادي مرتهنا بيد هؤلاء بالنظر إلى التأثير الهائل الذي يحدثونه على الشرائح الاجتماعية المختلفة. ولا أدل على ذلك من الدعوة إلى مقاطعة منتوج معين أو التشهير بشخصية سياسية أو انتقاد سياسية معينة، بحيث أصبح هؤلاء يتحكمون في طرق صناعة ونشر المعلومة والخبر.

      وهذا الأمر تفطن له السياسيون وصاروا يوظفون المؤثرين في الحملات الانتخابية وفي الحملات الإعلانية للسياسات العمومية  وكذا في تلميع صورتهم السياسية في إطار البروباغاندا السياسية، رغم أن هذا الأمر يصعب أحيانا في المجتمعات الديمقراطية[14]، باعتبار أن الجمهور في البلدان الديمقراطية ليس هو نفسه في البلدان غير الديمقراطية، فبينما يمتاز الأول بالوعي والانضباط والثقافة والمعرفة، يتميز الثاني بالغوغائية والفوضوية و الانفلات وضعف الثقافة وغياب المعرفة وضعف الوازع الأخلاقي وتراجع دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية.

        وهو ما يعزز ما أسماه (جوستاف لوبون): “الوحدة العقلية للجماهير”[15]، ما يعني صعوبة ضبط الجماهير في المجتمعات المتخلفة بسبب عقليتها السطحية وعدم استعدادها لتحليل الأشياء وفهمها.

       ومن هنا فدور الوسائط الرقمية والميديا هو الذي سيملأ هذه الفجوات التي خلفها صعوبة التحكم في الجماهير من طرف الدولة في ظل تعدد الوسائط، وهنا تكمن الخطورة فهيمنة الميديا والمؤثرين على صناعة الرأي العام تقابله قولبة وتنميط له؛ بحيث صعد منبر إعطاء النصح والتوجيه  ونشر الأخبار والمعرفة وتحليل الأحداث؛ أشخاص مهمشون وغير مؤهلين وأحيانا مجرمون ومجانين، يعملون على نشر وصفات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو فتاوى دينية أو أحكام أيديولوجية بل وأحيانا الخوض في مسائل فكرية و فلسفية وعلمية بدون روية  ولا تمحيص.

     وهو ما أنتج عينات من الجماهير المستلبة  فكريا ووجدانيا، وتساهم المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تمر منها المجتمعات في تأزيم العلاقات الاجتماعية، ما يدفع الجماهير إلى فقدان الثقة في كل ما/ من هو قريب من السلطة السياسية والجنوح نحو التحرر، وبالأخص الأحزاب ومؤسسات التنشئة الاجتماعية ووسائل الإعلام الرسمية الموجهة، وفي ظل السلطة السياسية المحتكرة للفضاء العام وحرية التعبير، تتحول منصات التواصل الاجتماعي إلى متنفس كبير يعج بالتناقضات ويدفع باتجاه التمرد أو ما أسماه (روبرت بارك –R.Park) بـ :” الإغتراب والإنسان الهامشي”.

مقال قد يهمك :   الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة في إطار الفصل 101 من الدستور

       وهو ما يعني الإنسان الذي حكمت عليه الظروف الاجتماعية بالعيش في مجتمعين متناقضين داخل بلده، وهذا الشخص يعيش اِغترابا وهامشية بالنظر إلى عدم قدرته على الاندماج داخل مجتمعه الأصلي ورفضه له، وفي نفس الوقت عدم قدرته على الاندماج في المجتمع الثاني الذي يختلف عن بيئته فكريا واجتماعيا واقتصاديا، وهو ما يشعره بالهامشية[16]، وفي ظل هذا الوضع يعمل المؤثرون بواسطة السلطة التي خولتها إياهم الجماهير على صناعة رأي عام محرف ونمطي مهدد للنظام الاجتماعي، وذلك من خلال تسميم النفوس عن طريق الشائعات والتلاعب بعقول الناس ومشاعرهم[17].

التحولات الرقمية وتأثيرها على البنيات الاٍجتماعية

        من المعلوم أن للتحولات الرقمية الراهنة تأثيرا على البنيات الاجتماعية وذلك نظرا لقوة تأثيرها على هذه البنيات وعلى الأنظمة القيمية[18]، ونظرا للتغير وغير المنضبط لخطاب المؤثرين والذي يوظف تقنيات الويب الجديدة من أجل ممارسة التأثير عبر الإغراء والإقناع واستعمال المكر والخداع أحيانا وخلط الحقيقة بالإشاعة أحيانا أخرى، خاصة من خلال توظيف تقنيات أو خاصيتي قياس الميول  والتوجهات  مثل:(الترند –trend والطوندونس –tendance )، لمعرفة قوة تأثير الخطاب أو المحتوى الرقمي.

       وهي مؤشرات على ارتفاع درجة التأثير أو انخفاضه خاصة فيما يتعلق بالتجارة الالكترونية، ولكنها توظف أيضا في معرفة قوة انتشار الأخبار والمضامين المختلفة؛ السياسية والاجتماعية، وبالنظر إلى معجم الويب الزاخر بالمصطلحات التقنية من قبيل: ( المتابعين- البارتاج – الجيم – الأدسنس – الإكسبلورر) وغيرها من المفاهيم الوظيفية، فإن درجة التأثير تختلف بحسب نوعية المحتوى والشريحة الاجتماعية المستهدفة[19].

         يبدو من الواضح جدا لأي ملاحظ مدى التأثير الذي مارسته الميديا الجديدة على البنيات الاجتماعية وعلى منظومة القيم الجماعية بالنسبة للمجتمع المغربي على سبيل المثال، وذلك من خلال ملاحظة السلوك اليومي للأفراد والأسر والجماعات والذي تغير كلية مع تطور الوسائط التقنية بدءا من انتشار الحواسيب والهواتف الذكية والتي سهلت الولوج إلى وسائل التواصل الاجتماعي؛ فالأفراد صاروا لا يفارقون شاشات الحواسيب والهواتف الذكية في جميع تحركاتهم الرسمية وغير الرسمية، ونفس الملاحظة قد تنسحب على الأسر والجماعات.

          وهذا السلوك الجديد اِنعكس على العلاقات الاجتماعية، بحيث لم يعد للتقاليد الاجتماعية المرتبطة بالتعاليم الإسلامية نفس قوة التأثير خاصة فيما يخص ممارسة هذه التعاليم، فصلة الرحم مثلا أصبحت تتم عن طريق إرسال الرسائل النصية أو الفيديوهات أو صور الورود إلى أحد أفراد العائلة عوض القيام بزيارته، والتجمعات التي كان فيها الصغار يستمعون لأحاديث الكبار حلت محلها الهواتف الذكية التي يمكن من خلالها متابعة الأفلام أو الموسيقى أو مباريات كرة القدم، والندوات العلمية أو المناسبات والاحتفالات التي كانت تقام بشكل جماعي بواسطة التنقل إلى عين المكان، أصبحت تقام من خلال تقنية الفيديو –Vidéo Conférence ، وقد ظهر ذلك جليا خاصة في أيام الحجر الصحي بسبب تبعات كوفيد 19.

           من اللافت للانتباه أن وسائل التواصل الاجتماعي صارت لها وظائف عديدة على مستوى الحياة الاجتماعية فمن التوعية إلى الترفيه إلى الدعاية إلى التسويق، بحيث هناك مضامين إيجابية وهادفة وأخرى سلبية وتافهة؛ فسهولة الولوج إلى المنصات الرقمية فتح المجال لجميع الفئات والشرائح الاجتماعية من أجل نشر أفكارهم من خلال محتويات ومضامين لا ترقى أحيانا إلى مستوى المضمون الراقي والهادف.

         وهذا أدى إلى ولوج غمار التأثير من طرف أشخاص غير مؤهلين ثقافيا وفكريا وحتى أخلاقيا، ويخوضون في مواضيع لا يمتلكون أهلية الخوض فيها، وبحكم أن الهدف هو جلب المتابعين ورفع نسب المشاهدة وتحقيق الشهرة والمال، فإن الالتزام بالمبادئ والأخلاق أشياء لا يتم التفكير فيها من طرف هؤلاء المؤثرين، وهذه السلوكيات أدت في النهاية إلى التقليل من شأن العلم والمعرفة[20]، ونتيجة لذلك فإن القيم الاجتماعية المرتبطة بالعمل والكد والصبر وانتظار محصول الكد والمعاناة في النهاية لم تعد لها قيمة أمام قيمة الرغبة في الربح والشهرة والحصول على المال الوفير بسرعة كبيرة جدا، ويندرج طلب العلم والصبر عليه ضمن الخيارات التي لم تعد تغري الشباب من أجل الترقي الاجتماعي، فالقدوة أصبحت للمؤثرين ولمشاهير الفنانين ومشاهير كرة القدم الذين يجنون أموالا طائلة بدون الخضوع للمعايير التقليدية للترقي الاجتماعي والتي كانت محددة في السابق في الحصول على الشهادات العلمية[21].

خاتمة:

ارتبط ظهور ظاهرة بروز ما بات يسمى بـ ” المؤثرين –Influencers ” بتطور تكنولوجيا الاتصالات وظهور المنصات الرقمية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ما أدى إلى تأثر باقي المجالات الإنسانية الأخرى وذلك بفعل تحول العالم إلى قرية كونية صغيرة؛ وبالتالي تأثر المجال الاٍقتصادي بهذه التحولات، وتعاظم دور الشركات المتعددة الجنسيات ومنافستها واكتساحها للأسواق من خلال تطوير البرمجيات وابتكار منصات جديدة للتواصل الاجتماعي، وتميز حضور المحتوى الرقمي البارز في الحياة الاجتماعية وارتباطه بمفهوم السيولة عند زيجمونت باومان؛ والذي يقابله مفهوم التسطيح والتفاهة، بالتحول في نسق القيم وفق ما تمليه المصلحة المادية، وكانت النتيجة هي هيمنة المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى المجال التداولي و صناعة الرأي العام، وقامت الشركات باستغلال هذا المعطى الجديد في الترويج للسلع والخدمات و جذب رؤوس الأموال، وتغير منطق السوق وطرق التجارة وآلياتها التقليدية وصار القرب من الزبائن ومعرفة ميولاتهم من خلال استطلاعات الرأي والإشهار والتسويق وتخزين المعطيات الشخصية هو السائد.

وفي حمى السوق وهيمنة الليبرالية الجديدة، برز دور المؤثرين والهيمنة على صناعة الرأي العام من خلال نشر الأخبار والمعلومات التي تشمل سائر المجالات، وحلت المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي محل وسائل الإعلام الجماهيرية، وانخرط في هذه العملية جيل من صناع المحتوى الرقمي وصاروا يوجهون الناس وفق قناعاتهم وميولاتهم الأيديولوجية ومصالحهم الذاتية، من خلال استخدام آليات إقناع متعددة دينية وسياسية وأيديولوجية وديماغوجية وشعبوية، ما أدى إلى التنميط والتبسيط و التسطيح والتفاهة، وأدى ذلك إلى صعود المهمشين والتافهين والجهلة والأميين واعتلاؤهم منابر الوعظ والإرشاد الديني البروباغاندا السياسية والتوجيه الاجتماعي والإشهار والتنظير الفكري، في غياب المعرفة الأصيلة ومصادر الخبر والمعلومة الصحيحة، وانتشرت الإشاعات والأخبار الزائفة والمعلومات الخاطئة والمتناقضة والمعرفة السطحية والضحلة، ما أدى بدوره إلى تأثر نسق القيم و البنيات الاجتماعية. 


المراجع والمصادر

– {1} Marshall Macluhan- The Global Village-  http://www.livinginternet.com/i/ii_mcluhan.htm

{2} -حيدر فالح زايد – نظرية الحتمية التكنولوجية لـ مارشال ماك لوهان – الرابط: file:///C:/Users/dell/Downloads/pdf.pdf

مقال قد يهمك :   مبشور عادل: الـــسياســة الــسكنية بـــــالمغرب

{3} – نور الدين محجوبي – الاعلام الجديد: وسائل التواصل الاجتماعي والصراع الاجتماعي، دراسة نظرية – المجلة المغربية للبحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية – الرابط:  https://revues.imist.ma/index.php/RMRSHS/article/view/44004/23257

{4} – نادية لمهيدي – المؤثرون: قادة الرأي الجدد القادمون من شبكات التواصل الاجتماعي – مجلة الدراسات الإعلامية – العدد 8 غشت 2019 – الرابط:  https://democraticac.de/wp-content/uploads/2019/08

– {5} Thoma Hauer – Technological determinism and new media – International Journal of English, Literature and Social Science (IJELS – Vol-2, Issue-2, Mar-Apr- 2017- ISSN: 2456-762 – le lien:

https://ijels.com/upload_document/issue_files/1%20IJELS-MAR-2017-8-Technological%20determinism%20and%20new%20media.pdf

{6} -E. Marketing Digital –  شركة أمريكية تأسست سنة 1996 ويوجد مقرها الرئيسي في نيويورك، وهي شركة يتمحور نشاطها حول توفير رؤى واتجاهات ودراسات تتعلق بالتسويق الرقمي والميديا والتجارة الالكترونية- الرابط:

https://www.charika.ma/societe-e-marketing-digital-452364

{7} – نزار خيرون – الأخبار الزائفة.. الحرب الجديدة على وعي الشعوب – مدونات الجزيرة – الرابط:

https://www.aljazeera.net/blogs/2020/5/24

{8} – أوسوندي أ أوسوبا- (Osonde A. Osoba)وويليام ويلسر الرابع – (William Welser IV)– مخاطر الذكاء الاصطناعي على الأمن ومستقبل العمل – مجلة راند كوربورايشن –RAND CORPORATION – الرابط:

https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/perspectives/PE200/PE237/RAND_PE237z1.arabic.pdf

{9} -العقلية الاداتية هي ذلك النمط من العقلية التي تقوم على منطق السعي إلى حل المشكلات دون التساؤل عن مضمون الحلول المقترحة والغايات لأنه قائم على التشيؤ عكس العقلانية النقدية التي تقوم على فكرة نزع السحر عن العالم التي قال بها ماكس فيبر – أنظر بهذا الصدد: الدكتورة منيرة محمد – سحر محمد – هابرماس في نقد العقل الأداتي – من ماكس فيبر وهوركايمر وأدورنو – مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية – العدد 3 – 2015 – الرابط:

file:///C:/Users/dell/Downloads/1841-Article%20Text-7115-1-10-20160821.pdf

{10} – زيجمونت باومان (Zygmunt Baumann)– الحداثة السائلة – الشبكة العربية للأبحاث والنشر – الطبعة الأولى 2012.

{11} – ارام بنت إبراهيم محمد أبو عباة – أساليب التسويق عبر المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي من وجهة نظر طلاب الجامعة – الرابط:https://ejsc.journals.ekb.eg/article_217951_919015b49404517e3f0c3fc219a66795.pd

{12} -نادية لمهيدي – المؤثرون: قادة الرأي الجدد القادمون من شبكات التواصل الاجتماعي – المركز الديمقراطي العربي – 12 غشت 2019 – الرابط: https://democraticac.de/wp-content/uploads/2019/08 -2019.pdf

{13} -جوستاف لوبون – سيكولوجية الجماهير – دار الساقي – الطبعة الأولى 1991.

{14} – عبد اللطيف محمد خليفة – دراسات في سيكولوجية الاغتراب – دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة – مصر – السنة 2003.

{15} – البنيات الاجتماعية هي السلوك والعلاقات الاجتماعية وكل مكونات النظام الاجتماعي المتعلقة بالعقلية والثقافة.

{16} – عبد الخالق بدري – «المؤثرون/ Influencers ” المفهوم والوظيفة – مسارات للرصد للدراسات الاستشرافية والرقمية – الرابط: https://www.massarate.ma.html

{17} -عبد الله الزين الحيدري – الميديا الاجتماعية: المصانع الجديدة للرأي العام – مركز الجزيرة للدراسات – الرابط: https://studies.aljazeera.net/sites/default/files/articles/mediastudies/documents/d44befef99b140eaa6f7af52b7237eb0_100.pdf


 الهوامش:

[1]-Marshall Macluhan- The Global Village- http://www.livinginternet.com/i/ii_mcluhan.htm

[2] – حيدر فالح زايد – نظرية الحتمية التكنولوجية لـ مارشال ماك لوهان – الرابط: file:///C:/Users/dell/Downloads/pdf.pdf

[3] – نور الدين محجوبي – الإعلام الجديد: وسائل التواصل الاجتماعي والصراع الاجتماعي، دراسة نظرية – المجلة المغربية للبحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية –الرابط:https://revues.imist.ma/index.php/RMRSHS/article/view/44004/23257

[4] – نادية لمهيدي –المؤثرون: قادة الرأي الجدد القادمون من شبكات التواصل الاجتماعي – مجلة الدراسات الإعلامية – العدد 8 غشت 2019 –الرابط:  https://democraticac.de/wp-content/uploads/2019/08

[5]– Thoma Hauer – Technological determinism and new media – International Journal of English, Literature and Social Science (IJELS – Vol-2, Issue-2, Mar-Apr- 2017

ISSN: 2456-762 – le lien : https://ijels.com/upload_document/issue_files/1%20IJELS-MAR-2017-8-Technological%20determinism%20and%20new%20media.pdf

[6] – E. Marketing Digitalشركة أمريكية تأسست سنة 1996 ويوجد مقرها الرئيسي في نيويورك، وهي شركة يتمحور نشاطها حول توفير رؤى واتجاهات ودراسات تتعلق بالتسويق الرقمي والميديا والتجارة الالكترونية- الرابط:

https://www.charika.ma/societe-e-marketing-digital-452364

[7] – نزار خيرون – الأخبار الزائفة.. الحرب الجديدة على وعي الشعوب – مدونات الجزيرة – الرابط:

https://www.aljazeera.net/blogs/2020/5/24

[8] – أوسوندي أ أوسوبا- (Osonde A. Osoba) وويليام ويلسر الرابع – (William Welser IV)– مخاطر الذكاء الاصطناعي على الأمن ومستقبل العمل – مجلة راند كوربورايشن –RAND CORPORATION – الرابط:

https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/perspectives/PE200/PE237/RAND_PE237z1.arabic.pdf

[9] – العقلية الأداتية هي ذلك النمط من العقلية التي تقوم على منطق السعي إلى حل المشكلات دون التساؤل عن مضمون الحلول المقترحة والغايات لأنه قائم على التشيؤ عكس العقلانية النقدية التي تقوم على فكرة نزع السحر عن العالم التي قال بها ماكس فيبر – أنظر بهذا الصدد: الدكتورة منيرة محمد – سحر محمد – هابرماس في نقد العقل الأداتي – من ماكس فيبر وهوركايمر وأدورنو – مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية – العدد 3 – 2015 – الرابط:

file:///C:/Users/dell/Downloads/1841-Article%20Text-7115-1-10-20160821.pdf

[10] – زيجمونت باومان (Zygmunt Baumann)– الحداثة السائلة – الشبكة العربية للأبحاث والنشر – الطبعة الأولى 2012- ص 40.

[11] – ارام بنت إبراهيم محمد أبو عباة – أساليب التسويق عبر المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي من وجهة نظر طلاب الجامعة – الرابط:https://ejsc.journals.ekb.eg/article_217951_919015b49404517e3f0c3fc219a66795.pd

[12] – نفس المرجع السابق

[13] – نفس المرجع السابق.

[14] – نادية لمهيدي – المؤثرون: قادة الرأي الجدد القادمون من شبكات التواصل الاجتماعي – المركز الديمقراطي العربي – 12 غشت 2019 – الرابط: https://democraticac.de/wp-content/uploads/2019/08 -2019.pdf

[15] – جوستاف لوبون – سيكولوجية الجماهير – دار الساقي – الطبعة الأولى 1991 – ص 55

[16] – عبد اللطيف محمد خليفة – دراسات في سيكولوجية الاغتراب –دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة – مصر – السنة 2003 – ص144.

[17] – جوستاف لوبون – سيكولوجية الجماهير – دار الساقي – الطبعة الأولى 1991 – ص 13

[18] — البنيات الاجتماعية هي السلوك والعلاقات الاجتماعية وكل مكونات النظام الاجتماعي المتعلقة بالعقلية والثقافة.

[19]– عبد الخالق بدري – «المؤثرون/ Influencers ” المفهوم والوظيفة – مسارات للرصد للدراسات الاستشرافية والرقمية – الرابط: https://www.massarate.ma.html

[20] – عبد الله الزين الحيدري – الميديا الاجتماعية: المصانع الجديدة للرأي العام – مركز الجزيرة للدراسات – الرابط: https://studies.aljazeera.net/sites/default/files/articles/mediastudies/documents/d44befef99b140eaa6f7af52b7237eb0_100.pdf

[21] – نفس المرجع السابق.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)